نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)0%

نهضة الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 138

نهضة الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
تصنيف: الصفحات: 138
المشاهدات: 54775
تحميل: 5624

توضيحات:

نهضة الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 138 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54775 / تحميل: 5624
الحجم الحجم الحجم
نهضة الحسين (عليه السلام)

نهضة الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حركات أبي سُفيان

لكنَّ الذي نعلمه، أنّ أبا سُفيان لم يكنْ مِن الأنصار، ولا مِن المـُهاجرين عندما قالا: (مِنَّا أمير، ومِنكم أمير)، حتَّى يَحْسَب لنفسه حِساباً، في التحيُّز إلى طرفٍ بالصراحة، ورأى انضمامه إلى أضعف الأحزاب (أيْ حزب عليعليه‌السلام )، أقرب إلى مَقصده مِن إيجاد موازنة في القِوى، وخَلْق عراقيلَ تكاد تمنع مِن حَسْم الخِلاف، فجاء عليَّاً قائلاً له:(لو شِئت مَلأتُها لك خَيلاً ورجالاً) ، وعليٌّعليه‌السلام يومئذٍ، يَطرق الأبواب على المـُهاجرين والأنصار، يتمنَّى ناصراً لقضيِّته، فلو كان مِمّن يَضيع رُشده بالمواعيد الخَلاَّبة، لاغتنم مِن أبي سُفيان هذا الاستعراض، ولكنَّ الإمام عرف سوء قَصده - وقصدُه الصيد في الماء العَكِر - فأجابه بالردِّ والاستنكار، قائلاً: (مَهْ يا أبا سُفيان، أجاهليَّة وإسلاماً؟!)، أيْ: إنَّك تتربَّص دوائر السوء بدين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عَهديك، عَهد الجاهليَّة، وعهد الإسلام، وتَفرَّس سوء مَرامه مِن كلامه)، وإنَّه انتهز فُرصة الخِلاف مِن حاشية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقصد احتلال مدينة الرسول، عاصمة الإسلام بحُجَّة

٢١

نُصرة الضعيف، أو تسوية الخِلاف، وما جيوشه سِوى مَردة العرب مِن أهل النِّفاق، فإذا نزل هؤلاء في عاصمة التوحيد؛ سادت مُنافَقة العرب، وعادت مَبادئ الجاهليَّة والناس حديثو عهد بالإسلام؛ فيكون الرجعيُّون أولى بالقوَّة والنُّصرة، والموحِّدون أولى بالضُّعف والذِّلَّة، ويُخرجُنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ.

قرأ هذه الشروح، وأكثر منها عليٌّعليه‌السلام مِن كلمة أبي سُفيان، فرَدَّه رَدّاً قارصاً؛ لأنَّ عليَّاًعليه‌السلام رجُلُ الحَقِّ، وبَطَلُ الإيمان، لا يُضحِّي بالدين، أو المصلحة العامَّة في سبيل نَفْعٍ ذاتيٍّ، أو شَهوة وانتقام.

ولمـَّا عَرِف أبو سُفيان أنَّ عليَّاًعليه‌السلام لا ينخدع، وأنَّه عند تداخل الأغيار، لَيُصافِح إخوانه المسلمين، ويتحدَّث معهم؛ لحفظ بَيضة الدين، مَهْما كان ضِدَّهم وكانوا أضداده، نَدم أبو سُفيان على لفظته، وهرع إلى الحزب الغالِب، وانضمَّ إليهم؛ ليَحفظ مركزه الاجتماعي، قبل أنْ يَخسر الطرفين، وتأخّرت مَنْويَّاته إلى حين، حينما يَخضرُّ عود أُميَّة بإمارة مُعاوية على الشام، وعود سلطانهم.

وبعدما نبغ فيهم مُعاوية، أخذ على عاتقه القيام بنوايا أسلافه، ومعه يومئذ أبوه، يَنصب عليَّاً دون المسلمين هدفاً لسهامه الفتَّاكة؛ إذ عرفه الينبوع الوحيد لِسيَّال وحي المـُصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنَّه البطل المـُناوئ لهم بكلِّ قِواه، والعَميد القائم ببيت بني هاشم، والمركز القويُّ لإبطال الحركة السُفيانيَّة، وإنَّ عليَّاً هو وأبوه نَصيرا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حين لا ناصر له، حتَّى أنَّه فداه بنفسه ليلة مَبيته على فراشه، وضَيَّع على قريش هِجرته، ونقض ما

٢٢

أبرموه عليه، وعليُّ القاتل صناديد قريش، وأركان حزبهم في بدر وغيرها، ولولاه لقضوا على حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بدرٍ، وأُحُدٍ، وحنين، ومَواقف أُخرى، ولولا علي لظفر عمرو بهم بالمدينة يوم الخَنْدَق، وعلي الفاتح قلوب أهل مَكَّة في وجه المـُصطفى؛ إذ تلى عليهم سورة البراءة في الموقف العامِّ العَصيب، بكلِّ ثَباتٍ وجَسارةٍ وإقدام، الأمر الذي لم يَكُن يَقُمْ به أحد مِن المسلمين غيره، إلى غير ذلك مِن مواقفه المـُهمَّة التي ضَيَّع فيها على أُميَّة مَكايدها، وكانت صدور أُميَّة تَغلي كالمِرجل على رجُلِ الإيمان.

٢٣

مُعاوية وتعقيباته

ناصب مُعاوية وحِزبه عليَّاً وصَحبه، وكان ما كان مِن أيَّام البصرة، وصِفِّين، والنَّهروان، وعليٌّعليه‌السلام في كلِّها غير مَخذول، ولا يزداد مُعاوية إلاِّ حِقداً عليه ومَوجدة، وتعقَّب الضغائن أثر الضغائن، وكان مُعاوية مَعروفاً بالغَدر حليماً، إلاَّ على عليٍّعليه‌السلام وخاصَّته.

فلمـَّا تُوفِّي أمير المؤمنين، سنة 40 هجرية بسيف ابن مُلجَم الخارجي، ساجداً في مِحرابه، زال مِن بين عينَي مُعاوية ذلك الشبح الرهيب، الذي كان يُخيفه في منامه، وفي خلواته، وقويت عزائمه وتوجَّهت شَطره أكثر النفوس، التي كانت رهن سجايا عليٍّعليه‌السلام وعلومه، ومُنقادةً لصوته، وسوطه، وصِيت شجاعته وسَماحته، سيَّما وإنَّ الآثار النبويَّة المشهورة فيه، كانت لا تُقاس كثرةً وشُهرةً بما في شأن غيره، والخدمات التي قام بها أبو الحسن، كانت قاطعة الألسُن، فضلاً عن طول عَهد الإمارة لمـُعاوية، وانتشار حزبه الفعّال، وتوزيعه الأموال.

٢٤

هذه العوامل وغيرها، ضيَّقت دائرة النفوذ على الحسن بن عليٍّعليه‌السلام وخليفته، وأوسعت المجاري والميادين لمـُعاوية وحزبه، فانتقم مِن عليٍّعليه‌السلام بعد وفاته، وسبَّه على المـَنابر، والمـَعابر، والألسن، والكُتب (ويا بأسها مِن حِيلة ووسيلة!)، لاستئصال مَجد بني هاشم بثَلب كبيرهم، وقد قال ابن عباس (رضي الله عنه): (إنَّهم يُريدون بسبِّ عليٍّ، سَبَّ رسول الله { صلَّى الله عليه وآله وسلَّم })، ثمَّ لم يَقنع بذلك، فأخذ يتتبَّع خاصَّة عليٍّ بالسَّم وغيره، ويتمثَّل بقوله: (إنَّ لله جُنوداً مِن عَسل)، يعني: السَّمُّ والمـَعسول إلى أعدائه، ولمْ يَسع حلمه أصحاب عليٍّعليه‌السلام وبَنيه قَطٍّ، فدسَّ سَّماً ذريعاً إلى زوجة الحسن السبطعليه‌السلام ؛ فقتلته اغتراراً بموعد زواجها مِن يزيد.

٢٥

تأثُّرات الحسين الروحيَّة

هُنا حريٌّ بنا، أنْ ندرُس حالة سيِّدنا الحسينعليه‌السلام ، ذلك المـُتفاني في حُبِّ شَقيقه الحسنعليه‌السلام ، ماذا يَجري على قلبه، وهو يرى أحشاء أخيه مَقذوفةً في الطست مِن سَّم مُعاوية، ثمَّ تُمنَع - بدسيسة مروانيَّة - جَنازة أخيه، مِن زيارة جَدِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما ريحانتاه، ويسمع سبَّ أبيه وأخيه في المـَعابر، وعلى المـَنابر، وتَنعى إليه صحابة أبيه مَن فَتك مُعاوية بهم، وسَحق العهود الشريفة، ومَحق شعائر الإسلام، وتبديل سُنَن جَدِّه بالبِدَع، وتحويل الإسلام مِن روح دينيَّة عالميَّة، إلى روح القوميَّة والملوكيَّة، وتمهيد أُسُس للرُجعى إلى الجاهليَّة، هذا كلُّه عدا ما سبق مِن أمْرِ مُعاوية وعليٍّعليه‌السلام ، في حروب وفتن، أوجدها مُعاوية لأغراضٍ ذاتيَّةٍ، وفَتٍّ في عَضد الدين، وشتَّت بها شَمل المسلمين.

أضفْ عليها ما جرى على جَدِّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مِن الحِزب السُفياني، في أثناء البِعثة، وبعد الهجرة؛ أفلا يكون بعد ذلك كلِّه قَلب الحسين دفتراً مِلئوه المؤلِمات، ولابُدَّ وأنْ تكون

٢٦

هذه الموجدات في الحسينعليه‌السلام ، وفي صدره بُركاناً قويَّاً مُشرِفاً على الانفجار، وحسين الشهامة لم يكُن بالذي يُقيم على الضيم، لولا أنَّ الوصيَّة تتلو الوصيَّة، مِن أخيه، وجَدِّه، وأبيه، وخاصَّة مواليه بالصبر، والصبرُ أمرُّ مِن الصبر.

٢٧

كيف يُبايع الحسين عليه‌السلام

غريب والله، أنَّ يزيد المشهور بالسفاسف والفُجور، يُريد التقمُّص لخِلافة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبعوث لتكميل مَكارم الأخلاق، وذلك في حياة الحسينعليه‌السلام ابن ذاك النبي وحبيبه، فيزيد يعلم نفسيَّة الحسين، ويعلم أنَّ صدر الحسينعليه‌السلام أصبح بُركاناً قريب الانفجار، ومع ذلك لا يقنع بسكونه وسكوته عمَّا هو فيه، بلْ يُريد منه - فوق ذلك كلِّه أنْ يعترِف له بالخلافة عن الرسول، وهل ذاك إلاَّ رابع المـُستحيلات، فإنَّ اعتراف الحسينعليه‌السلام بخِلافة يزيد، عُبارة أُخرى عن أنّ الحسين ليس بالحسين، أيْ أنَّ معنى قبوله البيعة ليزيد؛ بيعُ دين جَدِّه، وكلِّ مَجْده، وكلُّ شعور شريف للعرب، وكلُّ حَقٍّ للمسلمين، وكلُّ آمال لقومه يبيعها جمعاء برضى يزيد عليه، وهذا مُحال على الحسينعليه‌السلام ، وعلى كلِّ أبطال الفضائل؛ فإنَّ قبوله بيعة يزيد، عُبارة أُخرى عن اعترافه بتساوي الفضيلة والرذيلة، واستواء العدل والظلم، واتِّحاد الحَقِّ والباطل، وتماثُل النور والظلام، وأنَّ العلم والجهل مُستويان،

٢٨

وأنّ الخفيف والثقيل سَيَّان في الميزان، فهل يَسوغ بعد هذا كلِّه سكوته وسكونه؟ كلاَّ ثمَّ كلاَّ!

وقد يزعم البُسطاء: أنَّ الحسينعليه‌السلام لو استعمل التقيَّة، وصافح يزيد، لاتَّقى ببيعته شَرّ أُميَّة، ونجا مِن مَكرها، وصان حُرمته، وحفظ مُهجته، لكنَّ ذلك وَهمٌ بعيد.

فإنّ يزيد المـُتجاهر بالفُسوق، لا يُقاس بمُعاوية الداهية المـُتحفِّظ، فبيعة مِثل الحسينعليه‌السلام ، لمِثل يزيد، غير جائزة بظاهر الشريعة؛ ولذلك تخلَّف عن بيعته سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير أيضاً، فأنكروا على مُعاوية استخلاف يزيد، وامتنعوا عن بيعته حتَّى فارقوا الحياة، وكان سيدنا الحسينعليه‌السلام أولى بهذا الامتناع والإنكار، وأمَّا مع غَضِّ النظر عن التكليف الشرعي، ومُطالبة وجه غير التمسُّك بظواهر الكتاب والسُّنَّة، فنقول:

إنَّ التحري في الوثائق التاريخيَّة، والكتب المـُعتبرة؛ يؤدِّي إلى الاعتقاد بأنَّ سيِّدنا الحسينعليه‌السلام ، كان يعلم أنَّ خصومه مِن بَني أُميَّة، مُنطوون على نيَّة التشفِّي مِن قتله (بايع أو لم يُبايع)، وقد صَرَّح في مواطنَ عِدَّة: بأنَّ بَني أُميَّة غير تاركيه، حتَّى لو كان في جِحر ضَبٍّ لاستخرجوه وقتلوه.

قال العَكرمي في (بَطن عقبه): (ليس يَخفى عليَّ الرأي، ولكنَّهم لا يدعونني، حتَّى يُخرجوا هذه العَلقة مِن جوفي)، وأكَّد ابن زياد نيَّة التشفِّي مِن قَتْل الحسينعليه‌السلام ، في كتابه لابن سعد، قائلاً: (حِلْ بين الحسين - عليه السلام - وأصحابه، وبين الماء، فلا يذوقوا مِنه قَطرة، كما صُنِع بالتقيِّ

٢٩

الزكيِّ عثمان بن عفَّان)، وأعلن يزيد بقصده الانتقام في شعره:

لستُ مِن خِندفَ إنْ لمْ أنتقم

مِن بَني أحمد ما كان فعل

علِم ابن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصميم آل حربٍ، على انتقامهم مِن آل عليٍّ، مَهْما تظاهر هؤلاء بمُسالمتهم ومُطاوعتهم، ومَهْما تظاهر آل حربٍ لهم بالأمان والإيمان، وقد أكَّد هذا العِلْم غَدر ابن زياد بابن عمِّه مُسلم، وإعطائه الأمان، حتَّى إذا خَلع سلاحه قتله شرَّ قتله.

وأجلى مِن ذلك غَدر مُعاوية بأخيه الحسنعليه‌السلام ، ودسِّه السَّمَّ إلى مَن قتله، بعد أنْ صالحه وصافحه وتنازل له عن خِلافته المعقودة له، فهل ترى ابن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك كلِّه يُعيد الامتحان ويُجرِّب المـُجرَّب؟

كلاَّ، إذن فالحسين وجد نفسه مَقتولاً إذا لم يُبايع، ومَقتولاً إذا بايع، لكنَّه إنْ بايع اشترى مع قتله قَتْل مَجدِه، وقَتْل آثار جَدِّه، أمَّا إذا لم يُبايع، فإنَّما هي قتلة واحدة تُحيي بها آلامه، وشعائر الدين، والشرافة الخالدة.

٣٠

البيعة ليزيد

صفى لمـُعاوية الجوُّ، ومَلك نحو أربعين سنة، مُلكَاً قلمـَّا يسمح الزمان بمِثله لغيره، وهو في خِلال ذلك، لا يفترُ عن عمله ليله ونهاره، فيستكثر أعوانه، ويُعزِّز إخوانه، ويستحوذ على مَن يشاء، بما أوتي مِن مال ودهاء، واستمال إلى أهوائه أمثال زياد، وابن العاص، والمـُغيرة، فمَدَّ أطناب حِزبه، ورواق مأربه، وانقادت إليه حتَّى آل هاشم، ولكنَّ الرجُل استحبَّ دوام هذا السؤدَد لبيته، ومَن يَخلفه في إنفاذ نواياه، عرف أنَّ سُلطانه وقتيٌّ وقسريٌّ، وما بالقسر لا يدوم؛ فأراد تثبيته في بيته مادام حيَّاً؛ لأنَّه يَخشى مِن موته على بنيه انقلاب الأُمور، لا سيَّما وابنه يزيد موضع نِقمة الجمهور، وفي الناس مَن هو أقدم مِن ابنه، وأولى مِن جميع الوجوه، فأخذ البيعة ليزيد حال حياته، بعد أنْ ذلَّلَ الصعاب، ومَهَّد السبُل لغاياته، غير أنّ جماعة مِن الصَّفوة البارزة، مِن أولاد الخُلفاء وغيرهم، مِمَّن ذكرناهم سابقاً، أبوا عليه البيعة ليزيد، واتَّخذت عملية مُعاوية هذه كمُناورة يُمتحَن بها مُخالفيه، ثمَّ أوصى ولده يزيد بأنْ لا يمسَّ هؤلاء بسوءٍ، إذا أبو عليه البيعة بعد موته، إلاَّ ابن

٣١

الزبير؛ والسِّرُّ فيما ارتآه داهية قريش، هو أنّ البعض مِن هؤلاء ضعيف النفس، وغير مسبوق بغَضاضة.

وأمّا الحسين، فنفس أبيه بين جنبيه، ويخشى على البيت الأُموي مِن التعرُّض إليه، وبما أنّه رجُلُ الفضيلة، يؤمْل فيه أنْ يَستمرَّ على سكوته وسكونه، إذا عمل برغائبه ومُداراته، ويُخشى مِن قيامه أنْ يقوم الحِجاز والعراق معه، حين لا مُعاوية لديه، ولا ابن العاص.

أمَّا ابن الزبير، فذو نفسيَّة حربيَّة مع أعدائه، وذو دَهاءٍ مع رُقبائه، ولكنَّه كأبيه شحيح لا مطمع فيه؛ فالعدوُّ لا يَأمن منه، والصديق لا يأمل فيه، فاستهان به، وبالقضاء عليه مِن دون توقُّع مَحذور في مُعاداته، لكنَّ يزيد لم يَعمل بهذه الوصيَّة الجوهريَّة؛ وذلك لأنَّه عاش عِيشَةً مُترَفة قضاها في الصيد والسِّكْر واللَّهو، ومِثل هذه التربية تَسوق صاحبها دائماً لعبادة الهَوى، والاعتراف بسلطان الشهوات، فلا يَحترِم قديماً، ولا يَحتشم عظيماً، ولا يحتفل بالدين، ولا برغائب الجمهور.

وعليه؛ فما مات مُعاوية، إلاِّ والأوامر تَترى مِن يزيد على ابن عمِّه الوليد، وإلى المدينة بأخذ البيعة له مِن الناس عامَّة، ومِن الحسينعليه‌السلام ، وابن الزبير للخِلافة خاصَّة؛ فتلقَّى الوليد أوامره بكلِّ رَهبة واحتياط، وكان يَعرِف سوء سُمعة يزيد كحُسن شُهرة هؤلاء عند المسلمين عامَّة، وعند أهل الحِجاز خاصَّة، فأدَّت سياسته إلى إعلام هؤلاء بالأمر، بصورةٍ ودِّيَّةٍ مع المـُداراة لرغائبهم وحركاتهم، قبلما يأخذ البيعة العامَّة في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليزيد كخليفة، أرسل إلى الحسينعليه‌السلام ، وإلى زُملائه للحضور في بيته لمـُذاكرةٍ مُهمّةٍ، فجاءه الحسينعليه‌السلام ، ومعه ثُلَّةٌ مِن أقربائه،

٣٢

ولكنْ لم يدخلوا معه، فاستقبله الوليد بالترحاب والآداب، ومروان جالسٌ مُتغيِّرٌ، تكاد تقرأ ما في قلبه مِن سحنات وجهه، وابتدأ الوليد يَنعى مُعاوية، فاسترجع الحسينعليه‌السلام ، ثمَّ قال الوليد:(إنَّ يزيد استحبَّ اقتراح البيعة عليك، فماذا ترى؟) .

فأجابه الحسينعليه‌السلام : (إنّ البيعة تَحْسُن مِن مِثلي، لمِثل يزيد أنْ تكون علانيةً، وبمِلأٍ مِن الناس، فالأوْلى أنْ تؤجِّلها إلى مَوعد اجتماع الناس في المـَسجد).

فأجابه الوليد، بكلِّ لِيْنٍ وتساهُل، غير أنَّ مروان عكَّر صَفو السِّلْم، وقال:(يا أمير، لا تدعْ حسيناً يخرج مِن عندك بلا بيعة، فيكون أولى مِنك بالقوَّة، وتكون أولى منه بالضُّعف، فاحبِسه حتَّى يُبايع، أو تَضرب عُنقه) .

فوثب عندئذٍ حسينُ المـَجد، قائلاً: (يا بن الزرقاء، أنت تقتلني أم هو؟! كَذِبت والله ولئِمت)، ثمَّ انصرف هو وبنو هاشم.

كان الوليد ومروان كِلاهما يَبغيان إخضاع الحسينعليه‌السلام ليزيد، ولكنْ ذاك بالسياسة، وهذا بالتهديد.

وكأنَّ الوليد أراد أنْ يَستميل قلب الحسينعليه‌السلام ، ويسترقَ مِن لسانه كلمة القَبول، ولو سُرّاً؛ لعلمه أنّ الحسينعليه‌السلام ، رجُلُ الصِّدق والثَّبات؛ فلا يَعدل عن كلمته، وليس بذي لسانين: إسرار، وإجهار، ولا ذا وجهين: مُحضر، ومَغيب.

وأمَّا مروان، فكأنَّه علم أنَّ المسلمين، إذا اجتمعوا في مسجد النبي بين قبره ومِنبره، وحضر لديهم ريحانة النبي، وبنو هاشم وقوف، وبنو الأنصار جلوس؛ فإنّ المؤثِّرات المعنويَّة، والحِسيَّة لا تُسفِر إلاَّ عن البيعة للحسين، وخُسران صَفقة يزيد.

٣٣

وعلى أيِّ حال؛ فإنِّ مروان نقض على الوليد أمراً كان قد أبرمه، غير أنّ الخبر لم يكُ يَنتشر خارج المدينة لمـُراقبة الوالي، وفَقْد وسائل المـُخابرات.

أمّا الحسينعليه‌السلام ، فقد عَرِف أنَّ مروان سوف يُخابِر يزيد على عزل الوالي، أو يَحمل الوالي على الوقيعة بالحسينعليه‌السلام وآله، وأنَّ يزيد وحزبه يَنقادون لإرادات مروان، بشخصيَّته البارزة في الحِزب السُفياني، وقديم عِدائه للنبي وآله، وقد كان هو وأبوه طريدَي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وملعونيَنِ على لسانه، فلابُدَّ وأنْ يَنتقم مِن ريحانة الرسول بالمِثل، أو يزيد، فلم يَجد الحسينعليه‌السلام بُدَّاً سِوى الهِجرة سِرّاً إلى حرم الله، ومِنه إلى اليمن.

٣٤

نَظرة في هِجرة الحسين عليه‌السلام

يَصْفُ الواصفون لتاريخ الحسينعليه‌السلام أشدَّ ليالي حياته عليه، ليلة مَقتله في الطفِّ - تلك الليلة التي حوصِر فيها هو وذووه، في بقعةٍ جَرداء، وضاقت عليه الأرض بما رَحبُت، ومُنِع حتَّى مِن شِرب الماء المـُباح، فلم تهجع عيناه فيها حتَّى الصباح - ولا يبعُد أنْ يكون أشدَّ ليالي حياة الحسين، ليلة مَرجعه مِن مَجلس الوالي في المدينة، وحَيرته في سيرته مع القوم الظالمين، إذا كان الحسينعليه‌السلام ليلة مَقتله على بصيرةٍ مِن أمره، وإنَّ ليس بينه وبين الجَنَّة سِوى سويعات، لكنَّما الحسينعليه‌السلام في ليلة هِجرته مِن مدينة جَدِّه كان في جِهادٍ فِكريٍّ، وألمٍ عقليٍّ؛ يُفكِّر في مُتابعته ليزيد وكونها ضرباً مِن المـُحال، ثمَّ يُفكِّر في بقائه في حرم جَدِّه، لكنَّ ذلك استسلام لمروان، فيما يفعل به وبأسرته: مِن قَتله المـُستلزِم لقتال رجاله، وذبح أطفاله، ونهب أمواله، وإرسال بناته مع رأسه إلى يزيد، كان مروان مِمَّن يَفعل ذلك، ويزيد عليه تشفِّياً لنفسه، وانتقاماً لأُميَّة، وتَزلُّفاً ليزيد، ولم يَكُن ابن مرجانة بأوتر منه، ولا أشقى.

٣٥

إذنْ، فماذا يَصنع الحسينعليه‌السلام ، إلاَّ أنْ يُهاجر إلى مَكَّة ابتغاء الابتعاد مِن المنطقة المروانيَّة، ولقاء وجوه المسلمين في الحَجِّ، وانتظار الفرج؟ ولكنْ كيف يُهاجِر بأُسرته الوفيرة العدد بلا عُدَد، والهِجرة بالأهل ليس بالسَّهل، سيَّما في مَسالكَ وعِرةٍ غامضةِ الحال، مُبهَمة الاستقبال.

وفي النهاية، اختار الحسينعليه‌السلام هذا الرأي الأخير على حَراجته، وأوحى بذلك إلى إخوانه ورجال أُسرته، وهم يُلبونه فيما يرغب، مَهْما كانوا كارهين، التأهب لِما يُحِب كما يَجب، إلاَّ محمد بن الحنفية؛ فإنَّه سأل أخاه البقاء في حَرم جَدِّه بين أنصاره، فأجابه الحسينعليه‌السلام بمَبلغ عَداوة يزيد معه، وسوء نيَّته فيه، وضُعف ثقته في ناصريه.

فقال ابن الحنفية:(إنْ كان ولابُدَّ مِن ذلك، فما معنى حملُك النسوة والذُّريَّة؟).

فلمْ يَجِد الحسينعليه‌السلام مُقنِعاً لأخيه، إلاَّ أنْ يقول له: إنَّه مِن فَرط الحُبِّ المـُتبادل بينه وبينهنَّ، لا يستطيع فِراقهنَّ، كما لا يرضيْنَ بفِراقه، ولو جرى عليهم ما شاء الله أنْ يَجري.

فقال ابن الحنفية:(إنّك يا أخي، أحبُّ الناس إليَّ، وأعزُّهم عليَّ، ولست أدّخِر النصيحة لغيرك، تَنحَّ بيعتك عن يزيد، ثمَّ ابعث رسُلك إلى الناس، فإنْ بايعوك حمدتَ الله، وإنْ اجتمعوا على غيرك، لم يَنقص دينك، ولا فضلك، ولم تَذهب به مروَّتك) .

قال الحسينعليه‌السلام : (فأينَ أذهب يا أخي؟)

قال:(انزل مَكَّة، فإنْ اطمأنَّت بك الدار فيه، وإلاّ لَحِقت بالرمال

٣٦

والجبال، ومِن بَلدٍ إلى بَلدٍ، حتَّى تنظر ما يصير إليه الناس، فتكون أصوبَ رأياً) .

فجزَّاه الحسين خيراً، وقد استبقاه أخوه؛ لضرورة وجود مَن يعتمد عليه في مركزه عِماداً للبيت، ومُحافظاً لودايع أهله، كما استبقى على مِثل ذلك ابن عمِّه عبد الله بن جعفر الطيار.

وكان عبد الله بن جعفر خَتْنَ الحسين على، أخته وشقيقته زينب الكُبرى، بنت عليٍّعليها‌السلام ، ولمـَّا عَلِم عبد الله بتوجُّه الحسينعليه‌السلام من مَكَّة نحو العراق، ألحقه بولديه عون ومحمد، وكتب على أيديهما إليه كتاباً، يقول فيه:

(أمَّا بعد، فإنِّي أسألك بالله لَمْا انصرفت حين تنظر في كتابي؛ فإنِّي مُشفقٌ عليك مِن الوجه الذي توجَّهت إليه، أنْ يكون فيه هَلاكُك، واستيصال أهل بيتك، وإنْ هَلكتَ اليوم طَفئ نور الأرض؛ فإنِّك عَلَم المـُهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تُعجِّل بالمسير،؛ فإنِّي في أثر كتابي والسلام) .

وسار عبد الله إلى عمرو بن سعيد، فسأله أنْ يكتب للحسينعليه‌السلام أماناً ويُمنِّيه؛ ليَرجع عن وجهه؛ فكتب إليه عمرو بن سعيد، ولحِقه يحيى بن سعيد، وعبد الله بن جعفر، بعد نُفوذ ابنيه، ودفعا إليه الكتاب، وجهدا به في الرجوع، فقال: (إنِّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المـَنام، وأمرني بما أنا ماضٍ له).

فقالا:(فما تلك الرؤيا؟) .

قال: (ما حَدَّثتُ أحداً به، ولا أنا مُحدِّثٌ، حتَّى ألقى ربِّي عزَّ وجلَّ).

فلمـَّا يَئس منه عبد الله بن جعفر، أمر ابنيه عوناً، ومحمداً

٣٧

بمُلازمة خالهما الحسين، والمسير معه والجهاد دونه.

لقد فَشِل ابن سعيد(والي الحجاز بعد الوليد) ، في تدابيره لا قناع الحسينعليه‌السلام بالرجوع إلى مَكَّة؛ كيْ يَحصره فيها، وفي منطقة نفوذه.

وقَنع عبد الله بن جعفر الطيَّار، مِن الإمام بإجازة بقائه في وطنه، وقَنع الحسينعليه‌السلام ، منه بإرسال شِبليه الباسليَن، وقد كانا ناصريَه بالنفس والنفيس، وكانت أُمّهما زينب نصيرتَه في نَهضته، وخليفته على صِبْيَته، وسَلوته مِن كلِّ أحزانه، ومُديرة أمر عياله وبيوت أصحابه ورجاله، ولولاها لانفرط عَقْد يتاماه بعد قتله، ولولاها لانتثر نظام أهله بعد انتهاب رحله، ولولاها لقُضي على خَلَفِه العليل، وانقرض نَسله الأصيل.

٣٨

هِجرة الإمام مِن مدينة جَدِّه

سار الحسين مِن حَرم جَدِّه، ولم يقتصر في الوداع على قبره الطاهر؛ إذ المـُسافِر يوادِع مِن وطنه المـَحبوب، كلَّما وقع نظره عليه: مِن أصحاب، وأحباب، وغيرهم، حتَّى الماء والتراب، أمّا ركب الحسينعليه‌السلام ، فكانوا يوادعون الربوع وداعَ مَن لا يأمل الرجوع.

خرج الحسينعليه‌السلام مِن حَرم جَدِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خائفاً يترقَّب، يُناجي ربَّه؛ ليُنجيه مِن فراعنة مَصره، ونماردة عصره، ذِكراه رحمة ربِّه، ومَبدؤه خوف ربِّه، وغايته بيت ربِّه، سائراً في المـَنهج الأكبر(أيْ الشارع السلطاني) .

فقيل له:(لو تَنكَّبت الطريق، كما فعل ابن الزبير؛ لئلا يلحقك الطلب) .

فقال: (لا والله، لا أُفارق الطريق الأقوم، حتَّى يقضى الله ما هو قاضٍ).

ونزل مَكَّة يوم الجمعة ثالث شعبان، وهو يتلو:( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) .

٣٩

الهِجرة الحسينيَّة وانقلابات حَول الستِّين

للحوادث أدوار تَتعاقِب كالليل والنهار، والتاريخ يُعيد نفسه باختلاف الأطوار؛ فما أشبه هِجرة الحسينعليه‌السلام ، بأهله مِن المدينة إلى مَكَّة؛ خَوفاً مِن آل أبي سفيان، وبهِجرة جَدِّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأهله إلى المدينة مِن مَكَّة؛ خَوفاً مِن أبي سفيان وحِزبه، وبين اليومين نحو سِتِّين عاماً؛ كذلك مَجْدُ أُميَّة وأبي سفيان انقرض في فَتح مَكَّة، على يدي محمد بن عبد الله، النبي الهاشميصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانقرضت ثانية دولة آل أبي سفيان، بعد مَقتل الحسينعليه‌السلام ببِضع سِنين، وبين اليومين نحو سِتِّين عاماً، ثمَّ بُنيت على أنقاضها حكومة مروانيَّة، عاشت نحو سِتِّين عام، ثمَّ انقرضت هي وكلُّ مَجدٍ لأُميَّة على يدي محمد بن عبد الله القائد الهاشمي.

وأولوا المـَبادي والهِمم، والعلماء، بمَجاري الحركات في العالم، لا تَبرد عزائمهم مَهْما خابت مَساعيهم، ويواصلون المـَسعى بالمسعى وإن فشلوا، والدهر دوَّار، وللتاريخ تَكرار، وللنفوس إقبال وإدبار،

٤٠