تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه0%

تاريخ الاجتهاد ومناهجه مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 249

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف: علي الزبيدي
تصنيف:

الصفحات: 249
المشاهدات: 95410
تحميل: 11944


توضيحات:

تاريخ الاجتهاد ومناهجه المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 249 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95410 / تحميل: 11944
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف:
العربية

درهم كلَّ سنّة ـ كما مرّ ـ بقوله: (إنّ بيت المال إنّما يراد لوضع الأموال في حقوقها، ثمّ الاجتهاد، وإلى المتولّي للأمر الاجتهاد في الكثرة والقلّة، فأمّا أمر الخُمس فمِن بـاب الاجتهـاد) (١) .

واعتذر القوشجي عن هذه الأمور وعن غيرها أيضاً بنفس العذر، حيث قال: (وأُجيب عن الوجوه الأربعة، بأنّ ذلك ليس ممّا يوجب قدحاً فيه، فإنّه مِن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية) (٢) .

ومقصوده: أنّ المجتهد عُمَر خالف المجتهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في هذه الأحكام، فهي مِن مخالفة مجتهد لمجتهد، ولا قدح فيها على الخليفة! وما أدراك ربَّما يكون عمَر المصيب فيؤجَر عشراً، فلا إشكال في البَين ما دام كلٌّ منهما مجتهد!!!

ويظهر مِن تتبُّع الأجوبة التي أجاب بها علماء العامة عن سيل الأخطاء التي أرتكبها الصحابة، والتي تنافي وتعارض قول النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وليس لها مستند شرعي، أنّهم بإثباتهم لاجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله) والصحابة يسهل عليهم تبرير هذه الأخطاء حيث:

١ـ حرصوا على إثبات جواز اجتهاد الصحابة بالرأي، وكونه أمراً مستساغاً حظي بمباركة النبي (صلَّى الله عليه وآله)، بل حثّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) أصحابه على ممارسته، فهو ممارسة يومية نابعة مِن صميم الحاجة للصحابة، وليس أمراً ممنوعاً؛ لِيُلام الصحابي عندما يرتكب الخطأ.

٢ ـ عندما يثبت أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) كان يجتهد برأيه، حينها يمكن لأيِّ أحد يَدَّعي الاجتهاد أو يُدّعى له الاجتهاد أنْ يخالف رأي النبي (صلَّى الله عليه وآله)، حاله حال أيِّ مجتهد يخالف آخر في مسائل توصَّل إليها باجتهاده ورأيه.

وبهذا يرتفع كلُّ إشكال يمكن أنْ يرد على نظرية عدالة الصحابة، التي أُريد إثباتها بكلِّ صورة، اللهمَّ، إلاّ ما وقع مِن فعل لا يحتمل الاجتهاد مثل شهادة أبي بكرة صاحب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وأصحابه الثلاثة على المغيرة بن شعبة بالزنا، فمِن أين لهم القول بالاجتهاد في مثل هذا المورد؟! إلاّ أنْ يقال: إنَّ

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢: ٢١٠.

(٢) شرح التجريد: ٤٠٨.

٦١

النبي (صلَّى الله عليه وآله) حرّم الزنا ـ والعياذ بالله ـ باجتهاد رأيه، وليس بنصٍّ مِن الله، فيجوز حينئذ للمغيرة أنْ يخالف التحريم؛ لأنّه مجتهد وله أجر على عمله (١) .

ثمّ فُتح الباب على مصراعيه لهذه الكلمة؛ لتأخذ معنى التوصّل للحكم الشرعي مِن خلال الرأي والقياس، حتى أنّ الشافعي رادف بينها وبين كلمة القياس ـ كما ذكرنا سابقاً رأيه في كلمة الاجتهاد عند ذكرنا المفهوم الخاص للاجتهاد ـ حيث يقول: إنّهما: (اسمان لمعنى واحد) (٢) .

ولأنّ الوصول للأحكام عن طريق القياس مذموم، وليس بحجّة، وورد الكثير مِن الروايات المشدِّدة على تركه، وقد استعملت كلمة الاجتهاد مرادفة للقياس كما عرفنا، تكوَّنت حالة نفرة مِن كلمة الاجتهاد عند فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ومع أنّ الاجتهاد له مفهوم عام ليس له علاقة خاصة بالقياس.

وهو: (ملَكة تحصيل الحُجج على الأحكام الشرعية، أو الوظائف العملية شرعية أو عقلية) بقيت هذه الكلمة مثقلة بتبعات التعاريف السابقة، ونفر منها بعض علماء الشيعة؛ لِما ورد في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) مِن ذمٍّ ونهي شديد عن القياس.

وتحوّل هذا الفهْم إلى خطٍّ ممنهج لنبذ الاجتهاد بكلّ أنواعه، ولم يتفهّم أنّ كلمة الاجتهاد أخذت تدلُّ على مفهوم غير المفهوم المنهي عنه في الروايات الشريفة، وسوف نتطرّق بعون الله لظهور الحركة الأخبارية عند الشيعة الإمامية، عند دراسة الدور الزمنـي الذي ظهرت فيه.

ويجدر أنْ نستفيد في هذا المقام ممَّا كتب السيد الشهيد محمّد باقر الصدر (رضوان الله عليه) في كتابه (المعالم الجديدة للأصول)، حيث يقول: استُعملت هذه الكلمـة ـ لأول مـرّة ـ على الصعيـد الفقهي للتعبيـر بها عن قاعـدة مِن القواعـد التي قـرَّرتها بعض مـدراس الفقـه السنّي وسارت على أساسها، وهي القاعـدة القائلة: (إنّ الفقيه إذا أراد أنْ يستنبط حكماً شرعياً، ولم يجـد نصَّاً يـدلُّ عليـه في الكتاب أو السنّة، رجع إلى الاجتهاد بـدلاً عن النصّ...).

____________________

(١) راجع قصة شهادة الصحابي أبي بكرة على المغيرة عند عمَر بالزنا في كتاب النصّ والاجتهاد للسيد شرف الدين (قُدِّس سِرُّه).

(٢) الرسالة: ٤٧٧.

٦٢

وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيـرة في الفقـه السنّي , وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة، ولقي في نفس الوقت معارضة شـديـدة مِن أئمـة أهل البيت (عليهم السلام) والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم.

وتتبُّع كلمة الاجتهاد يدلّ على أنّ الكلمة حملت هـذا المعنى، وكانت تستخـدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمة إلى القرن السابع، فالروايات المأثـورة عن أئمـة أهل البيت (عليهم السلام) تذمّ الاجتهاد، وتريد به ذلك المبـدأ الفقهي الذي يتّخـذ مِن التفكير الشخصي مصدراً مِن مصادر الحكـم، وقد دخلت الحملة ضـدَّ هـذا المبـدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم، وكانت الحملـة تستعمل كلمة الاجتهاد غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقاً للمصطلح الذي جاء في الـروايات.

فقد صنَّف عبد الله بن عبد الرحمان الزبيـري كتاباً أسماه: (الاستفادة في الطعـون على الأوائل والـردُّ على أصحاب الاجتهاد والقياس)، وصنّف هلال بن إبـراهيم بن أبي الفتح المدني كتاباً في الموضوع باسم كتاب: (الـردُّ على مَن ردَّ آثار الـرسـول واعتمـد على نتائـج العقـول)، وصنَّف ـ في عصر الغيبـة الصغـرى أو قـريباً منـه ـ إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كتاباً في الـردِّ على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نصّ على ذلك كلِّـه النجاشي صاحب الـرجال في تـرجمـة كلِّ واحـد مِن هـؤلاء.

وفي أعقـاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة...

وفي أواخـر القـرن الـرابع يجيء الشيخ المفيـد، فيسيـر على نفس الخطِّ ويهجم على الاجتهاد، وهو يعبِّر بهذه الكلمة عن ذلك المبـدأ الفقهي الآنف الـذكـر، ويكتب كتاباً في ذلك باسم: (النقض على ابن الجنيـد في اجتهاد الرأي).

ونجـد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس، إذ كتب في (الذريعـة) يـذمُّ الاجتهاد ويقـول: (إنّ الاجتهاد باطل، وإنّ الإمامية لا يجوز عنـدهم العمـل بـالظـن ولا الرأي ولا الاجتهاد)، وكتب في كتابـه الفقهي (الانتصار) ـ معـرِّضاً بـابـن الجنيـد ـ قائلاً: (إنَّما عوّل ابن الجنيد في هذه المسألـة على ضـرب مِن الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر)، وقال في مسألة مسح الرجْلين في فصل الطهارة مِن كتاب (الانتصار): (إنّا لا نرى الاجتهاد ولا نقول بـه).

٦٣

الشرعي في هذه المسألة وأمثالها، فيقول (عليه السلام): (هذا وأشباهه يُعرف مِن كتاب الله، قال الله تعالى: ( ... مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ... ) (١) امسح على المرارة) (٢)

فنرى الإمام (عليه السلام) قد أوضح للسائل كيفية الاستنباط وردِّ الفرع إلى الأصل.

وسأل زُرارة وبكير الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عن وضوء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فدعا بطست، إلى أنْ قال: (إنّ الله عزّ وجلّ يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... ) فليس له أنْ يدع شيئاً مِن وجهه إلاّ غسله، وأمر أنْ يغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أنْ يدع شيئاً مِن يديه إلى المرفقين إلاَّ غسله؛ لأنّ الله تعالى يقول: ( ... فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... ) (٣) ) .

وعن حكم بن الحكم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول، وسُئل عن الصلاة في البْيَع والكنائس، فقال: (صلِّ فيها، قد رأيتها ما أنظفها) قلت: أيُصلَّى فيها وإنْ كانوا يصلِّون فيها؟

فقال: (نعم، أما تقرأ القرآن ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيل ) (٤) صلِّ إلى القبلة وغرّ بهم) (٥) .

وفي حديث عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنّ الله جعل لنا أهل البيت سهاماً ثلاثة في جميع الفيء، فقال تبارك وتعالى: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ... ) (٦) ، فنحن أصحاب الخُمس والفيء، وقد حرَّمنا على جميع الناس ما خلا شيعتنا) (٧) .

وقد أفاد الإمام (عليه السلام) أنّ اللام الواردة في قوله تعالى: ( ... وَلِذي القُربى... ) تدلُّ على أنّ التصرُّف في الخمس بيدهم، فلهم أنْ يبيحوه لمَن شاؤوا أو يحرّموه.

____________________

(١) الحج: ٧٨.

(٢) الوسائل ج١:٢٩٠، الباب ٢٣ مِن أبواب الوضوء الحديث١.

(٣) الوسائل ج١، الباب ١٥ مِن أبواب الوضوء، الحديث ٣، والآية ٦ مِن سورة المائدة.

(٤) الإسراء:٨٤.

(٥) الوسائل ج٣، الباب ١٣ مِن أبواب مكان المصلّي, الحديث ٣.

(٦) الأنفال:٤١.

(٧) الوسائل ج٦: ٣٨٥، الباب ٤ مِن أبواب الأنفال، الحديث ١٩.

٦٤

وروى سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنّ الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يُحمدون إلاَّ بأدائها، وهي الزكاة، بها حقنوا دماءهم، وبها سمُّوا مسلمين، ولكنَّ الله فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة، فقال عزّ وجلّ: ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ... ) (١) فالحقّ المعلوم غير الزكاة، وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله، يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته و سعة ماله) (٢) .

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جُعلت فداك، يدخل عليّ شهر رمضان فأصوم بعضه، فتحضرني نيّة زيارة قبر أبي عبد الله (عليه السلام)، فأزوره وأفطر ذاهباً وجائياً؟ أو أُقيم حتى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟

فقال: (أقمْ حتى تُفطر) .

فقلت له: جعلت فداك، فهو أفضل.

قال: (نعم، أما تقرأ في كتاب الله ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (٣) ) (٤) .

يذكر المحقِّق السبحاني أنَّ وجه الاستدلال بالآية هو: إنَّ القرآن لم يوجب شهود الشهر، وإنّما علّق الصيام على من شَهِد اختياراً، وأمّا مَن لم يشهد ولو بالسفر، فلم يكتب عليه الصيام وإنْ كتب عليه القضاء (٥) .

هذه عدّة نماذج تدلُّ على تشجيع الأئمة (عليهم السلام) لأصحابهم على إعمال الفكر، والتدبّر في النصوص والأدلة لأخذ الحكم الشرعي.

____________________

(١) المعارج: ٢٥.

(٢) الوسائل ج٩، الباب ٧ من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث ٢.

(٣) البقرة: ١٨٥.

(٤) الوسائل ج١٠، الباب ٣ من أبواب مَن يصحّ منه الصوم، الحديث ٧.

(٥) أدوار الفقه الإمامي: ٥٢.

٦٥

فتاوى بعض الأصحاب في زمن الأئمة:

ومن المناسب أنْ نذكر هنا بعض الفتاوى التي نُقلت عن بعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ولم يسندوها لأحد منهم صلوات الله عليهم، وعلى الرغم من الاطمئنان بأنَّ الأصحاب إنَّما استقوها عنهم (عليهم السلام)، ولكن بالتالي هي ليست رواية يسندها للإمام (عليه السلام)، وإنّما يمكن أن تكون استفادة استفادها من الكتاب الكريم على ضوء حديث أهل البيت (عليهم السلام)، أو من حديثهم الشريف مباشرة على ضوء قاعدة عمومية سمعها، فتدخل في هذا الباب.

فتاوى زُرارة بن أعين:

زُرارة بن أعين أحد الفقهاء العظام، ممَّن يؤخذ عنه الحلال والحرام والفُتيا والأحكام، وكفى في حقّه قول الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ زُرارة من أُمناء اللّه على حلاله وحرامه، ومن الذين ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأويل الغالين، ومن القوّامين بالقسط، والسابقين إلينا في الدنيا، والسابقين إلينا في الآخرة، وهو أحبُّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً، ولولاه لظننت أنَّ أحاديث أبي ستذهب) (١) .

قال ابن النديم: وزُرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثاً ومعرفة بالكلام والتشيّع (٢) .

وقال النجاشي: شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدِّمهم، وكان قارئاً فقيهاً متكلّماً شاعراً أديباً، قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، صادقاً فيما يرويه (٣) .

وقد كان مرجعاً في عصره لتمييز الصحيح من الروايات عن سقيمها.

روى الكليني عن عمر بن أُذينة، أنّه قال: قلت لزُرارة: إنّ أُناساً حدَّثوني عنه ـ يعني الصادق (عليه السلام) ـ، وعن أبيه (عليه السلام) بأشياء في الفرائض، فأعرضها عليك، فما كان منها باطلاً فقل: هذا باطل. وما كان منها حقَّاً فقل: هذا حقّ. ولا تروِهِ واسكت، فحدّثته بما حدّثني به محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر في الابنة والأب، والابنة والأُم، والابنة والأبوين، فقال: (هو ـ واللّه ـ الحق) (٤) .

____________________

(١) رجال الكشّي: برقم ٤٣١.

(٢) فهرست ابن النديم: ٣٢٣.

(٣) رجال النجاشي: برقم ٤٦٣.

(٤) الكافـي ٧: ٩٥، ٩٨.

٦٦

واليك بعض فتاواه:

عن جميل بن درّاج، عن زُرارة، قال: إذا ترك الرجُل أُمَّه أو أباه أو ابنه أو ابنته، فإذا ترك واحداً من الأربعة، فليس بالذي عنى الله تعالى في كتابه ( ... قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ... ) (١) ، ولا يرث مع الأُم، ولا مع الأب، ولا مع الابن، ولا مع الابنة أحد خلقه الله تعالى، غير زوج أو زوجة (٢) .

عن ابن أُذينة قال: قال زُرارة: إذا أردت أنْ تلقي العول، فإنّما يدخل النقصان على الذين لهم الزيادة من الوِلْد والإخوة من الأب، وأمّا الزوج والإخوة من الأُمّ، فإنَّهم لا ينقصون ممَّا سمَّى لهم الله شيئاً (٣) .

عن موسى بن بكر قال: قلت لزُرارة: إنّ بكيراً حدّثني عن أبي جعفر (عليه السلام)، أنّ الإخوة للأب والأخوات للأب والأُمّ يُزادون وينقصون؛ لأنهنَّ لا يكنَّ أكثر نصيباً من الإخوة والأخوات للأب والأُمّ لو كانوا مكانهن؛ لأنّ الله تعالى يقول: ( ... إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ... ) (٤) يقول: يرث جميع مالها إنْ لم يكن لها ولد، فأعطوا مَن سمّى الله له النصف كُملاً، وعمدوا فأعطوا الذي سمّى الله له المال كلّه أقل من النصف، والمرأة لا تكون أبداً أكثر نصيباً من رجل لو كان مكانها .

قال: فقال زُرارة: وهذا قائم عند أصحابنا لا يختلفون فيه (٥) .

فتاوى محمّد بن مسلم الثقفي:

كان محمّد بن مسلم عليه السلام مرجعاً للأحكام، وكان القضاة يرجعون إليه فيما لا يعلمون.

روى الشيخ في (التهذيب) أنّه قَدَّم إلى ابن أبي ليلى رجلٌ خصماً له فقال:

إنّ هذا باعني هذه الجارية، فلم أجد على ركبها (٦) حين كشفتها شعراً، وزعمت أنّه لم يكن لها قطُّ، فقال ابن أبي ليلى: إنّ الناس ليحتالون لهذا بالحيل حتى يذهب به، فما الذي كرهت؟!

قال: أيّها

____________________

(١) النساء: ١٧٦.

(٢) الوسائل ج ١٧، باب ٧ من أبواب موجبات الإرث، الحديث ٨، كتاب الفرائض.

(٣) الوسائل ج ١٧، باب ٧ من أبواب موجبات الإرث الحديث ١، كتاب الفرائض والمواريث.

(٤) النساء: ١٧٦.

(٥) الكافي ٧: ١٠٤.

(٦) الركب: موضع العانة.

٦٧

القاضي، إن كان عيباً فاقض لي به.

قال: حتى أخرج إليك، فإنّي أجد أذى في بطني. ثمّ إنّه دخل فخرج من باب آخر، فأتى محمّد بن مسلم الثقفي، فقال: أيُّ شيء تروون عن أبي جعفر (عليه السلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر، أيكون ذلك عيباً؟

فقال له محمّد بن مسلم: أمّا هذا نصّاً فلا أعرفه، ولكن حدّثني أبو جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنّه قال: (كلّ ما كان في أصل الخلْقة فزاد أو نقص فهو عيب) .

فقال له ابن أبي ليلى: حسبك. ثمّ رجع إلى القوم، فقضى لهم بالعيب (١) .

روى محمّد بن مسلم قال: إنّي لنائم ذات ليلة على السطح، إذ طرق الباب طارق، فقلت: مَن هذا؟ فقال: شريك، رحمك الله. فأشرفت فإذا امرأة، فقالت: لي بنت عروس ضربها الطلَق، فما زالت تطلق حتى ماتت، والولد يتحرّك في بطنها ويذهب ويجيء فما أصنع؟ فقلت: يا أمَة الله، سُئل محمّد بن عليّ بن الحسين الباقر (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال: (يُشقُّ بطن الميت، ويستخرج الولد) . يا أمَة الله، افعلي مثل ذلك، أنا يا أمَة الله رجل في ستر، مَن وجّهك، إليّ؟ قال: قالت لي: رحمك الله، جئت إلى أبي حنيفة صاحب الرأي , فقال: ما عندي في هذا شيء، ولكن عليك بمحمّد بن مسلم الثقفي؛ فإنّه يخبر، فما أفتاك به من شيء فعودي إليّ فأعلمينيه، فقلت لها: امضي بسلام.

فلمّا كان الغد خرجت إلى المسجد، وأبو حنيفة يسأل عنها أصحابه فتنحنحت، فقال: اللّهمّ اغفـر، دعنا نعيش (٢) .

____________________

(٢) التهذيب ٧:٦٥، ح٢٨٢. الكافي ٥: ٢١٥ ح١٢.

(١) رجال الكشّي ١٤٧ برقم ٦٧، ولاحظ أيضاً الكافي ٧: ٩٣.

٦٨

الفصل الثالث:

المراحل التاريخية للاجتهاد في المدرسة السُنِّيّة

دَور الصحابة والتابعين.

دَور الأئمة الأربعة حتى انسداد باب الاجتهاد.

· المذهب الحنفي

· المذهب المالكي

مدرسة الرأي

مدرسة الحديث

· المذهب الشافعي

· المذهب الحنبلي

· المذاهب المنقرضة

دَور انسداد باب الاجتهاد (عصر التقليد).

دَور الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد من جديد.

٦٩

المراحل التاريخية للاجتهاد في المدرسة السُنِّيّة:

يمكن تقسيم مراحل الاجتهاد في المدرسة السنِّية تقسيماً تقريبياً وحصرها في أربعة أدوار:

١ - دَور الصحابة والتابعين.

٢ - دَور الأئمة الأربعة حتى انسداد باب الاجتهاد.

٣ - دَور انسداد باب الاجتهاد (عصر التقليد).

٤ - دَور الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد من جديد.

أولاً: دَور الصحابة والتابعين .

مرّ في فصل (الاجتهاد بعد زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله)) أنّه كان بعض الصحابة إذا عرضت لهم مسألة حاولوا أن يجدوا حلّها مِن الكتاب أو السنّة، فإن وجدوا حلّها فيها. وإلاّ كانوا يعملون بما وصل إليه رأيهم في المسألة ـ وإن كان هناك من يتوقّف عن الإفتاء بالرأي ـ كما تدلُّ على ذلك نصوص كثيرة.

وذكرنا كيفية إفتاء الخليفة الأوّل إذا غاب عنه النص القرآني، وأنّه يرجع إلى ما عنده من النصوص النبوية، فإن لم يجد يخرج ليلتمس النص النبوي عند المسلمين، فيسمع من الناس أقوالاً عن النبي (صلَّى الله عليه وآله)، فيحكم على طبق أحدها، وإذا غاب النص النبوي عمل على جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به (١) .

____________________

(١) راجع فصل الاجتهاد بعد عصر النبي (صلَّى الله عليه وآله) من هذا البحث ص٥٢.

٧٠

ومرّ كيف أنّه عمل على طبق رواية أوس بن الحدثان، ومَنَعَ إرث السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع صريح القرآن بتوريث سليمان ويحيى (عليهما السلام) مِن داود وزكريا (عليهما السلام) مع أنّهما أنبياء.

ومرّ تحت عنوان (اجتهاد الصحابة مقابل النص) نماذج مِن اجتهاد الصحابة بالرأي، مع وجود النص الصريح على خلاف ما حكموا به، فرأينا إحراق أبي بكر للفجاءة السلمي , ومنع عمر بن الخطاب عن أهل البيت (عليهم السلام) الخمس الذي نصّ عليه القرآن مع إتحافه زوجتَي النبي (صلَّى الله عليه وآله) بعشرة آلاف، وقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة التميمي عامل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على صدقات قومه، ثمّ دخل بزوجته في نفس الليلة، وغيرها من الاجتهادات بالرأي مع وجود النص.

نعم كان الاجتهاد في هذا الدور يتمثّل غالباً في استنباط الحكم من الكتاب، فإن لم يوجد فيه فمن السنّة، وإن لم يوجد في السنّة فمن قول صحابي له فتوى في تلك المسألة ـ وبالطبع هذا يُتصوّر بالنسبة إلى التابعين أو صغار الصحابة ـ فإن لم يكن هناك فتوى لصحابي في المسألة، كان المفتي يرى رأيه في إعطاء جواب المسألة.

ويمكن أن نعتبر أنّ هذا الدور هو الدور الأوّل من أدوار الاجتهاد في المدرسة السنيّة.

ومن خصائص هذا الدور تدوين السنّة بأمر عمر بن عبد العزيز (١) وظهور الاختلاف بين الفقهاء في أواخر هذا الدور، الذي انتهى بانقسامهم إلى مدرستين: مدرسة الرأي , ومدرسة الحديث.

ثانياً: دَور الأئمة الأربعة، حتى انسداد باب الاجتهاد .

ويمتد هذا الدور من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع.

أهم ملامح هذا الدور:

١. اتِّساع الحضارة ونمو الحركة العلمية في الأمصار الإسلامية.

٢. ازدياد حفّاظ القرآن والعناية بأدائه.

٣. تدوين السنّة وأُصول الفقه، وظهور المصطلحات الفقهية.

____________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي: ١١١.

٧١

٤. ظهور المذاهب الأربعة وغيرها من المذاهب المنقرضة.

٥. انشقاق المدرسة إلى مدرستي الرأي والحديث، والنزاع في مادة الفقه (السنّة والإجماع والقياس وغيرها) (١) .

أدّت مجموعة من العوامل والأسباب ـ سوف نأتي بعون الله على ذكرها ـ لاستمرار العمل بأربعة من المذاهب السنِّيّة، والاقتصار عليها، وهي: المذهب الحنفي , و المالكي , والشافعي، والحنبلي , بينما انقرضت سائر المذاهب الأُخرى، ولم يكتب لها البقاء، وإليك نُبذة عن المذاهب الأربعة وأصحابها:

المذهب الحنفي:

يُنسب لمؤسّسه أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وهو كوفي يعدّ من أتباع التابعين، ولد سنّة ٨٠، ومات ببغداد سنّة ١٥٠هـ، وقد اشتغل في بداية أمره بعلم الكلام، ثمّ تحوّل إلى الفقه، وأخذ عن حمّاد بن أبي سليمان الكوفي (ت١٢٠هـ) الذي ورث الفقه من أعلام الصحابة والتابعين الذين نزلوا الكوفة مثل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) (ت٤٠هـ)، وعبد الله بن مسعـود (ت٣٢هـ)، وعلقمة بن قيس (ت٦٢هـ)، ومسروق بن الأجدع (ت٥٣هـ)، وإبراهيم النخعي (ت ٩٦هـ)، وعامر بن شراحيل الشعبي (ت١٠٤هـ).

يقول الكوثري: أصبحت الكوفة لا مثيل لها بعد أن اتَّخذها عليّ بن أبي طالب (كرم الله وجهه) عاصمة الخلافة، فكبار أصحاب عليّ وابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ بها، لو دوّنت تراجمهم في كتاب خاص لأتى كتاباً ضخماً، وليس هذا موضع سرد لأسمائهم، وقد جمع شتات علـوم هـؤلاء، إبراهيم بن يزيد النخعي , وقد جمع أبو حنيفة علوم هؤلاء ودوّنها بعد أخذٍ وردٍّ شديدين في المسائل بينه وبين أفذاذ أصحابه في مجمع فقهي، كيانه من أربعين فقيهاً من نبلاء تلاميذه (٢) .

____________________

(١) مقدّمة تاريخ حصر الاجتهاد، لآقا بزرك الطهراني بقلم الشيخ الأنصاري الشوشتري.

(٢) راجع مقالات الكوثري:٢٢١، ب.

٧٢

روى الخطيب البغدادي عن أبي مطيع قال: قال أبو حنيفة: دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنيـن، فقال لي: يا أبا حنيفة، عمّن اخترت العلم؟ قال: قلت: عن حمّاد، عن إبراهيم، عن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس (١) .

وانتشر مذهب أبي حنيفة في معظم الأمصار الإسلامية، يقول ابن خلدون: وأمّا أبو حنيفة فقلّده اليوم أهل العراق، ومسلمة الهند والصين، وما وراء النهر، وبلاد العجم كلّها، لمَّا كان مذهبه أخصّ بالعراق ودار السلام، وكان تلاميذه صحابة الخلفاء من بني العباس، فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية، وحسنت مباحثهم في الخلافيات، وجاؤوا منها بعلم مستظرف وأنظار غريبة (٢) .

وقد انتشر مذهبه بعدما بسط العثمانيون نفوذهم على معظم الأمصار الإسلامية، وجعلوا المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي للدولة، وأمروا القضاة أن يعملوا وفق فقهه، فصار الفقه الرائج هو الفقه الحنفي , فدخل: مصر، والشام، وتونس، والجزائر، وطرابلس، واليمن، و آسيا الوسطى.

المذهب المالكي:

ونسبته لمؤسّسه مالك بن أنس بن مالك بن أنس، ولد سنّة ٩٤هـ ـ وتوفِّي سنة١٧٩هـ.

مدرستي الرأي والحديث:

إنّ من أهم مظاهر هذا الدور: اتِّساع الشقَّة بين مدرستي الرأي والحديث، اللتين ظهرتا في أواخر الدور الأول، فتميَّزت المدرستان بكلّ وضوح ضمن المذاهب الأربعة التي سادت في هذا الدور، وتبنّى مذهب أبي حنيفة الرأي كمنهج لاستنباط الأحكام، بينما تبنّى مالك بن أنس منهج الحديث.

١ - مدرسة الرأي:

مركز هذه المدرسة الكوفة، ورائدها أبو حنيفة، وقد كان لبُعد الكوفة عن المدينة ـ مركز الحديث والسنّة ـ أثر كبير في ظهور هذه المدرسة، حيث كان الطابع العام لهذه المدرسة التشدُّد في قبول السنّة ورفض كثير منها، والاعتماد على القياس والاستحسان وأمثالهما.

____________________

(١) تاريخ بغداد: ١٣: ٣٣٤.

(٢) مقدّمة ابن خلدون: ٤٤٨.

٧٣

وصار لهذه المدرسة صدى كبير يوم ذاك في العالم الإسلامي , فكان علماء المسلمين بين مؤيِّدين لها ومخالفين.

وممَّن وقف أمام هذه المدرسة وزيفها أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ إذ إنّهم كانوا يرفضون العمل بالرأي والقياس، وقد مرّ طرف من الحديث فيه إشارة لذلك، وأنَّ اصطلاح الاجتهاد بقي مثقلاً بأعباء هذه الكلمة؛ لأنّها كانت تشير للقياس المنهي عنه من قِبل أهل البيت (عليهم السلام).

وإليك مثالاً من الروايات الناهية والمشدِّدة في النكير على القياس بالرأي:

عن محمّد الصيرفي , وعن عبد الرحمن بن سالم، أنّه دخل ابن شبرمة (١) وأبو حنيفة على الصادق (عليه السلام) فقال لأبي حنيفة: (اتَّقِ الله، ولا تَقْس الدين برأيك، فإنَّ أوّل مَن قاس إبليس؛ إذ أمره الله تعالى بالسجود فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، ثمّ قال: هل تُحسن أن تقيس رأسك من جسدك؟) . قال: لا... قال: (فأنت الذي تقول: سأُنزل مثل ما أنزل الله؟) .قال: أعوذ بالله من هذا القول. قال: (إذا سُئلت فما تصنع؟) . قال: أُجيب عن الكتاب، أو السنّة، أو الاجتهاد. قال: (إذا اجتهدت من رأيك وجب على المسلمين قبوله؟) . قال: نعم. قال: (وكذلك وجب قبول ما أنزل الله تعالى، فكأنّك قلت: سأُنزل مثل ما أنزل الله تعالى) (٢) .

وعن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: (عشرة من الإبل) ، قلت: قطع اثنين؟ قال: (عشرون) ، قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: (ثلاثون) ، قلت: قطع أربعاً؟ قال: (عشرون) ، قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً ويكون عليه عشرون؟! إنَّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قال، ونقول: الذي جاء به شيطان. فقال: (مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، إنّ المرأة تُعاقل الرجل إلى ثلُث الديَّة، فإذا بلغت الثلُث رجعت إلى النصف. يا أبان، إنَّك أخذتني بالقياس، وإنَّ السنّة إذا قيست مُحق الدين) (٣) .

____________________

(١) بضم الشين وسكون الباء وضم الراء هو عبد الله بن شبرمة، كان من فقهاء العامة العاملين بالقياس.

(٢) بحار الأنوار ١٠: ٢١٢-٢١٤.

(٣) الوسائل ج٢٩، باب أنّ ديّة أعضاء الرجُل والمرأة سواء إلى أن يبلغ ثلُث الدية،ح١.

٧٤

٢ - مدرسة الحديث:

ومن مظاهر هذه المدرسة الاعتماد على القرآن والسنّة فقط، ورفض القياس والاستحسان؛ ولذلك وقف بعض روَّاد هذه المدرسة موقفاً عنيفاً أمام مدرسة الرأي , فرفضوها رفضاً شديداً.

كان مالك بن أنس من المسارعين والدعاة إلى هذه المدرسة، فكان يهتمُّ بالحديث ولم يعمل بالقياس إلاّ قليلاً، حتى إنّه بكى حين موته وودَّ أنّه ضُرب في مقابل كلّ مسألة أفتى فيها برأيه سوطـاً! كما ذكر ذلك ابن خلّكان في تاريخه (١) . ثمّ تمَّ تشييدها بيد داود بن عليّ الظاهري ـ إمام المذهب الظاهري ـ وكان داود بن عليّ الظاهري يرى العمل بظاهر الكتاب والسنّة، ويرفض القياس رفضاً باتّاً؛ لأنَّ في عموم الكتاب والسنّة ـ بحسب رأيه ـ ما يفي بجواب كل مشكلة.

وأمَّا باقي الأئمة الأربعة ـ أي الشافعي وأحمد بن حنبل ـ فكانوا حدّاً وسطاً بين هاتين المدرستين، فالشافعي كان يعمل بالقياس بينما كان يرفض الاستحسان رفضاً باتّاً (٢) .

وبعد الصراع العنيف الذي كان بين المدرستين، كان الظهور لمدرسة الرأي (٣) .

٣. المذهب الشافعي:

وقد شيَّد معالمه محمّد بن إدريس الشافعي (المولود في سنة١٥٠ والمتوفَّى سنّة ٢٠٤هـ)، الذي تخرّج على يد مالك شيخ الحجازيين وزعيم مدرسة الحديث، كما اتَّصل بمحمّد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وزعيم مدرسة الرأي فأخذ منهما , فصار مذهبه الفقهي حدّاً فاصلاً بين المذهبين (الحنفي والمالكي).

وقد انتشر مذهبه على يد تلامذته في كثير من الأقطار، وذكر تفصيلها ابن خلدون في (المقدّمة) وقال ما خلاصته: أمّا الشافعي، فمقلّدوه بمصر أكثر من سواها، وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار، وعظمت مجالس المناظرات بينهم، وشُحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم.

____________________

(١) تاريخ ابن خلّكان ٤: ١٣٧.

(٢) تاريخ التشريع الإسلامي: ١٤٨.

(٣) للتوسع انظر كتاب الاجتهاد بالرأي في مدرسة الحجاز الفقهية للدكتور حسن خليفة.

٧٥

إلى أن قال: وقد انقرض فقه أهل السنّة في مصر، بظهور فقه أهل البيت، ولمّا انقرض على يد صلاح الدين رجع إليهم فقه الشافعي وأصحابه من أهل العراق والشام، واشتهر منهم: محيي الدين النووي , وعزّ الدين بن عبد السلام، وتقيّ الدين بن دقيق العيد، ثمّ تقي الدين السُبكي, إلى أن انتهى إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد، وهو سراج الدين البلقيني , فهو اليوم أكبر الشافعية بمصر، وكبير العلماء بها، بل أكبر العلماء من أهل مصر (١) .

٤. المذهب الحنبلي:

وهو منسوب إلى مؤسّسه أحمد بن محمّد بن حنبل (١٦٤ـ ٢٤١هـ) ولا شكّ أنّه يُعدُّ من كبار المحدِّثين، ومسنده الموجود دليل على توسّعه في الحديث، إنّما الكلام في أنّه هل كان جالساً على منصَّة الإفتاء؟ أو أنّه كان يتورّع عن الإفتاء إلاّ قليلاً؟.

وعلى أيِّ حال، كان الاجتهاد في هذا الدور يعتمد على الكتاب والسنّة، والقياس والاستحسان والإجماع، وقد اختلفوا في كيفية الإجماع ومدى حجّيته، فإنَّ الشافعي كان يرى أنّ الإجماع المعتبر هو إجماع جميع العلماء في البلدان كلّها، وأنكر على المالكية قولهم: إنّ المعتبر هو إجماع أهل المدينة كلّهم. وألزمهم بالمخالفات الكثيرة التي خالفوا فيها الصحابة كأبي بكر وعمر (٢) .

المذاهب المنقرضة:

وظهرت في هذا الدور أيضاً مذاهب متعدِّدة أُخرى، قد انقرضت ولم يبقَ منها إلاّ الاسم نذكرها باختصار:

١. مذهب الحسن البصري (٢٣ـ١١٠هـ) هو الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت الأنصاري , ولِد في المدينة لسنتِّين بقيتا من خلافة عمر.

____________________

(١) مقدّمة ابن خلدون: ٤١٥.

(٢) تاريخ الفقه الإسلامي: ٢٤٠، ٢٤٨ كما عن المبادئ العامة للفقه الجعفري ٢٦٥.

٧٦

٢. محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (٧٤ـ ١٤٨هـ) كان من أصحاب الرأي , وتولَّى القضاء بالكوفة، وأقام حاكماً ٣٣ سنّة، وليَ لبني أُميّة ثمّ لبني العباس، وكان فقيهاً مفتياً، توفِّي سنّة ١٤٨هـ.

وكان بينه وبين أبي حنيفة وحشة؛ إذ كثيراً ما يُستفتى أبو حنيفة فيما قضى فيه ابن أبي ليلى فيفتي بخلافه، فيتأثَّر لذلك ابن أبي ليلى.

٣. الأوزاعي , أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمّد الأوزاعي (٨٨ ـ١٥٧هـ)، كان أصله من سبي السند، وكان ينزل الأوزاع ـ اسم قبيلة ـ وغلب ذلك عليه.

انتشر مذهبه بالشام والأندلس، ولكنّه انقرض في القرن الرابع بعد أن تولَّى قضاء دمشق أتباع الشافعي ونشروا مذهبه، كما انقرض مذهبه من الأندلس بعد المائتين؛ بسبب تغلّب مذهب الإمام مالك، وقبره في بيروت، له كتاب: (السنن في الفقه والمسائل).

٤. سفيان الثوري (٩٧ـ١٦١هـ) وهو كوفي , وكان له مذهب فقهي , ولم يطلْ العمـل بمذهبـه، وحلّ مكانه مذهب الأوزاعي, وقد أوصى إلى عمار بن سيف في كتبه فمحاها وأحرقها، وقد أخذ بمذهبه أُناس باليمن، وآخرون من أصفهان وقوم بالموصل، وقد انقرض أهل هذا المذهب في وقت قصير، ثمّ اختفت كتبهم.

٥. ليث بن سعد الفهمي (المتوفَّى ١٧٥هـ) ولِد بقلقشندة على نحو أربعة فراسخ من الفسطاط، عالم مصر وفقيهها ورئيسها.

ارتحل إلى الحجاز، ثمّ إلى العراق حتى استقرّ في مصر، وكان له مذهب خاص في الفقه، إلاّ أنّه غلب على مذهبه مذهب الإمامين مالك والشافعي، اللّذَين تقاسما مصر بعد وفاته، وله رسالة إلى مالك بن أنس نشرها ابن قيِّم الجوزية في (إعلام الموقعين).

٦. أبو ثور إبراهيم بن خالد بن اليمان الكلبي البغدادي (المتوفَّى ٢٤٠هـ) كان ببغداد، وكان مذهبه مشتقّاً من مذهب الشافعي , فهو يعدُّ من أئمّة فقهاء الشافعية، وإن كان لا يقلِّده بلْ يخالفه متى ظهر الدليل، وقد اختار لنفسه آراء، وصار له مذهب خاص، وله أتباع، لكنّه لم يدم طويلاً.

٧٧

٧. أبو سليمـان داود بن علي بن خلف الاصبهـاني (٢٠٢ـ٢٧٠هـ) المعروف بالظاهري , ولِد بالكوفة سنة ٢٠٢هـ، وكان من مقلّدي المذهب الشافعي, وأكثر الناس تعصباً له، انتهت إليه رئاسة العلم ببغداد، ثمّ انتحل لنفسه مذهباً خاصاً، أساسه العمل بظاهر الكتاب والسنّة، ما لم يدلَّ دليل منهما، أو من الإجماع على أنّه يراد به غير الظاهر، فإن لم يوجد نص عمل بالإجماع، ورفض القياس رفضاً باتّاً، وكان يقول: إنّ في عمومات النصوص من الكتاب والسنّة ما يفي بكلّ جواب.

له مصنّفات منها: كتاب (إبطال التقليد) وكتاب (إبطال القياس).

وقد استمرَّ مذهب داود متّبَعاً إلى منتصف القرن الخامس، ثمّ اضمحلَّ، وله آراء خالف فيها أهل السنّة، نتجت من ترك القياس والرأي والعمل بظاهر الكتاب والسنّة.

١. أبو جعفر محمّد بن جرير الطبـري (٢٢٤ـ٣١٠هـ) ولِد بآمل طبرستان، أخذ الفقه عن داود، ودرس فقه أهل العراق ومالك والشافعي , فاجتمع عنده وجوه المعرفة بالفقه، وانتحل لنفسه مذهباً خاصاً، وكان له أتباع، وقد اشتهر مذهبه في بغداد، ومن مؤلّفاته في الفقه كتاب (اختلاف الفقهاء)، والكتاب يُعرب عن إلمامه بآراء فقهاء عصره ومن قبله، وقد حفظ بذلك آراء مَن تقدّمه أو عاصره من الفقهاء.

أفل نجم مذهبه بعد منتصف القرن الخامس، وبقيت آراؤه في الكتب (١) .

ثالثاً: دَور التقليد:

وهو دور حصر الاجتهاد والدعوة إلى التقليد، ولا يمكننا تعيين بداية هذا الدور على التحديد؛ وذلك أنّ المحاولات لتحديد دائرة الاجتهاد كانت كثيرة وفي أزمنة مختلفة، فكانت هذه المحاولات في فترة بين الرابع والسابع الهجري، حتى تمَّ ذلك ـ كما عن خطط المقريزي ـ في سنّة ٦٦٥ على يد (بيبرس البندقداري) حيث ولّى مصر أربعة قضاة: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي. فاستمرَّ ذلك حتى لم

____________________

(١) نقلنا التعريف بالمذاهب المنقرضة والسائدة عن كتاب المحقِّق السبحاني تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره.

٧٨

يبقَ في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام، سوى هذه الأربعة، وعودي مَن تمذهب بغيرها (١) .

وفـيما بين القرنين الخامس والسادس لم يدَّعِ أحد الاجتهاد بمعناه الكامل، وإنّما وجد فقهاء ذوو اقتدار على الاستنباط في حدود مذاهبهم، ومن أواخر القرن السابع لم يوجد غير فقهاء ذوي فتاوى وترجيحات، وبذلك ضاقت مجالات الاجتهاد، حتى ذهب الظن ببعض الناس إلى أنّ باب الاجتهاد قد أُغلق (٢) .

وتوقّف الفقهاء في هذا الدور عن كل حركة علمية، وأعرضوا عن النظر في الكتاب والسنّة، ولبثوا يجترُّون بعض الكتب الفقهية القديمة، ولم يجدوا في شيء منها وأُغرموا بجدل لا يُجدي نفعـاً، وخلافات سطحية حول هذه الجملة أو تلك، وانكبُّوا يعلّقون على هذا الرأي أو ذاك، أو يشرحون هذا المتن أو يحشون هذا الشرح، أو يعلّقون على هذه الحاشية أو يذيِّلون هذا التعليق، وهكذا أفرغوا جهدهم في مُماحَكات لفظية، وأفنوا كثيراً من وقتهم في خصومات صاخبة لم تعد على الإسلام والمسلمين بأيّة فائدة (٣)(٤) .

الأسباب التي أدَّت إلى انسداد باب الاجتهاد:

تضافرت عوامل وأسباب عدّة أدّت إلى سدِّ باب الاجتهاد بوجه الفقهاء، وفتح باب التقليد والجمود واجترار المسائل القديمة وعدم التطوّر في البحث الفقهي , يمكن أن نستخلص أهمَّها ممّا كتب عن المرحلة التي سُدَّ باب الاجتهاد فيها:

١. الدعاية القوية التي قام بها أنصار المذاهب المتّبعة؛ فإنَّها حلّت من القلوب في السويداء، وملكت على الناس مشاعرهم، وأصبحوا يعتبرون مَن لم يأخذ بها خارجاً مُبتدعاً، وساعد على ذلك

____________________

(١) الخطط المقريزية ٢: ٣٤٤.

(٢) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي: ٧٤.

(٣) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي: ٧٤.

(٤) تاريخ حصر الاجتهاد: ٢٥-٢٦.

٧٩

أنّه كان لبعض الأئمة تلاميذهم من المكانة في الهيئة الاجتماعية، والاتِّصال بالخلفاء والـوزراء، ما جعل هؤلاء يُساهمون في نشر تلك المذاهب وتأييدها بشتَّى الوسائل، والخلفاء أقدر على صرف الناس إلى المذهب الذي يميلون إليه.

فقد نصر مذهب الشافعي في بلاد المشرق محمود بن سبكتجين ونظام الملك، وقام صلاح الدين بتأييده في مصر، وكان العنصر التركي يميل إلى مذهب أبي حنيفة وينصره، وكثيراً ما قام الأمراء والوزراء والأغنياء بإنشاء مدارس، وقصروا التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معيَّنة؛ فكان ذلك سبباً في الإقبال على تلك المذاهب والانصراف عن الاجتهاد؛ محافظة على الأرزاق التي رُتّبت لهم.

سأل أبو زرعة شيخه الإمام البلقيني قائلاً: ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني , فقال أبو زرعة: فما عندي , أنَّ الامتناع من ذلك إلاَّ الوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وأنّ مَن خرج عن ذلك واجتهد لم ينله شيء من ذلك، وحُرم ولاية القضاء، وامتنع الناس من إفتائه، ونُسب إليه البدعة. فتبسَّم البلقيني ووافقه على ذلك (١) .

يقول آقا بزرك الطهراني: من تلك الأمور المؤثّرة في التقدّم على سبيل الاتّفاق، كثرة الأصحاب والتلاميذ، وازدحام الأعوان، والمروّجين، ووفور الحماة والمتعصّبين، وعظمة شوكتهم، وشدّة سطوتهم، واقتدارهم على نشر المذهب.

كما أنّ نقائض هذه الأمور [ يؤثّر ] ما يُضادُّ التعالي والتقدُّم والنشر، وينتج إخماد ذكر إمام المذهب، والإعراض عنه قليلاً قليلاً، وتدرّجه في الاندراس شيئاً فشيئاً، حتى ينتهي إلى انقراض مذهبه رأساً، وإنسائه في الوجود كأن لم يكن شيئاً مذكوراً.

وقد أثّرت موجات الانقراض، بالنسبة إلى أكثر المذاهب التي حدثت في أواخر القرن الثاني وما بعده، كما أنّه أثّرت عوامل الارتقاء والانتشار، ودوام السير والبقاء إلى يومنا هذا في خصوص المذاهب الأربعة من تلك المذاهب بما نراه اليوم.

____________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي للسايس: ١٣٧.

٨٠