حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي0%

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 200

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: وليد الخزعلي
تصنيف: الصفحات: 200
المشاهدات: 47927
تحميل: 8678

توضيحات:

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47927 / تحميل: 8678
الحجم الحجم الحجم
حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثانياً: النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع اليهود:

١ - معاملة الرسول لليهود في السِلْم.

في بداية هجرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب الوثيقة التاريخية التي تنظّم علاقة المسلمين مع غيرهم، فالمعاهدة التي بادر إليها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع اليهود، كانت من أهمّ الركائز التي قفزت بالدعوة الإسلامية إلى مراحل متطوّرة، وهي تبيّن مدى معاملة النبيّ الأكرم مع يهود يثرب ومَن لحق بهم، وهذه الصحيفة كتبها في بداية دعوته المباركة، وكان بإمكان النبيّ أن يفرض عليهم الدخول في دينه مجبَرين، كما كان يعمل آنذاك بقية السلاطين والملوك، إذا كانت عندهم أقوام ليس على أديانهم، لكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان المرسل بشريعةٍ ذات مبادئ سامية مجسِّدة لأعظم مفهوم لحقوق الإنسان أيّاً كان دينه أو قوميته، إضافة إلى خُلُقه السامي في التعامل مع بني الإنسان بغضّ النظر عن كونه مرسَل من قِبل الباري عزّ وجلّ، كيف لا وقد وصفه الربّ جلّ جلاله:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

هذه الصحيفة التاريخية كان مجمل ما فيها أنّ لليهود النصرة من المسلمين، ولهم أن يصالحوا غير المحاربين، ولهم الحريّة في عقائدهم وديانتهم، ولكن في مقابل ذلك وضع عليهم شروط مُنصفة لحماية دولته المباركة، وهي أن لا يُجيروا قُرشياً أو محارباً، وأنّهم إذا اختلفوا في شيء فمردّه إلى محمّد رسول الله، وهذه أمور من مقتضيات الدولة الحاكمة في صدد قوم في ذمّتها.

وكان اليهود كمجتمع محيط بعاصمة المسلمين، ولا يُستهان بقوّتهم ومدى تأثيرهم في شتّى الظروف ؛ لذا عمد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض الاحتياطات التي لابدّ للحكيم منها، مثل أمره لأحد أصحابه في تعلّم كتابة اليهود، كما ذكر ذلك الترمذي حيث روى: ( عن زيد بن ثابت: أمرني رسول الله أن أتعلّم له كتاب يهود، قال: ( إنّي والله ما آمن يهود على كتاب )، قال زيد: فما مرّ بي نصف شهر حتّى تعلّمته له، قال: فلمّا تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم )(١) .

____________________

١ - محمد بن عيسى، الترمذي، سنن الترمذي، ج٥، ص٢٣٠.

٨١

وطبقاً للعهد المكتوب بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واليهود، أنّ كل اختلاف يحصل بينهم يرجعوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّهم لم يعملوا بهذا البند، إذا خالف أهواءهم وما يبتغون فمِن هذه الأمور التي اختلفوا فيها هو ما حصل من جدال بينهم في الحُكم على زانيَين من أشرافهم، فلمّا استقرّ رأيهم بالرجوع إلى نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحُكم عليهما، وحكم بما أراه الله في تلك الواقعة، وهو الرجْم، رفضوا ذلك، وهم بهذا قد خالفوا ما تعاهدوا عليه حسب الوثيقة، ولكن مع ذلك دعاهم إلى حُكم التوراة التي يؤمنون بها، فلم يكن لهم بُدّ في رفض ذلك، كما روى الشيخ الطوسي في (التبيان) عن الباقرعليه‌السلام قال:

( إنّ امرأة من خيبر في شرف منهم زنت وهي محصنة، فكرهوا رجمها، فأرسلوا إلى يهود المدينة يسألون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ طمعاً أن يكون أتى برخصة ! فسألوه، فقال: ( هل ترضون بقضائي ؟ )، قالوا: نعم، فأنزل الله عليه الرجم، فأبَوه، فقال جبرئيل: سلْهم عن ابن صوريا، ثمّ اجعله بينك وبينهم، فقال: ( تعرفون شابّاً أبيض أعور أمرد يسكن فدَكاً، يقال له: ابن صوريا ؟ )، قالوا: نعم، هو أعلم يهودي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى، قال: ( فأرسلوا إليه ؟ ) فأرسلوا إليه فأتى، فقال رسول الله: ( فإنّي أُناشدك الله الذي لا إله إلاّ هو القويّ، إله بني إسرائيل الذي أخرجكم من أرض مصر وفلق لكم البحر هل تجدون في كتابكم الذي جاء به موسى، الرجم على مَن أُحصن ؟ )، قال ابن صوريا: نعم، والذي ذكرتني، ولو لا مخافتي من ربّ التوراة أن يهلكني إن كتمت، ما اعترفت لك به ! فأنزل الله فيه:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (١) (٢) .

وفي أعقاب هذه الحادثة استغلّ بنو قريظة ما نتج من هذه الواقعة، فقدّموا شكوى ضدّ بني النضير، واستثمروا تلك الفرصة، ليحكم النبيّ بينهم وبين بني النضير ؛ لأنّ بني النضير كانوا يغبنونهم حقّهم، ( ففي القتل لا يعطون بني قريظة القَود، ويعطوهم سبعين وسقاً من التمر، بينما في قتيل بني النضير يأخذون القَود، وكذلك سبعين وسقاً من التمر أمّا في الجُراحات لبني

____________________

١ - المائدة: ١٥.

٢ - محمد بن الحسن، الطوسي، تفسير التبيان، ج٣، ص٥٢٥.

٨٢

قريظة نصف جُراحات بني النضير، فحَكَم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم بالسواء (لم يفضّل يهودي على يهودي في شريعته السمحاء)(١) .

٢ - الحرب مع اليهود:

أصبح اليهود يشكّلون خطراً على الأُمّة الإسلامية في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ممّا أدّى إلى تطوّر الأحداث إلى مرحلة اللاَّسِلم، فحدثت غزوات المسلمين على اليهود، ونحن سوف نتطرّق لهذه الغزوات وخلفيّاتها، ومدى تعامل الرسول مع مَن حاربوه من اليهود:

أ - غزوة بني قينقاع: كان يهود قينقاع قد دخلوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عهد كما سبق، لكنّهم خانوا العهد ونقضوه، وذلك بعد رجوع المسلمين من بدر ظافرين، وقد نزلت في ذلك آيات على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ) (٢) .

وكان السبب في خيانتهم ونبذهم لعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما ذكر الواقدي في كتاب (المغازي) عن ابن كعب القرظي - هو: ( أنّ بني قينقاع بغت وقطعت ما كان بينها وبين النبيّ من عهد وبينما هم على هذه الحالة، إذ جاءت امرأة من العرب كانت تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع، وجلست عند صائغ في حُليّ لها، وجاء رجل من يهود قينقاع فجلس من وراءها وهي لا تشعر، فربط درعها إلى ظهرها بشوكة فلمّا قامت المرأة، بدت عورتها فضحكوا منها، فقام رجل من المسلمين وتتبّع الرجل اليهودي - الذي فعل ذلك بها - فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع على المسلم، فقتلوه ولم يراعو بنود العهد ؛ ( لأنّهم قد مضوا على نكثها وعدم الالتزام بها )، وبذلك حاربوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونبذوا العهد بينهم وبينه )(٣) .

____________________

١ - محمد بن الحسن، الطوسي، تفسير التبيان، ج٣، ص٥٢٥.

٢ - الأنفال: ٥٥ - ٥٩.

٣ - أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد، الواقدي، المغازي، ج١، ص ١٧٦ - ١٧٧ وانظر: سيرة ابن هشام، ج٣، ص٥١ مصدر سابق.

٨٣

لكنّنا هنا نسلّط النظر على ما فعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا عَلِم بذلك، وكيفية إلقاء الحجّة عليهم، وما صدر من يهود بني قينقاع تجاهه، كما يذكر ذلك القمّي في تفسيره:

( فأتاهم رسول الله فقال: ( يا معشر اليهود، قد علمتُم ما نزل بقريش (أي في معركة بدر)، وهم أكثر عدداً وسلاحاً وكراعاً منكم، فادخلوا في الإسلام )، فقالوا: يا محمّد، إنّك تحسب حربنا مثل حرب قومك ؟ قد - والله - لو لقيتنا للقيت رجالاً )(١) .

الملاحَظ هنا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله دعاهم إلى الإسلام، والإسلام يجبُّ ما قبله، فلا يُطالبهم بالانتقام للمسلم المقتول، لكنّهم أجابوه بلسان حرب (تحسب حربنا مثل حرب قومك، قد - والله - لو لقيتنا للقيت رجالاً)، فمع نكْثِهم العهد بينهم وبين رسول الله، هؤلاء هم ينبذون إليه بحرب.

وعلى إثْر ذلك سار إليهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وحاصرهم خمس عشرة ليلة، كما ذكر الواقدي في مغازيه: ( ثمّ نزلوا على حُكم رسول الله وصُلحه، فكانت أموالهم لرسول الله، ولهم الذريّة والنساء، وأجلاهم من المدينة، وأمهلهم ثلاثة أيّام لتحصيل ديونهم على الناس )(٢) .

ويعدّ هذا الفعل من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع يهود بني قينقاع، بعد انتصاره عليهم، من السماحة والشفقة مع الأعداء بمكان ؛ وذلك لأنّ قوانين الحرب المعمول بها آنذاك تقضي في سبْيِ النساء كجواري، والأطفال كعبيد، والمقاتلين جزاؤهم القتْل، لكن لم يفعل ذلك الرسول الكريم ؛ ليتبيّن للناس مدى إنسانية دعوته المباركة.

وكان هذا هو ديدن خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله مع كلّ الأعداء، يتمسّك بأقلّ شبهة لدرء القتل عنهم وهدايتهم حتّى في أيّام السِلم، يقول الواقدي: ( أظهرت اليهود القول السيّء، فقالوا: ما محمّد إلاّ طالب مُلك، أُصيب أصحابه، وأُصيب في بدنه، وما أصيب هكذا نبيّ قط!

وقال المنافقون: لو كان مَن قُتل منكم (يعني الأصحاب) عندنا ما ماتوا وما قُتلوا، وكانوا يدعون الأصحاب للتفرّق عن رسول الله فسمع ذلك عمر بن الخطّاب، فمشى إلى رسول الله يستأذنه في قتْل مَن سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين، فقال رسول الله: ( يا عمر، إنّ الله مظهر دينه ومعزّ نبيّه، ولليهود ذمّة فلا أقتلهم ).

____________________

١ - علي بن إبراهيم، القمّي، تفسير القمي، ج١، ص٩٧ وانظر إعلام الورى، ج١، ص١٧٥ مصدر سابق.

٢ - مغازي الواقدي، ج١، ص١٧٧ - ١٨٠.

٨٤

وأمّا المنافقون، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أليس يُظهرون شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، فإنّي نُهيت عن قتْل مَن قال: لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله )(١) .

ب - غزوة بني النضير: السبب لهذه الغزوة هو محاولة يهود بني النضير قتل شخص النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن لننظر مدى تعامل الرسول الحَسَن وتواضعه تجاههم، حيث كانت على المسلمين ديّة رجلين يهوديين قد قتلهما رجل من المسلمين غيلة، فجاءهم النبي بنفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطلب منهم أن يُمهلوه سَلَفاً للديّة، وهذا يدلّ على خُلقه العظيم في التعامل مع أقليّة في دولته وهو قائدها، مع العِلم أنّ هذه الأقليّة تُضمر له العداء دائماً، وتُظهره أحياناً، وتحاول النَيل من دعوته وإسقاطها بشتّى الوسائل، ضاربين ما كان بينهم وبينهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عهد وميثاق عرض الجدار، كما ينقل ذلك القمّي في تفسيره:

( كان السبب في نقض بني النضير عهدهم، أنّه أتاهم رسول الله يستسلفهم - يعني يستقرض منهم - ديّة رجُلَين قتلهما رجل من أصحابه غيلة، وقصد كعب بن الأشرف (رئيسهم) فلمّا دخل عليه ومعه جمع من أصحابه، قال له: مرحباً - يا أبا القاسم - وأهلاً، وقام كأنّه يصنع له الطعام، وحدّث نفسه أن يقتل رسول الله، ثمّ يتبعه أصحابه، فنزل جبرئيلعليه‌السلام فأخبره بذلك، فخرج رسول الله ورجع إلى المدينة )(٢) .

ثمّ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينتقم منهم انتقام السلاطين ممّن ناجزوه في القضاء عليه، بل تعامل معهم بأدنى ما له من معاقبتهم في سبيل الحفاظ على دعوته وكيان دولته.

يقول القمّي: ( فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمحمّد بن مسلمة الأنصاري: ( اذهب إلى بني النضير فأخبِرْهم: أنّ الله عزّ وجلّ قد أخبرني بما هممتُم به من الغدر، فإمّا أن تخرجوا من بلدنا وإمّا أن تأذنوا بحرب ).

فقالوا: نخرج من بلادك.

لكنّهم غيّروا رأيهم هذا بعد ذلك، عندما أخبرهم عبد الله ابن أُبَيْ (المنافق)، بأن لا يخرجوا وأنّه سوف ينصرهم، فأقاموا وأصلحوا حصونهم، وتهيّأوا للقتال، وبعثوا إلى رسول الله: إنّا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع، فجاء رسول الله لمحاصرتهم، ثمّ

____________________

١ - نفس المصدر، ج١، ص٣١٧ - ٣١٨.

٢ - تفسير القمّي، ج٢، ص٣٥٨ - ٣٦٠.

٨٥

اعتدى عشرة منهم على رسول الله و ضربوا خيمته بالسهام، فلحق بهم أمير المؤمنين عليّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجمْعٌ من الصحابة وقتلوهم، ثمّ بعدها أخرجهم الرسول من المدينة بعد ما طلبوا ذلك منه)(١) .

ج- - غزوة بني قريظة: ذكر القمّي في تفسيره: ( لمّا أجلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بني قينقاع وبني النضير عن المدينة، صاروا إلى خيبر، وكان رئيس بني النضير (حُيَي بن أخطب)، فخرج إلى قريش بمكّة وقال لهم: إن محمداً قد وَتَركم ووترنا وأجلانا من ديارنا وأموالنا من المدينة، وأجلى بني عمّنا بني قينقاع، وقد بقي من قومي بيثرب سبعمئة مقاتل، وهم بنو قريظة، وبينهم وبين محمّد عهد وميثاق، فأنا أمشي إليهم فأحملهم على نقض العهد بينهم و بين محمّد، فيكونون معنا عليه وسيروا أنتم في الأرض فاجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتّى نسير إليهم فتأتونه من فوق وهم من أسفل )(٢) .

ونتيجة لمحاولات (حيي بن أخطب) وحثّ المشركين، فأخذت قريش تجمع جموعها، فاجتمعت الأحزاب من كلّ مكان مع قريش لقتال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واستئصال دعوته، وصدق العليِّ الأعلى في قوله:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) (٣) .

وفي خِضَم هذهِ القصّة في تجمّع الأحزاب لقتال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نُلاحظ اعترافات اليهود في حُسن معاملة النبي الأكرم لهم، وبذْل أقصى مراتب السماحة معهم، حيث قال رئيس يهود بني قريظة: ( إنّه قد وفى لنا محمّد وأحسن جوارنا ) كما يذكر ذلك الطبرسي في (مجمع البيان)، أنّه لمّا اجتمع المشركون من كلّ مكان، وجاء حيي بن أخطب إلى يثرب ونزل عند كعب ابن أسد: ( فلمّا سمع كعب بن أسد قَرْع الباب، قال لأهله: هذا أخوك قد شأم قومه وجاء الآن يشأمنا ويُهلكنا ويأمرنا بنقض العهد بيننا وبين محمّد، وقد وفى لنا محمّد وأحسن جوارنا، ثمّ نزل إليه من غرفته وقال له مَن أنت ؟ قال: حُيَي بن أخطب قد جئتك بعزّ الدهر! قال كعب: بل جئتني بذلّ الدهر )(٤) .

____________________

١ - نفس المصدر، ص٣٥٩.

٢ - نفس المصدر، ج٣، ص١٧٦.

٣ - المائدة: ٨٢.

٤ - مجمع البيان، ج٨، ص٥٣٥.

٨٦

لكن حيي بن أخطب ظلّ به ويلحّ عليه بذلك ومَن معه حتّى استجاب كعب بن أسد له، ومزّقوا الكتاب الذي فيه العهد الذي بينهم وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك، اغتمّ له، وفزِع الأصحاب كمّا قصّها الله تبارك وتعالى:( إِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَت الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ) (١) ، فحَلَّ بالمؤمنين الخوف والحزن، والخشية على الدعوة الفتية بالاندراس، فتنادبوا للصبر فيما بينهم، وحفروا الخندق حول المدينة، حيث لا طاقة لهم على مواجهة الأحزاب خارجها وهذهِ محنةٌ كبيرة قد حلّت بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وبأصحابه وبدعوته من غدر بني قريظة وتجمّع العرب لقتاله، لكنّ الله منَّ عليه بالنصر بعد مقتل عمرو بن عبد ود العامري على يد علي بن أبي طالبعليه‌السلام : ( وما حصل من إلقاء الفتنة بين اليهود والمشركين عن طريق نعيم بن مسعود - وهو من غطفان - الذي أسلم قبل ثلاثة أيّام من قدوم الأحزاب، وكان مقرّباً من قريش ومن اليهود، فزرع الفتنة فيما بينهم، ولم يعلم بإسلامه قريش ولا اليهود )(٢) .

وبعد انهزام الأحزاب عَدَل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بني قريظة، الذين هم أسفل المسلمين (أي مِن داخلهم)، فحاصرهم، يقول الواقدي: ( وكان رجالهم خارج حصونهم مع المشركين في قتال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم ينزلوا على حُكم رسول الله، فحكّم فيهم سعد بن معاذ، فأمر بقتْل مقاتليهم، وسبْيِ نسائهم، وتقسيم أموالهم )(٣) .

د - غزوة خيبر: كان في خيبر ما يقارب أربعة عشر ألف يهودي، ولها تسعة حصون، وأنّهم امتنعوا من إعطاء الجزية، ووردت الأخبار ( أنّهم تحالفوا مع غطفان لقتال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج إليهم النبيّ الأكرم بعد صُلح الحديبية، فحاصرهم في خيبر، وأسقط الحصون واحداً بعد الآخر، وأشدّهم كان حصن القموص، فبعث علياًعليه‌السلام برايته لذلك الحصن، وكان أرمداً، فدعا له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فبرئ، وذهب بالراية مُهَرْولاً حتّى ركزها في باب الحصن، فخرج إليه

____________________

١ - الأحزاب: ١٠ - ١١.

٢ - تفسير القمّي، ج٢، ص١٨١ - ١٨٢.

٣ - مغازي الواقدي، ج٢، ص٥١٠ - ٥١٢.

٨٧

مرحب اليهودي، فقتله أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقلع الباب العظيم، ودخل المسلمون، ففُتحت خيبر بأجمعها )(١) .

وممّا حدث في هذا الفتح، من بعض الوقائع التي وضحّت التعامل السامي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أعداءه كما يُروى عن الباقرعليه‌السلام : ( وأخذ عليٌّ فيمَن أخذ صفية بنت حُيي، فدعا بلالاً، فدفعها إليه، وقال له: ( لا تضعها إلاّ في يدَي رسول الله حتّى يرى فيها رأيه فأخرجها بلال، ومرّ بها إلى رسول الله على القتلى، وقد كادت تذهب روحها، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لبلال: أنُزِعَت منك الرحمة يا بلال ؟! ثمّ اصطفاها لنفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ اعتقها وتزوّجها )(٢) .

هذا نموذج من تعامله الشفيق بالأعداء، فإنّه أنّب بلال في أنّه ألحق الأذى بالنُسوة حين مرّ بهنّ على مصارع القتلى، وكذلك اعتقها من الرقّ، ثمّ تزوّجها معززةً مكرّمة.

ومن الأحداث التي جسدّت جلالة شأنه في التعامل مع أعداءه، بل ومع مَن سمّته وأرادت قتله، فعن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام : ( إنّ رسول الله: أُتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لها: ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت: قلتُ: إن كان نبيّاً لم يضرّه، وإن كان مَلِكاً أرحتُ الناس منه، قال: فعفا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنها )(٣) .

ثالثاً: الدواعي في صِدام اليهود مع النبيّ الأكرم دون غيرهم من أهل الكتاب.

من الأمور التي دعت إلى اختصاص المصادمات والأحداث مع اليهود من أهل الكتاب هي:

١ - كان النصارى من أهل الكتاب من القلّة في المجتمع المدني (أي في المدينة المنوّرة)، بحيث ليس لهم مجتمع تكتّلي كاليهود آنذاك، وكذلك المجوس - ممّن لهم شبهة كتاب - ليس لهم تواجد في المدينة، ولا يوجد لهم تماس مع دولة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث كان تمركزهم أكثره في بلاد فارس، وبعضهم في العراق بعيد عن دولة النبيّ في المدينة.

____________________

١ - الطبرسي، إعلام الورى، ج١، ص٢٠٦ - ٢٠٧.

٢ - الكافي، ج٢، ص١٠٨، ح ٩، باب العفو.

٣ - نفس المصدر ح ١٠.

٨٨

٢ - المجتمعات اليهودية في المدينة كانت على شكل قبائل كبيرة: (بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة)، إضافة إلى وجودهم في خيبر وفدك وبعض مناطق الجزيرة، فكانوا يرَون أنفسهم أصحاب منعة وقوّة من حيث أموالهم وعددهم وعدّتهم، وقد بدرت منهم العدواة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من بداية هجرته الى المدينة إلى آخر أيّامهم فيها، وقد ذكرهم تعالى:( لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لِلّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُوا ) (١) .

٣ - كان اليهود يرون أنفسهم أنّهم شعب الله المختار، وهم أحقّ بالنبوّة من بني إسماعيل، وهم أبناء الله ؛ ممّا رُسِّخ هذا الشعور في نفوسهم وبدا على أفعالهم، كما صدر ذلك على لسان حيي بن أخطب رئيس بن النضير: ( ليس هذا ذلك، ذلك النبي من بني إسرائيل، وهذا من العرب من وُلد إسماعيل، ولا يكون بنو إسرائيل أتباعاً لولد إسماعيل أبداً ؛ لأنّ الله قد فضّلهم على الناس جميعاً وجعل فيهم النبوّة والمُلك وقد عهد إلينا موسى: أن لا نؤمن لرسول حتّى يأتينا بقربان تأكله النار، وليس مع محمّد آية، وإنّما جمعهم جمعاً وسحرهم ويريد أن يغلبهم بذلك )(٢) .

٤ - كان في اليهود العلماء وأهل الذِكر، ليس كعرب الجاهلية أُمِّيون لا يفقهون شيئاً ؛ ممّا كان لعوامّ اليهود الشعور بالأفضلية من هذه الناحية وبالتمسّك بعلمائهم، وتصديقهم بما يقولون، فكانت قبائلهم شبه متماسكة ومجتمعة في وجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في تكذيبه ومعاداته، إضافة إلى الدعم المعنوي من المشركين في الجزيرة لهم وكذلك منافقي المدينة.

رابعاً: النصارى ورسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله :

أمّا بالنسبة للنصارى، فكانوا في المدينة من القلّة بحيث لا يشكّلوا أي تكتّل مجتمعي كما كان عليه اليهود، ولم يذكر التاريخ لهم مواجهات مع الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كانوا أُناس مسالمين، وقد ذكرهم القرآن في مقابل اليهود:( لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لِلّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالّذِينَ

____________________

١ - المائدة: ٨٢.

٢ - مجمع البيان، ج ٨، ص٥٣٨ - ٥٣٦.

٨٩

أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنّ أَقْرَبَهُم مَوَدّةً لِلّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قَالُوا إِنّا نَصَارى‏ ذلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

لكن من الحوادث المشهورة مع النصارى، ويذكرها التاريخ مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هم نصارى نجران، عندما جاء وفدهم إلى المدينة لمحاججة رسول الله، واستقبلهم رسول الله في مسجده وحاججهم بكلّ رحابة صدر، ولم يقنعوا بذلك، عندها دعاهم للمباهلة، وعاملهم بأسلوب حضاري إسلامي تتجلّى فيه ما لهم من حقوق إنسانية غاية في التسامح، ولم يعاملهم بجفاء أو يستغلّ موقعه كقائد لدولة تمتلك كلّ مصادر القوّة ضدّهم، حتّى أفضت إلى التصالح فيما بينهم في دفع الجزية لحكومة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والعيش بأمان وحرّية داخل الدولة الإسلامية.

وقصّة المباهلة التي حدثت بين نصارى نجران وبين خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يرويها الإمام الصادقعليه‌السلام كما يذكر ذلك العلاّمة المجلسي في (بحار الأنوار)، قال: ( إنّ نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان سيّدهم الأهتم والعاقب والسيّد، وحضرت صلواتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله، هذا في مسجدك ؟! فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : دعوهم فلمّا فرغوا دنَوْا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: إلى مَ تدعو ؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، وأنّ عيسى عبدٌ مخلوق يأكل ويشرب ويُحدث.

قالوا: فمَن أبوه ؟

فنزل الوحي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: قل لهم: ما يقولون في آدم، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدث وينكح ؟

فسألهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا: نعم، فقال: فمَن أبوه؟

فبقَوا ساكتين، فأنزل الله تعالى:( إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ...، فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٢) ، فقال رسول الله: فباهلوني، إن كنتُ صادقاً أُنْزلَت اللعنة عليكم، وإن كنتُ كاذباً أُنزلت عليَّ.

فقالوا: أنصفت.

____________________

١ - المائدة: ٨٢.

٢ - آل عمران: ٥٩ - ٦١.

٩٠

فتواعدوا للمباهلة.

فلمّا رجعوا إلى منازلهم، قال رؤساؤهم السيّد والعاقب والأهتم: إن باهلَنا بقومه باهلناه، فإنّه ليس بنبيّ، وإن باهلَنا بأهل بيته خاصّة فلا نباهله، فإنّه لا يُقْدم على أهل بيته إلاّ وهو صادق.

فلمّا أصبحوا، جاءوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فقال النصارى: مَن هؤلاء ؟

فقيل لهم: هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه عليّ بن أبي طالب، وهذهِ ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين.

فَفَرِقوا وقالوا لرسول الله: نُعطيك الرضا فاعفنا عن المباهلة.

فصالحهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الجزية وانصرفوا )(١) .

نقلنا هذهِ الرواية بكاملها لِما فيها من المعاني العالية المتجسّدة في شخصية الرسول وتعامله مع غير المسلمين، والذين لا يؤمنون برسالته، فللمنصف المقارنة بين هذا التعامل الإنساني الصادر من سيّد الرُسُل الداعي لنشر دين الحقّ والهدى في أوساط بني البشر، وبين ما حصل من ملوك عصره وما بعده في الدول غير الإسلامية، خصوصاً ما حصل في العصور الوسطى داخل المجتمع الأوروبي من انتهاكات لحقوق الإنسان على جميع الأصعدة خصوصاً دينياً وسياسياً.

____________________

١ - بحار الأنوار، ج٢١، ص٣٤٠ مصدر سابق.

٩١

المبحث الثالث:

مكاتيب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

٩٢

تمهيد:

يذكر لنا التاريخ الإسلامي أموراً كانت من ركائز نشر الدعوة الإسلامية، من قِبل سيد الأنبياء والمرسلين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لهداية الأُمم ودعوتهم للتوحيد ورفع مستوى تلك الأُمم بنور الهداية، وهي كُتُبه التي أرسلها إلى ملوك وزعماء الدوّل آنذاك ورؤساء القبائل.

وهذه الخطوة من سيد الأنامصلى‌الله‌عليه‌وآله هي لأجل توحيد الجهود ؛ لإنقاذ الناس بشتّى أجناسهم من الانحراف، والعَود بهم إلى ما جاء به الأنبياء السابقون من مبادئ إلهية ناصعة، ولتحقيق هدف جميع الأنبياء والرسُل من مبدأ التوحيد وحفظ النظام الكوني به، ولذا كانت غايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله من مكاتيبه، بل حتى من غزواته، هي تقويم المسيرة التي بدأها الأنبياء والرسل من قبله، والعَود بهم إلى المسار الذي رسمه الباري عزّ وجلّ لكلّ العالم.

وليس ما ادّعته أكثر الدراسات الغربية، المستندة إلى تقارير المستشرقين، في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدعو إلى محو بقية الأديان ونشر الدين الإسلامي بالسيف، كما قال الدكتور محمّد البهي في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث): ( إنّ هناك كلمات كثيرة لبعض أولئك الكُتّاب والباحثين الغربيين الذين لم يفهموا حقيقة مكاتيب الرسول فضلاً عن حروبه وغزواته )(١) .

ونحن هنا نذكر بعض النماذج من هذه المكاتيب التي بيّنت مدى حكمة النبيّ المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي ازدهر بها تاريخ الإسلام:

أ - وثيقة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في موادعة اليهود:

لأجل الحفاظ على الأمان في المدينة وسلامة النظام الاجتماعي واستقراره، عَهِدَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كتابة أوّل وثيقة لليهود ؛ وذلك لكثرتهم في يثرب وأطراف المدينة، وتكتّلهم وتحزّبهم ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والدولة الإسلامية بعدُ فتية.

أمّا الوثيقة فهذا نصّها:

(بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومَن تبعهم فلحق بهم وأنّه مَن تبعنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وأنّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا

____________________

١ - د. محمد، البهي، الفكر الإسلامي الحديث، ص٥٢٧ - ٥٢٩.

٩٣

محاربين، وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلاّ مَن ظلم وأثم، فإنّه لا يوتغ ( يعني يهلك نفسه ) إلاّ نفسه وأهل بيته.

وإنّ ليهود بني النجّار مثل ما ليهود بني عوف

وإنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف

وإنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف

وإنّ ليهود جشم مثل ما ليهود بني عوف

وإنّ ليهود بني أوس مثل ما ليهود بني عوف

وإنّ ليهود بني ثعلبة مثل ما يهود بني عوف، إلاّ مَن ظلم وأثم، فإنّه لا يتوغ إلاّ نفسه وأهل بيته. وإنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وإنّ البِرّ دون الإثم، وإنّ موالي ثعلبة كأنفسهم، وإنّ بطانة يهود كأنفسهم، وإنّه لا يخرج منهم أحدٌ إلاّ بإذن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله )(١) .

وهكذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يتعاهد مع اليهود وبقية المجتمع المدني كأنّهم عائلة واحدة، يُنظّم فيه الدولة على أساس التعاون بين جميع الفِرق لبناء المجتمع على أساسي رصين، ثمّ أكمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتابة الوثيقة التاريخية بهذا البيان:

( وإنّه لا ينحجر على ثأر جرح ( أي لا يضيع مقدار من دم جرح )، وإنّه مَن فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإنّ بينهم النصح والنصيحة والبِرّ دون الإثم، وإنّه يأثم امرؤ بحليفه، وإنّ النصر للمظلوم وإنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم، وإنّ ما كان بين أهل هذهِ الصحيفة من حدَث أو اشتجار يخاف فساده، فإنّ مردّه إلى الله عزّ وجلّ، وإلى محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه وإنّه مَن خرج آمِن، ومَن قعد آمِن بالمدينة، إلاّ مَن ظلم وأثِم، وإنّ الله جار لمَن برّ واتّقى، ومحمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

ب - كتاب رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هرقل ملك الروم:

(بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله عبدُه ورسوله إلى هرقل عظيم الروم:

سلامٌ على مَن اتّبع الهدى أمّا بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِم تسلَم، أسلِم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن توليّت فإنّ عليك إثم الإريسين، و( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى‏ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا

____________________

١ - علي الأحمدي، الميانجي، مكاتيب الرسول، ج٣، ص٦ - ٤٤.

٢- نفس المصدر.

٩٤

وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ ) (١) (٢) .

ج- - كتاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كسرى مَلِك الفُرس:

(بسم الله الرحمن الرحيم

مِن محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس:

سلام على مَن اتّبع الهدى وآمَن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بداعية الله عزّ وجلّ، فإنّي رسول الله إلى الناس كافّة لأُنذر مَن كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين فأسلِم تسلَم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك )(٣) .

د - كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل نجران:

(

لنجران وحاشيتها جوار الله وذمّة محمّد النبيّ رسول الله، على أنفسهم وملّتهم، وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعِيرهم وبعْثهم وأمثلتهم، لا يُغيَّر حقّ مِن حقوقهم وأمثلتهم، لا يُفتن أسقف مِن أسقفيّته، ولا راهب من رهبانيّته، ولا واقه ( يعني قيّم البيعة ) مِن وقاهيته، على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم رقق ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ومَن سأل منهم حقّاً فبينهم النَصف غير ظالمين ولا مظلومين بنجران، ومَن أكل منهم رباً من ذي قبل فذمّتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، ولهم على ما في هذهِ الصحيفة جوار الله وذمّة محمّد النبيّ أبداً حتّى يأتي أمرُ الله ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مكلّفين شيئاً بظلم )(٤) .

____________________

١ - آل عمران: ٦٤.

٢ - أحمد ابن أبي يعقوب بن جعفر، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ص٧٧.

٣ - بحار الأنوار، ج٢٠، ص٣٨٩ مصدر سابق.

٤ - علي أحمدي، ميانجي، مكاتيب الرسول، ج٣، ص ١٦٥.

٩٥

ه- - كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل جرباء وأذرح:

(بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمّد النبيّ رسول الله لأهل جرباء وأذرح: أنّهم آمنون بأمان الله وأمان محمّد، وأنّ عليهم مئة دينار في كلّ رجب، ومئة أوقية طيبة، وأنّ الله عليهم كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين ومَن لجأ إليهم من المسلمين )(١) .

و - كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المقوقس:

(بسم الله الرحمن الرحيم

من محمّد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القِبط

سلام على مَن اتّبع الهدى

أمّا بعد، فإنّي أدعوك بداعية الإسلام، أسلِم تسلَم، وأسلِم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن توليّت فإنّ عليك إثم القبط، و( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى‏ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ ) (٢) (٣) .

ز - كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى النجاشي:

(بسم الله الرحمن الرحيم

من محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى النجاشي مَلِك الحبشة:

إنّي أحمدُ إليك الملك القدّوس السلام المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة، فحملت بعيسى، وإنّي أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، فإن تبعتني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله، وقد بعثتُ إليك ابن عمّي جعفراً ومعه نفر من المسلمين.

والسلام على مَن اتّبع الهدى )(٤) .

____________________

١ - نفس المصدر، ج ٣، ص١١٣.

٢ - آل عمران: ٦٤.

٣ - مكاتيب الرسول، ج ٢، ص٤١٧ مصدر سابق.

٤ - بحار الأنوار، ج٢٠، ص٣٩٢.

٩٦

ح - كتاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صاحب البحرين (المنذر بن ساوي العبدي):

في جواب لمنذر بن ساوي العبدي على كتاب رسول الله حينما دعاه إلى الإسلام:

( أمّا بعد، يا رسول الله، فإنّي قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم مَن أحبّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم مَن كرهه، وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إليَّ في ذلك أمرك ).

فكتب إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(بسم الله الرحمن الرحيم

من محمّد النبيّ رسول الله إلى المنذر بن ساوي:

سلام عليك، فإنّي أحمدُ إليك الله الذي لا إله إلاّ هو

أمّا بعد، فإنّ كتابك جاءني ورُسُلك، وإنّه مَن صلّى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فإنّه مسلم، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ومَن أبى فعليه الجزية )(١) .

ط - كتاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يهود خيبر:

(بسم الله الرحمن الرحيم

من محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب موسى وأخيه المصدّق لِمَا جاء به

ألا إنّ الله قال لكم: يا معشر أهل التوراة - وإنّكم لتجدون ذلك في كتابكم -:( مُحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ … ) (٢) وإنّي أُنشدكم بالله، وأنشدكم بما أُنزل عليكم، وأُنشدكم بالذي أطعم مَن كان قبلكم مِن أسباطكم المنّ والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتّى أنجاكم مِن فرعون وعمله إلاّ أخبرتموني، هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمّد ؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كُره عليكم( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فأدعوكم إلى الله ونبيّه )(٢) .

وبالنتيجة احتوت هذه النماذج من مكاتيب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على مضامين عاليه، موجهّة إلى ملوك وزعماء الأُمم كلٌّ حسب ظرفه، وهي دعوة للحقّ ورحمةٌ للأُمم، كيف لا تكون كذلك وخطاب العليّ الأعلى لشخص رسوله الكريم:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) متجسّداً في كلّ أعماله تجاه

____________________

١ - مكاتيب الرسول، ج ٢، ص٦٥٩ مصدر سابق.

٢ - الفتح: ٢٩.

٣ - مكاتيب الرسول، ج٢، ص٤٨٧.

٩٧

بني البشر كافّة.

أمّا ما أُشكل ممّن ليس له إدراك لِما كتبه الرسول في بعض العبارات كعبارة ( أسلِم تسلَم )، فهو مردود ؛ لإنّ المقصود بكلمة ( تسلم ) ليس هو من القتل، بل بإسلامك تسلم من عذاب الآخرة، أي الإسلام هو خاتم الأديان وجامع لكلّ مبادئ الأديان السابقة وباعتناقه يكون نجاةً له في الآخرة، والله العالم.

٩٨

الفصل الثالث

الحقوق

وفيه ثلاثة مباحث:

الأوّل: المبادئ الأوّلية في العلاقة بين المسلمين وغيرهم.

الثاني: المساواة الإنسانية.

الثالث: مدرسة أهل البيت وحقوق غير المسلمين.

٩٩

المبحث الأوّل:

المبادئ الأوّلية في العلاقة بين المسلمين وغيرهم

١٠٠