تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه0%

تاريخ الاجتهاد ومناهجه مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 249

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف: علي الزبيدي
تصنيف:

الصفحات: 249
المشاهدات: 95389
تحميل: 11944


توضيحات:

تاريخ الاجتهاد ومناهجه المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 249 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95389 / تحميل: 11944
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف:
العربية

الفصل الخامس:

مناهج الاجتهاد

أُصول الاجتهاد ومناهجه عند أئمة المذاهب الأربعة.

· أُصول الاجتهاد ومنهجه عند أبي حنيفة.

· أُصول الاجتهاد ومنهجه عند مالك.

· أُصول الاجتهاد ومنهجه عند الشافعي.

· أُصول الاجتهاد ومنهجه عند أحمد بن حنبل.

منهج الاجتهاد وتطوُّره عند الإمامية

· المنهج الاجتهادي في الدور الأول: دور التأسيس.

· المنهج الاجتهادي في الدور الثاني: دور الانطلاق.

· المنهج الاجتهادي في الدور الثالث: دور الاستقلال.

· المنهج الاجتهادي في الدور الرابع: دور التطرُّف.

· المنهج الاجتهادي في الدور الخامس: دور الاعتدال.

· المنهج الاجتهادي في الدور السادس: دور الكمال والنضج.

نظرة سريعة لتأثير الظروف السياسية والاجتماعية على تطوُّر حركة الاجتهاد.

٢٠١

أُصول الاجتهاد ومناهجه عند أئمة المذاهب الأربعة:

لقد وقع الاختلاف بين أئمة المذاهب الأربعة؛ تبعاً لاختلافهم في المصادر التي يعتمد عليها كلٌّ منهم، وترتيب تلك المصادر في أولوية الاعتماد عليها في عملية الاستنباط.

أُصول الاجتهاد ومنهجه عند أبي حنيفة:

اعتمد فقه أبي حنيفة على أُسس وقواعد:

١. الكتاب العزيز.

٢. السنَّة: ربَّما تشتمل على أحكام فقهيَّة غير مذكورة في الكتاب، وهي أساس جميع المذاهب الفقهية، كالكتاب العزيز، ولكنَّ المعروف أنّ أبا حنيفة لم يعتمد على السنَّة إلاّ قليلاً.

يقول ابن خلدون: فأبو حنيفة يقال: بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثاً أو نحوها... إلى أن قـال: والإمام أبو حنيفة إنّما قلّت روايته؛ لمّا شدَّد في شروط الرواية والتحمُّل، وضعَّف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي؛ وقلّت من أجلها روايته، فقلَّ حديثه لا أنّه ترك رواية الحديث متعمّداً (١) .

والحق، أنّ أبا حنيفة لأجل هذا التشدّد لم يجد بُدَّاً عن التمسُّك بقواعد، كالقياس والاستحسان، وتوسَّع فيهما وقدّمهما على الأثر المنقول عن الصحابة، وقد نُقل عنه أنّه قال: إنَّما آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجد فيه أخذت بسنَّة رسول الله والآثار الصحاح عنه، التي فشت في أيدي الثقـات، فإذا لم

____________________

(١) مقدّمة ابن خلدون: ٤٤٤ـ٤٤٥، الفصل السادس في علوم الحديث.

٢٠٢

أجد في كتاب الله ولا سنَّة رسول الله، أخذت بقول مَن شئت من أصحابه، وأدع قول مَن شئت، ثمَّ لا أخرج من قولهم إلى غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن الحسين، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا (١) .

٣. قول الصحابي أو سنَّة الصحابي.

٤. القياس: وهو استنباط حكم موضوع من موضوع آخر لجهة جامعة بينهما.

وقد بلغ أبو حنيفة في الاستنباط بالقياس الذروة.

٥. الاستحسان.

٦. الإجماع: وهو اتِّفاق المجتهدين من الأمَّة الإسلامية في عصر على الحكم في أمر من الأمور، وهو في ذاته حجّة عند الحنفية دون فرق بين الإجماع القولي , أو الإجماع السكوتي , غير أنّ الأول دليل قطعي , والثاني دليل ظنِّي.

٧. العُرف: أن يكون عمل المسلمين على أمر لم يرد فيه نصٌّ، من القرآن أو السنّة أو عمل الصحابة، والمقصود هو العُرف العام الذي لا يخالف الأدلَّة السابقة.

أُصول الاجتهاد ومنهجه عند مالك:

١. القرآن الكريم.

٢. السنّة: وكان يقبل المرسل من الأحاديث ما دام رجاله ثقات، وفي موطّئه كثير من المراسيل ومنقطع الإسناد، ولم يكن يرى التشدُّد المعهود عند أبي حنيفة في الحديث، ومن أهمِّ ميزات مذهبه هو الاعتماد على الحديث، لا سيَّما حديث أهل الحجاز.

٣. عمل أهل المدينة: وقد كتب مالك إلى ليث بن سعد: إنَّ الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن ـ وهذا هو الأساس لاعتباره عمـل أهل المدينـة أساسـاً لفقهه ـ قائلاً: بأنَّ رسول الله أقام في المدينة وأقام أصحابه، فيكون أهل المدينة أعلم الناس بالتنزيل، وليست هذه الميزة لغيرهم.

____________________

(١) تاريخ بغداد ١٣: ٣٦٨.

٢٠٣

٤. قول الصحابي: إذا لم يرد حديث صحيح في المسألة عن النبي , فإنَّ قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف يكون حجّة؛ باعتبار أنّ الصحابة أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد.

وقد روى في كتابه شيئاً من أقوال الصحابة والتابعين، وإذا تعارض قول الصحابي مع عمل أهل المدينة، فهو يقدِّم عمل أهل المدينة على قول الصحابي.

٥. المصالح المرسلة: هي المصالح التي لم يشهد لها نصٌّ معيَّن من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار، وكانت ترجع إلى حفظ مقصود شرعي، يعلم كونه مقصوداً بالكتاب أو السنّة أو الإجمـاع، إلاّ إذا عارضته مصلحة أُخرى، فعند ذلك يقوم العمل بالثاني , وإليك مثالين:

الأول: إذا وجد بيد شخص زعفران مغشوش، أفتى مالك بأنّه يتصدّق به على المساكين قلَّ أو كَثُر، يقول الشاطبي: إنّه يُماثل إراقة عمَر اللبَن المغشوش بالماء، ووجَّه بذلك التأديب للغاش، وهذا التأديب لا نصَّ يشهد له، لكن من باب الحكم على الخاص لأجل العام.

الثاني: ضرب المتَّهم بالسرقة ليقرَّ بالمسروق، فقد جوَّزه مالك، وخالفه غيره؛ لأنَّ هذه مصلحة تُعارض مصلحة أُخرى، هي مصلحة المضروب؛ إذ قد يكون بريئاً.

٦. القياس: حيث لا يوجد نص من كتاب أو سنَّة، أو قول صحابي أو إجماع من أهـل المدينـة، فهو يستخدم القياس في اجتهاده، فقد جاء في الموطِّأ: سئل مالك عن الحائض إذا طهرت ولم تجد ماءً هل تتيمم؟ فقال: نعم، قياساً على الجنُب عند فقْد الماء، الذي ثبت بالنص القرآني (١) .

٧. سدُّ الذرائع: وهو المنع عن التذرُّع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، وإن شئت قلت: الحيلولة عن التوصل بأمر مباح إلى فعلٍ محظور، وقد استعمله مالك كثيراً في فقهه.

يقول الشاطبي في الاعتصام: كان مالك (رحمه الله) شديد المبالغة في سدِّ الذرائع.

فمثلاً: لو وقف الحاكم على أنَّ رجلاً يزرع ويغرس كرماً بغية عملها خمراً، فللحاكم إيقافه عن العمل للحيلولة دون الوصول إلى غرضه.

____________________

(١) الموطِّأ: ٦٤ ح ٩١، كتاب الصلاة، باب طهر الحائض.

٢٠٤

أو افترضنا أنَّ رجلاً رأى هلال شوَّال وحده، فليس له الإفطار لئلاَّ يكون ذريعة إلى إفطار الفسَّاق محتجِّين بعمله، إلى غير ذلك من الأمثلة التي وردت في الموطِّأ وغيره.

وفي الحقيقة، أنَّ سدَّ الذرائع أصل مناقض للحيَل تمام المناقضة، فما جوَّزه الأحناف من إعمال الحيَل قد سدَّته المالكية والحنابلة بأصل آخر، وهو سدُّ الذرائع.

٨. الإجماع.

٩. العُرف والعادة.

١٠. الاستحسان: وهو (ما يستحسنه المجتهد بعقله) أو (دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه) (١) .

١١. الاستصحاب.

أُصول الاجتهاد ومنهجه عند الشافعي:

بنى الشافعي أُصول مذهبه على الكتاب والسنّة، والإجماع والقياس، ولم يجنح إلى سائر الأدلة التي اعتمد عليها أبو حنيفة ومالك، فهو يحتجُّ بظواهر القرآن، كما يحتجُّ بالسنّة وإن كان خبراً واحداً، شريطة أن يكون الراوي ثقة ضابطاً والحديث متَّصلاً برسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ثمّ إذا لم يكن هناك دليل منصوص عمد إلى القياس وترك العمل بالاستحسان، الذي قالت به الحنفية والمالكية، وأنكر الاحتجاج به قائلاً: (مَن استحسن فقد شرّع). وألَّف كتاب إبطال الاستحسان، وردَّ كذلك المصالح المرسَلة (الاستصلاح)، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة، وأطال في كتـاب الأُمِّ في ردّه.

وأمَّا قول الصحابي , فالظاهر أنّه لا يعمل بقوله إذا صدر عن رأي واجتهاد، ونُقل عنه قوله: (لا يُقلِّد المجتهد صحابياً كما لا يُقلِّد عالماً آخر) (٢) .

____________________

(١) مصادر التشريع: ٥٨.

(٢) نقله العطَّار في حاشيته على جمع الجوامع ٢: ٢٦١، انظر تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور أحمد فرَّاج حسين.

٢٠٥

وفي نقل آخر عنه أيضاً أنّه قال: إنّ قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف، يكون خيراً لنا من رأينا لأنفسنا، وإذا اختلف أصحاب رسول الله في مسألة، فإنّه يأخذ من قول بعضهم ما يراه أقرب إلى الكتاب والسنّة، ولا يتجاوز أقوالهم إلى غيرها (١) .

مذهبه القديم والجديد:

ورَد الشافعي إلى العراق عام ١٩٥هـ في خلافة الأمين، وصنَّف كتابه القديم المسمَّى بـ (الحجّة)، ومدَّة إقامته بالعراق سنتان، ثمّ رجع إلى الحجاز، وفي سنة ١٩٨هـ قدم إلى العراق مرَّة أُخرى، فأقام هناك أشهراً، ثمَّ ارتحل إلى مصر، فظهرت فيها مواهبه الفقهية، فأملى على تلاميذه كُتبه الجديدة، التي يعبّر عنها بالقول الجديد، ويجمعها كتاب الأُمِّ، وهو المذهب الذي تغيَّر إليه اجتهاده بمصر، ولعلَّ سبب التغيُّر سماعه بعض الأحاديث من علمائها، ولم يكن واقفاً عليها، وربَّما يكون لتقاليد وعادات الموطن الذي حلَّ فيه تأثير في تغيُّر فتاواه.

وبما ذكرنا في ترتيب الأُصول التي بنى عليها فقهه، يظهر وجه الاختلاف بين الأئمة الأربعة في الفتوى، فمثلاً:

١. أنّ أبا حنيفة يشترط في الحديث الشهرة إذا عمَّت البلوى، بخلاف الشافعي، فهو يعمل على الخبر الصحيح المتَّصل سواء أَبَلَغَ الشهرة أم لا.

٢. أنّ مالكاً يشترط في العمل بالحديث عدم مخالفته لعمل أهل المدينة، بخلاف الشافعي فهو يعمل بالحديث الصحيح المتَّصل، وإن كان مخالفاً لعمل أهل المدينة.

٣. أنّ أبا حنيفة ومالكاً يعملان بالاستحسان، في حين أنَّ الشافعي قد نُقل عنه: أنّ مَن استحسن فقد شرَّع.

٤. أنَّ مالكاً يعمل بقاعدة الاستصلاح والمصالح المرسلة، في حين أنَّ الشافعي لا يعتمد عليها.

٥. أنّ أبا حنيفة جعل القياس في الدرجة الثالثة من الاعتبار، حتى اشتهر في الفقه الحنفي (أنّ مَن لا قياس عنده لا فقه عنده، ومَن ردَّ القياس الشرعي سدَّ على نفسه باب الاجتهاد) (٢) .

____________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي للقطّان:٣١٢.

(٢) المقالات الكوثرية: ٢١٦ـ٢٢٥.

٢٠٦

والحال أنّ الشافعي جعل القياس في الدرجة الأخيرة من الاعتبار، حيث قال: والعلم طبقات:

الأُولى: الكتاب والسنَّة.

الثانية: الإجماع فيما ليس كتاباً ولا سنَّة.

الثالثة: أن يقول صحابي، فلا يُعلم له مخالف من الصحابة.

الرابعة: اختلاف الصحابة.

الخامسة: القياس (١) .

هذه الوجوه وأمثالها أثارت خلافاً واسعاً بين المذاهب الأربعة.

أُصول الاجتهاد ومنهجه عند أحمد بن حنبل:

وقد ذكر ابن القيِّم ـ الذي يُغالي في الإمام أحمد غلوَّاً كبيراً ـ: أنّ الإمام كان يعتمد في تدوين مذهبه على خمسة أُصول هي:

١. النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ومَن خالفه، ثمّ ذكر عدَّة أمثلة، ويقول: ولم يكن يقدِّم على الحديث الصحيح عملاً، ولا رأياً، ولا قياساً، ولا قول صحابـي , ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسمِّيه كثير من الناس إجماعاً، وقد كذَّب أحمدُ مَن ادَّعى هذا الإجماع، ولم يسغْ تقديمه على الحديث الثابت.

٢. ما أفتى به الصحابة، فإنّه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يَعدُها إلى غيرها، ولم يقل: إنَّ ذلك إجماع. وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع من الصحابة لم يقدِّم عليه عملاً ولا رأياً ولا قياساً.

٣. إذا اختلفت الصحابة تخيّر من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنَّة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبيَّـن له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقوله.

____________________

(١) إعلام الموقعين ٤: ١٢١ - ١٢٢.

٢٠٧

٤. الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن، وهو الذي رجّحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر، ولا مَن في رواته متَّهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسِّم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب.

٥. القياس، فهو يقدِّم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس، فإذا لم يكن عنده شيء من هذه يعمل به واستعمله للضرورة. وقد قال في كتاب (الخلال): سألت الشافعي عن القياس، فقال: إنّما يُصار إليه عند الضرورة، أو ما هذا معناه.

فهذه الأُصول الخمسة من أُصول فتاويه وعليها مدارها، وقد يتوقَّف في الفتوى لتعارض الأدلَّة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطِّلاعه فيها على أثر، أو قول أحد من الصحابة والتابعين.

وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: إيَّاك أن تتكلَّم في مسألة ليس لك فيها إمام، وكان يسوِّغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك، ويدلُّ عليهم، ويمنع من استفتاء مَن يُعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه، ولا يسوِّغ العمل بفتواه (١) .

____________________

(١) إعلام الموقعين ١: ٣٣.

٢٠٨

منهج الاجتهاد وتطوّره عند الإماميّة:

المنهج الاجتهادي في الدور الأول: دور التأسيس (١) .

يظهر من مراجعة مصنَّفات الفقهاء في العصر المتاخم لعصر الغيبة الصغرى، أنّ عملية الاجتهاد في هذه المرحلة كانت بدائية، وتتمثَّل أوّلاً في توزيع متون الروايات على الأبـواب الفقهيـة، واستظهار النتائج منها بنفس ألفاظ النصوص ومتونها، وعلاج حالات التعارض بينهما بجمعٍ عُرفـي، أو ترجيح أو حمل على التقيَّة أو غير ذلك.

وهذا المنهج يدعى بالفقه المأثور، وكان يدوَّن تارة مبسوطاً ومع ذكر الروايات المأثورة بمتونها وأسانيدها ـ كما نجده في مثل كتاب الكافي للكليني، وكتاب مَن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (قُدس سرّهما) ـ وأُخرى مع حذف الأسانيد، بل وتقطيع متون الروايات أيضاً، والاقتصار على الفتاوى بألفاظ النصوص موزَّعة على المسائل والأبواب الفقهية، كما نجد ذلك في كتاب الشرائع لابن بابويه (قدس سره) (ت ٣٢٩هـ)، والهداية والمقنع للشيخ الصدوق (قدس سره) (ت ٣٨١هـ).

إلاّ أنَّ تطوُّر الفقه واتِّساع تفريعاته وآفاقه على أساس ما كان يستجدُّ من قضايا وحوادث، وما كان قد حصلت الحاجة إليه والابتلاء به في المذاهب الأُخرى ومدوّناتها الفقهية ـ من تطبيقات وفروض تقديرية، وتقسيمات حديثة للموضوعات والأبواب الفقهيَّة ـ أوجب استقلال المنهج الفقهي في العَرْض والتدوين عن الفقه المأثور.

وقد ساعد على ذلك الاحتكاك والنقد والحوار، الذي كان يجري بصورة مستمرَّة بين فقهائنا وفقهاء المذاهب الأُخرى، سيَّما في الحواضر والجامعات العلمية الرئيسية، كبغداد التي كانت مركزاً تضمُّ كلّ المدارس الفكرية والفقهية في ذلك العصر، وكان جانب الكرخ منها محلَّة الشيعة وملتقى علمائهم وفقهائهم، كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، وفيها المكتبة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة البويهي، والتي كانت من أُمَّهات دُور العلم يومـذاك.

____________________

(١) يُرجع في التحديد الزمني لهذه الأدوار إلى الفصل الرابع (أدوار الاجتهاد عند الشيعة الإمامية) ولا حاجة لتكرار التحديد الزمني هنا.

٢٠٩

وهكذا بدأ الفصل بين المصنَّفات الفقهية وكتب الحديث، وأصبحت الكتب والرسائل الفقهية تدوَّن بمنهجها المستقلِّ ـ كما في فقه العامَّة ـ وكان يستند في مجال الاستدلال عليها وتخريجها بالروايات والآيات، وبإجماع الطائفة ومسلَّماتها، وببعض المسائل الكلامية والاستدلالات العقلية في بعض الأحيان، وهذا ما يُستظهر من كُتب ومصنَّفات القديمَين ـ العماني والإسكافي ـ ومؤلفات الشيخ المفيد والسيد المرتضى وتلامذتهم (١) .

وبالرغم من إرساء عملية الاستنباط على قواعد علمية معيَّنة، وبالرغم من تجاوز تعابير النصوص إلى دلالاتها التضمُّنية والالتزامية، كان التحفُّظ في التفريع وتجاوز نصوص الأحاديث ظاهرة بيِّنة في عملية الاستنباط.

وبالرغم من اعتماد علم الفقه على الأخبار الحاكية عن السنَّة بشكل واسع، نجد ظاهرة إدانة العمل بأخبار الآحاد والاهتمام بالإجماعات أمراً مُلفتاً للنظر.

وبالرغم من تأكيد القرآن الكريم على أهمِّية التعقُّل والاستفادة من العقل، نجد عمليَّات استنباط الأحكام في الفقه الشيعي تجتنب التوغُّل في الاعتماد على العقل، ولا تفسح المجال لتُدخِل العقل في التشريع أو ما يستتبع التشريع، من عمليات استظهار النصوص وتوظيفها للوصول إلى أحكام القضايا المستجدَّة، إذ تتحفَّظ في استخدام العقل تحفُّظاً لا يترك مجالاً لتدخُّله في التشريع، كما يظهر ذلك بيِّناً في (خلاصة التذكرة بأصول الفقه)، باعتباره أوّل كتاب أصولي شيعي يصل إلينا (٢) .

ونلاحظ في هذه المرحلة ثلاثة اتِّجاهات فقهية، تمثّلت في الاتّجاه الروائي البحت، والاتّجاه العقلي، والاتّجاه الذي يُحاول التأليف بينهما ويهتمُّ بالعقل والنقل معاً، ويحدِّد لكلٍّ منهما مساره ومورد الاعتماد عليه، وقد تمثَّل هذا الاتِّجاه في منهج المفيد والمرتضى (٣) .

وقد امتدَّ هذا الاتِّجاه ونما وغلب على المدرسة الفقهية الشيعية، بعد المرتضى حتى يومنا هذا.

____________________

(١) مقدِّمة موسوعة الفقه الإسلامي:٤٩. بتصرُّف واختصار.

(٢) مراحل تطوُّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٧٨.

(٣) راجع أهمَّ ملامح الدور الأول.

٢١٠

المنهج الاجتهادي في الدور الثاني: دور الانطلاق .

١. اتَّبع الشيخ الطوسي في فتاواه وتآليفه الفقهية نهج أُستاذَيه المفيد والمرتضى، وقد أُتيحت له فرصة الوقوف على الكتب الفقهية أكثر ممَّا وقف عليه أُستاذاه، فأحاط بآراء المذاهب الأُخرى إحاطة تامة، لا يوجد مثيلها في كتب المفيد والمرتضى.

٢. بلغ التفريع والتخريج على يده القمَّة، فما ترك فرعاً إلاَّ خاضه، ويعدُّ كتابه المبسوط خير شاهد على ذلك، وقد مضى على تأليفه قرابة عشرة قرون ومع ذلك لم يؤلَّف كتاب مثله، والكتاب مع كونه يحتوي على دورة فقهية كاملة، لكنَّه سلس الألفاظ، سهل التناول، موجَز في النقل، مختصَر في الاستدلال، على خلاف ما نراه في كتابي (التذكرة) و(المنتهى)، فإنّهما في غاية البسط خصوصاً الأخير.

٣. استخرج الشيخ قواعد عقلية واعتمد عليها في مقام التفريع، وبذلك ردَّ على خصماء الشيعة وصمة العار التي ألصقوها بهم، قال في أوّل (المبسوط): إنِّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا ـ من المتفقِّهة والمنتسبين إلى علم الفروع ـ يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية ويستنزرونه، وينسبونهم إلى قلَّة الفروع وقلّة المسائل، ويقولون: إنَّهم أهل حشو ومناقضة، وإنَّ مَن ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الأُصول؛ لأنَّ جلَّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين. وهذا جهل منهم بمذهبنا، وقلّة تأمُّل لأُصولنا.

ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أنَّ جُلَّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا، ومنصوص عليه تلويحاً عن أئمتنا الذين قولهم في الحجّة يجري مجرى قول النبي (صلَّى الله عليه وآله)، إمّا خصوصاً، أو عموماً، أو تصريحاً، أو تلويحاً (١) .

إنّ الشيخ الطوسي كان يعمل بخبر الواحد تحت شروط خاصّة، وقد أعرب عن رأيه في كتاب (العدَّة)، وبذلك خالف أُستاذيه المفيد والمرتضى، وقال بحجِّيّة الإجماع كأُستاذيه، ويظهر أنّ الإجماع عنده

____________________

(١) المبسوط ١:١-٢.

٢١١

حجَّة لكشفه عن قول المعصوم فقط، وله آراء خاصة في الأُصول يظهر ذلك لمَن راجع كتاب (العدّة) (١) .

ويبيِّن السيد منذر الحكيم منهجية الاجتهاد لهذا الدَور، التي تمَّت على يد الشيخ الطوسي (قدس سره)، فيقول: أخذ الاتِّجاه الذي اتَّخذه المفيد والمرتضى، كمنهج للاجتهاد في الدور الأول بالتطوُّر بعد أن تبنَّاه الشيخ الطوسي، وضمَّنه عناصر القوَّة والإبداع من خلال الاعتناء برفع نقاط الضعف، والدفاع العلمي المتين عنه، وردَّ على الشبهات التي كان يُثيرها بوجه هذا المنهج كلٌّ من أصحاب الاتِّجاهين العقلي والروائي، إضافة إلى فقهاء العامة وهم يرون تطوُّراً ملحوظاً على يد هذا العملاق.

وكان هذا التطوّر في عدة جوانب:

الجانب الأول: تقنين عملية الاستنباط، استمراراً على الخط الذي بدأه المفيد، ثمّ طوّره المرتضى في مجال فصل علم أصول الفقه عن الفقه واستقلاله بالبحث والتدوين، وقد تمثَّل هذا العمل في تدوين كتاب (عدّة الأُصول)، الذي فاق الكتب الأُصولية السابقة عليه، وأصبح محوراً للتدريس إلى قرون متأخِّرة، كما يبدو جليَّاً من خلال الشروح والتعليقات التي كُتبت على هذا الكتاب حتى القرن العاشر الهجري (٢) .

الجانب الثاني: اعتمد البحث الفقهي للاتِّجاه الذي مثله الشيخ المفيد على النقل والعقل معاً، واعتمد النقل على الكتاب والسنَّة، والتي استند لكشفها إلى الأحاديث الواصلة عن أهل البيت (عليهم السلام)، وتتقوَّم دراسة الأحاديث بدراسة السند والدلالة معاً.

واعتمدت عملية تقويم السند على أدوات التقويم المتمثِّلة في مصادر التوثيق الرجالية، وقد وفَّق الشيخ الطوسي (رحمه الله) لتوفير هذه الأدوات وتقنين عمليه التقويم وتطبيقها، وقد أثمرت هذه الجهود في

____________________

(١) أدوار الفقه الإسلامي:٢٧٤-٢٧٦.

(٢) مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٨٠.

٢١٢

تبنِّي اتِّجاه أخبار الآحاد على أساس علمي، خلافاً لما كان يؤكِّد عليه المرتضى والمفيد من قبل، حيث أنكرا حجِّيّة أخبار الآحاد واتَّجها إلى الإجماع والعقل (١) .

فكانت للشيخ الطوسي عدَّة أعمال موسوعية حديثية ورجالية، تمثّلت في تدوين موسوعتين فقهيَّتين حديثيَّتين هما التهذيب والاستبصار، ومجموعة كتب رجالية هي: اختيار معرفة الرجال، والرجال، والفهرست، بالإضافة إلى فهرس النجاشي، الذي ساهم بتوفير المادة اللازمة لغرض إكمال عمليه التوثيق الرجالي، الذي يهمُّ الفقيه الذي يتبنَّى حجِّيّة أخبار الآحاد ويشيِّد فقهه على أساسها (٢) .

الجانب الثالث: قام الشيخ الطوسي ـ في تهذيب الأحكام ـ بتطبيق منهج الاستنباط، الذي قنَّنه سابقاً ووفَّر أدواته، وذلك حينما قرَّر شرح كتاب المقنعة للشيخ المفيد شرحاً استدلالياً، ينحو باتِّجاه إثبات الآراء الفقهية الواردة في المقنعة أو إثبات آرائه الفقهية؛ لذا فتهذيب الأحكام ليس كتاباً حديثيَّاً محضاً (٣) .

فكان الجهد المبذول في تطوير المنهج الذي اتَّبعه على صعيد النظرية والتطبيق.

وعالج الشيخ (قدس سره) مشكلة الأخبار المتعارضة، التي حفلت بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الفقهية في كتاب الاستبصار؛ ومن هنا أصبح هذا الكتاب ممثِّلاً لممارسة فقهيَّة استدلالية بالإضافة إلى تضمُّنه للأخبار.

وبهذا وفَّر الشيخ الطوسي للفقيه كل أدوات الممارسة الفقهية الاجتهادية، نظرية وتطبيقاً، وهذه خطوة كبيرة أخرج فيها الفقه الإمامي من الاستعراض والنقل للحديث إلى إطار أوسع.

____________________

(١) انظر الذريعة إلى أصول الشريعة ٢: ٥٢٨-٥٥٤.

(٢) انظر منهج الشيخ الطوسي في كتاب عدّة الأصول، فصل مذهب المصنِّف في خبر الواحد. مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٨٠ بتصرُّف.

(٣) نفس المصدر.

٢١٣

الجانب الرابع: وقام الشيخ الطوسي ـ أيضاً ـ بثلاث خطوات أُخرى، كانت رائدة إن لم تكن تأسيسية، فالفقهاء الذين سبقوه بالرغم من تصدِّيهم للتفريع واستنباط أحكام الفروع، التي لم تذكر في نصوص الروايات الواصلة إليهم، لكنَّهم لأجل التحفُّظات الكبيرة، التي كانت تُحيط بهم وتُسيطر على الوسط العلمي السائد آنذاك، لم يجترئوا أو لم تسنح لهم فرصة التفريع وإظهار عظمة الفقه الإمامي من هذه الجهة.

وعلى أيِّ حال، فالمبسوط للشيخ جاء ليعبِّر عن محاولة رائدة للتوسُّع في المسائل الفرعية الفقهية توسعاً كبيراً، يمكن فهم مدى عظمة هذا العمل الريادي، إذا قسنا النهاية للشيخ الطوسي أو المقنعة للمفيد إلى المبسوط الذي كتبه الشيخ، وهو دورة فقهية موسّعة تفوق على أربعة أضعاف النهاية، أو المقنعة من حيث حجم المادة الفقهية المطروحة فيها.

الجانب الخامس: كانت محاولة إثبات الريادة للفقه الشيعي، تتطلَّب من الشيخ الطوسي المبدع والمؤسس لمدرسته الفقهية الرائدة أن يقوم ـ بالإضافة إلى التوسّع والبسط في التفريع ـ بعملية المقارنة بين الفقه الإمامي وسائر المدارس الفقهية، وهذا هو الذي انتهى به إلى أن يكتب (الخـلاف)، وهو كتاب موسَّع يعتمد المقارنة، وهو يشير في آن واحد إلى خصائص الفقه الشيعـي، مقارناً مع الفقه غير الشيعي بشتَّى مذاهبه، كما يشير إلى مدى عظمة الفقه الشيعي، وقدرته على مسايرة الزمن بالرغم من تحفُّظه تجاه استخدام العقل في مجال الاستنباط (١) .

ومما يؤاخذ على منهج الشيخ الطوسي (رحمه الله):

أ. كثرة اعتماده على الإجماعات، فهو يلجأ إلى ذلك عند إعواز الدليل اعتماداً على مذهبه الذي يرى أنَّ الإجماع يوحي بوجود قول في المسألة، وبالرغم من أنّ الاعتماد على الإجماع منهج أساتذة الشيخ الطوسي، أمثال المفيد والمرتضى، ولكن توسَّع الشيخ ومَن جاء من بعده من

____________________

(١) مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٨٠-١٨٣ بتصرُّف.

٢١٤

الفقهاء في استخدامه، حتى (إنّ بعض علماء الشيعة يعمل بالإجماع الذي ينقله (مالك بن أنس إمام المذهب) عن أهل المدينة في (موطّئه) لكشفه عن رأي المعصوم عنده) (١) .

ب. محاكاة الفقه التفريعي السنِّي، فهو بالرغم من الجهود التي بذلها لإحراز الريادة وقصب السبق للفقه الشيعي، ولكن كان لابدَّ من الوقوع في شرك المحاكاة للفقه السائد، ودخول عنصر التقليد في بعض الأحيان، وانطباع الفقه التفريعي الشيعي بطابع ومسحة من الفقه السنِّي، لا سيَّما لو أخذنا بالاعتبار أنَّ الفقه السنِّي هو فقه الدولة آنذاك.

وقد اعتقد بعض كبار فقهاء الإمامية، بأنّ الفقه الشيعي ناظر في انجازاته العلمية إلى الفقه السنّـي، ولا يمكن تحقُّق فهم الفقه الشيعي بشكل تام إلاّ لمَن يفهم الفقه السنِّي بشكل تام؛ وذلك لأنّ الفقه السنِّي كان فقه الدولة وكان الفقه الحاكم على الساحة، ولم يسع الفقهاء الشيعة إلاّ أن يأخذوا هذا الفقه بنظر الاعتبار، وكان لابدَّ لهم من اتِّخاذ المواقف الفقهية المنسجمة مع الأُصول والمباني الفقهية الإمامية في الوسط الذي يعيشون فيه، فإنَّ التعايش كان واقعاً مفروضاً عليهم، ولا أقل من التأثُّر بالفقه الحاكم إلى فترة أو فترات؛ كي يتسنَّى للفقيه الشيعي أن يستقلَّ ويمحو آثار التأثُّر بالفقه الحاكم، والفقه الذي كان يسايره الفقهاء إمّا للدفاع أو لاكتساب مقام الريادة، التي تقتضي وجود موارد الشبه والاشتراك والتقدّم؛ كي يمكن تحقُّق المباراة والاستبـاق والإقناع بالتقـدّم والأفضليـة (٢) .

ولم يكن من الهيِّن الانتقال من جوِّ المحاكاة إلى جوِّ الاستقلال، فقد طالت الفترة الزمنية حوالي قرنين على الأقل لأجل تحقُّق ذلك؛ إذ نرى في كتابات المحقِّق ومَن جاء بعده تطوُّراً ملموساً وتميُّزاً على كتابات الشيخ الطوسي من هذه الجهة.

____________________

(١) مقدّمة جامع المقاصد ١:١٧.

(٢) مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٨٢.

٢١٥

المنهج الاجتهادي في الدور الثالث: دور الاستقلال .

قد ذكرنا أنَّ رائد هذا الدور هو المحقِّق الحلِّي (قدس سره)، وقد حفلت هذه الفترة بالكثير من كبار فقهاء الشيعة، وقد نلمس آثار المنهج الفقهي المتَّبع في هذه المرحلة في عدَّة نقاط:

أ. إنّ أهمَّ ظاهرة في هذه المرحلة ترتبط بالمحتوى الفقهي، وهي اجتناب حالة المحاكاة التي كنّا قد لاحظناها في المرحلة السابقة؛ وذلك لأنَّ بداية انطلاق الفقهاء نحو التوسُّع في الفقه الاستدلالي والتفريعي، ومحاولة إثبات سعة الفقه الشيعي، بل تفوُّقه على الفقه الآخر كانت بطبيعة الحال تعتمد على شيء من المحاكاة في عناوين المباحث وأدلتها، بما يتناسب مع الاتجاه الأُصولي الشيعي، فالمقارنة الصريحة أو غير الصريحة كانت تستدعي اجترار بعض الفتاوى والأدلة لا محالة (١) .

وحينما أخذ الفقه الشيعي مساره الطبيعي، وبدأ الفقهاء بتنقيح أصول فقههم وأدوات استنباطهم، كان من الطبيعي أن تنعكس النظرة المستقلَّة إلى الفقه الشيعي، والاعتداد بقابليات الفقه الشيعي للتطوُّر والتكامل، وتنقيح الأدوات المستعملة في الميدان الفقهي على النشاط الفقهي الشيعي أولاً، وتنتهي هذه النظرة إلى اجتناب المحاكاة مهما أمكن لا سيما فيما لا اشتراك فيه من الأدوات والمناهـج، وهكذا بدأ النشاط الفقهي والمحتوى الفقهي ينحو باتجاه الاستقلال التام عن التأثر بالفقه غير الشيعي.

وأنتج هذا الاتجاه فقهاً متميزاً بأدواته ومناهجه ومصادره، وعمليات استنباطه ومدوّناته الفقهية، مضموناً وشكلاً معاً.

ب. إنَّ حالة الصحوة لتنقيح التراث الفقهي والأصولي وأدواته ومناهجه ومصادره، قد انعكست على شكل التأليف والتدوين لمسائل علم الفقه أيضاً، بحيث نجد تطوُّراً ملموساً في حقل تنظيم ومنجهة عرض البحوث الفقهية، فمنهج المحقِّق الحلِّي في شرائع الإسلام والمختصر النافع، والعلاّمة في التبصرة والشهيدين في اللمعة والروضة، يعدُّ منهجاً جديداً إذا ما قورن بالنهاية والمبسوط.

____________________

(١) كما يظهر ذلك من تبويب كتاب شرايع الإسلام للمحقِّق الحلّي.

٢١٦

ج. وأثمرت هذه النظرة الاستقلالية للفقه ومستلزماته ظهور موسوعات فقهية استدلالية شتّى، من حيث المستوى العلمي، ومن حيث حجم البحوث الفقهية، وتنوُّع الأبواب واستيعابها لكل مسائل الحياة إلى جانب التنقيح والتهذيب للمباحث الفقهية الموروثة.

د. كما تطوَّر الفقه المقارن ـ الذي كان قد أبدع فيه الطوسي ـ تطوّراً ملموساً، في كيفية العرض والمحتوى معاً، حتى إنَّنا نلاحظ عدَّة مستويات من البحث المقارن، والجديد منها هو الفقه المقارن بين الآراء الإمامية نفسها، كما نجد ذلك في كتاب مختلف الشيعة، وقد كانت لهذه الظاهرة آثار إيجابية على الفقه الإمامي نفسه.

ويمثِّل كلٌّ من تذكرة الفقهاء ومنتهى المطلب تطوّراً ملموساً في مجال الفقه المقارن، ولا سيما إذا قارنَّا كل واحد منهما بالآخر، من حيث المنهج والمحتوى والأسلوب، وهو نشاط متميِّز وفريد للعلاَّمة الحلِّي (قدس سره) في هذا المضمار.

هـ. وتبعاً لتنوُّع الأغراض والأهداف، نلاحظ تنوُّعاً ملموساً في النشاط الفقهي التأليفي، من حيث حجم ومستوى عرض المادة الفقهية، وأعني بالمستوى: المادة الفقهية المجرّدة عـن الاستـدلال، حتى المادة الفقهية المنطوية على أرقى درجات الاستدلال الذي نجده في كل مسألة فقهية، فـالمختصر والتبصرة أصبحا محوراً للتدريس في البحوث الفقهية العليا فيما بعد؛ نظراً لتميّز نصوصهما بالدقَّة والإيجاز والشمول، كما تميّزت نصوص اللمعة الدمشقية، ودخلت حلقات الدرس الفقهي مع المختصر والتبصرة بشكل طبيعي، وبذلك تبلورت كتب التدريس في شتَّى المستويات في حوزاتنا العلمية؛ وذلك لما امتازت به هذه الكتب من خصائص مهمة وفريدة، دعت الفقهاء لاختيارها وإقرارها بشكل طبيعي.

و. إنّ تدوين القواعد الفقهية وإفرادها بالتصنيف بعد استخراجها من بطون المباحث الفقهية، كان خطوة متقدِّمة في حقل النشاط الفقهي بلا ريب، وتمثَّل ذلك بشكل ملموس في القواعد والفوائد ونضد القواعد الفقهية...

ز. إنّ التطوُّر الآخر الذي نلاحظه في هذه المرحلة، هو تطوّر بحوث الفقه المعاملي تطوّراً ملموساً، ويعود ذلك إلى تطوّر البحث الفقهي الذي سببه التطوّر الأُصولي من جهة، وتدوين القواعد الفقهية من جهة أُخرى.

٢١٧

ح. وفي أُخريات هذه المرحلة، وبعد أن اتَّجه أتباع أهل البيت (عليهم السلام) لإقرار حكم إسلامي يعتمد فقه أهل البيت ومنهجهم في الحياة، اشتدّت الحاجة لتدوين فقه الدولة.

وتصدَّى المحقِّق الكركي ـ بعد محاولة الشهيد الأول الرائدة لتدوين فقه الدولة ـ للإشراف على حكومة الدولة الصفوية، وكان هذا عاملاً مهمّاً في اتجاه الفقهاء نحو الاهتمام بقضايا الدولة، والبحث عن الأحكام المتعلِّقة بها ومناقشتها وتنقيحها، وأنتج هذا النشاط التنقيح النظري والتركيز العلمي، لقضية الولاية من قِبل الفقهاء والبحث عن مدى صلاحيَّاتهم.

وتجلَّى هذا النشاط في تأليف مجموعة من الرسائل الفقهية، المرتبطة بقضايا الدولة، كالخراج وصلاة الجمعة وغيرهما.

ط. وقد بلغ الفقه الاستدلالي ذروته في آثار المحقِّق الكركي الفقهية، حيث جسَّدت آثاره الاستدلالية العمق والدقَّة، والابتعاد الكامل عن منهج الفقه غير الإمامي.

ي. ويمثِّل حجم النظريات الحديثة والمبتكرة في مجالي الأُصول والفقه في هذه المرحلة، رفعة المستوى العلمي للمدرسة الفقهية الإمامية، والمسافة الكبيرة التي قطعتها هذه المدرسة، من خلال نشاط عيَّنه فقهائنا في ثلاثة قرون متتالية.

المنهج الاجتهادي في الدور الرابع: دور التطرُّف .

أ. خصائص المنهج العقلي المتطرِّف:

إنّ المحقِّق الأردبيلي، بما كان يتمتَّع به من نبوغ علمي وثقافة فلسفية وعقلية، استطاع أن ينتقد جملة من فتاوى مشهور الفقهاء في العصور المتقدّمة، على صعيد الاستدلال وصناعته.

كما تشدَّد في الأخذ بالروايات من حيث السند والدلالة، أو معارضتها مع روايات أو قواعد أُخرى، ورغم أنّ هذه الطريقة أدَّت إلى إغناء الاستدلال الفقهي الصناعي، وتعميقه فيما بعد، إلاّ أنّها أوجبت وقتئذٍ تحفُّظاً في الاعتماد على الأحاديث والنصوص المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام) والميل نحو الأخذ بالقواعد والأُصول العامَّة أو العقلية، وكذلك التوسُّع في الأخذ بإطلاقات وعمومات القرآن الكريم، ومحاولة تخريج المسائل الفقهية على أساسها.

٢١٨

إنَّ عملية تدوين القواعد الفقهية والاعتماد الكبير على العقل، أدّت إلى الاعتماد الكبير على العمومات والمطلقات، التي شكّلت أُسس التشريع الإسلامي في القرآن الكريم، حيث إنّ القرآن الكريم قطعي الصدور ولا يتطرّق التشكيك إلى سنده، بخلاف أخبار الآحاد الظنيّة الصدور، وقد ظهر هذا الاتجاه من اهتمامٍ بآيات الأحكام في مؤلَّفات المحقِّق الأردبيلي عموماً، وعلى وجه الخصوص في كتاب (زبدة البيان)، الذي حاول فيه تخريج كافّة الأبواب الفقهية على الآيات الشريفة.

وقد ظهر هذا التشدُّد في الأخذ بالروايات واضحاً في منهج تلميذيه، صاحب مدارك الأحكام، وصاحب معالم الدين؛ حيث ذهبا إلى عدم قبول السند إلاَّ إذا تأيّدت عدالة كلِّ راوٍ فيه بشاهدين عدلين، فلم يكتفيا بشهادة العدل الواحد أو خبير رجالي واحد، وهذا منتهى التشدّد والتطرّف في قبول الحديث، ومثال على هذا المنهج المتطرِّف نجد صاحب المعالم يميل ـ في كتابه الأُصولي معالم الدين وملاذ المجتهدين ـ إلى القول بحجيّة مطلق الظن، بعد أن تشدّد في أسانيد الروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام).

والحق أنّ هذا التشدّد والتطرّف في تقويم مصادر التشريع والاستنباط أدّى إلى خسارة عملية الاستنباط لكثير من حِسان الأحاديث وموثَّقاتها وصحاحها، والاكتفاء بالنزر القليل منها، وهو الذي خضع للمعيار الجديد فقط من تأييد الحديث بشاهدين عدلين، ممَّا أدّى إلى تقليص مصادر التشريع، والاكتفاء بالقرآن الكريم والعقل، واضطرَّ أصحاب هذا المنهج إلى منح الظنون قيمة ودوراً مهمّاً، أدَّى إلى الاقتراب من اتِّجاه الأخذ بالرأي والقياس والاستحسان، والذي شجبته الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، وطالما وقفت منه المدرسة الفقهية الإمامية موقف الريبة.

ولم يقف هذا التشدُّد عند السند فحسب، بل انسحب إلى مجال الدلالة وطغت عملية مناقشة دلالات النصوص الروائية والتأمُّل العقلي فيها على عملية الاستدلال.

وكان من الواضح تأثير النشاط الفلسفي لمدرسة إصفهان على الاتجاه العقلي، الذي ساد في هذا الدور (١) .

____________________

(١) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٥: ١٧٠-١٧٢.

٢١٩

تلخيص لأهمِّ الخصائص:

١. الاهتمام بعلم أُصول الفقه واستخدام الصناعة العقلية والفلسفية في إثبات بعض مسائله.

كما يُلاحظ ذلك من مقدِّمة معالم الدين للشيخ حسن بن زين الدين (ت ١٠١١هـ) والوافية للفاضل التوني (ت ١٠٧١هـ).

٢. تضييق دائرة حجِّيّة أخبار الآحاد.

٣. التشكيك في قيمة كثير من إجماعات القدماء وآرائهم المشهورة أو المسلّمة، ونقدها صناعياً وعقلياً، والتي اعتمدت كثيراً على الروايات.

٤. الاعتماد على القواعد العقلية والفلسفية في الاستدلال الفقهي.

٥. إعداد الأرضية المناسبة للاتجاه نحو حجيّة مطلق الظنّ، بعد التشدّد في البحوث الرجالية وطُرق توثيق الرواة، الموجب لعدم إمكان إحراز وثاقة جملة منهم بتلك الطريقة المتشدّدة؛ وبالتالي فقد جملة من النصوص (١) .

٦. التوسّع في الاعتماد على العمومات والمطلقات، الواردة في آيات الأحكام أو السنَّـة القطعيـة، وتخريج الفتاوى على أساسها، وطرح ما يخصِّصها أو يقيِّدها من الروايات، نتيجة التشدّد في طريقة التوثيق الرجالي لإسنادها (٢) .

ب. خصائص المنهج الأخباري المتطرّف:

لقد أثَّر التمادي الواضح في الاتجاه العقلي من قِبل جملة من الفقهاء الأُصوليين، إلى حدوث ردَّة فعل طبيعية عند مجموعة أُخرى من الفقهاء، ظهرت على شكل تمادي في قبول الأخبار، والاعتماد عليها بشكل كبير في قبال الاتجاه العقلي، الذي ضيّق فرصة وحقَّ الاعتماد على الكثير من هذه الأحاديث.

____________________

(١) مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦١-٦٢. انظر معالم الدين وملاذ المجتهدين يظهر لك ذلك جليَّاً.

(٢) انظر منهجية كتاب زبدة الأحكام.

٢٢٠