نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)0%

نهضة الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 138

نهضة الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
تصنيف: الصفحات: 138
المشاهدات: 54769
تحميل: 5624

توضيحات:

نهضة الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 138 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54769 / تحميل: 5624
الحجم الحجم الحجم
نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أولم يَبلغكم ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي ولأخي: (هذان سيِّدا شباب أهل الجَنَّة)، فإنْ صدَّقتموني فيما أقول وهو الحَقُّ، والله، ما تعمَّدت الكذب مُنذ علمت أنَّ الله يَمقت أهله، وإنْ كذَّبتموني، فإنَّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سَلوا جابر الأنصاري، وأبا سعيد الخِدري، وسهل الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنَّهم سمعوا هذه المـَقالة، مِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما في هذا حاجز لكم عن سَفك دمي؟) - إلى أنْ قال - (فإنْ كنتم في شَكٍّ مِن ذلك، أو تَشكُّون في أنِّي ابن بنت نبيِّكم، فو الله لا يوجد بين المشرق والمغرب، ابن بنت نَبيٍّ غيري، ويَحكم، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته؟).

ثمَّ نادى: (يا شَبث بن ربعي، ويا حجَّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ويا عمرو بن الحجَّاج، ألم تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار، واخضرَّت الجِنان، وإنَّما تُقدِم على جُند لك مُجنَّد).

لقد أسمعهم شِبل عليعليه‌السلام خِطاباً قويم اللَّهجة، قويَّ الحُجَّة، لو كان ثَمَّة مُنصِفٌ؛ لكنَّما القوم لم يُقابلوه إلاَّ بكلمة(إنَّا لا ندري ما تقول! انزل على حُكم بَني عَمِّك، وإلاِّ فلسنا تاركيك) .

كلمة مُرَّة طُليت بالقحة، وتُبطُّنِت بالعَجرفة والانحراف، نحو الزور والغُرور، فأجابهم حسين العُل ا: (لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد، يأبى الله ذلك لنا ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحُجور طابت وطَهُرت، فلا نؤثِر طاعة اللئام على مَصارع الكرام).

لكنَّما المـُظاهرة باحتجاجه، لم تَذهب سُدى وعَبثاً، فما مَدَّ الظلام رواقه، حتَّى انجذب إلى الحسينعليه‌السلام ، عديد مِن فرسان ابن سعد، مِن ذوي المروءة والفتوَّة، ثائبين تائبين عند المـُخيَّم الحسيني.

١٠١

الحسين عليه‌السلام يَنعى نفسه لأخته

لزينب(1) شأن مُهمٌّ، ودور كبير النطاق في قضيَّة الحسينعليه‌السلام ، وفي نساء العرب نوادر أمثالها مِمَّن قُمْنَ في مُساعدة الرجال، وشاركْنَهم في تاريخهم المـَجيد، وقد صحُبت زينب أخاها في سفره الخطير، صُحبة مَن تَقصد أنْ تُشاطره في خدمة الدين، وترويج أمره؛ فكانت تُدير بيمناها ضيافة الرجال، وباليُسرى حوائج الأطفال، وذاك بنشاط لا يُوصَف، والمرأة قد تقوم بأعمال يَعجز عنها الرجُل، ولكنْ مادام منها القلب في ارتياح ونشاط.

وأمّا لو تَصدَّع قلبه، أو جرحت منها العواطف، فتراها زُجاجة أوراق، وكسرها لا يُجبر؛ ولذلك أوصى بهنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ قال: (رفقاً بالقَوارير)، فجَعلهنَّ كزجاج القوارير، تحتاج إلى لُطف المـُداراة.

فكانت ابنة عليعليه‌السلام قائمة بمُهمَّات رحل الحسين

____________________

(1) هي (أخت الحسينعليه‌السلام ، وزوجة ابن عَمِّها عبد الله بن جعفر الطيَّار).

١٠٢

عليه‌السلام وأهله، غير مُبالية بما هنالك مِن ضائقة عدوٍّ، أو حصار، أو عُطاش؛ إذ كانت تنظر في وجه الحسينعليه‌السلام تراه هشاً بشَّاً، فتزداد به أملاً.

وكلَّما ازداد الإنسان أملاً، ازداد نشاطاً وعملاً، وفي بَشاشة وجه الرئيس أثراً كبيراً، في قوَّة آمال الأتباع، ونشاط أعصابهم، غير إنَّ زينب باغتت أخاها الحسينعليه‌السلام في خبائه ليلة مَقتله؛ فوجدته يَصقل سيفاً له، ويقول:

يا دهرُ أُفٍّ لك مِن خَليل

كمْ لك بالإشراق والأصيل

مِن صاحبٍ وطالبٍ قتيلِ

والأمر في ذاك إلى الجَليل

إلى آخره.

والمـَعنى: يا دهرُ، كمْ لك مِن صاحب قَتيلٍ في مَمَرِّ الإشراق والأصيل، فأُفٍّ لك مِن خَليل.

ذُعِرت زينب، عند تَمثُّل أخيها بهذه الأبيات، وعَرفت أنَّ أخاها قد يَئس مِن الحياة، ومِن الصُّلح مع الأعداء، وأنَّه قَتيل لا مَحالة، وإذا قُتِل فمَن يكون لها؟ والعيال والصِبيَة في عَراء وغُربة، وألدُّ الأعداء مُحيط بهم، ومُتربِّص لهم الدوائر؛ لهذه ولتلك، صرخت أخت الحسينعليه‌السلام نادبة أخاها، وتمثَّل لديها ما يَجيء عليها، وعلى أهله ورحله بعد قتله، وقالت: (اليوم مات جَدِّي، وأبي، وأُمِّي، وأخي)؛ ثمَّ خَرَّت مَغشيَّاً عليها، إذ غابت عن نفسها، ولم تَعد تَملك اختيارها، فأخذ أخوها الحسينعليه‌السلام رأسها في حِجره يَرشُّ على وجهها مِن مَدامعه، حتَّى أفاقت وسَعد بصرها بنظرةٍ مِن شَقيقها، وأخذ يُسلِّيها(وبعض التسلية تورية) .

١٠٣

فقال: (يا أُختاه، إنَّ أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يَبقون، فلا يبقى إلاَّ وجهه، وقد مات جَدِّي وأبي وأُمِّي وأخي، وهم خيرٌ مِنِّي، فلا يَذهبنَّ بحِلمك الشيطان).

ولم يَزل بها، حتَّى أسكن بروحه روعها، ونشَّف بطْيب حديثه دمعها، ولكنْ في المـَقام سرٌّ مَكتوم.

فإنَّ زينب، تلك التي لم تَستطع أنْ تَسمع إشارة مِن نَعي أخيها وهو حَيٌّ، كيف تَجلَّدت في مَذبح أخيها وأهلها بمشهد منها، ورأت رأسه ورؤوسهم مرفوعة على القَنا، وتلعب بها صبيان كالأُكر، وينكت ابن زياد ويزيد بثنايا أخيها، بين المـَلأ بالقضيب، إلى غير ذلك مِن مَصائب، لا تُطيق رؤيتها الأجانب، فَضلاً عن أمسِّ الأقارب.

فليتَ شِعري، ما الذي حَوَّل ذلك القلب الرقيق، إلى قَلبٍ أصلد وأصلب مٍن الصخر الأصمِّ؟ نعمْ، كانت شَقيقة الحسينعليه‌السلام أُخته بتمام معاني الكلمة، فلا غَرو إنْ شاطرت سيَّدة الطفِّ زينب، أخاها الحسينعليه‌السلام في الكوارث وآلام الحوادث، فقد شاطرته في شرف الأبوين، ومواريث الوالدين خَلقاً وخُلقاً ومَنطقاً.

وعليه، فإنَّها على رِقَّة عواطفها، وسرعة تأثُّرها، تَمكَّنت مِن تبديل حالتها، والاستيلاء على نفسها بنفسها مِن حين، ما أوحى إليها الحسينعليه‌السلام بأسرار نهضته، وآثار حركته، وإنَّه لابُدَّ أنْ يَتحمَّل أعباء الشهادة، وما يتبعها مِن مَصائب ومَصاعب، في سبيل نُصرة المِلَّة، وإحياء شريعة جَدِّه، وشعائر مَجده.

لكنَّه سيَّار يَطوي السُّرى، إلى حَدّ مَصرعه في كربلاء، ثمَّ لابُدَّ وأنْ تنوب هي عن أخيها، في تَحمُّل المـَشاقِّ، ومُكابَدة الآلام، مِن كربلاء إلى

١٠٤

الشام، قائمة بوظائفه المـُهمَّة، مُحافظة على أسرار نَهضته، ناشرة لدعوته وحُجَّته، في كلِّ أينٍ وآنٍ، مُنتهزة لسوانح الفُرص، وهو معها أينما كانت يُباريها، لكنَّه على عوالي الرماح، خَطيباً بلسان الحال، كما هي الخطيبة بلسان المـَقال.

١٠٥

السباق إلى الجَنَّة

التسابُق إلى النَّفع غريزة في الأحياء، لا يَحيدون عنها، ولا يُلامون عليها، وقد يَؤول إلى النزاع بين الأشخاص والأنواع، ولكنَّ التسابُق إلى الموت، لا يُرى في العقلاء إلاَّ لغايات شريفة، تبلغ في مُعتقدهم مِن الأهميَّة مَبلغاً قَصيَّاً، أسمى مِن الحياة الحاضرة، كما إذا اعتقد الإنسان في تسابقه إلى الموت، نيل سعادات ولذَّات، هي أرقى وأبقى مِن جميع ماله في الحياة الحاضرة.

ولهذه نظائر في تواريخ الغُزاة والمـُجاهدين؛ فإنَّ في صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ... رِجَالٌ صَدَقُوامَاعَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ... ) ، وتسابقوا إلى القتال بين يديه، مُعتقدين أنَّ ليس بينهم وبين جِنان الخُلد والفِردوس الأعلى، سِوى سويعات، أو تُميرات يأكلونها، أو حَملات يحملونها.

وهذا مِن أشرف السِّباق، وموته أهنأ موت، وشعاره أقوى دليل على الفضيلة والإيمان، ولم يَعهد التاريخ لجماعة بِداراً نحو الموت، وسباقاً إلى الجَنَّة والأسنَّة مِثل ما عهدناه في صَحب الحسين (عليه

١٠٦

السلام)، وقد عَجِم الحسينعليه‌السلام عْودَهم، واختبر حُدودهم، وكسب منهم الثقة البليغة، وأسفرت امتحاناته كلُّها عن فوزه بصحب أصفياء، وإخوان صِدق عند اللقاء، قلَّ ما فاز أو يفوز بأمثالهما ناهض، فلا نَجِد أدنى مُبالغة في وصفه لهما عندما قال:

(أمّا بعد، فإنِّي لا أعلم أصحاباً خيراً مِن أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ وأوفى مِن أهل بيتي).

وكان الفضل الأكبر في هذا الانتقاء، يعود إلى حُسْن انتخاب الحسينعليه‌السلام ، وقيامه بكلِّ وجائب الزعامة والإمامة، وقيام الرئيس بالواجب يقود المرؤوسين إلى أداء الوجائب، واعتصام الزعيم بمبدأه القويم، يسوق الأتباع بالطبع إلى شِدَّة التمسُّك،بالمبدأ، والمـَسلك، والغاية.

فكان سُرادق الحسينعليه‌السلام - بما فيه مِن صَحبٍ وآلٍ، ونساءٍ وأطفالٍ، كالماء الواحد، لا يفترق بعضه عن بعض؛ فكان كلٌّ منهم مُرآة سيِّده الحسينعليه‌السلام بحاله، وفِعاله، وأقواله، وكانوا يفتدونه بأنفسهم، كما كان يتمنَّى القتل لنفسه قبلهم ودونهم، وأخيراً توفَّقوا إلى إرضاء سيِّدهم بأنْ يتقدّموا إلى جهاد أدبيٍّ، في زيِّ دفاعٍ حربيٍّ، واحداً بعد واحد، فيُعلنوا بالمبادئ العلويَّة، وينشروا الدعوة الحسينيَّة، إرشاداً للجاهلين، وعِظةً للجاحدين، وإيقاظاً للغافلين( ... لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ... ) ، حتَّى لو أثَّرت عِظاتُهم المـُتواترة( ... كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ... ) ، وإنْ قُتلوا، فسبيلهم سبيل مَن قبلهم مِن الأنبياء والمـُصلحين إلى رَوحٍ وريحان، وجَنَّةٍ ورضوان؛ فيستريحون مِن آلام الحياة الدنيا الفانية، ويَسعدون بحياة راقيةٍ باقية، فإذا كانت هذه

١٠٧

الدنيا غير باقية لحيٍّ، ولا حيَّ عليها بباقٍ، فالأحرى أنْ يكون الهيكل الفاني قُربان خير خالد، ومَهراً لحياة الأُمَّة.

أجلْ، كانت جماعة الحسينعليه‌السلام كؤوس رؤوسها مُفعمَة بشعور التضحية، حتَّى إذا أذِنَ لهم بذلك، لبسوا القلوب على الدروع، وأقبلوا يتهافتون كالفراش على المـُصباح، لتضحية الأرواح، فكلَّما أذِنَ حُجَّة الله لأحدهم، وادعه وداع مَن لا يعود، وهم يتطايرون مِن مُخيَّمه إلى خصومه تطايُر السهام، لإنفاذ الغرض المـُقدَّس بأراجيز بَليغة، وحُجَج بالغةٍ، مِن شأنها إزاحة الشبهات عن البعيد والقريب، وعن الشاهد والغائب، لكنَّ المـُستمعين( ... صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ، قد غَشيت الأطماع أبصارهم، وغَشت المخاوف بصائرهم؛ فلا يُفكِّرون بسِوى دنانير ابن زياد وعصاه، ومَن لا يهتمُّ إلاّ بالسيف والرغيف؛ فلا نَصح تفيده، ولا دليل يَحيده.

بلى، إنَّما تُجدي العِظات في ظلِّ المطامع، والحُجَّة تَهدي تحت بارقة السلاح؛ لذلك لم يَجِد رُسل الحسينعليه‌السلام مِن عِداهم الجواب، إلاَّ على ألْسنة الأسنَّة والحِراب، وقُتِّلوا تقتيلاً،( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ،(أحياءٌ بأرواحهم، أحياءٌ بتاريخهم المـَجيد، ولهم لسان صدق في الآخرين، وأُسوة بالأوَّلين) .

١٠٨

مَقتل عليٍّ شِبْه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لم يَزل، ولا يزال عُرفاء الأُمَم، مِن عربٍ وعجمٍ، يعتقدون توارث السَجايا والمـَزايا، بالتناسل والتناسب، وأنَّ الولد يرث مِن أبويه ووالديهم، مَواهبهم العقلية، أو سَجاياهم الأخلاقيَّة، كما يَرثهم أشكال الخُلقة وطبائع الجِسم، وأمراض الأعضاء، وقد أكَّد الفَنُّ الحديث ذلك، وأنَّ التشابُه في الخِلقة، لا ينفكُّ عن التشابُه الأخلاقي؛ فنَجِد العائلة بعد فُقدان أكبرها، تَجمع توجُّهاتها في أشبه أفرادها بالفقيد، توسَّماً بقيام الشبيه مَقام الفقيد، في إعادة آثاره وأدواره لإجماع الغرائز، على أنَّ الأعمال نتائج الأخلاق، وأنَّ الطفل الشبيه بآبائه خَلقاً وخُلقاً، يَغلب أنْ يُجدِّد مآثرهم ومَفاخرهم.

وكان آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أسفٍ مُستمرٍّ على فُقدان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخَسارة كلِّ مَجدٍ في فَقده، حتَّى ولِد للحسين بن عليعليه‌السلام ولدٌ، أشبه الناس بجَدِّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خَلقاً وخُلقاً ومَنطقاً، فتَمرْكزت فيه كلُّ آمالهم وأمانيِّهم، وصاروا كلَّما اشتاقوا إلى زيارة النبي (صلّى

١٠٩

الله عليه وآله وسلَّم) شَهِدوا مَحضرة، وشاهدوا مَنظره، وسُمِّي شبيه النبي، فترَعْرَعَ الصبيُّ، وترَعْرَع معه جَمال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونَمَا فيه الكمال، وأزهرت حوله الآمال، وبلغ تصابي آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه مَبلغ الولَه والعِشق، فكان إذا تلا آية، أو روى رواية مَثَّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلامه ومَقامه، وأضاف على شَبَه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجِسم، شَبَهاً بجَدِّه عليٍّعليه‌السلام في الاسم، كما شابَهه في الشجاعة، وفي تَعصُّبه للحَقِّ؛ حتَّى أنَّه يوم قال الحسينعليه‌السلام أثناء ميسره: (كأنِّي بفارس، قد خَطر علينا قائلاً: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم).

أتاه قائلاً:(يا أبتِ، أوَلسنا على الحَقِّ؟) .

فقال له الحسينعليه‌السلام : (إي والذي إليه مَرجع العِباد).

قال عليٌّ هذا:(إذنْ، لا نٌبالي بالموت) .

فكان في موكب الحسينعليه‌السلام مِثل كوكب الفَجر يزهو بجَماله، وأنظار أهله دائرة حوله، غير إنَّ الحصار والحُزن ضيَّقا على نفسه مَجرى النفس، فلم يَجِد مَظنَّة للخلاص منهم، إلاَّ في الموت؛ فجاء لَيستأذن أباه، لكنَّه مُنكسِر الطرف؛ إذ يعلم مَبلغ تأثُّر الوالد مِن هذا الكلام.

وقد شوهد سيِّد الطفِّ، في أقواله وأحواله على جانب عظيم مِن التَجلُّد، لكنَّ قيام هذا الفتى ضَيَّع جانباً مِن تَجلُّده؛ فصار كغيره لا يَملك مِن التَجلُّد شيئاً، فيما يقول في ولده، أو عن ولده.

وأيْمَ الله، إنَّه أذِنَ له كمَن يُريد أنْ لا يُجرح عاطِفة فتاه، فأسرع

١١٠

عليٌّ نحو الأعداء، وعين أبيه تُشيِّعه، وتُرسِل دموعها الحارَّة مصحوبة بالزفرات، والنساء على أثره تولوِل، وتُعوِل أُمُّه بشَجو فاقدة الاصطبار؛ إذ فقدت مركز آمالها، والإمام يٌنادي بأعلى صوته: (يا ابن سعد، قطع الله رَحمك، كما قَطعت رَحمي، ولم تَحفظ قَرابتي مِن رسول الله).

أمَّا الغُلام، فقد تَجلَّى على القوم بوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعِمامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأسلحة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى فَرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونَطَقَ بمَنطق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً:

أنا عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عليِّ

نحنُ وبيتِ الله أولى بالنبي

والله لا يَحكم فينا ابنُ الدعي

أيْ: أنا المـَثل الأعلى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكم، بصورتي وسيرتي، وحَسَبي ونَسَبي؛ فأنا تِذكار جَدِّي عليٍّعليه‌السلام ، وأنا شبيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنَّ أبي الحسينعليه‌السلام سِبط النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنَّ جَدِّي عليَّاً أخو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيُّه؛ فنحن جميعاً أُولو قُرباه، وأهل بيته، الذين أذهبَ الله عنهم الرِّجس وطَهَّرهم تطهيراً؛ فـ( ... أُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ... ) ؛ فنحن أولى بخِلافة جَدِّنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن الأجنبي.

وبعد هذا البرهان الجَليّ، لا يَسوغ أنْ نُسلِّم أزِمَّة دين جَدِّنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ابن الدعي -والدعي هو المنسوب

١١١

إلى غير أبيه الشرعي - وقد كان عبيد الله بن مَرجانة، مُستلحَقاً بزياد، كما أنَّ زياداً صار مُستلحَقاً بأبي سفيان، بخِلاف حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القائل: (الوَلد للفِراش، وللعاهِر الحَجر)، فهل يُسوَّغ في شرع الشرف، ودين العَدل، أنْ يَخضع مَن يُمثِّل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدعيٍّ وابن دعيٍّ؟

بارز الغُلام جيش الكوفة، وشَدَّ عليهم شَدَّة الليث بالأغنام، وكلَّما كَرَّ عليهم، رجع إلى أبيه قائلا:(العَطش قد قتلني) ؛ فيقول له أبوه: (اصبِر يا حبيبي، فإنَّك لا تُمسي حتَّى يَسقيك رسول الله بكأسه)، والغلام يَكرُّ الكَرَّة بعد الكَرَّة؛ فنظر إليه ابن مُرَّة العبديّ، فقال: عليَّ آثامُ العرب، إنْ كَرَّ ومَرَّ بي لو لمْ أثكُل أُمَّه.

فبينا هو يَشدُّ على الجيش ويرتجز، إذ ضربه العبديُّ وصرعه، فنادى(يا أبتاه، عليك مِنِّي السلام، هذا جَدِّي قد سقاني بكأسه الأوفى، وهو يُقرِئك السلام، ويقول لك: العَجل العَجل) .

ثمَّ شَهَقَ شَهقةً كانت فيها نفسه، فانقضَّ إليه الحسينعليه‌السلام قائلاً: (يا بُنَي، قَتل الله قَوماً قتلوك، ما أجرأهم على الله، وعلى انتهاك حُرمَة الرسول، يا بُنَي، على الدنيا بعدك العَفا)، ثمَّ قال لفُتيانه: (احملوا أخاكم إلى المـُخيَّم).

إذا كان أوَّل قتيلٍ مِن جيش الحسينعليه‌السلام ، وحاذر على النساء وعقائل الرسالة أنْ يَخرجُن إلى مَصرعه حاسرات(فإنَّا لله، وإنَّا إليه راجعون) .

١١٢

توبة الحُرِّ وشهادته

مَن يدرس أحوال البشر مِن وِجهتها النفسيَّة، ويَسبر غَوره، يَجد الأخيار صِنفين: صِنفٌ يَتطلَّب مصالحه الشخصيَّة في ظِلّ إحياء عقيدته واحترامه، وهؤلاء أكثر الأخيار، ثمَّ أرقى منه صِنفٌ يُقدِّم إحياء عقيدته، حتَّى على حياته الشخصية، وقد كانت وضعيَّة الحُرِّ الرياحي، بادئ بدء تُنزَّل مَنزلة مَن يُحبُّ الجَمع بين احترام مصالحه الذاتيَّة، في ضِمن احترامه لعقيدته في الحسين بن فاطمةعليه‌السلام ، زعماً منه أنَّ الحسينعليه‌السلام لابُدَّ وأنْ سيصالح أُميَّة القويَّة، أو يُسامحونه بمغادرته بلادهم؛ فيكون الحُرّ حينئذ غيرَ آثمٍ بقتال الحسينعليه‌السلام ، وغير خَاسر جوائز الوِلاة وترفيعاتهم.

وعليه، فقد كان يُساير الحسينعليه‌السلام بالسَّماح والتساهل، ويُصاحبه بتأدُّب واحترام، غير إنَّ المـُظاهرات القاسية، التي قام بها جيش الكوفة مِن جِهة، والمـُظاهرات الدينيَّة الأخلاقيَّة، التي قام بها حسين الفضيلة مِن جِهة أُخرى، أنارتا فِكرته، وأثارتا عاطفته، فارتقى في استكمال نفسه إلى العُلوِّ، أو الغلوِّ في حُبِّ السعادة والشهادة؛

١١٣

فجاء إلى ابن سعد قائلاً:

(أمُقاتل أنت هذا الرجل؟).

فأجابه:(نعمْ، قتالاً أيسره أنْ تَسقط الرؤوس، وتطيح الأيدي) .

فقال الحُرّ:(أفما لكم فيما عرضه عليكم رضا؟) .

فأجابه:(أمْا لو كان الأمر إليَّ لفعلت، ولكنَّ أميرك قد أبى) .

فرجع الحُرُّ وهو يتمايل ويَرتعد، وأخذه مِثل الإفْكَل؛ إذ شعر بأنَّه كان السبب لحصر الإمام.

فقال له مَن يُجاوره، وهو يُحاوره:إنَّ أمرك لمـُريب، فوالله، لو سُئلتُ عن أشجع أهل العراق لمـَا عدوتك، فماذا أصابك يا بن يزيد؟

فأجابه الحُرّ:(ويحَك، إنِّي أُخيِّر نفسي بين الجَنَّة والنار، ووالله لا أختار على الجَنَّة شيئاً، وإنْ قُطِّعت وحُرِّقت) ، قال هذا، وضرب بجَواده إلى الحسينعليه‌السلام .

وصادف قُرَّة بن قيس، فقال له:(يا قرة هل سَقيت فرسك؟) .

قال قُرَّة:(قلت له: لا، وظننتُ أنَّه يُريد أنْ يتنحَّى القتال كراهة أنْ يَشهده، فوالله، لو أطلعني على الذي يُريد؛ لخرجت معه إلى الحسين) .

أخذ يَدنو الحُرّ مِن الحسين رويداً رويداً، وكان ذلك منه خَجلاً لا وَجلاً، حتَّى وقف قريباً منه، فقال:(جعلتُ فِداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حَبستك عن الرجوع، وجَعْجَعْت بك في هذا المكان، وما ظَننتُ أنَّ القوم يَردُّون عليك ما عرضته عليهم، ووالله لو علمت أنَّهم ينتهون بك إلى ما أرى، ما رَكبت مِثل الذي رَكبت، وإنِّي تائب إلى الله مِمَّا صَنعت، فهل ترى لي مِن توبة؟) .

فأجابه الحسينعليه‌السلام : (نعمْ، يتوب الله عليك فانزل).

١١٤

فقال الحُرُّ:(أنا لك فارس، خيرٌ مِنِّي راجل، أُقاتلهم لك على فرسي ساعة، ويصير النزول آخِر أمري) .

فقال له الحسينعليه‌السلام : (فاصنع - يَرحمك - الله ما بدا لك).

قابل الحُرّ بعدئذٍ جيش ابن سعد، وصاح بهم:(يا أهل الكوفة، لأُمِّكم الهَبَل؛ دعوتم هذا العبد الصالح لتنصروه، حتَّى إذا جاءكم أسلمتموه، وكتبتم إليه أنَّكم قاتلوأنفسكم دونه، ثمَّ عدوتم عليه تقاتلونه، وأمسكتم بنفسه، وأخذتم بكَظمه، وأحطتم به مِن كلِّ جانب؛ لتمنعوه التوجُّه في بلاد الله العريضة؛ فصار كالأسير في أيديكم، لا يَملك لنفسه نَفعاً ولا يَدفع عنها ضرَّاً، وحلأتموه ونساءه وصِبيَته عن ماء الفرات الجاري، تَشربه اليهود والنصارى والمـَجوس، وتَمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فها هم قد صرعهم العطش، بِئسَ ما خَلَّفتم محمداً في ذُريَّته، لا سقاكم الله يوم الظمأ).

فساد القوم سُكوت، كأنَّ على رؤوسهم الطير، ثمَّ لم يُجيبوه بسِوى النِّبال، فحمل عليهم، وهو يَرتجز ويقول:

(إنِّي أنا الحُرُّ ومأوى الضيف

أضربكم ولا أرى مِن حَيف)

وقاتلهم قتالاً شَديد، حتَّى عقروا فرسه، وتكاثروا عليه، فلم يزل يُحاربهم، وهو راجل، حتَّى أثخنوه بالجراح وصرعوه، فنادى:

(السلام عليك يا أبا عبد الله).

وقد أبَّنه الإمامعليه‌السلام بقوله: (أنت - كما سمَّتك أُمُّك - حُرٌّ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة)؛ فطوبى له وحَسن مآب.

١١٥

أصدق المـَظاهر الدينيَّة

ليس في التعبير عن الحسينعليه‌السلام بآية الحَقِّ، أو رمز السلام، أو نحوهما مُبالغة ما؛ إذ كان -والحَقُّ يُقال - مِثال الحَقِّ والإسلام، في كلِّ أحواله وأقواله وأعماله، فلمْ تَكن المـُرآة المواجهة للشمس، أصدق حكاية عنها، مِن الإمامعليه‌السلام عن الإسلام.

ولا بُدع، فإنَّ الناهض حَقَّاً بحقيقة، يجب أنْ يُمثِّلها بكلِّ أطواره في كلِّ أدواره، والحسين بن عليعليه‌السلام غَدا في نهضته، أُمثولة الحَقِّ الصرَّاح، وحاكياً عنه حكاية الزجاجة عن المِصباح؛ فأظهر الحقيقة في: كُتبه، وخُطبه، وأقواله، وأحواله، فقدَّم خُطورة الدين على خُطورة السكن والوطن، وقَدَّم حُرمة حرم الله وحرم رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حُرمة نفسه، وأجاب دعوة مَن لا يُوثَق بولائهم ودعائهم، وخَسر في سبيل أُمَّته، صَفوة أحبَّته ونُخبَة عشريته، وضايق نفسه حِفظاً لظواهر الدين، واستفرغ وِسعه وقواه في نصيحة أعداء الدين، وبذل النفس والنفيس في سبيل مَصلحة الدين.

كلُّ ذلك، وغير ذلك؛ ليذُكِّرهم الله، ويستهديهم بكتاب الله،

١١٦

حتَّى حانت ساعة القيام بأصدق المـُظاهرات الدينيَّة، وهي ساعة الصلاة الشمس، في الهاجِرة مِن ظهيرة اليوم العاشر مِن مُحرَّم، ولم يَكُ الحسينعليه‌السلام مِمَّن ينسى، أو يَتناسى الصلاة المـَوقوتة، ولو في أحرج ساعاته، قدوةً بأبيه عليٍّعليه‌السلام رجُل الإيمان؛ فإنَّه لم يؤخِّر صلاته، في أحرج ساعات الوغى ليلة الهَرير في صِفِّين، فصَفّ قدميه لوجه الله مُصلِّياً، والحرب ثائرة مِن حوله، ودائرة، ولمـّا لاموه عليها أجاب: (ألسنا نُحارب لإقامة الصلاة؟).

كذلك ابنه الحسينعليه‌السلام - والشبل مِن ذاك الأسد - فاهتمَّ بها عندما صاح مُؤذِّنه أبو ثمامة الصائدي، وصلَّى بأصحابه، ولكنْ صلاة الخوف، وسهام الأعداء تَتْرى عليه، بالرغم مِن استمهالهم.

أيخشى الإمامعليه‌السلام قتله في الصلاة، وقد مضى أبوه قَتيلاً في مِحرابه؟! أمْ يَخشى الموت صحبه، وهم يتسابقون إليه تسابق الجياع إلى القِصاع؟! ويُحبِّذون الموت بوجه الله، وفي سبيله مع ابن رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

ولقد كانت صلاة الحسينعليه‌السلام مِن أصدق مَظاهر إخلاصه لله، وتمسُّكه بالشريعة، وبَعيدةً عن كلِّ شُبهة أو شائبة.

وإذا كانت المـُظاهرات الحسينيَّة، تكشف مساوئ أخلاق أعدائه، ومبلغ حِرمانهم مِن الإنسانيَّة، فإنَّ مُظاهرة صلاة الخوف بين أولئك المـُعارضين، برهنت على سوء نيَّة العدوِّ،واستهانته بشريعة الإسلام، فهي إنْ لم تُبطِل سِحر العدوِّ في أعيُن الناظرين، فقد أبلغت حُجَّة الحسينعليه‌السلام إلى مسامع الغائبين؛ حيث إنَّ العدوّ كان مُتذرِّعاً بحبائل الدين ضِدَّ الدعوة الحسينيَّة، يوهم البسطاء والحُمقاء

١١٧

أنَّ يزيد، خليفة النبيّ، بمُبايعةٍ مِن أكثر المسلمين، وأنَّ حسيناً خارج على إمام زمانه! لغايات دنيويّة! فيجب إعدامه أو إرغامه! واسم الدين قد يغشُّ العامَّة، ولو كان بقصد مَحو الدين.

ولَكَمْ تذرّع المـُبطلون بأسحلة الحَقِّ ضِدَّ أهل الحَقِّ؛ فخدعوا بذلك العامّة، كما انخدع الخوارج ضِدَّ أمير المؤمنين بشُبهة مُخالفته للدّين، وأيُّ دين؟ أهو ذلك الدين الذي قام واستقام، بخَدمات عليعليه‌السلام ، ومَعاركه ومَعارفه؟ وكان شمر الفاشِل الخارجي وأشباهه، مِن بقايا الخوارج، فائمين بحَركات أسلافهم، في تمويه حقائق الدين، بالظواهر الخداعة، مُستعملين اسم الإسلام آلةً لإجراء مَنْويَّاتهم في الحسينعليه‌السلام ، ولكنَّ إقامة الإمامعليه‌السلام صلاة الخوف، في أحرج المواقف والمواقيت بين الأسنَّة والحِراب، بين العدى والردى، كانت أقوى آلةً فَعَّالة في إبطال سِحرهم ومَكرهم؛ فإنَّهم لم يُمهِلوا الحسينعليه‌السلام وصحبه أنْ يتعبَّدوا لله، في حين أنَّ الدّين يفرض إمهال المـُتعبِّدين، والعبادة شعار الموحِّدين، فما عُذرهم عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مَوقفه بعد موقفهم هذا؟!

أفلم يروا ريحانته، يُصلِّي إلى قبلة الإسلام، مع صَحبه المسلمين؟!

أفلا تُحتَرم الصلاة، وهي حَرم الله؟!

أولم يسمعوا كلام الله:( ... وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً... ) ، وصَحب الحسينعليه‌السلام ألقوا السلاح، واظهروا السلام والإسلام، واستمهلوا للصلاة، واستأمنوهم لذِكر الله، فهل ترى مَظهراً للدين والحَقِّ أصدق مِن هذا؟!

١١٨

لكنَّ أعداء الحسينعليه‌السلام ،( ... قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً... ) ، فلم تَعُدْ تؤثِّر فيهم مَظاهر إسلاميَّة، أو عواطف إنسانيَّة سِوى السيف المـُخيف، أو الرغيف، وقد كانا يومئذٍ في أيدي أعداء الهدى( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ... ) .

١١٩

الطفل الذبيح

إذا وصف القرآن قُربان إبراهيم بالذَّبْح العظيم؛ نَظراً لآثاره الباقية في الحَجِّ والإسلام؛ فإنَّ المـُظاهرة الأخيرة، التي قام بها الحسينعليه‌السلام ، أثَّرت تأثيراً عظيماً، مِن بين مُجاهداته الأدبيَّة في كَشف حقائق النزعة الأُمويَّة، وهذه الحادثة الأليمة، بالرغم مِن استحقاقها التوسُّع، فإنَّني لا أستطيع فيها سِوى الإيجاز.

والحسينعليه‌السلام بعدما خَلا رحله مِن الماء، وطال على أهله الضماء، حتَّى جَفَّت المـَراضع، وشَحَّت المدامع، تناول طفله الرضيع واسمه(علي) أو(عبد الله) ؛ ليُقدِّمه إلى العدوِّ، وسيلة لرفع الحَجْر عن الماء، فأشرف على الأعداء بتلك البيِّنة، المعصومة مِن أيَّة جانحة أو جارحة، قائلاً:

(يا قوم، إنْ كنَّا في زعمكم مُذنبين، فما ذنب هذا الرضيع؟! وقد ترونه يتلظَّى عَطشاً، وهو طفل لا يعرف الغاية، ولم يأت بجِناية، ويلَكم اسقوه شِربة ماء، فقد جَفّت مَحالب أُمِّه).

فتلاوم القوم بينهم: بين قائل: لابُدَّ مِن إجابة الحسين (عليه

١٢٠