تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه0%

تاريخ الاجتهاد ومناهجه مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 249

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف: علي الزبيدي
تصنيف:

الصفحات: 249
المشاهدات: 95409
تحميل: 11944


توضيحات:

تاريخ الاجتهاد ومناهجه المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 249 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95409 / تحميل: 11944
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف:
العربية

وهكذا تولَّد اتجاه متطرّف معاكس داخل الطائفة في هذا العصر، وهو الاتجاه الفقهي الأخباري، الذي أفرط في الأخذ والعمل بروايات الكتب الأربعة، وإلغاء تصنيفها إلى قوي وضعيف، أو صحيح وحسن وموثّق وضعيف، بل تعدَّى بعضهم إلى الاعتقاد بقطعية صدور كل ما جاء في الكتب الأربعة من الروايات، ووضوح دلالتها، بل تمادى بعضهم فذهب إلى عدم حجِّيّة الظواهر القرآنيـة، إذا لم يرد تفسير لها في الروايات.

كما أفرط هذا الاتجاه في الحطِّ من قيمة الدليل العقلي , فذهب إلى عدم حجِّيّة الاستدلالات العقلية والفلسفية في إثبات الأحكام مهما كانت برهانيّة.

وقام الاتجاه الأخباري بمناقشة جملة من المباحث الأُصولية، وإلغاء مجموعة من النظريات التي اعتمدها جملة من الفقهاء الأُصوليين، مثل حجيّة الإجماع وحجيّة الكتاب.

وقد ظهر في داخل هذا التيَّار خطٌّ معتدل، مقابل الخطِّ الذي تبنَّى الإفراط في قبول الأحاديث، والتفريط في الاعتماد على العقل والكتاب الكريم.

وكان لاعتدال هذا الخطِّ الداخلي في تيَّار الأخباريين، وتقواهم وتورّعهم وانصياعهم للحق ـ إضافة للجهود التي بذلها المحقِّق البهبهاني ـ الفضل الكبير في القضاء على التطرّف في هذا الخطِّ وعقلنته، إن لم نقل القضاء عليه كلِّياً.

وقد مثَّل الاتجاه الأخباري علماء منهم:

١. الأمين الإسترآبادي (ت ١٠٣٣هـ)، وكان متطرِّفاً متشدّداً في هذا الاتجاه.

٢. الفيض الكاشاني (ت ١٠٩١هـ).

٣. الحرّ العاملي (ت ١١٠٤هـ).

٤. العلاّمة المجلسي (ت ١١١١هـ).

وقد قام هؤلاء الثلاثة الأواخر بجمع الروايات المنقولة في كتُب المتقدّمين، ضمن مجاميع حديثية ضخمة هي:

١ ـ الوافي.

٢ ـ وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة.

٢٢١

٣ ـ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (عليهم السلام).

فقدّموا في هذا المجال خدمة كبيرة للمذهب.

ومثّل المحدِّث البحراني ـ صاحب كتاب الحدائق الناضرة (ت ١١٨٦هـ) الذي كان فقيهاً منصفاً محقِّقاً ورعاً ـ (قدس سره) باعتداله وتوسّعه، ورجوعه عن جملة من متبنّيات الأخباريين نهاية التطرّف الأخباري، والذي أدَّى إلى خمود ضراوة تلك الحركة (١) .

أهمُّ خصائص المنهج الأخباري المتطرّف:

١. عدم اعتماد الأدلّة العقلية والفلسفية في مجال الاستنباط والاجتهاد الفقهي , واعتبارها كاجتهاد الرأي ملغاة في فقه أهل البيت (عليهم السلام) (٢) .

الحقّ أنّ كلمات الأخباريين مضطربة ومختلفة، في أمر اعتماد العنصر العقلي في الاجتهاد، حتى إنّ المحقِّق الخراساني (رحمه الله) استقرب في كتاب (كفاية الأُصول) أن يكون مقصود الأخباريين واحداً من اثنين: أحدهما كبروي، والآخر صغروي، أمّا الأمر الكبروي فهو منع الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي (بين ما يجب بالعقل وما يجب بالشرع)، وأمّا الأمر الصغروي فهو التشكيك في إمكان الوصول إلى نتائج قطعيَّة من المقدِّمات العقليّة، وأنّ نتائج المقدِّمات العقليّة لا تزيد على أن تكون أحكاماً ظنِّيّة (٣) .

ويعتقد المحقِّق الخراساني أنّ كلمات الأخباريين ـ ولا سيّما في كتاب (الفوائد المدنيّة) ـ لا تفقد الدليل على وجود مثل هذا الاتّجاه السلبي تجاه العقل.

ولو أنّ علماء الأخباريين كانوا يستوعبون الموقف السائد في المدرسة الأُصوليّة، في التفريق بين الظنّ والرأي الذي لا يُغني عن الحقّ من جانب، وبين (حكم العقل) القطعي من جانب آخر، لما سلكوا هذا المسلك العسير من الرأي.

____________________

(١) مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

(٢) نفس المصدر.

(٣) راجع كفاية الأصول.

٢٢٢

فإنّ الحجّة عند الأُصوليّين، هي الدليل الذي يثبت متعلّقه ثبوتاً قطعيّاً، سواء كانت حجيّته ذاتيّة وهو القطع (العلم)، أم كانت حجِّيّته عرضيّة وهي الطرق والإمارات التي تثبت حجيّتها بدليل قطعي، وحجيّة القطع ذاتيّة لا يمكن أن تناله يد التشريع لا سلباً ولا إيجاباً؛ فإنّ القطع هو انكشاف المقطوع به للقاطع، وما كان كذلك كانت الحجِّيّة حاصلة له بالذات، ولا معنى لتحصيل ما هو حاصل بالذات، كما لا معنى لسلبها.

وأمّا الإمارات والطُرق الظنيّة، فإنّ حجّيّتها تؤول ـ أخيراً ـ إلى ما يكون حجّة بالذات؛ أخذاً بالقاعدة العقليّة المعروفة القائلة: (إنّ كلّ ما بالعرض لابُدّ أن ينتهي إلى ما بالذات).

ومن لوازم الحجيّة العقلية المنجزيّة والمعذريّة، فيحكم العقل بحسن عقاب العبد على تقدير مخالفة الحجّة إذا أصابت الحجّة الواقع، كما يحكم بقبح عقابه (وإعذاره) على تقدير موافقـة الحجّـة، أصابت الحجّة الواقع أم لا، وهذه القضايا من بديهيّات علم الأُصول.

ولا سبيل للنقاش في شيء من ذلك، والأدّلة العقليّة قائمة على هذه البديهيّة، وأمّا الرأي الذي يستند الظنّ ولا يستند حجّة ذاتيّة أو حجّة مجعولة من قِبل الشارع قطعاً، فلا شأن له في الاستنباط.

ولو أنّ الأخباريين كانوا يستوعبون هذه البديهيّة في الحجيّة، لما حدث هذا الصدع في الإجتهاد، ولما تجاوز الخلاف بينهم وبين الأُصوليّين الخلاف الصغروي في قيام الحجّة وعدمها، لا التشكيك في أصل حجِّية الأحكام العقليّة وملازمتها في الشرع في فرض وقوعها وحصولها.

وهذه هي النقطة الجوهريّة في الخلاف بين الأخباريين والأُصوليّين (١) .

٢.التوسّع في الأخذ بالأخبار المأثورة في أُصولنا ومجاميعنا الحديثية، واعتبارها جميعاً قطعية أو معتبرة، فلا حاجة للبحوث الرجالية ولا الأُصولية في حجيّة الأخبار (٢) .

يذهب الأخباريون إلى قطعيّة صدور كلّ ما ورد في الكتب الحديثّية الأربعة من الروايات، لاهتمام أصحابها بتدوين الروايات التي يمكن العمل والاحتجاج بها، وعليه فلا يحتاج الفقيه إلى البحث عن

____________________

(١) دور الوحيد البهبهاني في تجديد علم الأصول، محمد مهدي الآصفي/ مجلَّة الفكر الإسلامي ١:٦٠-٦١.

(٢) مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

٢٢٣

أسناد الروايات الواردة في الكتب الأربعة، ويصحُّ له التمسّك بما ورد فيها من الأحاديث، وهذا هو رأي المدرسة الأخباريّة (١) .

٣. إنكار حجيّة الإجماع، واعتباره مصدراً من مصادر التشريع في فقه العامّة (٢) .

٤. إنكار حجيّة الظواهر القرآنية فيما يرجع إلى آيات الأحكام، فقد توقّف الأخباريّون عن العمل بالقرآن، ما لم يرد فيه إيضاح من الحديث؛ وذلك لطروء مخصِّصات ومقيّدات من السنّة لعموماته ومطلقاته، ولِما ورد من الأحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي (٣) .

٥. لزوم الاحتياط والاجتناب في الشبهة التحريمية عند فقدِ الدليل على الإباحة أو الحرمة، بل نسب إلى الأمين الإسترآبادي القول بذلك في مطلق الشبُهات حتى الوجوبية (٤) .

٦. إلغاء الاجتهاد والتقليد ووجوب الرجوع ابتداءً إلى الأحاديث الصادرة عن المعصومين.

وهذا ما ذهب إليه المتطرِّفون من الأخباريين، ورجع عنه علماؤهم المحقِّقون كالمحدِّث البحراني صاحب الحدائق (قدس سره) (ت١١٨٦هـ)، والشيخ حسين آل عصفور (قدس سره) (ت ١٢١٦هـ) (٥) .

المنهج الاجتهادي في الدور الخامس: دور الاعتدال .

طرأ على علم الأُصول تطوّر واتِّساع في مسائله، وفي أنحاء الاستدلال وفي تقسيم أبحاثه، وقد قسِّمت مباحثه إلى:

أ. مباحث الألفاظ.

ب. مباحث الأدلّة العقلية.

وأيضاً، قسّمت الأدلّة إلى:

____________________

(١) دور الوحيد البهبهاني في تجديد علم الأصول، محمد مهدي الآصفي/ مجلَّة الفكر الإسلامي ١:٦١-٦٢.

(٢) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٥: ١٧٥. والمصدر السابق ١:٦٠-٦١. مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

(٣) للتوسُّع يراجع كتاب مصادر الاستنباط بين الأصوليين والأخباريين، لمحمد عبد الحسن الغراوي: ٧٩.

(٤) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٥: ١٧٥. دور الوحيد البهبهاني في تجديد علم الأصول، محمد مهدي الآصفي/ مجلَّة الفكر الإسلامي ١:٦٠-٦١. مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

(٥) مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

٢٢٤

أ. الأدلّة الاجتهادية، والتي تدلّ على الحكم الشرعي الواقعي، وتثبته إثباتاً قطعيّاً أو تعبُّديّاً.

ب. الأدلّة الفقاهتية، التي لا تثبت الحكم الشرعي الواقعي ولا تشخِّصه، وإنّما تقرِّر الوظيفة العملية تجاه الحكم الواقعي المشتبه، فإنّ هذه الفكرة التي هي اليوم من مسلّمات أُصول الفقه الشيعي من مبتكرات المنهج الفقهي للوحيد (قدس سره).

وتوسَّع البحث فيها عن جملة من الأُصول العملية الشرعية، كأصل البراءة الشرعية في الشبهات الوجوبية والتحريمية ـ وقد منعها الأخباري ـ وأصل الاستصحاب في موارد اليقين السابق، وأصل الاحتياط في موارد العلم الإجمالي أو الشك في الامتثال.

واعتدل منهج الفقه الإمامي على يد الوحيد البهبهاني , ووجد مساره الأصيل المستقل عن المناهج الفقهية الأُخرى، وعمَّا كان يُثار بوجهه من الغبار والشبهات المتطرّفة (١) .

لقد أسفرت جهود الوحيد البهبهاني عن ظهور مدرسة جديدة، في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، حيث جمعت ‏بين العقل والنقل وأعطت لكلٍّ منهما دوره ومجاله، ولم تتطرّف لأحدهما على حساب الآخر؛ ومن هنا ميّزت هذه ‏المدرسة بين الأمارات الكاشفة عن الحكم الشرعي، وبين الأُصول العملية أوّلاً كما مرّ، كما ميّزت بين العقل قطعي‏ والإمارات الظنيّة من جهة، وبين أنواع الأُصول العملية نفسها من جهة ثالثة، بعد أن كانت شبهات الأخباريين ضدَّ العقل وقواعد علم الأُصول قد فتحت المجال لعلماء الأُصول؛ لإعادة النظر في الأُسس والمباني التي أُرسيت عليها دعائم هذا العلم من جهة، وإعادة الصياغة‏ والعرض للأفكار والقواعد الأُصولية من جهة أُخرى.

فكانت ولادة ‏جديدة لعلم الأُصول، وبداية لعصر الكمال حيث حدَّدت معالمه واتَّسعت آفاقه، وانعكست هذه الولادة على ‏مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع تطويراً وتعميقاً، من خلال جهود أقطاب مدرسة الوحيد، الذين واصلوا عمل‏ رائدهم حوالي نصف قرن أو أكثر، حتى استكملت هذه المرحلة خصائصها العامة (٢) .

____________________

(١) راجع النقطة الخامسة من أهمِّ ملامح الدور الخامس دور الاعتدال.

(٢) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٦: ١٥٥.

٢٢٥

وهكذا استعادت المدرسة الفقهية الإمامية منهجها القويم، الذي انتهجه كبار علمائنا بعد عصر الغيبة ـ والمستمد من كلمات أهل البيت (عليهم السلام) ـ وهو الاعتماد على العقل والنقل في استنباط الأحكام الشرعية، وقد فتح الصراع المرير، الذي ابتُليت به الطائفة بين الخطِّ الأخباري المتشدّد والخطِّ الأُصولي، آفاقاً واسعة لتطوّر عملية الاجتهاد.

المنهج الاجتهادي في الدور السادس: دور الكمال والنضج .

١. تطوّر علم أُصول الفقه تطوّراً جوهرياً عمَّا كانت عليه بحوثه ومسائله قبل ذلك.

فأوّلاً: هُذِّبت مسائله عن البحوث المرتبطة بعلوم أُخرى، كانت قد دخلت في هذا العلم بشكل استطرادي , فاختلطت مع بحوثه وأصبحت بالتدريج من مسائله أو أدلّته، وهي بحوث كلامية أو أدبية أو فقهية أجنبية عن طبيعة البحث الأُصولي (١) .

وثانياً: اتّضحت طبيعة المسألة الأُصولية وتعريفها الدقيق وميزانها الفنِّي , ومكانة المسألة الأُصولية ودورها العملي في الفقه واستنباط الحكم من أدلّته التفصيلية، حيث اتّضح أنّه العلم بالأدلّة المشتركة للفقه والتي لا تختص بباب دون باب، سواء كانت الدليلية لفظيّة أم شرعيّة أم عقليّة، فأصبح علم الأُصول بمثابة منطق الفقه، الذي له طبيعته المختصّة به وأُسلوبه المتميّز عن سائر العلوم في الموضوع والغاية، وفي منهج الاستدلال والبحث، وليست مجموعة مسائل مقتبسة من هنا وهناك كما كان يُتوهَّم سابقاً.

وثالثاً: قُسِّمت مسائل علم الأُصول تقسيماً فنِّياً وجامعاً، والتقسيم السائد اليوم كما يلي:

أ. مباحث الألفاظ: ويُبحث فيها عن دلالات الألفاظ وأقسامها، وبعض المواد أو الهيئـات العامّـة، التي تقع في الخطابات الشرعية، ويحتاج الفقيه إلى تحديد مدلولها، كالأمر والنهي، وأدوات المفهوم والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد ونحو ذلك.

____________________

(١) راجع نظرة في تطوّر علم الأصول: ٦٤-٦٥.

٢٢٦

ب. مباحث الاستلزامات العقلية: ويُبحث فيها عن علاقات الاستلزام أو التمانع بين الأحكام، كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته أو حرمة ضدِّه، أو امتناع اجتماع الأمر والنهي , أو الأمر بالضدَّين، أو اقتضاء حرمة عبادة أو معاملة لفسادها، ونحو ذلك.

وتنقيح هذه العلاقات وتحديدها يؤثّر في عملية الاستنباط كثيراً، حيث يشخِّص الدلالات الالتزامية للخطابات الشرعية، كما ينقِّح مدى التنافي والتعارض فيما بينها، وما يترتَّب على ذلك من نتائج فقهية مهمَّة.

ج. مباحث الحجج والأمارات (الأدلّة الاجتهادية): ويُبحث فيها عمَّا يُثبت الحكم الشرعي الواقعي إثباتاً وجدانياً (قطعياً) أو تعبدياً (شرعياً)، ويدخل في هذا القسم البحث عن الإجماع، والشهرة، والسيرة العقلائية والمتشرعية، والظنون المعتبرة شرعاً، كالظهورات وخبر الواحد.

ويُبحث في مقدّمة هذا القسم عن بحوث تمهيدية في غاية الأهمِّية والخطورة، كالبحث عن حجيّة القطع، والفرق بين الحجيّة الذاتية والحجيّة التعبُّدية، وحكم الشكّ في الحجيّة، وحقيقة الحجيّة التعبّدية المعبَّر عنها بالحكم الظاهري، وكيفية اجتماعه مع الحكم الواقعي , وأنواع الحجج والأدلّة، وانقسامها إلى أمارات (أدلّة اجتهادية) أو أُصول عملية (أدلّة فقاهتية)، والفرق بينها وأقسامها.

وقد تطوَّرت هذه البحوث واستُحدثت فيها نظريات جديدة واصطلاحات حديثة، وعلى أساس منها ارتفع الكثير من اللَّبس والاشتباه، الذي كان يقع قبل ذلك في فَهْم الأدلّة أو استخدامها، نتيجة عدم تنقيح هذه البحوث.

د. مباحث الأُصول العملية (الأدلّة الفقاهتية): ويُبحث فيها عن الوظائف المقرَّرة شرعاً أو عقلاً للمكلف عند الشك في التكليف، من استصحاب أو براءة، أو احتياط أو تخيير، وقد توسّع البحث عن هذه الأُصول العملية وأقسامها، ومواردها وأدلّتها، وشروطها والنِسب والعلاقات فيما بينها من ناحية، وبينها وبين الأمارات من ناحية أُخرى، وهي بحوث جليلة وبديعة، فتحت أبواباً جديدة وأنماطاً لم تكن معهودة سابقاً من الاستدلال الفقهي.

هـ. مباحث تعارض الأدلّة: ويبحث فيها عن التعارض بين الأدلّة وما يفترق به عن التزاحم ـ وهو باب ومصطلح استُحدث أخيراً في علم الأُصول ـ وانقسامه إلى:

٢٢٧

١. التعارض غير المستقرِّ، الذي يمكن فيه الجمع العرفي , فيُبحث عن قواعد هذا الجمع.

٢. التعارض المستقرُّ، الذي لا يمكن فيه الجمع العرفي , ويبحث عن أقسامه، ووقوعه تارة بين دليلين قطعيين سنداً، وأُخرى بين دليل قطعي وآخر ظنّي معتبر ـ خبر الثقة ـ وثالثة بين خبرين.

وأحكام كل قسم من هذه الأقسام، من حيث الترجيح، أو التخيير، أو التساقط، وهي أيضاً بحوث مهمَّة يحتاج إليها الفقيه في أكثر الفروع والأبواب الفقهية.

والحقّ، أنّ ما أنجزته المدرسة الأُصولية في الفقه الإمامي من التطوير والتجديد، قد بلغ حدّاً يمكن اعتباره ولادة جديدة لعلم الأُصول في المادّة والصورة والمنهج، يختلف عمّا كان عليه قبل ذلك.

ومنهج البحث في هذا العلم اليوم ـ وإن كان فنياً ودقيقاً ـ إلاّ أنّه ليس عقلياً كما توهَّمه الأخباريون، وخلطوا بينه وبين إعمال العقل في استنباط الأحكام، فضلاً عن كونه إعمالاً للرأي، من قياس أو استحسان، فإنّ الفنِّيّة والدقَّة في فهم الأدلّة الشرعية وتعريفها وتنويعها، وتشخيص العلاقة فيما بينها ولوازمها وآثارها، والتدقيق في تطبيقاتها منهج علمي متَّبع في علم الفقه أيضاً.

ومن دونه لا تكون عملية الاستنباط واكتشاف الحكم من الكتاب والسنّة سليمة ولا دقيقة، بل يكون الاستنباط سطحياً وفي معرض الأخطاء والأخطار، وهذا المنهج هو الذي أمرنا به الشرع المقدَّس، في جملة من الروايات والتعليمات الصادرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث حرَّضت على التدقيق والتعمّق في فهم النصوص ودلالاتها، وتفريع الفروع والتشقيقات، وردّها إلى أصولها وقواعدها العامّة، وهذا هو الذي يقع بشكل فنِّي وعلمي دقيق في المناهج الأُصولية والفقهيـة، ويمكن القول: إنّ المنهجة المميَّزة في بحوث علم الأُصول، هي التي جعلت شيخنا الأعظم عملاق هذه المرحلة، بالرغم من تتابع المحقِّقين والنوابغ الذين انتهلوا من نمير علمه، ونشأوا في أجواء مدرسته الأُصولية الفريدة (١) .

٢. تطوُّر صناعة الاستدلال الفقهي من حيث المضمون ومنهج الفقاهة والاستدلال، فمن ناحية اتَّسعت آفاق البحث في كل مسألة، فشملت أدقَّ التفريعات والشقوق والتقادير المتصوَّرة فيها،

____________________

(١) راجع مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٧:١٧٤-١٧٩. ومقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي.

٢٢٨

كما شملت جميع الأقوال والوجوه التي قيلت أو يمكن أن تُقال في المسألة، فتنامت البحوث الفقهية وازداد حجمها وحجم الاستدلالات فيها، خلال حركة الاجتهاد المفتوح بابها عبر مئات السنين إلى عصرنا الحاضر، وكم سمعنا من أساتذتنا المجتهدين ـ حفظهم الله ـ عبارات الانبهار والإعجاب بشموليَّة وسعة تناول الشيخ الأنصاري (قدس سره) للأدلة الداخلة في بحث مسألة معيَّنة؛ حيث لا يغادر شاردة ولا واردة يمكن الاستفادة منها في بحث المسألة واستنباط الحكم الشرعي إلاّ أتى بها.

(وقد صرّح بعض الأساتذة، بأنَّك لا تجد رأياً جديداً بعد عصر الشيخ إلاّ وتجد جذور ذلك الفكر والرأي في بحوث الشيخ نفسه) (١) .

ومن ناحية أُخرى، امتازت عملية الفقاهة في هذا الدور بالاستفادة من المنهج الأُصولي وما أُنجز فيه من تطوّر وعمق، فانعكس ذلك على صعيد الفقه، فأُضفي على بحوثه المتانة والمنهجية والتجديد، بل طبع الشيخ الأعظم بحوثه الفقهية بسمة الانسجام الفكري الأُصولي، والذي يظهر للمتعمِّق في دراسة هذه البحوث، على خلاف النظرة الأوّلية التي يُلاحظ منها أُسلوب الكرِّ والفرِّ.

وإذا كان السلف من الفقهاء حين يدخلون مجال البحث الفقهي يغفلون عن أنّهم أصحاب مبانٍ أصوليـة، فإنّ الشيخ الأعظم تجده أصولياً بارعاً حين يقف على مشارف البحث الفقهي , ولا يكاد ينسى أنّه صاحب مدرسة أُصولية متكاملة، لا يمكن للبحث الفقهي أن يقف على جانب منها، وقد انعكست هذه الميزة على جميع بحوثه الفقهية، وانتقلت إلى تلامذته ومَن تلاهم حتى يومنا هذا.

وقد أصبح لكلّ قسم من أقسام الفقه منهجه المتميِّز والخاص به، فمنهج الاستدلال والبحث في فقه العبادات يختلف عن منهج فقه المعاملات، من حيث نوع الأدلّة المتوفّرة في كلٍّ منهما، ففي العبادات تتوفَّر النصوص والروايات الخاصة، بخلاف العقود والإيقاعات، حيث يستند فيها غالباً إلى العمومات والقواعد الثابتة بها أو بسيرة العقلاء.

كما أنّ طبيعة المناقشات والاستدلالات في فقه العبادات تختلف عنها في المعاملات، وكذلك القواعد والأحكام العامّة التي يُرجَع إليها في العبادات تختلف عنها في العقود والإيقاعات، إلى غير

____________________

(١) مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٧: ١٧٧.

٢٢٩

ذلك من الجهات، التي أصبحت اليوم متمايزة ومتَّبعة في مناهج الاستدلال في الأبواب الفقهية الرئيسة، ممّا لم تكن بهذا الوضوح والتمايز والمنهجية في أيِّ عصر مضى، رغم الجهود الجبَّارة والفتوحات العلمية الكبيرة التي قام بها فقهاؤنا المتقدّمون في تطوير علوم الشريعة.

٣. ومن جملة ما يتميَّز به منهج الاستدلال الفقهي المعاصر، هو تقنين عملية الاستدلال بالأدلة اللبِّيّة، المتمثّلة في الإجماعات والشهرات، والسيرة العقلائية أو المتشرعيّة، فإنَّ هذه العناوين وإن لم تكن حجّة شرعية بعناوينها الذاتية، ولكنّها يمكن أن تكشف في بعض الأحيان عمّا هو دليل شرعي على الحكم، أو تؤثِّر سلباً أو إيجاباً على دليلية دليل شرعي , فيكون مؤثِّراً في النتيجة الفقهية المستنبطة.

فبالنسبة للإجماعات والشهرات، إذا كانت من قِبل قدماء الأصحاب، يمكن أن تكشف عن وجود موقف شرعي متسالم عليه في عصر الأئمة عند المتشرعية أو عند أصحـاب الأئمـة (عليهم السلام)، أو يكشف عن وجود سُنَّة غير واصلة إلينا في تلك المسألة، كما يمكن أن تؤثّر في الكشف عن خلل ونقص في بعض شروط حجيّة الرواية المعتبرة بحسب ظاهرها، أو تؤثّر في فهمٍ أدقِّ وقراءة أصحِّ من النص المعتبر الذي يستند إليه، وقد نقَّحت في البحوث الأُصولية والفقهية الحالات والشروط التي يتمَّ فيها أحد هذه الأُمور.

وبالنسبة للسيرة العقلائية أو المتشرعية، تعرَّض الفقهاء إلى توضيح أنحاء الاستدلال بها، سواء في مجال استكشاف كبرى الحكم الشرعي ـ وقد بحثوا شروط ذلك مفصّلاً في أُصول الفقه ـ أمْ استكشاف دلالة بالسيرة في دليل لفظي أو غير لفظي , أمْ تشخيص شرط ارتكازي منها يحقِّق موضوعاً لقاعدة أُخرى، وحكم شرعي ثابت كما في اكتشاف الشروط الضمنيّة، كشرط السلامة وعدم الغبن في عقود المعاوضة، أم استكشاف ما هو المضمون الإنشائي المقرَّر في كل عقد بالسيرة والارتكازات العرفية والعقلائية، إلى غير ذلك من الأُمور.

٢٣٠

فهذه أنحاء من الاستدلال والاستعانة بالسيرة، دخلت في مناهج البحث والاستدلال الفقهي المعاصر، ولم تكن بهذه المثابة سابقاً (١) .

٤. تطوّر بحوث علم الرجال، وظهور نظريات جديدة فيه للتوثيق أو التأكُّد من وثاقة الراوي؛ وبالتالي صحة أسانيد الروايات، وقد تبلورت من خلال ذلك قواعد رجالية عامّة للتوثيق لم تكن معروفة سابقاً، كما أنّه حصلت دراسات مُتقنة وموسَّعة استقرائية لتتبُّع قرائن وشواهد تاريخية أو رجالية، لم تطرح في المدوَّنات الرجالية السابقة، يمكن على أساسها توثيق جملة من الرواة، أو تشخيصهم، أو تشخيص طبقتهم، أو مذهبهم وحالهم، أو غير ذلك من الأمور التي تُفيد في مجال الأخذ برواية أو طرحها، وقد صُنِّفت في ذلك مؤلّفات ومعاجم حديثية تفوق في حجم المعلومات ودقَّتها ما في المصنَّفات الرجالية السابقة.

٥. ومن حيث المادة الفقهية ـ أيضاً ـ انفتح الفقه الاستدلالي على الأفكار والنظريات الحديثة في الفقه الوضعي وغيره، فاستجدَّت موضوعات فقهية مستحدثة عالجها الفقه الإمامي معالجة استدلالية وعلمية، وقد يستلزم ذلك استعراض النظريات الأُخرى والتعرّض لمبانيها وأدلتها؛ من أجل نقدها ومناقشتها، أو تخريج ما يمكن قبوله منها على أساس المنهج الفقهي؛ فنجمت عن ذلك بحوث فقهية مقارنة حديثة، وقد ساعد على ذلك انفتاح باب الاجتهاد لدى الشيعة، واستمرار حركة التجديد فيه؛ حيث تحدَّد وتأصَّل المنهج الفقهي الصحيح، وتشخَّصت معالمه الثابتة والمتغيِّرة، ممَّا وفَّر للفقه الشيعي القدرة على استيعاب كل المسائل المستحدثة ومعالجتها، واستخراج أحكامها من الأدلّة الشرعية، ثمّ وضع النظريات والنُظم الإسلامية من خلالها، دون انسداد في الاجتهاد والاستنباط، ودون تجاوز للمنهج الفقهي السليم.

٦. ومن أهمِّ امتيازات هذا الدور ـ أيضاً ـ اهتمام الفقهاء بشؤون الأُمّة وحاجات الناس الدينية والفقهية وتطبيق الشريعة فيها، فمن ناحية اهتمَّ الفقهاء بربط الأمّة بالشريعة، عن طريق التقليد وإرجاع الناس إلى الفقهاء والمراجع العظام، وتنظيم جهاز المرجعية الدينية وتقويته وتشييد الحوزات العلمية

____________________

(١) راجع مراحل تطوُّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٧: ١٧٤ ـ ١٧٩. ومقدمة موسوعة الفقه الإسلامي.

٢٣١

وتربية العلماء والمبلّغين فيها، ونشرهم في أرجاء البلاد ونصب الوكلاء فيها، وجباية الأموال والحقوق الشرعية وإيصالها للمرجعية الدينية، والتصدِّي لما يمكن حلُّه من مشكلاتهـم، وفصل خصوماتهم وتيسير أُمورهم بالطُرق الشرعية، فكان ذلك تطوُّراً اجتماعياً خطيراً، وتجسيداً بديعاً لفكرة النيابة العامَّة عن الإمام المعصوم (عليه السلام) في عصر الغَيبة.

٢٣٢

نظرة سريعة لتأثير الظروف السياسية والاجتماعية في تطوُّر حركة الاجتهاد:

تطوَّر الفقه واتَّسع من حيث البيان والتدوين، واتّساع شمول كلِّياته لمصاديقه ومِلاكاته، وبعبارة أُخرى: أنّ هذا التطوُّر حدث بلحاظ دليل الكشف لا المنكشف؛ لأنّه مرتبط بواقع الحياة ارتباطاً وثيقاً، يعالج الوقائع والحوادث الداخلية والخارجية، وله ارتباط بأفعال المكلّفين التي تتغيَّر طبيعياً مع تغيُّر الزمن وتطوّر الحياة، فكان لزاماً على الاجتهاد أن يواكب هذا التغيّر والتطوُّر.

ولا يمكن لأيِّ باحث أن يغفل تأثير الظرف السياسي والاجتماعي على الاجتهاد سلباً أو إيجاباً، فخلال المدَّة الزمنية الممتدَّة منذ بداية ونشوء الاجتهاد حتى وصوله لدور الكمال والنضج، المتمثّل بعصرنا الحاضر، كان النتاج الفقهي ـ سواء على صعيد البحث أم التدوين أم المنهجة ـ متأثراً بشكل أو بآخر بما يُحيط به من ظروف وأحداث، حاله حال العلوم الأُخرى، إن لم يكن أكثر لارتباط الفقه والاجتهاد بحياة الناس فرداً أو جماعةً.

ومن أمثلة ذلك: حينما عاش المكلّفون في بيئة تعتمد على الآبار في سقي زروعها، ومرافق حياتها الأُخرى، نجد أنّ مسألة تطهير البئر تأخذ حيّزاً كبيراً ومساحة يعتدُّ بها في أفكار الفقهاء والمجتهدين وتدويناتهم وبحثهم، كما نلاحظ ذلك في كتاب الشرايع للمحقِّق الحلِّي (قدس سره).

وبتطوّر الزمن واعتماد الفقهاء على مبانٍ جديدة لم تكن عند من سبقهم، أو وسائل حديثة لكشف مواضيع الأحكام، نرى أنّ مسألة تطهير البئر انحسرت مساحة بحثها في تأليفات فقهائنا المعاصريـن، إن لم تنقرض.

وعندما يتعرّض المذهب للنقد من قِبل فقهاء الجمهور، ينبري فقهاؤنا للردِّ وكتابة المسائل الخلافية، فينشط الفقه المقارن في فترة من الفترات، بتأثير العامل البيئي أو الاجتماعي.

كما حصل للشيخ المفيد والمرتضى والطوسي، حيث عاشوا في بغداد مركز الخلافة آنذاك، وهي تعجّ بالفقهاء من كلّ المذاهب.

٢٣٣

وحينما يستدعى الفقيه من قِبل السلطان؛ ليؤسِّس لقانون فقهي يتكفّل معاملات الناس وحلّ الخصومات بينهم، نرى أنّ فقه الدولة ينشط وتؤلّف الكتب المتسلسة في فقه المعاملات والقضاء وأمور الإدارات، وهذا ما لمسناه من عصر المحقِّق الكركي (رحمه الله) حين عاصر ملوك الدولة الصفويّة.

وعندما كان الفقه الإمامي يعيش حالة العزلة للظروف السياسية، التي اقتضت أن تعيش الطائفة الشيعية في كفّة الخطِّ المعارض للسياسات الحاكمة الجائرة، نرى أنّ البحوث الفقهية والمسائل الاجتهادية تضيق فتنصبُّ على فعل المكلّف، وتنظر من لحاظه، وتسير حسب الحاجة التي يبتلي بها المكلّف، بينما نراها تتَّسع لتنظر من منظار أوسع هو حاجة المجتمع لا المكلف منفرداً، حينما تقوم للدين دولة وتتبلور حاجة المجتمع لتنظيم علاقاته وبيان كيفية تعامل الفرد مع الدولة، وهذا ما رأيناه في زمننا عند قيام الدولة الإسلامية المباركة في إيران.

فلا يمكن لأحد أن ينفي تأثير الظروف السياسية والاجتماعية على سير حركة الاجتهاد ونتاجها، فالفقه والفقهاء لا يمكن أن يعيشوا بمعزل عن ما يُحيط بهم من ظروف.

وإلى الآن تمثُل في الذاكرة تلك المواقف المشرقة، التي اتَّخذها فقهاء الطائفة بوجه الحكومات الاستعمارية والمستبدَّة.

لقد تصدَّى الفقهاء لمواجهة الحضارة الغربية ومعطياتها، التي بدأت تغزو العالم الإسلامي، وتستعمر بلاد المسلمين، وتسيطر على ثرواتهم ونفوسهم، وتفسد أنظمتهم وحكوماتهم، فكان لابدَّ للفكر الديني والفقهي أن يواجه هذا المدَّ الحضاري الكافر، وأن ينفتح على قضايا ومشاكل جديدة فكريَّة وقانونية، وسياسية بدأت تدخل بلاد الإسلام، فيُعطي فيها موقفاً شرعياً واضحاً، وعلاجاً عملياً مقنعاً.

وقد تصدَّى جملة من الفقهاء العظام في هذا العصر لأداء هذا الدور الرسالي , فظهرت دراسات علمية ومؤلَّفات معمَّقة وبديعة، في الاقتصاد الإسلامي، والفلسفة الإسلامية والفقه السياسي، ونظرية الحكم في الإسلام وغير ذلك.

كما صدرت ممارسات ميدانية من قِبل المرجعية الدينية للتصدِّي للكفَّار، ومواجهة النفوذ الاستعماري الغربي، وتعبئة طاقات الأمّة ضدَّ المستعمرين، كما نجد ذلك في فتوى الميرزا الشيرازي الكبير بتحريم التنباك ضدَّ مطامح الاستعمار البريطاني في إيران في العهد القاجاري , ونجده أيضاً

٢٣٤

في فتوى الشيخ محمّد تقي الشيرازي (قدس سره) ـ تلميذ الميرزا الكبير ـ بالجهاد في العراق ضدَّ الاحتلال البريطاني، والذي اشترك فيه الفقهاء مع الشعب في الجهاد ضدَّ الانجليز، وموقف المحقِّق الخراساني والميرزا النائيني (قدس سره)، وأفكارهم ضدَّ الاستبداد القاجاري، وطرح نظرية الحكم الدستوري الشرعي.

وكان آخر حلقات هذه الجهود الفقهية والسياسية المباركة، موقف المرجعية العُليا في إيران، وعلى رأسهم السيد الإمام الخميني (قدس سره) من الحكم البهلوي الغاشم، العميل للشيطان الأكبر أمريكا، حيث استطاع الإمام أن يستنهض الأمّة ويعبّئ طاقاتها ضدَّه، حتى سقوطه وإقامة حكم إسلامي يعتمد النظرية الفقهية طبقاً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) في الحكم وهي نظرية (ولاية الفقيه)، التي كان قد شرحها وهذَّبها وأوضح معالمها، في بحوثه الفقهية التي ألقاها على تلامذته في النجف الأشرف، ثمّ وفّقه الله سبحانه وتعالى لتطبيقها وتجسيدها وإخراجها إلى النور في إيران الإسلام، فكانت الجمهورية الإسلامية اليوم وما فيها من دستور وقوانين، مستمدَّة من الفقه الإسلامي حصيلتها وثمرة من ثمرات فكر وجهاد هذا الإمام، الذي كان من أبرز فقهاء ومراجع هذا العصر الفقهي الزاهر (١) .

وخلاصة القول: إنّ للظروف الاجتماعية والسياسية أثراً كبيراً وواضحاً على حركة الاجتهاد، وعلى النتاج العلمي المنبثق عنها.

____________________

(١) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٧: ١٧٤-١٧٩، مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٧١-٧٦.

٢٣٥

الخاتمة

مِن خلال ما عُرض يمكن أن نستخلص النتائج التالية:

١. الاجتهاد مأخوذ من الجُهد بالضم، وهو في اللغة بمعنى الطاقة، أومن الجَهد بالفتح وهو في اللغة بمعنى المشقَّة.

والاجتهاد في الاصطلاح: تحصيل الحجَّة على الحكم الشرعي، واستعمل الاجتهاد في المدرسة السنِّيّة بما يرادف القياس، أو إعمال الفكر لتحصيل الحكم الشرعي في حال غياب الدليل عليه من الكتاب والسنّة والإجماع، بينما استُعمل في المدرسة الإمامية بأنّه: استخراج الأحكام من أدلة الشرع.

وبين المعنين المستعملين بَون شاسع.

وقد مرّ مصطلح الاجتهاد بأدوار عدّة، حيث كان يُطلق على بعض الأفعال التي تصدر من بعض الصحابة، ويراد الاعتذار عنهم فيقال: تأوّل فاخطأ. ثمّ صار المصطلح أجتهد فأخطأ، إلى أن وصل إلى معناه الحالي.

٢. بُذلت محاولات حثيثة، وحُشدت أدلة كثيرة في سبيل إثبات اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وبذلك تكون مخالفة النبي من قِبل البعض والذي رصدها التاريخ مبرَّرة، ولا لوم فيها على المخالفين؛ لأنّه اجتهاد في قبال اجتهاد.

ووصِفت بعض أفعال الصحابة المخالفة للنص الصريح بأنّها اجتهاد؛ لئلا يقع اللوم على أحد منهم في ذلك، بعد أن بذل الجهد في سبيل إثبات اجتهادهم في زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله) وبتشجيع منه.

٢٣٦

وقد وصلنا من خلال العرض والتحليل في هذه الرسالة، إلى أنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يدرِّبون أصحابهم على الاجتهاد ـ وإن كان بصورة بسيطة وبدائية ـ وبذلك أرسوا قواعد الاجتهاد عندهم.

٣. ظهر من تتبُّع حركة الاجتهاد عند المدرسة السنيّة، أنّ انسداد باب الاجتهاد كان للأهواء السلطوية والسياسة فيه أكبر الأثر؛ للتخلّص من المجتهدين المنصفين، الذين لا يسكتون عن الجور والاستبداد، فسُدَّ أهمُّ منبع من المنابع الحيوية لهذا الرفض والمقاومة وهو الاجتهاد.

٤. مرَّ الاجتهاد في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بعدّة أدوار كان في بدايتها بدائياً وبسيطاً لقرب الفقهاء من عصر النصّ، ثمّ أخذ بالتطوّر والتعقيد كلّما ابتعد الزمن عن عصر الأئمة (عليهم السلام)، الذين يمثّلون مصدر النص بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله).

وسار الاجتهاد عند الشيعة مساراً تصاعدياً من حيث المادة الفقهية، منذ زمن الغيبة إلى وقتنا هـذا، إلاّ أنّه تعرَّض لبعض العثرات التي كادت أن تقضي على حركته.

منها ما ظهر من جمود بعد عصر الشيخ الطوسي، حيث هيمنت الشخصية العلمية لهذا العَلَم على المجتهدين من بعده؛ فمنعتهم من الجرأة على مخالفته.

ومنها ما ظهر في الدور الرابع (في العقود الأخيرة من القرن العاشر) من حركة نادت بعدم شرعية الاجتهاد، ووقفت بوجه المجتهدين بكل قوَّة، حتى وصل الأمر إلى درجة التشنيع عليهم، وكان نشوؤها ردَّة فعل على التطرُّف الذي ظهر في المنهج الاجتهادي في تلك الفترة، المتمثّل في الإفراط بالاعتماد على المنهج العقلي والفلسفي، والابتعاد عن المنهج الروائي، وكادت هذه الانتكاسة التي حدثت أن تودِّي بحياة الاجتهاد وتؤدِّي إلى سدِّ بابه، لولا جهود المخلصين من فقهائنـا، أمثال الوحيد البهبهاني والشيخ يوسف البحراني (قدس الله أسرارهم).

٥. كان للظروف السياسية والاجتماعية تأثير كبير في حركة الاجتهاد، والنتاج العملي الفقهي الصادر عن هذه العملية.

٢٣٧

٦. لا أدَّعي أنَّني جئت بجديد علمٍ لم يأتي به غيري من الباحثين، ولكن ترتيب مباحث هذه الرسالة تلفيقي استفدنا فيه من المناهج السابقة، فكان ما بين رسالتنا وما سبقها من البحوث عموم وخصوص من وجه، وبهذا استطعت أن أُضفي نوع حداثة عليها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمّد وآله الطاهرين.

يوم الخامس عشر من شعبان المبارك

لسنة ١٤٢٧ هـ

قُم المقدّسة عشّ آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله)

٢٣٨

مصادر البحث

الكتُب:

١) القرآن الكريم، كتاب الله المجيد.

٢) إبراهيم، أحمد، تاريخ التشريع الإسلامي، مصر، ١٤٢٢ هـ ق، الكتاب جلد واحد، ط الأُولى.

٣) ابن إدريس، محمّد بن منصور الحلِّي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، إيران١٤١٤هـ ط الثالثة، نشر جماعة المدرسين.

٤) ابن الأثير، المبارك بن محمّد، النهاية في غريب الحديث والأثر، إيران أوفست إسماعيليان، على طبعة دار إحياء التراث العربي لبنان.

٥) ابن الأثير، عليّ بن محمّد الشيباني، أُسد الغابة في معرفة الصحابة، إيران نشر إسماعيليان.

٦) ابن الأثير، عليّ بن محمّد الشيباني، الكامل في التاريخ، لبنان ١٤٠٨هق، دار إحياء التراث العربي، ط الأُولى.

٧) ابن الحاجب، مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل أو مختصر ابن الحاجب.

٨) ابن القيِّم، إعلام الموقعين، نشر دار الجيل الجديد لبنان، المعلومات الأُخرى لم تُذكر.

٩) ابن النديم، محمّد بن إسحاق، الفهرست، تحقيق رضا تجدد، المعلومات الأُخرى لم تُذكر.

١٠) ابن حجر، أحمد بن محمّد، الإصابة في تمييز الصحابة، مصر ١٩٣٩م، مطبعة مصطفى محمّد، المعلومات الأُخرى لم تذكر.

١١) ابن حنبل، أحمد بن محمّد، مسند أحمد، لبنان، نشر دار صادر، ط لم تُذكر.

١٢) ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، مقدّمة ابن خلدون، لبنان١٤١٠ هـ ق، ط الأُولى نشر دار الفكر.

١٣) ابن خلّكان، أحمد بن محمّد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان أو تاريخ ابن خلّكان، تحقيق د. إحسان عباس، لبنان، نشر دار صادر، المعلومات الأُخرى لم تُذكر.

٢٣٩

١٤) ابن شهرآشوب، محمّد بن عليّ، معالم العلماء، إيران، لم تُذكر الطبعة والسنة.

١٥) أبو العينين، بدران، تاريخ الفقه الإسلامي ونظرية المِلْكية والعقود، لبنان، الكتاب جلد واحد، الطبعة غير مذكورة.

١٦) الأشقر، د. عمر، تاريخ الفقه الإسلامي، الكويت،١٤١٠ هـ ق،، الكتاب جلد واحـد، ط٢.

١٧) الإصفهاني، الحسين بن محمّد المعروف بالراغب، المفردات في غريب القرآن، إيران ١٤٠٤ هـ ق، ط الأُولى، دفتر نشر الكتاب.

١٨) الآصفي، محمّد مهدي، مقدّمة الروضة البهيّة، إيران، ١٣٨٦ هـ ق.

١٩) الآصفي، محمّد مهدي، مقدّمة الفوائد الحائرية، لبنان، ١٤١٥ هـ ق، ط الأُولى، نشر مجمع الفكر الإسلامي.

٢٠) الآصفي، محمّد مهدي، مقدّمة رياض المسائل، إيران، ١٤١٨ هـ ق، نشر جماعة المدرسين.

٢١) الأفريقي، ابن منظور، لسان العرب، لبنان ١٤٠٥ هـ ق ط الأُولى نشر أدب الحوزة.

٢٢) الآمدي، عليّ بن محمّد، الإحكام في أصول الأحكام، لبنان ١٤٠٣ هـ ق، ط دار الكتاب العربي.

٢٣) الأميني، عبد الحسين أحمد النجفي، موسوعة الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، نشر مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي، إيران، ط ثانية ١٤٢٤ هـ ق.

٢٤) الأندلسي، عليّ بن أحمد بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق أحمد محمّد شاكـر، لبنان ١٤٠٠هـ، دار الآفاق الجديدة.

٢٥) الأندلسي، عليّ بن أحمد بن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، لبنان ١٤١٦ هـ ق، ط الأولى.

٢٦) الأنصاري، عبد العليّ محمّد، فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت، مطبوع بهامش المستصفى للغزالي، مصر ١٣٢٢هـ ق، المطبعة الأميرية، أوفسيت دار الذخائر قم.

٢٧) الأنصاري، محمّد عليّ، مقدّمة تاريخ حصر الاجتهاد لآقا بزرك، إيران ١٤١٠ هـ ق، المعلومات الأُخرى لم تُذكر.

٢٤٠