تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه0%

تاريخ الاجتهاد ومناهجه مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 249

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف: علي الزبيدي
تصنيف:

الصفحات: 249
المشاهدات: 95385
تحميل: 11944


توضيحات:

تاريخ الاجتهاد ومناهجه المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 249 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95385 / تحميل: 11944
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف:
العربية

وقال الجوهري في صحاحه:

([ فقه ] الفقه: الفهْم. قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه.

تقول منه: فقه الرجل، بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه. و أفقهتك الشيء.

ثمّ خصَّ به علم الشريعة، والعالم به فقيه، وقد فقُه بالضم فقاهة، وفقّهه الله. وتفقّه، إذا تعاطى ذلك.

وفاقهته، إذا باحثته في العلم) (١) .

وقال ابن الأثير:

(فقه في حديث ابن عباس دعا له النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، فقال: (اللهمَّ، فقّهه في الدين وعلّمه التأويل) أي فهّمه.

والفقه في الأصل: الفهْم، واشتقاقه مِن الشق والفتح.

يقال: فقِه الرجل ـ بالكسر ـ يفقه فقهاً إذا فهِم وعلِم، وفقُه بالضم يفقه: إذا صار فقيها عالماً.

وقد جعله العُرف خاصاً بعلم الشريعة، وتخصيصاً بعلم الفروع منها) (٢) .

وعرّف ابن منظور الفقه في لسان العرب:

(فقه: الفقه: العلم بالشيء والفهْم له، وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب النجم على الثريَّا، والعود على المندل، قال ابن الأثير: واشتقاقه مِن الشق والفتح، وقد جعله العرف خاصّاً بعلم الشريعة - شرّفها الله تعالى - وتخصيصاً بعلم الفروع منها.

قال غيره: والفقه في الأصل الفهْم، يقال: أُوتـي فلان فقهاً في الدِين أي فهْماً فيه.

قال الله عزّ وجلّ: ( ... لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ... ) (٣) ، أي ليكونوا علماء به، وفقّهه الله، ودعا النبي (صلّى الله عليه وسلّم) لابن عباس فقال: (اللهمَّ، علّمه الدين وفقّهه في التأويل) أي فهّمه تأويله ومعناه.

وفقه فقهاً: بمعنى عَلِم علماً.

____________________

(١) الصحاح ٦: ٢٢٤٣.

(٢) النهاية في غريب الحديث ٣: ٤٦٥.

(٣) التوبة: ١٢٢.

٢١

ابن سيده: وقد فقَّه فقاهة وهو فقيه مِن قوم فقهاء، والأُنثى فقيهة مِن نسوة فقائه.

وحكى اللحياني: نسوة فقهاء، وهي نادرة، قال: وعندي أنّ قائل فقهاء من العرب لم يعتد بهاء التأنيث، ونظيرها نسوة فقراء.

وفقه الشيء: عَلِمه.

وفقهه وأفقهه: علمه. وفي التهذيب: وأفقهته أنا أي بيَّنت له تعلّم الفقه.

ابن سيده: وفقِه عنه، بالكسر، فهِم.

ويقال: فقه فلان عني ما بيّنت له، يفقه فقهاً إذا فهمه.

قال الأزهري: قال لي رجل مِن كلاب وهو يصف لي شيئاً، فلمَّا فرغ مِن كلامه قال: أفقهت؟ يريد أفهمت؟.

ورجل فقه: فقيه، والأنثى فقهة. ويقال للشاهد: كيف فقاهتك لِما أشهدناك، ولا يقال في غير ذلك.

الأزهري: وأمّا فقُه، بضم القاف، فإنّما يُستعمل في النعوت، يقال: رجل فقيه، وقد فقه يفقه فقاهة إذا صار فقيهاً وساد الفقهاء.

وفي حديث سلمان: أنّه نزل على نبطيَّة بالعراق فقال لها: هل هنا مكان نظيف أصلِّي فيه؟ فقالت: طهِّر قلبك وصلِّ حيث شئت، فقال سلمان: فقهت، أي: فهمت وفطنت للحقّ والمعنى الذي أرادت، وقال شمر: معناه أنَّها فقهت هذا المعنى الذي خاطبته، ولو قال: فقهت كان معناه صارت فقيهة.

يقال: فقه عنّي كلامي يفقه أي فهِم، وما كان فقيهاً ولقد فقه وفقه. وقال ابن شميل: أعجبني فقاهتـه، أي: فقهه.

ورجل فقيه: عالم. وكلُّ عالم بشيء فهو فقيه، مِن ذلك قولهم: فلان ما يفقه وما ينقه، معناه لا يعلم ولا يفهم. ونقهت الحديث أنقهه إذا فهمته. وفقيه العرب: عالِم العرب.

وتفقَّه: تعاطى الفقه.

وفاقهته إذا باحثته في العلم) (١) .

____________________

(١) لسان العرب ١٣: ٥٢٢.

٢٢

وذكر صاحب المختار مِن الصحاح:

({ ف ق ه } الفقه: الفهم، وقد فقِه الرجل بالكسر فقهاً، وفلان لا يفقه ولا ينقه، وأفقهته الشيء هذا أصله، ثمَّ خُصَّ به علم الشريعة، والعالم به فقيه، وقد فقه مِن باب ظرف أي صار فقيهاً، وفقهه الله تفقيهاً، وتفقَّه إذا تعاطى ذلك، وفاقهه باحثه في العلم) (١) .

وقال الطريحي في مجمع البحرين:

(ف ق ه) قوله تعالى

( ... وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... ) (٢) أي: لا تفهمونه مِن قولهم: فقهت الكلام، إذا فهمته، ومنه سُمِّي الفقيه فقيهاً.

يقال: فقه الرجل بالكسر يفقه فقهاً مِن باب تعب، إذا علم.

وفقه بالضم مثله، وقيل: الضم إذا صار الفقه له سجيَّة.

وفلان لا يفقه أي: لا يفهم.

ثمَّ خصّ به (علم الشريعة).

قال بعض الأعلام: الفقه هو التوصّل إلى علمٍ غائب بعلمٍ شاهد، ويسمَّى العلم بالأحكام فقهاً، والفقيه: الذي علم ذلك واهتدى به إلى استنباط ما خفي عليه - انتهى.

وقد فقُه بالضم فقاهة، وفقَّهه الله، وتفقّه: إذا تعاطى ذلك، وفاقهته: إذا باحثته في الفقه.

وفي الحديث: (مَن حفظ على أمتَّي أربعين حديثاً بعثَه الله فقيهاً عالماً) ، قال بعض الشارحين: ليس المراد به الفقه بمعنى الفهْم، فإنَّه لا يناسب المقام، ولا العِلم بالأحكام الشرعية عن أدلَّتها التفصيلية فإنَّه مستحدَث، بل المراد البصيرة في أمر الدين، والفقيه أكثر ما يأتـي في الحديث بهذا المعنى، فالفقيه هو صاحب البصيرة، وإليها أشار (صلَّى الله عليه وآله) بقوله: (لا يفقه العبد كلَّ الفقه حتَّى يمقت الناس في ذات الله، وحتَّى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة، ثمّ يُقبل على نفسه فيكون لها أشدَّ مقتاً) .

____________________

(١) مختار الصحاح: ٢٦٣.

(٢) الإسراء: ٤٤.

٢٣

ثمّ قال: هذه البصيرة إمّا موهبية، وهي التي دعا بها النبي (صلَّى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) حين أرسله إلى اليمن حيث قال: (اللّهمَّ، فقِّهه في الدين) ، أو كسبية وهي التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال لولده الحسن (عليه السلام): (وتفقَّه ـ يا بُنـي ـ في الدين) - انتهى كلامه.

ولا يخفى أنَّ ما أراده مِن معنى الفقه لا يخلو مِن غموض، ولعلَّ المراد منه (علم الشريعة) كما نبَّه عليه الجوهري، فيكون المعنى حينئذ: مَن حفظ على أُمتي أربعين حديثاً فيما يحتاجون إليه في أمر دينهم، وإن لم يكن فقيهاً عالماً، بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً داخلاً في زمرة العلماء الفقهـاء، وثوابه كثوابهم بمجرَّد حفظ تلك الأحاديث، وإنْ لم يتفقَّه في معانيها.

وقد تكرَّر في الحديث (الأمر بالتفقُّه في دين الله)، والمراد به ـ على ما قرَّره بعض الشارحين ـ: هو أنّ سائر الأفعال التي أوجبها الله تعالى كالوضوء، والغُسل، والصلاة، والصـوم، والحـج، والزكاة، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يجب على الخلق طلب العلم بها.

وأمّا الأحكام الشرعية الوضعية، كحكم الشكّ في عدد الركعات، وحكم مَن زاد على سجدة سهـواً، وأحكام البيع، والميراث، والديات، والحدود، والقصاص، والاقتضائية التي هي تحريم بعض الأفعال كحرمة الغيبة، وشرب الخمر وغير ذلك، فإنَّما يجب طلب العلم عند الحاجـة إليهـا) (١) .

وقال الزبيدي في تاج العروس:

(الفقه بالكسر العلم بالشيء) وفي الصحاح (الفهم له) يقال: أُوتي فلان فقهاً في الدين، أي: فهماً فيه (و) الفقه (الفطنة) قال الجوهري: قال الأعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه.

وفي حديث سلمان أنّه نزل على نبطية بالعراق فقال: هل هنا مكان نظيف أصلِّي فيه؟ فقالت: طهّر قبلك وصلّ حيث شئت، فقال سلمان: فقِهت، أي: فطنت وفهمت.

قال ابن سيده:(و) قد (غلب على علم الدين لشرفه) وسيادته وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب النجم على الثريَّا والعود على المندل.

____________________

(١) مجمع البحرين٣: ٤٢١.

٢٤

قال ابن الأثير: واشتقاقه مِن الشق والفتح، وقد جعلته العرب خاصاً بعلم الشريعة، وتخصيصاً بعلم الفروع منها، (وفقُه ككَرُم) فقاهة صار الفقه له سجيّة، (و) فَقِه مثل (فرِح) فقهاً مثل علم علماً زنة ومعنى (فهو فقيه وفَقُهٌ كَنَدُسٍ جمعه فقهاء، وهي فقيهة وفَقُهَةٌ جمعه فقهاء وفقائه)، وحكى اللحياني نسوة فقهاء وهي نادرة، قال ابن سيده: وعندي أنَّ قائل فقهاء مِن العرب لم يعتدَّ بهاء التأنيث، ونظيرها نسوة فقراء.

(وفقهه) عنى ما بيّنت له (كعلمه فهمه كتفقَّهه) ومنه قوله تعالى:

( ... لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ... ) (وفقَّهه تفقيهاً علّمه)، ومنه الحديث: (اللّهم، علّمه الدين وفقّهه في تأويله) أي: علّمه تأويله ومعناه (كأفقهه).

وفي التهذيب أفقهته بيّنت له تعلّم الفقه... (وفاقهه باحثه في العلم ففقهه كنصره غلبه فيه)... ممَّا يستدرك عليه، قال ابن شميل: أعجبني فقاهته أي فقهه، وكلُّ عالم بشيء فهو فقيه، وفقيه العرب عالمهم... وتفقَّه تعاطى الفقه (١) .

الفقه في الاصطلاح:

لفظ الفقه يستعمل في الفهْم، ثمّ تحوّل ليدلَّ على نوع خاص مِن الفهم، وأصبح مصطلحاً يراد به فهم الأحكام الشرعية.

وقد ذكروا له تعاريف عديدة، وأكثرها شهرة وتداولاً هو تعريفه بأنّه:

(العلم بالأحكام الشرعية مِن أدلَّتها التفصيليّة).

قال السيد نعمة الله الجزائري ـ ضمن أجوبته على مسائل السيد علي النهاوندي على ما نقل عن صاحب الروضات ـ: (اعلم أنّ الفقه بحسب اللغة الفهم، ثمّ نُقل إلى معنى آخر يناسب المعنى اللغوي مناسبة المسبَّب للسبب، أو النوع للجنس ورسموه بـ: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلَّتها التفصيلية فعلاً أو قوَّة قريبة...) (٢) .

____________________

(١) تاج العروس ٩:٤٠٢:

(٢) الفقه تطوّره ومراحله:٤٧.

٢٥

وقال الشهيد الثاني في تمهيد القواعد: (والفقه لغة: الفهم، واصطلاحاً: العلم بالأحكام الشرعية العملية المُكتسب مِن أدلَّتها التفصيلية). ثمّ قال ـ بعد إيضاح جامعية هذا التعريف ومانعيته ـ: (وقد يُطلق الفقه عُرفاً على تحصيل جملة مِن الأحكام، وإنْ كان عن تقليد وهو معنى شايع الآن) (١) .

يقول محمّد مصطفى شلبي: استمرَّ ذلك الإطلاق الشامل حتى عصر الأئمة، فأبو حنيفة عرّف الفقه: بأنّه (معرفة النفس ما لها وما عليها)، وكان يسمَّى علم الكلام بالفقه الأكبر، ولمَّا تمايزت العلوم وشاع التخصُّص بين العلماء، ضاقت دائرة الفقه، وأصبح مختصَّاً بنوع مِن الأحكام، وهو الأحكام الشرعية العملية، فكان يطلق مرَّة على معرفة تلك الأحكام، وأُخرى على نفس الأحكام التي تُستنبط بالاجتهاد.

وتبع هذا التخصص تخصيص لفظ الفقهاء بمَن يعرف هذا النوع مِن العلم، ويُعرَّف على الإطلاق الأول: بأنّه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب مِن أدلّتها التفصيليّة.

وعلى الثاني: بأنّه مجموعة الأحكام العملية المشروعة في الإسلام، سواء أكانت شرعيتها بنصٍّ صريح مِن القرآن والسنّة، أمْ بالإجماع، أمْ باستنباط المجتهدين مِن النصوص والقواعد العامة.

ولمَّا شاع التقليد بين الفقهاء توسّع في إطلاقه، فأصبح يطلق على مجموعة الأحكام التي نزل بها الوحي صراحة، والتي استنبطها المجتهدون وما خرَّجه المقلَّدون على قواعد أئمّتهم وأصولهم.

وأضحى هذا المجموع هو المسمّى بالفقه) (٢) .

____________________

(١) تمهيد القواعد:٢.

(٢) المدخل في التعريف بالفقه:٣٢-٣٣.

٢٦

٤. معنى الانسداد والانفتاح لُغةً واصطلاحاً:

الانسداد لغةً:

ذكر ابن منظور الأفريقي:

السدُّ: إغلاق الخَلل وردم الثلْم. سدّه يسدّه سدّاً فانسدّ واستدّ وسدّده: أصلحه وأوثقه، والاسم السدّ.

وحكى الزجاج: ما كان مسدوداً خلقة، فهو سُدٌّ، وما كان مِن عمل الناس، فهو سَدٌّ، وعلى ذلك وجِّهت قراءة مَن قرأ بين السَدَّين والسُدَّين.

التهذيب: السدُّ مصدر قولك سددت الشيء سدّاً.

والسُدّ والسَدّ: الجبل والحاجز.

وقُرِئ قوله تعالى:

( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ... ) (١) ، بالفتح والضم.

وروي عن أبي عبيدة أنّه قال: ( ... بَيْنَ السَّدَّيْنِ... ) ، مضموم، إذا جعلوه مخلوقاً مِن فعـل الله، وإنْ كان مِن فعل الآدميين، فهو سَدّ، بالفتح، ونحو ذلك قال الأخفش.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ( ... بَيْنَ السَّدَّيْنِ... ) ، ( ... وَبَيْنَهُمْ سَدّاً... ) (٢) بفتح السين، وقرأ في (يس): ( ... بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً... ) (٣) بضم السين، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بضم السين في الأربعة المواضع، وقرأ حمزة والكسائي بين السُدّين بضم السين.

غيره: ضم السين وفتحها، سواء السَدّ والسُدّ، وكذلك قوله: ( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً... ) فتح السين وضمها.

والسدّ ـ بالفتح والضم ـ: الردم والجبل، ومنه سدّ الروحاء وسدّ الصهباء، وهما موضعان بين مكَّة والمدينة.

____________________

(١) الكهف:٩٣.

(٢) الكهف:٩٤.

(٣) يس:٩.

٢٧

وقوله عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً... ) قال الزجاج: هؤلاء جماعة مِن الكفار أرادوا بالنبي (صلّى الله عليه وسلّم) سوءاً، فحال الله بينهم وبين ذلك، وسَدّ عليهم الطريق الذي سلكوه، فجُعلوا بمنزلة مَن غُلَّت يده وسُدّ طريقه مِن بين يديه ومِن خلفه وجُعل على بصره غشاوة، وقيل ـ في معناه قول آخر ـ: إنّ الله وصف ضلال الكفار فقال: سددنا عليهم طريق الهدى كما قال: ختم الله على قلوبهم (١) .

قال الزبيدي في تاج العروس:

(وسدَّ الثُلمة) بضم المثلثة وهي الفرجة (كمدّ) يسدّ بالضم سدّاً ردمها و (أصلحها ووثقها)، وفي بعض النُسخ أوثقها كسدّدها فانسدّت (٢) .

الانسداد اصطلاحاً:

يراد بالانسداد هو سدّ باب الاجتهاد وحصره بأئمة المذاهب الأربعة.

يقول السيد الحكيم (رحمه الله) في كتاب الأُصول العامة للفقه المقارن:

سدّ باب الاجتهاد: وأرادوا به حظر الاجتهاد ـ بعد أنْ تمَّ غلق أبوابه على يد بعض السلطات على جميع المكلَّفين ـ وحصر الرجوع إلى خصوص المذاهب الأربعة (٣) .

وسنتطرَّق في مطاوي البحث إنْ شاء الله تعالى للعوامل المؤثِّرة في ذلك (٤) .

____________________

(١) لسان العرب ٣: ٢٠٧.

(٢) تاج العروس ٢: ٣٧٢.

(٣) الأصول العامة للفقه المقارن:٥٧٩.

(٤) راجع للتوسُّع كتاب تاريخ حصر الاجتهاد للشيخ آقا بزرك الطهراني.

٢٨

الانفتاح لغةً:

قال الخليل الفراهيدي:

فتح: الفتح: نقيض الإغلاق (١) .

وقال الجوهري في الصحاح:

(فتح) فتحت الباب فانفتح، وفتَّحت الأبواب شدّد للكثرة، فتفتَّحت هي (٢) .

الانفتاح اصطلاحاً:

إذا عرفنا معنى الانسداد في الاصطلاح، وأنَّ المراد منه هو إغلاق باب الاجتهاد وحصره في المذاهب الأربعة، يتوضَّح معنى الانفتاح في المصطلح، حيث هو فتح باب الاجتهاد وعدم حصره على أربعة أو أكثر أو أقل مِن الشخصيات، بلْ لكلِّ مَن توفَّر على مقدّمات الاجتهاد، وحاز تلك الملَكة التي تُمكِّنه مِن استنباط الأحكام الشرعية مِن مداركها فله أنْ يجتهد، فإنَّ دين الإسلام دين الله إلى يوم القيامة، وسوف يحتاج المسلمون بمرور الزمن إلى أحكام في وقائع ابتلائية مستحدَثة، لابدَّ مِن أنْ يكون للدين فيها حُكم، وهذا ما ذهب إليه الشيعة الإمامية.

وقد استعمل هذا المصطلح السيد محمّد تقي الحكيم (قُدِّس سِرُّه) في كتابه الأُصول العامة للفقه المقارن (٣) .

٥. المناهج المتّبعة في دراسة تاريخ الفقه:

تناول عدَّة مِن الباحثين موضوع تاريخ الاجتهاد وحركته، واختلفت مناهج البحث مِن باحث إلى آخر، تبعاً لاختلاف زوايا النظر، فمِن الباحثين مَن تناول الموضوع حسب الزمن، ومنهم مَن درسه حسب الأماكن التي ظهرت فيها المراكز العلمية المهتمَّة بالاجتهاد، ومنهم مَن قسَّم مراحل التاريخ

____________________

(١) كتاب العين ٣:١٩٤.

(٢) الصحاح ١: ٣٨٩.

(٣) الأصول العامة للفقه المقارن:٥٧٧.

٢٩

حسب طبيعة المادة الفقهية ومدى عمقها، دون النظر إلى العوامل أو الظروف أو النتائج أو الموضوعات المبحوثة عند الفقهاء.

ذكر المحقِّق السبحاني منهجين متَّبعين في دراسة تاريخ الفقه وهما:

المنهج الأوّل: هو النظر إلى الفقه بما أنَّه كائن حيٌّ يمرُّ بأطوار مختلفة وهي:

١ ـ طور الطفولية

٢ ـ طور الشباب

٣ ـ طور الكهولة

٤ ـ طور الشيخوخة والهرم.

وهذه النظرة إلى الفقه تتناسب مع الفقه السنِّي، الذي أوصد باب الاجتهاد منذ أواسط القرن السابع، فأخذ الفقه يمرُّ بطور الشيخوخة والهرم واستنزاف قواه.

المنهج الثاني: تصنيف أطوار الفقه طبقاً للأسباب والأحداث التي رافقت تكامله وارتقاءه، والتي اقترنت بأسماء جهابذة مِن الفقهاء الذين لعبوا دوراً هامَّاً في إغناء التراث الفقهي، وهذا النوع مِن التدوين الفقهي يتناسب مع الفقه الشيعي، الذي لم يوصد باب الاجتهاد منذ ظهوره إلى يومنا هـذا (١) .

وعمد الشيخ السبحاني في كتابه ـ أدوار الفقه الإمامي ـ إلى اتِّباع التقسيم التالي لأدوار الفقه الإمامي:

الدور الأوّل: عصر النشاط الحديثي والاجتهادي (١١-٢٦٠هـ).

الدور الثاني: عصر تبويب الحديث ومنهجة الاجتهاد (٢٦٠-٤٦٠هـ).

الدور الثالث: عصر الركود (٤٦٠-٦٠٠هـ).

الدور الرابع: تجديد الحياة الفقهية (٦٠٠-١٠٣٠هـ).

الدور الخامس: ظهور الحركة الإخبارية (١٠٣٠-١١٨٠هـ).

الدور السادس: تصعيد النشاط الفقهي (١١٨٠-١٢٦٠هـ).

الدور السابع: عصر الإبداع الفقهي (١٢٦٠- إلى وقتنا الحاضر) (٢) .

____________________

(١) أدوار الفقه الإمامي:١٠.

(٢) أدوار الفقه الإمامي:١١.

٣٠

المنهج الثالث: هو منهج اعتمد التقسيم لأدوار الفقه حسب الأماكن والمدارس التي نشط فيها وازدهر، فكان التقسيم كما يلي:

١. مدرسة المدينة المنوّرة، واستمرَّت إلى أواسط القرن الثاني (حياة الإمام الصادق (عليه السلام)).

٢. مدرسة الكوفة، ظهرت في أواسط القرن الثاني واستمرّت إلى الربع الأول مِن القرن الرابع (الغيبة الكبرى).

٣. مدرسة قم وريّ الأُولى، ظهرت في الربع الأول مِن القرن الرابع، واستمرَّت إلى النصف الأول مِن القرن الخامس (أيَّام المرتضى والطوسي).

٤. مدرسة بغداد، ظهرت مِن النصف الأول للقرن الخامس إلى احتلال بغداد.

٥. مدرسة الحلَّة، ظهرت مِن احتلال بغداد واستمرَّت إلى حياة الشهيد الثاني.

٦. مدرسة جبل عامل.

٧. مدرسة أصفهان.

٨. مدرسة البحرين.

٩. مدرسة كربلاء المقدَّسة.

١٠. مدرسة النجف الأشرف.

وتجدر الإشارة إلى ملاحظة الباحث، الذي اعتمد هذا المنهج مِن التصنيف حيث يقول: (وحينما نُضيف المدرسة الفقهيّة إلى قُطرٍ خاص كالكوفة أو بغداد أو المدينة، لا نعني أنَّ الفقاهة تمركزت كلِّياً في هذه الأقطار، وإنّما نعني أنّ المدرسة بلغت نُضجها الخاص وكمالها المرحلي في هذا القُطر بالخصوص) (١) .

ونحى بعضٌ آخر مِن الباحثين نحو تصنيف أدوار الاجتهاد، حسب طبيعة المادة الفقهية التي تكاملت بالتدريج، مع غضِّ النظر عن العوامل أو الظروف أو النتائج أو الموضوعات المبحوثة عند الفقهاء، فكان منهجه:

____________________

(١) مقدّمة رياض المسائل: ١٠.

٣١

المنهج الرابع: إنّ هناك مرحلتين وعصرين في تاريخ هذا الفقه:

١ ـ مرحلة صدور البيان الشرعي (فقه الروايات).

وهذا العصر ينقسم بدوره إلى عصرين:

أ ـ عصر النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وهو عصر التشريع واكتمال الشريعة مِن خلال ما نزل به الوحي على النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وأعلنته الآية الكريمة: ( ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ... ) (١) .

وللفقاهة في عصر الصدور امتيازات وخصائص شرعية، تختلف عن الفقاهة في عصرها الثاني، عصر الاجتهاد، وإليك أهمَّ هذه الخصائص:

١ ـ ثبوت الإمامة العظمى والولاية الكبرى للنبي والأئمة (عليهم السلام) مِن بعده وحضورهم في هذا العصر، فيجب على الناس جميعاً إطاعتهم، والرجوع إليهم في جميع الأُمور، والعمل بما يقولون؛ عملاً بالآية الكريمة: ( ... أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ... ) (٢) .

٢ ـ إمكان الوصول إلى الحكم الشرعي الواقعي في هذا العصر؛ وذلك بمراجعة النبي والأئمة (صلوات الله عليهم)، وسؤالهم عن حقائق الدين وأحكامه وأسراره.

٣ ـ عدم جواز إعمال الاجتهاد في قِبال قولهم ورأيهم مِن أيِّ أحد؛ لأنّه مِن الاجتهاد في مقابل النصِّ المحرَّم والباطل شرعاً وعقلاً.

٤ ـ إنَّ تصدِّي الفقهاء لأيِّ منصب، مِن القضاء والإفتاء، والولايات وجباية الحقوق الشرعية، وغير ذلك لا يجوز إلاَّ بمراجعتهم والنصب مِن قِبلهم.

٥ ـ لا يصحّ للفقهاء الرواة في هذا العصر ـ في مجال استكشاف واستنباط حكم مسألة فقهية ـ أن يرجعوا إلى القواعد والأُصول العامّة التي بأيديهم ابتداءً وقبل السؤال منهم؛ لاحتمال وجود مخصِّص أو مقيِّد لها أو حاكم عليها، فلا يكون حجّة حينئذٍ؛ لأنّه مِن قبيل التمسُّك بالعمومات قبل الفحص عن المخصِّص، والفحص في زمن حضور المعصوم لا يتمُّ إلاَّ بالسؤال منه.

____________________

(١) المائدة:٣

(٢) النساء:٥٩.

٣٢

٦ ـ إنَّ طابع الفقاهة في هذا العصر يتمثّل في تعلّم السنّة والأحاديث، وحفظها ونقلها، والإفتاء بما هو ظاهر وواضح منها، والرجوع في المسائل النظرية الاجتهادية إلى الأئمة (عليهم السلام) إلاّ في حالات لا يمكن فيها الوصول إليهم، كما حدث ذلك بالتدريج لدى اتّساع وانتشار مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وازدياد الرقابة والضغط عليهم (عليهم السلام) مِن قِبل الحكّام.

وهذه خصيصة مهمَّة تجعل عملية الفقاهة في عصر النصّ محدودة بطبيعتها؛ لأنّ مصادرها لم تكتمل ولم تنته بعد؛ إذ لعلَّه بالرجوع إليهم يصدر ما يكون مخصِّصاً أو مفسِّراً، أو حاكماً على العمومات والقواعد التي بأيدي الرواة، فلا يجوز لهم الاكتفاء بما حفظوه أو نقلوه في مجال الاستنباط.

وقد أشارت إلى ذلك بعض الأخبار العلاجية، الآمرة بالتوقّف أو الاحتياط في الخبرين المتعارضين، وإرجاء ذلك حتَّى يلقى الإمام (عليه السلام) (١)(٢) .

ب ـ عصر الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، مِن الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وإلى الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، وهو عصر تبيين التشريع وصيانته.

٢ ـ مرحلة الاجتهاد في أطار البيان الشرعي.

وهي تنقسم إلى أدوار:

١. دور التأسيس.

٢. دور الانطلاق.

٣. دور الاستقلال.

٤. دور التطرُّف (إفراطاً وتفريطاً).

٥. دور التصحيح والاعتدال.

٦. دور الكمال والنضج (٣) .

____________________

(١) تهذيب الأحكام ٦: ٣٠٣.

(٢) راجع مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي:٤٥-٤٦.

(٣) مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي:٣٤، ٤٨.

٣٣

وقد اخترت منهجة البحث وتقسيم أدوار الفقه حسب المادة العلمية؛ لأنّه أشمل مِن باقي التقسيمـات، مِن حيث إنَّه يتناول كلَّ النتاج العلمي، الذي ظهر على الساحة العلمية في فترة زمنية معيَّنة، ودون أنْ يقتصر على بقعة معيَّنة مِن الحواضر الإسلامية.

٣٤

الفصل الثاني:

الاجتهاد في العصر الأوّل للإسلام

النصوص المشتملة على مصطلح الاجتهاد.

الاجتهاد في عصر النبي (صلَّى الله عليه وآله).

اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله).

اجتهاد الصحابة.

· اجتهاد الصحابة في زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله).

· اجتهاد الصحابة بعد زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله).

· اجتهاد الصحابة مقابل النصِّ.

· تطوّر مصطلح الاجتهاد.

الاجتهاد في عصر الأئمّة (عليهم السلام).

إرساء الأئمّة قواعد الاجتهاد.

اجتهاد أصحاب الأئمّة (عليهم السلام).

٣٥

النصوص المشتملة على مصطلح الاجتهاد .

لفظ الاجتهاد في الحديث النبوي:

وردت مادَّة الاجتهاد في الحديث الشريف، المنقول عن النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله):

١. عن أبي هريرة، عن النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، قال: (أتُحبُّون أنْ تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا: اللّهمَّ، أعنَّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك) (١) .

٢. أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمّر، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر محمّد بن عمرو بن حزم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (إذا حكم الحاكم فاجتهَدَ فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) (٢) .

ووردت عن أهل البيت (عليهم السلام):

١. أخبرنا عبد الرزاق عن معمّر عن قتادة، أنَّ علياً قال: (القضاة ثلاثة: قاضٍ اجتهد فأخطأ في النار، وقاضٍ رأى الحقَّ فقضى بغيره في النار، وقاضٍ اجتهد فأصاب في الجنَّة) (٣) .

٢. ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم؛ ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع) (٤) .

____________________

(١) مجمع الزوائد ١٠: ٧٢.

(٢) السنن الكبرى ٣:٤٦١.

(٣) المصنف ١١: ٣٢٨.

(٤) الأصول الستَّة عشر: ١٥١.

٣٦

٣. حدّثنا محمّد بن عبد الجبار، عن محمّد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكـان، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنَّ حبابة الوالبيَّة كانت إذا وفد الناس إلى معاوية وفدت هي إلى الحسين (عليه السلام)، وكانت امرأة شديدة الاجتهاد، وقد يبس جلدها على بطنها مِن العبادة) (١) .

٤. عدّة مِن أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن معلّى أبي عثمان، عن أبي بصير، قال: قال رجل لأبي جعفر (عليه السلام): إنِّي ضعيف العمل، قليل الصيام، ولكنِّي أرجو أنْ لا آكل إلاَّ حلالاً، قال: فقال له: (أيُّ الاجتهاد أفضل مِن عفَّة بطن وفَرْج؟!) (٢) .

٥. محمّد بن يعقوب الكليني قال: حدّثني عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن حفص المؤذّن، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وعن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمّد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنّه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه، وأمرهم بمدارستها والنظر فيها، وتعاهدها والعمل بها، فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا مِن الصلاة نظروا فيها.

قال: وحدَّثني الحسن بن محمّد، عن جعفر بن محمّد بن مالك الكوفي, عن القاسم بن الربيع الصحّاف، عن إسماعيل بن مخلّد السرّاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: خرّجت هذه الرسالة مِن أبي عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابه:.

(... واعلموا أنّ الله لم يذكره أحد مِن عباده المؤمنين إلاّ ذكره بخير، فأعطوا الله مِن أنفسكم الاجتهاد في طاعته؛ فإنّ الله لا يُدرَك شيءٌ مِن الخير عنده إلاّ بطاعته، واجتناب محارمه التي حرّم الله في ظاهر القرآن وباطنه، فإنّ الله تبارك وتعالى قال في كتابه ـ وقوله الحقّ ـ: ( وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ... ) ...) (٣) .

وقال: (أيَّتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم، عليكم بآثار رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وسنّته، وآثار الأئمّة الهداة مِن أهل بيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) مِن بعده وسنَّتهم؛ فإنَّه مَن أخذ بذلك فقد اهتدى، ومَن ترك ذلك ورغب عنه ضلَّ؛

____________________

(١) بصائر الدرجات ١٩١:

(٢) الكافي ٢: ٧٩.

(٣) الكافي ٨: ٢.

٣٧

لأنّهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم، وقد قال أبونا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): المداومة على العمل في اتِّباع الآثار والسُنن وإنْ قلَّ، أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة مِن الاجتهاد في البدَع واتِّباع الأهواء، ألا إنَّ اتّباع الأهواء واتّباع البِدع بغير هدىً مِن الله ضلال، وكلُّ ضلالة بِدعة، وكلُّ بدعة في النار) (١) .

٦. وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يدعو بهذا الدعاء في شهر رمضان: (اللّهمَّ، ارزقني فيه الجدَّ والاجتهاد، والقوَّة والنشاط، والإنابة والتوبة، والرغبة والرهبة، والجزع والرقَّة، ومرفوع العمل ومستجاب الدعاء، ولا تحِلْ بيني وبين شيء مِن ذلك بعَرَض ولا مرض ولا همٍّ، برحمتك يا أرحم الراحمين) (٢) .

٧. عن زين العابدين (عليه السلام) قال: (إنَّ أفضل الاجتهاد عفَّة البطن والفَرْج) (٣) .

____________________

(١) الكافي ٨: ٨.

(٢) مَن لايحضره الفقيه ٢: ١٠٤.

(٣) مشكاة الأنوار: ٢٧٥.

٣٨

الاجتهاد في زمَن النبي (صلَّى الله عليه وآله) :

اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله):

الاجتهاد مرتبة سامية عالية، لا ينالها الإنسان إلاّ ببذل الجهد وتحصيل مقدِّماته الواجب تحصيلها، وهو تخصّص في زماننا الحاضر على حدٍّ سواء مع العلوم التخصصية الأُخرى إنْ لم يكن أصعب؛ لأنّ استنباط الحكم الشرعي يحتاج إلى إتقان عدَّة مِن العلوم تقع في طريق عملية الاستنباط.

ولكنَّ السؤال الذي يُطرح، يتعلّق باجتهاد النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، هل هو جائز؟ بحيث له الحقُّ في إعمال اجتهاده في تحصيل أحكام الشريعة الإسلامية وتبليغها للبشر؟

أم أنَّ ذلك يقدح بمكانته ويتطرّق الشكّ ـ جرّاء هذا القول ـ إلى جميع الأحكام التي يبلِّغها النبي (صلَّى الله عليه وآله)؟

وهل أنَّ اجتهاد النبي يعدُّ فضيلة مِن فضائله كما هو عند المجتهدين؟

أم أنَّ القول: بأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) يتّبع اجتهاده في استنباط الأحكام يسبب نوع نقص لمقامه السامي، وانقطاعاً لارتباطه بالله؟ والذي صرّح في كتابه العزيز: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١) .

وعلى هذه المسألة يترتَّب القول بحجيّة السنّة المطهّرة؛ لأنّه إنْ قلنا: بأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) كان يجتهد ويتَّبع الظنَّ في الأحكام الشرعية لا تبقى حجّة واطمئنان بهذه الأحكام، ومعلوم أنّ سنّة النبي (صلَّى الله عليه وآله) هي ثاني أهمِّ مصدر مِن مصادر أحكام الشريعة الإسلامية، فإذا تطرَّق الشكُّ والريب وجواز الخطأ فيها ضاع الجزء الأكبر مِن الأحكام.

وفي هذه المسألة طرَح كلٌّ مِن القائلين بجواز اجتهاده (صلَّى الله عليه وآله) وعدمه، أدلَّة متعدِّدة، ينتصر فيها لرأيه، ونحن نستعرض جزءاً منها ليتبين أساس القول لكلٍّ منهما.

تجدر الإشارة إلى أنّ كلاًّ مِن الفريقين يتَّفقان على أنّ الحوادث التي يوحى فيها للنبي (صلَّى الله عليه وآله) يبلّغها، كما هي مِن دون زيادة أو نقيصة، ولكنْ يفترض الفريق القائل بجواز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنَّ

____________________

(١) النجم: ٣-٤.

٣٩

هناك وقائع طارئة لم ينزل فيها الوحي على النبي (صلَّى الله عليه وآله) ولا تحتمل التأخير، وهذه الحوادث هي منطقة الفراغ ـ إذا صحَّ التعبير ـ المسموح للنبي (صلَّى الله عليه وآله) أنْ يجتهد فيها؛ لِئلاّ تفوت المصلحة.

الذاهبون إلى جواز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله):

يذهب كثير مِن علماء العامّة إلى جواز ممارسة النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) لعملية الاجتهاد، وإعمال الرأي والفكر الشخصي لمعرفة الأحكام الشرعية، حيث لم يرد رادع شرعي عن هذا العمل، ولا يحكم العقل بمنعه.

وقد ادَّعى البعض قيام الإجماع على جواز اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله) (١) .

ذكر أصحاب هذا المذهب: كان الرسول (صلَّى الله عليه وآله) إذا سُئل عن مسألة أو حدثت حادثة ينتظر الوحي , فإنْ نزل بحكمها أجاب بما نزل به، وإنْ لم ينزل الوحي كان هذا إيذاناً مِن الله بأنّه وكَّل إلى رسوله أنْ ينطق بالتشريع اللازم، ومعلوم أنَّه لا ينطق عن الهوى.

وأحياناً أُخرى كان الرسول يجتهد في الحكم، ثمَّ يصدِّر رأيه قبل الوحي , وهنا لا يقرُّه الله على هذا الرأي إلاّ إذا كان صواباً، على أنَّ الرسول كان في اجتهاده يستلهم ما نزل مِن قانون الله وشريعته مع تقدير المصلحة.

وأحياناً كان يستشير أصحابه قبل إصدار الحكم؛ ومِن هنا يجب أنْ نجزم أنَّ كلَّ التشريعات التي صدرت في عهد الرسول كانت إلهيَّة، إمَّا عن طريق مباشر بنزول القرآن، وإمَّا عن اجتهاد الرسول في بادئ الأمر، ثمَّ يقرُّه الله عليها (٢) .

وذكر محمّد أمين في كتاب تيسير التحرير:

أكثر أهل العلم على أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) كان مأموراً بالاجتهاد مطلقاً، في الأحكام الشرعية والحروب والأُمور الدينية بغير تقييد بشيء منها، أو مِن غير تقييد بانتظار الوحي، وهو مِن مذهب عامّة الأُصوليين، ومالك والشافعي وأحمد، وعامة أهل الحديث...

____________________

(١) راجع إرشاد الفحول ٢: ٢١٧.

(٢) تاريخ الفقه الإسلامي لبدران ٤٢-٤٣.

٤٠