نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)0%

نهضة الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 138

نهضة الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
تصنيف: الصفحات: 138
المشاهدات: 54749
تحميل: 5624

توضيحات:

نهضة الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 138 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54749 / تحميل: 5624
الحجم الحجم الحجم
نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

السلام)؛ فإنَّ أوامر ابن زياد، بمنع الماء خصوص الكبار دون الصغار، والصغير تستثنيه الشرائع والعواطف، مِن كلِّ جريمة وانتقام، حتَّى لو كان الأطفال مِن ذراري الكفَّار، وقائل: إنَّ الحسين قد بلغ الغاية مِن الضمأ والضرورة، فإنْ صبرتم عن سقايته سويعَة؛ أسلم أمره إليكم وتنازل لكم.

فخشي ابن سعد مِن طول المـَقام والمقال أنْ يَتمرَّد عليه جيشه المـُطيع، فقال لحرملة: اقطع نزاع القوم، وكان مِن الرماة، فعَرف غرض ابن سعد، فرمى الرضيع بسهم نَحَرَه به، وصار الحسينعليه‌السلام يأخذ دَمَه بكَفِّه، وكلَّما امتلأت كَفُّه دَماً، رمى به إلى السماء، قائلاً: (اللَّهمَّ، لا يكونَنَّ أهون عليك مِن فصيل...)، يعني فصيل ناقة صالح.

ولمـَّا أحسَّ الرضيع بحَرارة الحديد وألمه، فتح عينيه في وجه أبيه، وصار يُرفرف كالطير المذبوح، وطارت روحه رافعة، شكاية الحال إلى العَدل المـُتعال، وترك القلوب دامية مِن مُصيبَته المـُفتِّتة للأكباد، وقد بلغ أمر الرضيع الذبيح، مَبلغاً مِن قوّة الدلالة على انحراف قلوب القوم، عن سُنَن الإنسانيَّة، وعلى سَفالة أخلاقهم، بحيث يَئس الحسينعليه‌السلام - عند ذلك - مِن رُشدهم، وعاد عنهم خائباً، وربَّما كانت مُصيبته في خيبته أعظم عليه مِن مُصيبته في الرضيع، فاستقبلته صَبيَّة قائلة:(يا أباه، لعلَّك سَقيت أخي ماءً) .

فأجابها: (هاكِ أخاك ذبيحاً)، ثمَّ حفر الأرض بسيفه، ودفن الرضيع، ودفن معه كلَّ آماله.

وكان حسين الحَقِّ، لم يَدَّخر في وسعه أيَّ قوَّة، ولم يُضيِّع أيَّ فرصة، في إفشاء سرائر الحزب السُّفياني؛ فإنَّ قتل الذراري، وذبح

١٢١

الأطفال كانت الشرائع والعادات تَمنع عنه أشَدَّ المـَنع.

وقد روى المـُحدِّثون: أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سريَّة، فقتلوا النساء والصبيان، فأنكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك عليهم إنكاراً شديداً، فقالوا:(يا رسول، الله إنَّهم ذراري المـُشركين) .

فقال: (أوليس خيارُكم ذراري المـُشركين؟!)، وإنَّ خالد بن الوليد، لمـَّا قتل بالغميصا الأطفال، رفع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه، حتَّى رأى المسلمون بياض أُبطيه، وقال: (اللَّهمَّ إنِّي أبرء إليك مِمَّا صنع خالد)، ثمَّ بعث عليَّاًعليه‌السلام فودَّاهم.

فلم يَعهد ذبح الأطفال بعد ذلك، إلاَّ ما كان مِن مُعاوية في قتله أطفال المسلمين في الأنبار، وفي اليمن على يدي عامله بِسر بن أرطاة، وكان فيمن قتلهم وَلَدان لعبيد الله بن عباس (رضي الله عنه)، وكرَّرت ذلك أشياعه في الطفِّ، فذبحوا مِن الصِبيَة والأطفال ما ظهروا عليهم، وظفروا بهم، بغير رحمة منهم، ودون أدنى رِقَّة أو رأفة، والأمر الذي برهن على غُلوِّهم، في القسوة والفسوق عن الدين، وأوضح بلا مرآء ولا خفاء، أنَّ قصد التشفّي والانتقام، بلغ بهم إلى العزم على استئصال ذُرَّية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقطع نسله، ومَحو أصله.

أمّا عليُّ بن الحسين العَليل، فلم يَفز بالنجاة مِن أيديهم العادية بصغر سنِّه، ولا بتعلُّق عمَّته به قائلة: (لا يُقتَل إلاَّ وأُقتل)، ولا بشفاعة حميد بن مسلم وإضرابه فيه، بلْ إنَّما نَجا مِن حَدِّ الحديد، بشِدَّة مرضه، وقوَّة عِلَّته، وضعف أملهم بحياته، ونجا الحسن بن الحسن باختفائه، وهو جريح طريح؛ وفاءً مِن الله بوعده، وحِفظه لنَسل نبيِّ الرحمة، بإكثار المـُصلحين في الأُمَّة، وهدايتها بعلوم الأئمَّة.

١٢٢

العَطش ومَقتل العبَّاس

يقفُ العقل حائراً، كلَّما فَكَّر في النظام العائلي، أو الداخلي، سواء لأُسرة الحسينعليه‌السلام ، أم لصحبه وحسن تربيته لآله وعياله؛ فكانوا حتَّى في الشدائد أتبع له مِن ظِلاله، وأطوع مِن خَياله، ولا ينهض بأمر الجماعة مِثل حُسن الطاعة، ولستُ مُغالياً في قولي: طاعة أميركم فيما تكرهون، ولا عُصيانه فيما تُحبِّون، فالانكسار كان أبعد شيءٍ مِن مِثل هذه الجماعة، لو لم تُصبهم فاقة جوع أو عَطش، فلا نرى شِمراً مُبالغاً في قوله لقومه، عن الحسينعليه‌السلام وأهله:(إنَّهم إذا وصلهم الماء، أبادوكم عن آخركم).

وكان إحصار جيش الحسينعليه‌السلام عن الماء، أقوى أسلحة عدوِّه عليه، ومَن عَدَّ الصبر على الجوع مُتعسِّر، يَعدُّ الصبر على العَطش مُتعذِّر، سيَّما مِن فحولة هاشم وسيوفهم في أيمانهم، والماء بين أعينهم، ويَسمعون بآذانهم ضَجَّة صِبيَتهم، عُطاشى ومرضى، ونَخصُّ مِن بينهم الفتى الباسِل، أبا الفضل العباس (رضوان الله عليه)، فقد أثَّرت عليه الوضعيَّة، وأثارت عواطفه؛ فتقدّم

١٢٣

إلى أخيه الحسينعليه‌السلام ؛ يستميحه رُخصة الدفاع مُعتذراً بأنَّ صدره قد ضاق مِن الحياة، ويكره البقاء.

نعم لا شيء أشهى مِن الحياة وأطيب، لكنَّما الحيَّ إنَّما يُحبُّها ما دامت مُنطوية على مَسرَّات ولذَّات، أمَّا إذا خَلت مِن تِلكُما الحُسنيَين، وأمْسَتْ ظرف آلام لا تُطاق؛ استحالت الحياة الحُلوة، كأساً مُصبَّرة غير أنَّ أقوياء النفوس، لو أفضى الزمان بهم، إلى مِثل هذه الحالة العَصيبة، وعجزوا عن سلوان أنفسهم بمَهلِّ التاريخ؛ فإنَّهم يَختارون الموت، في سبيل دفع الموت، ويفضلونه على الموت، في سبيل انتظار الموت.

أجلْ، إنَّ الموت في سبيل دفاعه أفضل وأحوط مِن الموت في سبيل انتظاره، وقد كان الحسينعليه‌السلام مُستميتاً، ومستميتاً كلُّ مَن كان معه، وكانت أنفسهم الشريفة مُتشرِّبة مِن كأس التضحية، وريَّانة مِن مَعين التفادي؛ وفي مُقدِّمة هؤلاء، أبو الفضل العباس (رضوان الله عليه)، أكبر إخوة الحسينعليه‌السلام المـُمتاز في الكمال والجَمال، وقَمر بني هاشم، وحامل راية الحسينعليه‌السلام ، وعقيد آماله في المـُحافظة على رَحله وعياله.

لذلك شَقَّ على الحسينعليه‌السلام ، أنْ يأذن له بالبِراز إلى الأعداء، غير أنَّه يأمَل في مُبارزته القوم إبلاغ الحُجَّة، وإحياء الذُّرَّيَّة، وأنْ يُعين على حياة العائلة بالسقاية والرواية، كما سبق منه ذلك، سِيَّما وإنَّ أخبث رؤساء جيش العدوِّ شِمر الكِلابي، وهو على شَقائه آمن العبَّاس (رضوان الله عليه) وأشقائه؛ لنسبة بينه وبين أُمِّ العبَّاس (أُمِّ البنين)؛ ولأنَّ عبَّاس الفتوَّة إذا عهدت إليه السقاية، يعود مُهتمَّاً بعودته إلى الحسينعليه‌السلام ، فكأنَّ مِن هذا وذاك وذياك كان جوابه

١٢٤

لأخيه العبَّاس: (إذنْ، فاطلب مِن القوم لهؤلاء الأطفال جُرعةً مِن الماء).

فتوجَّه العبَّاس بن عليعليه‌السلام ، نحو الجيوش المـُرابطة حول الشرائع، فأخذوا يمانعونه عن الماء، ويَستنهض بعضهم بعضاً، على مُعارضته ومُقاتلته، خَشية أنْ يَصل الماء إلى عِترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يَزل العبّاس (رضوان الله عليه) يُقارعهم ويُقاتلهم، ويُقلِّب فِئةً على فِئةٍ، ويَفلُّ العِصابَة تِلو العِصابَة، حتَّى كمنوا له وراء نَخله مِن نُخيلات الغاضريَّة، فقطعوا يُمناه، فتلقَّى السيف بيُسراه، مُثابِراً على الدفاع غير مُكترث بما أصابه، وهو يتلو الأراجيز تِلو الأراجيز، ويُذكِّر القوم بمآثر أهل البيت، وحَسَبهم، ونَسبهم مِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يُدافع عن نفسه، وهو مقطوع اليدين، وكأنَّ القوم قطعوا بيديه، يدي الحسينعليه‌السلام .

فعند ذلك تَقدَّم إليه دارميٌّ غير هيَّاب له، وضربه بعمود مِن حديد، فَخرَّ صريعاً وصارخاً:(يا أخاه، أدرِك أخاك) .

ولم يُدرك الحسينعليه‌السلام ظَهيره ونَصيره، إلاَّ بعد اختراق الجموع والجنود، وفي آخر لحَظة منه، نادِباً له، وقائلاً: (الآنْ انكسر ظهري، وقَلَّت حيلتي، وشَمُت بي عدوِّي).

١٢٥

الشجاعة الحُسينيَّة

إنَّ وضعيَّة الحسينعليه‌السلام تِجاه عِداه، كانت دفاعيَّة وسِلسلة تَحفُّظات وتَحوُّطات، عن سَفك الدم، أو هَتك الحُرَم: مِثل هِجرته عن حَرم الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمُّ مُصافاته مع الحُرِّ، والمـُحايدة عن طرق الكوفة، ثمَّ تقديمه ابن سعد لدى ابن زياد، للكَفاف عنه؛ حتَّى يعود مِن حيث أتى، أو يُغادر إلى ثغور العَجم والدَّيلم، ثمَّ طلبه الإفراج عن حِصاره؛ ليَذهب بنفسه إلى يزيد؛ يُذاكره في مَصيره ومَسيره، ثمَّ تَحصُّنه خَلْفَ الروابي والهِضاب؛ سِتراً على العائلة مِن العادية، ثمَّ مُطالبته السقاية والرواية بواسطة رجاله، والتَشفُّع لديهم بأطفاله، وإيفاد رُسل النصح والسلام إليهم، وإلقاء الخُطب عليهم، وإلى غيرها مِن شواهد مَسلكه الدفاعي الشريف.

لكنَّ عِداه، تناهوا في خُطط الاعتداء عليه، في جميع المـَشاهد والمـَواقف، وبرهنوا للمـَلأ الإسلامي، أنَّهم لا يَقصدون به سِوى التَشفِّي والانتقام، بكلِّ قَسوة وفظاعة، وكانت خاتِمة مُدافعته عند الذَّود عن حياض شرفه بالسلاح، حينما يَئس، ولم يَبقَ له في هدايتهم مَطمع،

١٢٦

وغدت أبواب رجاء الحياة وآمالها موصَدة في وجهه، ورأى بعينيه مَصارع صَحبه وآله مِن جِهة، ومِن الأُخرى مَصرع العبَّاس (رضوان الله عليه)، أخيه وذخيرته الوحيدة لنائبات الزمان، وأيقن بتصميم القوم على مُمانعة الماء عنه، وعن صِبيَته بكلِّ جَهد وجَدٍّ؛ حتَّى يُميتوها ويُميتوه عطشاً؛ فجاهد جهاد الأبطال، ونَكَّس فُرساناً على رجال، عندما عاد مِن مَصرع أخيه، وحال القوم بينه وبين مُخيَّمه، ولم يُرَ مَكثوراً قط، قُتِل وِلده، وإخوانه، ومَن معه أربط جأشاً، وأمضى جِناناً مِن الحسينعليه‌السلام ، وإنَّه كانت الرجال لتَشدُّ عليه؛ فيَشدُّ عليها، ثمَّ تَنكشف عنه انكشاف المـَعزى إذا شَدَّ عليها الليث، ويَفرُّون مِن بين يديه، كأنَّهم الجُراد المـُنتشر وهو يقول:

أنا الحسينُ بنُ علي = آليتُ أنْ لا انثني

فذكَّرهم أيّام أبيه في صِفِّين، والجَمل، وردَّدت أندية الأخبار، ذِكرى الشجاعة الحُسينيَّة، بكلِّ إعجاب واستغراب؛ إذ حفَّت بحالته حالات شَذَّ ما يُصادف بطلٌ واحدةً منها، مِن عَطش مُفرِط، وحَرَم مُهدَّد، وافتجاع بجمهور الأحبَّة والأرحام، وتَفردُّه - غريباً - بين أُلوف المـُقاتلين؛ ولكنَّ شِبل عليعليه‌السلام ، لم يَحسب لجمهرتهم أيَّ حِساب، ولم تَبدُ منه - في مِثل هذه الحالة الرهيبة العَصيبة - ما يُنافي الشرف، ولا ما يُخالِف الدين، ولا ما يُحاشي الإنسانيَّة؛ وهي - والله - مُعجزِة البشر، وإنَّها لإحدى الكِبر، ويُنشد في كَرَّاته:

إذا كانت الأبدانُ للموت أُنشِئتْ

فقتل امرءٍ في الله أولى وأفضل

ولم يَزل يُدافعهم في مُتَّسع مِن الأرض، فِئةً بعد فِئة، حتَّى أدَّت الأفكار والأحوال، إلى فِكرة حِصاره أثناء الكَرِّ والفَرِّ في دائرة تلال

١٢٧

الحائر، وسَدُّوا في وجهه مَنافذ خروجه، وافترقوا عليه أربع فِرَق، مِن جهاته الأربع: فِرقة بالسيوف، وهم الأدنون منه، وفِرقة بالرماح، وهم الجَوّالة حوله، وفِرقة بالنِّبال، وهم الرماة مِن أعالي التِّلال، وفِرقة بالحِجارة، وهم الرَجَّالة المـُنبثَّة حوالي الخَيَّالة.

وأثخنوا جثمان سِبط النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجروح الدامية، وأكثرها في مَقاديمه، وأضحى جِلده كالقُنفذ، وكلَّما تمايل ليهوي إلى الأرض توازن معه فرسه (وكانت مِن الجياد الأصائل)، حتَّى إذا ضَعف الفرس أيضاً، بما أصابها مِن الجروح خَرَّ مِن سَرجه على وجهه، وأقبل فرسه نحو مُخيَّمه يَصهل ويُحمحِم، فخرجت زينب مِن فِسطاطها، واضعة عشرة أصابعها على رأسها، قائلة:(ليتَ السماء أطبقتْ على الأرض، وليتَ الجبال تَدكدكت على السهل) .

ثمَّ صاحت بابن سعد، قائلة:(يا عمر، أُيقتَل أبو عبد الله، وأنت تَنظر إليه؟!) ؛ فدَمِعت عينا عمر، وسالت دموعه على لِحيته، لكنَّه صرف بوجهه عنها.

ثمّ أقبل شِمر على الحسينعليه‌السلام يُحرِّض الجيش عليه، والحسين يَحمِل عليهم؛ فينكشفون عنه، وهو يقول: (أعلى قتلي تجتمعون؟! وأيْمَ الله، إنِّي أرجو أنْ يُكرِمني الله بهوانكم، ثمَّ يَنتقِم لي منكم، مِن حيث لا تَشعرون، أما والله، لو قتلتموني؛ لألقى الله بأسَكم بينكم، ثمَّ لا يرضى بذلك حتَّى يُضاعِف لكم العذاب الأليم).

ولم يَزل يُدافِع عن نفسه، وقد قاتلهم راجِلاً قتال الفارس المِغوار، يتَّقي الرَّمية، ويفترص العَوار، لكنَّه يقوم ويكبو والرَجَّالة تَفرُّ مِن بين يديه، ثمَّ تَكرُّ عليه.

١٢٨

مَصرع الإمام ومَقتله

لقد توالت على ابن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جروح دامية، مِن مُطارَدة الأبطال، ومُضارَبة الفُرسان، وأثناء مُناصرته لأنصاره، وكاشفة الجيش عن أهل بيته، وعندما بلغ المـُسنَّاة، رماه ابن نُمير بسهمٍ؛ فجرح ما بين فَمِه وحِنكه، وملأ كَفَّيه دَماً، فحمد الله وقال: (اللَّهمَّ احصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُبقِ منهم أحداً).

ثمَّ ضربه كندي على رأسه بالسيف؛ فقطع البرنس وأدمى رأسه، وامتلأ البرنس دَماً، فقال الحسينعليه‌السلام : (لا أكلتَ بيمينك، وحَشرك الله مع الظالمين)، وألقى البرنس، ولبس القُلنسوة، ثمَّ شجَّ جبينه أبو الحتوف الجُعفي بالحِجارة؛ فسالت الدماء على وجهه.

وأفضت الإصابات والعصابات، إلى هواه نحو مَصرعه، وأقبل شِمر برجاله يحول بين الحسينعليه‌السلام ورِحاله، واغتنمت رَجَّالة الجيش عندئذٍ فُرصة مَصرعه، لاغتنام ما في رَحله، وما على أهله، أولئك الذين فقدوا - في تلك الساعة الرهيبة - حامي حماهم؛ فاستفزَّت ضجَّتهم مَشاعر الحسين الهادئة؛ فرفع رأسه وبصره، وإذا

١٢٩

بأجلاف القوم، زاحفون مِن سَفح التِّلال، نحو مُخيَّمه للسَّلب والنَّهب؛ فأثارت الغيرة في حسين المـَجد روحاً جديدة؛ فنهض زاحفاً على رُكبتيه قائلاً: (يا شيعة آل أبي سفيان، إنْ لم يَكُن لكم دين، وكُنتم لا تَخافون يوم المـَعاد، فكونوا أحراراً في دُنياكم، وراجعوا أحسابكم وأنسابكم إنْ كُنتم عُرباً).

فصاح شِمر:ما تقول يا بن فاطمة؟

قال الإمام: (أقول: أنا الذي أقاتلكم وتُقاتلونني، والنساء ليس عليهنَّ جِناح؛ فارجعوا بطُغاتكم وجُهَّالكم عن التعرُّض لحُرمي).

فقالوا: ذلك لك؛ ورجعوا.

ومَكث الإمامعليه‌السلام صريعاً، يُعالج جروحه الدامية، والناس يتَّقون قتله، وكلٌّ يَرغب في أنْ يَكفيه غيره، فصرخ بهم شِمر قائلاً:ويَحكم! ماذا تنتظرون بالرجل؟!، أقتلوه ثَكلتْكم أُمَّهاتُكم.

فهاجوا على الحسينعليه‌السلام واحتوشوه، فضربه زُرعة على عاتقه بالسيف، وأقبل عندئذٍ غُلامٌ مِن أهله، وقام إلى جنبه، وقد هوى ابن كعب بسيفه، فصاح به الغُلام:(يا بن الخبيثة، أتقتل عَمِّي؟!) ، واتَّقى السيف بيده، فأطنَّها وتعلَّقت بالجِلدة؛ فنادى الغُلام:(يا أُمَّاه) ، فاعتنقه الحسينعليه‌السلام ، قائلاً: (صَبراً - يا بن أخي - على ما نزل بك، فإنَّ الله سيُلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله، وبعليٍّ، وبالحسن).

ثمَّ قال: (اللَّهمَّ أمسك عنهم قَطر السماء، وأمنعهم بركات الأرض، اللَّهمَّ إنْ متَّعتهم إلى حين، ففرِّقهم فرقاً، واجعلهم قِدداً، ولا تُرضِ عنهم الولاة أبداً؛ فإنَّهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا يقتلونا).

١٣٠

ثمَّ تضاعفت الرَجَّالة والخيَّالة على الحسينعليه‌السلام .

وطعنه سِنان برمحه.

وقال لخولِّي احتزَّ الرأس.

فضعُف هذا وأرعد.

فقال له سِنان: فَتَّ الله عَضدك، ونزل وذبح الإمام، ودفع رأسه إلى خولِّي.

وسَلبوا ما على الحسينعليه‌السلام ، حتَّى سراويله ونَعليه، ثمَّ تمايل الناس إلى رحله وثقله، وما على أهله، حتى أنَّ الحُرَّة كانت لتُجاذِب على قناعها وخِمارها، والمرأة تُنتزَع ثوبها مِن ظهرها فيؤخَذ منها، والفَتاة تُعالَج على سَلب قِرطها وسوارها، والمريض يُجتَذب الأديم مِن تَحته.

ثمَّ نادى ابن سعد في أصحابه: مَن يَنتدب إلى الحسين؛ فيوطئ الخيل صدره وظهره؟

فانتدب عشرة فوارس، وداسوا بحوافر خيلهم جَنازة الإمام، ورضُّوا جَناجِن صدره.

وصلَّى ابن سعد على قتلى جيشه، ودفنهم، وترك الشهداء الصالحين على العَراء( ... وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .

١٣١

بعد مَقتل الحسين عليه‌السلام

قتل الظالمون حسين الفَضيلة، وفرِحوا بمَقتله فَرحاً عظيماً؛ إذ حَسِبوا أنَّهم قتلوا به شخصيَّته ودعوته، وصرعوا به كلمته، وحَسِبوا أنَّهم أخذوا به ثار أسلافهم، وانتقام أشياخهم، داسوا بخيلهم جَناجِن صدر الحسينعليه‌السلام ، وسَحقوا جُثمانه، وزعموا أنَّهم سَحقوا به كلمة الحسينعليه‌السلام ، ومَحقوا دعوته.

تركوا جَسد الحسينعليه‌السلام وأجساد مَن معه، عُراة على العَراء، بلا غُسلٍ، ولا كَفن، ولا صلاة عليه، ولا دفن، زاعمين أنَّهم أهملوا بذلك شخصيَّة الحسينعليه‌السلام وأهميَّة الحَقِّ والإيمان، مثَّلوا بجُثَّة الحسينعليه‌السلام - وقد مَنع الإسلام عن المـُثلَة - زاعمين أنَّهم جعلوا داعية العَدل، وآية الحَقِّ، أُمثولَة الخيبة والفَشل، وأنَّه سيُضرَب به المـَثل.

لعبوا برأسه على القَنا، وبرؤوس آله وصَحبه، أمام العِباد والبلاد، زاعمين أنَّهم سيَلعبون بعده بعقائد العِباد، ومصالح البلاد ما داموا ودامتْ.

سلبوه وسلبوا أهله، ونَهبوا رَحله، وأحرقوا خِيَمه، وأبادوا

١٣٢

حُرمه، زاعمين أنَّها هي الضربة القاضية، فلن ترى بعدئذٍ مِن باقية.

ظنَّ ذلك القوم، وأيَّدتهم كلُّ شواهد الأحوال يومئذٍ، حتَّى دفن ابن سعد جميع قتلى جُنده، في يومه وغده، ودفن معهم كلَّ خَشيةٍ أو خَيبةٍ، كانت تجول في واهمته، ورَحَلَ عن كربلاء برَحْل الحسينعليه‌السلام ، وأهله، والرؤوس إلى ابن زياد الجَور، وترك أشلاء حامية الحَقِّ،وداعية العَدل، جَرداء في العَراء، بين لَهيب الشمس والرمضاء، وعُرضةً للنسور والعقبان.

ومِمَّا يُثير الشجون والأحزان، أنَّ علي الإيمانعليه‌السلام ، حارب البُغاة مِن أقطاب الحركة الأُمويَّة في صِفِّين والجَمل، وبعد قتلهم أجرى عليهم سُنَن التجهيز والدفن، مُراعياً حُرمة الإسلام وحِشمَة الشهادتين.

أمَّا المـُنتقمون مِن حسين الحَقِّ وصَحبه، فلم يَحترموا فيه أيَّ شِعار ديني، أو أدب قومي، قَنعوا منهم بدمائهم عن التغسيل، وبالتُّرب عن التحنيط، وبنسج الرياح عن التجهيز.

وليتَ شعري، ماذا يصنع أولياء الحَقِّ بصَلاة أولياء الشيطان؟!

وحَسْبُهم منهم أنْ صَلَّت على جُسومهم سيوفهم، وشيَّعت أجسادهم نِبالهم، وألحدت أشلاءهم العَوادي والعاديات، عليهم وإليهم صلوات الله والصالحين، ودعوات طُلاَّب العَدل وعُشَّاق الحَقِّ ما لاحت الأصباح، وروَّحت الرياح.

هذا، وما عتَّمت عشيَّة الثاني عشر مِن مُحرَّم، إلاّ وعادت إلى أرياف كربلاء عشائرها، الضاعنة عنها بمُناسبة القتال، وقُطَّان نينوى والغاضريَّات مِن بَني أسد، وفيهم كثير مِن أولياء الحسين (عليه

١٣٣

السلام)، وقليل مَن اختلطوا برَجَّالة جيش الكوفة، فتأمَّلوا في أجساد زكيَّة، تَرَكَها ابن سعد في السُّفوح، وعلى البطاح، تَسفي عليها الرياح، وتساءلوا عن أخبارها العُرفاء، فما مَرَّت الأيّام والأعوام، إلاَّ والمـَزارات قائمة عليها، والخيرات جارية، والمـَدائح تُتلى، والحَفلات تتوالى، ووجوه العُظماء على أبوابها، وتيجان المـُلوك على أعتابها، وامتدَّت جاذبيَّة الحسينعليه‌السلام وصَحبه، مِن حَضرة الحائر، إلى تُخوم الهند والصين، وأعماق العَجم، وما وراء التُّرك والدَّيلم، يُردِّدون ذِكرى فاجعته، بمَمرِّ الساعات والأيَّام، ويُقيمون مأتمه في رِثائه ومواكب عزائه، ويُجدِّون في إحياء قضيَّته في عامَّة الأنام، ويُمثِّلون واقعته في مَمرِّ الأعوام.

هذا بعض ما فاز به حسين النهضة، مِن النَّصر الآجل، والمـُظفَّريَّة في المـُستقبل( ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .

أمَّا الحزب السُّفياني، فقد خاب فيما خاله، وخَسرت صَفقته، وذاق الأمرَّين بعد مَقتل الحسينعليه‌السلام ، في سبيل تهدئة الخَواطر، وإخماد النوائر، حتَّى صار يُعالج الفاسد بالأفسد، ويَستجير مِن الرمضاء بالنار: كقيامه باستباحة مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخافة أهلها، وقتاله ابن الزبير في مَكَّة حَرم الله والبلد الأمين، حتَّى حاصروه ورموه بالمـَنجنيق، وقطعوا سُبُل الحَجِّ على المسلمين، وهَتكوا مُعظم شعائر الدين.

وبعد أوآنٍ نهض المـُختار الثقفي، وزعماء التوَّابين العِراقيِّين، طالبين ثار الحسينعليه‌السلام ؛ فقتلوا ابن زياد، وابن سعد وأشياعهما شَرَّ قتلة، وأهلكوا شِمراً بكلِّ عَذاب، وأحرقوا حرملة

١٣٤

حيَّاً، وتتبَّعوا قَتَلَة الحسينعليه‌السلام ومُحاربيه، في كلِّ دَيْر ودار، وقتلوهم تحت كلِّ حَجر ومَدر، وأصلوهم الحَميم والجَحيم، واستجاب الله دعوة الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء؛ إذ قال: (وسَلِّط عليهم غُلام ثَقيف، يَسقيهم كأساً مُصبَّرة) إلى آخره.

ولم تَزل عليهم ثائرةٌ أثر ثائرة، ونَائرة حرب تِلو نائرة، حتَّى أذِن الله سبحانه بزوال مُلك أُميَّة، وسقوط دولة بَني مروان، على يدي السفَّاح الهاشمي العبَّاسي، أحمد، وأخيه محمد، ابني عبد الله، والقائد الباسل أبي مُسلم الخُراساني، وثِلَّة مِن فُحولة هاشم؛ فثَلَّت عُروش تلك الدولة الجائرة، ودَكَّت أركان حكومتها الغَدَّارة، واستأصلوا شأفتهم، وأبادوهم رِجالاً ونِساءً، حتَّى لم يَبقَ منهم آخذ ثارٍ، ولا نافخ نارٍ، وأحرقوا مِن آثارهم حتَّى الرَّميم المـَنبوش، ولُعنوا حيثما ذكروا، وقُتِّلوا أينَما ثُقِّفوا؛ فتَجِد حتَّى اليوم قبر يزيد الجَور في عاصمة مُلكِه، كومَة أحجار، ومَسبَّة المارَّة، لا يُذكَر في شرق الأرض وغربها، إلاَّ بكلِّ خِزيٍ وعار، هذه عاقبة الجائِر الفاجِر، وتلك عُقبى المـُجاهد الناصح.

( ... إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

١٣٥

مَصادر التصنيف

1 - مُروج الذهب، علي بن الحسين المـَسعودي، المـُتوفَّى سنة 335 هِجريَّة.

2 - مَقاتل الطالبيِّين، أبي الفرج علي بن الحسين الأُمَويُّ المـَرواني الأصفهاني، المـُتوفَّى سنة 336 هِجريَّة.

3 - الإرشاد، الشيخ المـُفيد محمد، المـُتوفَّى سنة 413 هِجريَّة.

4 - تاريخ الطبري، أبي جعفر محمد بن جُرير الطبري، المـُتوفَّى سنة 310 هِجريَّة.

5 - العقد الفريد، ابن عبد ربَّه المغربي، المـُتوفَّى قبل سنة 328 هِجريَّة.

6 - وغير ذلك مِن الكُتب الـمُؤلَّفة قبل سنة 400 للهِجرَة.

١٣٦

الفهرس

تَرجمة المؤلِّف 3

النَّهضة الحسينيَّة9

الحسين رَمز الحَقِّ والفَضيلة12

الحركات الإصلاحيَّة الضروريَّة14

آثار الحَركة الحسينيَّة15

الفَضيلة18

مبادئ قضيَّة الحسين عليه‌السلام 19

حركات أبي سُفيان 21

مُعاوية وتعقيباته24

تأثُّرات الحسين الروحيَّة26

كيف يُبايع الحسين عليه‌السلام 28

البيعة ليزيد 31

نَظرة في هِجرة الحسين عليه‌السلام 35

هِجرة الإمام مِن مدينة جَدِّه39

الهِجرة الحسينيَّة وانقلابات حَول الستِّين 40

الحسين وابن الزبير 43

وضعيَّة الإمام في مَكَّة45

الحسين عليه‌السلام يَختار الكوفة47

بنو أُمية والخطر الحسيني 49

الكوفة في نَظر الحسين عليه‌السلام 52

خُروج الحسين عليه‌السلام مِن مَكَّة54

ابن زياد على الكوفة58

مَقتل مُسلم وهاني 61

الإمام ونَعْيُ مُسلم66

١٣٧

استعداد ابن زياد70

الرياحي يَمنع الحسين عليه‌السلام 72

الكوفة تُقاد إلى الحرب 75

وِلاية ابن سعد وقيادته77

منزل الحسين عليه‌السلام بكربلاء80

جُغرافيَّة كربلاء القديمة82

الإمام مَصدود مَحصور84

الحسين مُستميت ومُستميتٌ مَن معه88

رُسُل السلام ونَذير الحرب 92

حَول مُعسكر الحسين عليه‌السلام 94

عُطاشى الحرب في الشريعة96

اهتمام الإمام بالمـَوعظة والنصيحة99

الحسين عليه‌السلام يَنعى نفسه لأخته102

السباق إلى الجَنَّة106

مَقتل عليٍّ شِبْه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 109

توبة الحُرِّ وشهادته113

أصدق المـَظاهر الدينيَّة116

الطفل الذبيح 120

العَطش ومَقتل العبَّاس 123

الشجاعة الحُسينيَّة126

مَصرع الإمام ومَقتله129

بعد مَقتل الحسين عليه‌السلام 132

مَصادر التصنيف 136

الفهرس 137

١٣٨