نصرة المظلوم

نصرة المظلوم0%

نصرة المظلوم مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 123

نصرة المظلوم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن آل العلامة الشيخ إبراهيم المظفر
تصنيف: الصفحات: 123
المشاهدات: 30789
تحميل: 5336

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 123 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30789 / تحميل: 5336
الحجم الحجم الحجم
نصرة المظلوم

نصرة المظلوم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشيعة، ويشتدُّ أزرهم، وتظهر كلمتهم، وتثبت عقائدهم، ببركة تلك الثورات الناجمة مِن قتل الحسين عليه السلام، ولم يمضِ ضرن واحدة مِن لدُن قتله حتَّى بِيْد بنو أُميَّة، وأصبحت السلطة الإسلاميَّة لفريق مِن بني هاشم، وهم بنو العباس، الذين - باسم ثارات الحسين عليه السلام وولده وبني عمومته - لم يُبقوا مِن الأُمويين في الأرض نافخ ضَرَمة(1) ، إلّا مَن لا يُعرف.

مِن هذه الرموز كلِّها تعرف معنى كون الحسين عليه السلام قتل لإحياء دين جدِّه، وتُذعن أنَّه لم يطلب حقَّاً هو لغيره، ولم يرد أنْ يكون جبَّاراً في الأرض، وإلّا فلا موقع فإطرائه والطلب بثأره.

ولما رسخت أقدام العباسيِّين في الإمرة الإسلاميَّة، ورأوا أنَّ المغروس في أعماق قلوب أكثر المسلمين هو أنَّ الرياسة الروحانيَّة المقدسة لعَقب الحسين عليه السلام مِن العلويِّين، خافوا على مُلكهم بادرة الثوّار منهم، وأدرك أولئك أن لا قدرة لهم على الطلب بحقِّهم، وقد باد بنو أُميَّة، وتشتَّت أفكار العامَّة، أعرست الدنيا بمُلك بني العباس(2) ، وكان الرئيس الروحاني مِن أولاد الحسين عليه السلام يومئذ، والمشار إليه

____________________

= ثم أضاف أبو الفرج الأصفهاني: وكان عيسى أفضل من بقي من أهله، ديناً وعلماً وورعاً وزهداً وتقشفاً، وأشدهم بصيرة في أمره ومذهبه، مع علم كثير من رواية للحديث وطلب له، وقد روى عن أبيه وجعفر بن محمد وأخيه عبد الله بن محمد وسفيان بن سعيد الثوري. مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص 407.

(1) نافخ ضرمه: مثل يضرب للدلالة على خلوّ الديار من أهلها، بحيث لم يبق منهم أحد يشعل ناراً فينفخ فيها، وهي كناية عن اجتثاثهم عن جديب الأرض.

(2) أعرست الدنيا أي زهت وأظهرت زينتها، كما تظهر العروس لزوجها، وكما أن العروس تجاري زوجها فتخضع له، فكذلك خضعت الدنيا لبني العباس، وهي دلالة على زهو العباسيين بملكهم.

وربما يستعمل بمعنى دهش، كما عند ابن منظور، فيكون المعنى: أن الدنيا اندهشت بملك بني العباس لعظمته. والأول أوفق بالمقام.

٢١

مِن بينهم، والمطاع في الناس هو أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، فآثر العُزلة وكذلك أبناؤه إماماً بعد إمام، وهم فل خلال ذلك يُلاقون ضروب الأذى والقتل والتنكيل، ولكنَّهم حفظوا ما قُتِل عليه جدّهم بأمرهم شيعتهم - بدل الثورة - بالتذكُّرات الحسينيَّة، بذكر مصائبه، فُرادى وجماعات، في جميع الأحوال، ونقل ما جرى عليه وعليهم مِن الفجايع، مِن لدُن قتله إلى أيَّامهم، والبُكاء والإبكاء والتباكي لما أصابهم، وبالغوا في الإطناب بذكر ثواب ذلك، إلى حد هو فوق النصور، لأنَّهم رأوا أن ذلك هو اليد القويَّة في إحكام الرابطة بين أفراد الشيعة، وتميُّزهم عمَّن سواهم مِن الشّيع، كما أنَّ الثورات الدمويَّة أوجبت تميزهم عن شيعة بني أُميَّة، وحفظت عقائدهم لذلك الوقت، وعلى ذلك مِن الشواهد التاريخيَّة ما تضيق عنه الرسالة.

ثمَّ إنَّهم عليهم السلام - بمزيد لُطفهم وواسع علمهم - حفظوا تلك المجتمعات، وحافظوا على الأفراد والجماعات مِن الشيعة، بتشديد الأمر عليهم بالاتِّقاء والتستر، حتى نفوا اسم الدين عن غير المتَّقي(1) ، وهذه المجتمعات - المأمور بها منهم ببيانات مُختلفة

____________________

(1) وقد شددوا (صلوات الله عليهم) على التقية بما لا مجال فيه للتردد والتأويل، حى جعلوا الدين مرهوناً بالتقية، فقد روى الكليني بسنده عن أبي عمر الأعجمي عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال: يا أبا عمر، إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين). الكافي ج 2 ص 246، باب التقية حديث 2.

وعن أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: التقية من دين الله. قلت: من دين الله؟ قال: إي والله من دين الله، ولقد قال يوسف: (أيتها العير إنكم لسارقون)، والله ما كانوا سرقوا شيئاً، ولقد قال إبراهيم: (إني سقيم) والله ما كان سقيماً). الكافي ج 2 ص 246، باب التقية حديث 3.

وهذا التشدد في الحث على التقية جاء على خليفة ما عاناه الشيعة من مطاردة السلطات وتتّبع آثارهم، والعمل على القضاء عليهم بشتى الطرق وأنواع الوسائل، إلا أن حكمة أهل البيت عليهم السلام وألطافهم حفظت شيعتهم من هجمات أعدائهم، وتربصهم لهم في كل حين، حتى أنك لتجد شيعة أهل البيت عليه السلام يملؤون أقطار المعمورة بفضل حكمة التقية التي أبقتهم رغم تآمر أهل الدنيا عليهم. =

٢٢

والمنعقدة عندهم في منازلهم - هي ما نسميها اليوم: (المآتم) و(مجالس العزاء).

لا شكَّ أنَّه لا غرض للأئمَّة عليهم السلام - وهم حُكماء الأُمَّة - مِن الأمر بذلك الاجتماع المحزن، وتذكُّر تلك المصيبة المقرحة، في أحوال مخصوصة كثيرة، وزيارته التي لم يَكفهم الترغيب إليها والمبالغة في ثوابها، حتَّى حذَّروا مِن تركها.

وبعبارة جامعة: ليس أمرهم بتلك الروابط الحسينيَّة إلا حفظ المذهب عن الاندراس، وهو الغاية التي قُتِل لها الحسين عليه السلام، وهذه الحِكَم - مع أنَّها وجدانيَّة - قد ألمعوا إليها بعبارات مُختلفة، وضوحاً وخَفاءً، وأمروا بها صريحاً، فيما تضمَّن الحثُّ على إحياء أمرهم.

نحو قول الصادق عليه السلام للفضيل بن يسار:

(تجلسون وتتحدَّثون ؟

قال: نعم، جعلت فداك، قال:

إنَّ تلك المجالس أُحبُّها، فأحيوا أمرنا. يا فضيل، فرحم الله مَن أحيى أمرنا) (1) .

وقوله (عليه السلام):

(مَن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) (2) .

____________________

= ولابد من التنويه إلى أن أعداءهم قد عرفوا سبب حفظهم وتحصنهم بالتقية، فلم يستطيعوا القضاء عليهم والوصول إليهم، فأخذوا بالتشهير بهم، والقول بأن تقيّتهم هذه نفاق، علّهم يجدون سبباً في القضاء عليهم بتركهم التقية؛ لتكون لأعدائهم الحجة في ملاحقتهم ومطاردتهم في كل الأنحاء.

(1) تتمة الحديث: (ثم قال: يا فضيل، من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثرمن بد البحر). قرب الإسناد ص 26.

(2) الحديث هكذا: (من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكبت منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر مصابنا فبكى وأبكى ولم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب). أمالي الصدوق ص 131.

٢٣

وقوله (عليه السلام):

(رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا، فإن ثالثهما مَلَك يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذِّكر، فإنَّ في اجتماعكم ومُذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس بعدنا مَن ذاكر بأمرنا، ودعا إلى ذكرنا) (1) . وغير ذلك.

فكأنَّهم عليهم السلام رأوا إن تلك التذكارات الحسينيَّة هي التي توجِب بقاء النساء على مرور الأزمان على الاعتقاد بإمامتهم ووافر فضلهم وعصمتهم، ومظلوميَّتهم مِن الخُلفاء في كلِّ عصر مِن أعصارهم، وذلك روح التشيُّع.(2)

أنا لا أشد أن تلك المجالس والمجتمعات ألبستها الأئمَّة الأطهار عليهم السلام - بواسع علمهم وبُعْد نظرهم للمستقبل - لباساً مذهبيَّاً، لأنَّها السبب الوحيد لاجتماع

____________________

(1) أمالي الطوسي ص 224؛ مستدرك الوسائل ج 10 س 632.

(2) وهذا ما يفسر لنا تكالب السلطات الظالمة على منع هذه الشعائر، لارتباط الأمة بأهل البيت عليهم السلام والكشف عن مظلوميتهم، لذا سمعت جميع دوائر السلطتين الأموية والعباسية والمرتبطة بهما إلى إحباط محاولات التحدي الناجمة عن ارتباط الأمة بأئمتها، وما يعمّها من الاستياء العام لتاريخ دموي جرى على أهل البيت وأتباعهم، على أن هذا الخط المظلوم حجّر عليه إعلامياً وكتمت جميع قنواته في التذكير بما جرى عليهم من هذه السلطات الظالمة، فكانت هذه الشعائر هي الإعلام الحي لواقعة دموية جرت هنا أو هناك، لتذكير الأمة بمظلومية أهل البيت، ومظلوميتها كذلك.

فالشعائر هي القنبلة الموقوتة بوجه السلطات الظالمة في كل زمان ومكان، وغدت هذه الشعائر كذلك المنبر الإعلامي الحر الذي يعبّر عن جميع الانتهاكات المرتكبة في حق أتباع أهل البيت عليهم السلام، بل المحرومين في العالم.

لذا فالشعائر عطاء من عطاءات أهل البيت عليهم السلام أغدق على شيعتهم لضمان بقائهم، بل للحفاظ على هيبتهم وسطوتهم ضد الظالمين.

٢٤

كلمة الشيعة(1) ، ورسوخ عقائدهم، وبقاء ذكر الجميل بكلِّ معانيه للأئمَّة فيما بينهم، وتلك نُكتة مستورة عن جميع المسلمين، حتَّى عن الشيعة أنفسهم، فإنَّهم لا يتصوَّرون هذه الفائدة مِن عملهم، بلْ قصدهم الثواب الأُخروي فقط، لكنْ لما أنَّ كلَّ عمل لابدَّ أنْ يظهر له - بطبيعته - أثر، فهذه المجالس بما يَحدث فيها مِن إظهار مظلوميَّة آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم تؤثِّر تلك الثمرات للشيعة مِن حيث لا يشعرون.

إليك فانظر ماذا يضرُّ المتوكِّل العباسي، في كونه مَلِكاً وخليفة مِن ولد العباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مِن أنَّ طائفة مِن المسلمين تزور قبر الحسين عليه السلام، وهو ابن عمِّه، حتَّى يمنع عن زيارته، ويوجِّه إليه الفعلة بأمرهم بحرثه، وإجراء الماء عليه(2) ؟ وما دخل ذلك في الملك والسلطان؟ لولا أنَّه قد أدرك أنَّ الرابطة الحسينيَّة

____________________

(1) فعلاً، إن من ثمرات هذه الشعائر هو ارتباط الشيعة فيما بينهم واجتماعهم، رغم تشتتهم وقهرهم، لذا فإنك ترى في المصداق الخارجي انطباق هذا المفهموم وغيره، إذ من المعلوم أن تشتت الشيعة في البلدان وفي كل نحاء العالم بسبب النظام الصدامي الجائر أوجد في شعائر أهل البيت حلقة الاتصال بين الجميع، فكانت هذه المجالس تجمع شتات العراقيين المهاجرين، وتعمل على توحيد كلمتهم، لوحدة هدفهم، وهي خدمة الإمام الحسين عليه السلام، فكانت هذه الشعائر سبباً في إذكاء روح المعارضة ضد النظام، بل كانت سبباً في تنظيم هذه الجماعات المتناثرة تحت مظلة المنبر الحسيني، الذي يزيد من همة الروح الثورية والتذكير بأصلهم، والارتباط بأرض كربلاء، مهما بعدت المسافات وطال الزمن.

(2) حادثة هدم القبر الشريف متواترة لا يختلف عليها اثنان، يصف السيوطي الحادث المؤلم بقوله: وفي سنة ست وثلاثين بعد المائتين أمر - أي: المتوكل - بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته، وخُرّب، وبقي صحراء، وكان المتوكل معروفاً بالتعصب، فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك:

بالله إن كانت أمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلومها

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا ابن لعمري قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا

في قتله فتتبّعوه رميما

=

٢٥

المسبِّبة عن اندفاع تلك الجماهير إلى زيارة قبره، مُجتمعين عنده، ذاكرين فضله وفضل آبائه وأبنائه، ومظلوميَّتهم، مُجاهدين بالبكاء عليه وعليهم، هي التي توجب ثبوت الاعتقاد بإمامتهم، وذلك هو روح التشيُّع.

أنظُر لم يُنكر الإمام عليه السلام - وقد ارتفع البكاء في داره على الحسين عليه السلام واجتمع الناس على الباب - لم يُنكر أنْ يكون ذلك على جدِّه المظلوم، ويقول: مات طفل لنا، فبكت عليه النساء. وقد صدق، فقد ماتت لهم أطفال في كربلاء.

بالله عليك ألم يدمج راوي انعقاد المأتم على الحسين عليه السلام يومئذ للبكاء عليه، فيقول: جاء قاصٌّ يقصُّ فبكينا، ولا يقول: نذكر مصرع الحسين عليه السلام، وهي همْ يبكون على مصيبة يقصُّها القاصُّ إلا مُصيبة الحسين عليه السلام التي يجتمعون لأجلها؟ ولم يُتخَفَّ بها، لولا أنَّها مظهر روح التشيُّع. وأنت إذا تيقَّنت قيام تلك الفائدة الجليَّة بالمآتم الحسينيَّة قياماً طبيعيَّاً أرشدت إليه الأئمَّة الأطهار عليهم السلام

____________________

= تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 321.

وفي أحداث سنة مائتين وست وثلاثين قال الطبري: (وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق، فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه، وحُرث ذلك الموضع وزُرع ما حواليه). تأريخ الطبري ج 7 ص 265.

وكان المتوكل من أشد العباسيين على أهل البيت وشيعتهم، وأكثرهم حرصاً على منع الناس من زيارته، وهو وريث آبائه الذين سبقوه في تتّبع آثار أهل البيت عليهم السلام، وهدم قبورهم، كأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد وغيرهما، ممن أفزعتهم هذه الشعائر وأحسّوا بخطرها، ووثبوا عليها بالملاحقة والمطاردة، لا لشيء إلا لأنها تعيد الثقة لأولئك المحرومين من أتباع أهل البيت عليهم السلام، وتشد أواصر تلاحمهم، وتعيد الكيان الشيعي إلى ما هو عليه من الاجتماع بعد التفرق، والقوة بعد الضعف، والثقة بعد الإحباط.

٢٦

بهاتيك الأخبار، لزمك الالتزام بوجوبها كفاية(1) ، ووجوب كلَّما يُفيد مفادها كذلك، مِن تمثيل الفاجعة لحاسَّة البصر، أو سير مواكب الرجال في الأزقَّة والشوارع مُذكِّرةً بها، ولم تحتج بعد تلك الفائدة الملموسة باليد إلى نضد الأدلَّة على مشروعيَّتها، إذ أنها - بهذا البيان الذي يشهد به الوجدان - أجلُّ مِن أنْ ريتاب مُريب في رجحانها، بلْ وجوبها كفاية.

وإنَّ أقربها علاقة وشبهاً بالمآتم (التمثيل)، فإنَّ مَن سبر غوره، وتعمَّق بالغوص على سرِّه، يعلم أنَّ فيه مِن النُّكت ما ليس في إقامة المآتم المجردة عنه.

إذا كان السرُّ في إقامة المآتم(2) والغرض منها - ظاهراً - إظهار مظلوميَّة سيِّد

____________________

(1) أي بعد ثبوت ضرورة القيامة بهذه الشعائر الحسينية فقد ثبت وجوبها كفايةً على أتباع أهل البيت عليهم السلام، علماً أن الواجب الكفائي مأخوذ فيه المتعلق وليس الموضوع، وهو المكلف، فعناية الشارع المقدس في صرف وجود المأمور به وهو الشعائر، وليس في موضوع الحكم وهو المكلف.

لكن المقام يقتضي - كما هو الظاهر - أن العناية متوجهة كذلك لموضوع الحكم وهو المكلف، وذلك للمصلحة التي تقدمت الإشارة إليها في كلام الماتن (رضوان الله عليه) بقوله: (فكأنهم عليهم السلام رأوا أن تلك التذكارات الحسينية هي التي توجب بقاء الناس على مرور الأزمان على الاعتقاد بإمامتهم ووافر فضلهم وعصمتهم، ومظلوميتهم من الخلفاء في كل عصر من أعصارهم، وذلك روح التشيّع).

فكأن التكليف هنا تكليف بالعموم الاستغراقي، أي على كل فردٍ كانت عناية الأئمة عليهم السلام ودأبهم على إبقاء الناس بالاعتقاد بإمامتهم، وليس المطلوب صرف الاعتقاد حتى يقال: إن المقام يقتضي وجوباً كفائياً، بل عمل الأئمة عليهم السلام وحرصهم على ارتباط أتباعهم بهم عن طريق هذه الشعائر يقتضي أن يكون الواجب عينياً بعمومه الاستغراقي على كل فرد من أفراد المكلفين.

نعم يبقى الاستثناء قائما على حاله، ووارداً مورد الضرورة للمكلف غير القادر على إقامتها من نحو المانع العرفي أو الشرعي أو أي محتمل من محتملات الضرورة أو عدم القدرة.

(2) من هنا يبدأ المؤلف في تعدد فوائد التمثيل وإثبات ضرورته من خلال ما يذكره لاحقاً.

وخلاصته أن التمثيل أبلغ في تقريب الواقعة إلى الأذهان، كون هذه المشاهد تهيمن على حواس الإنسان ووجدانيه، وتجيش عواطفه وانشداده نحو فاجعة الطف، في حين تبقى المآتم مرهونة على حِنكة =

٢٧

الشهداء لدى العموم، وباطناً اتِّفاق كلمة الشيعة وحفظ عقائدهم عن الاندراس على مرور الأزمان، فلا ريب أنَّ تمثيل الواقعة لحاسَّة البصر، بما يصدر فيها مِن حركة وسكون، قول وفعل، أبلغ في إظهار مظلوميَّة ذلك الشهيد الأعظم مِن الأقوال المجرَّدة على المنابر وفي المجامع، وأدخل في تثبيت العقائد وإحكام الروابط بين أفراد الجعفريَّة.

إذا كانت الفرقة الجعفريَّة تذكر في المآتم وعلى المنابر المصائب التي وردت على الحسين عليه السلام، ونُصْب أعيُنها الأحاديث المرغِّبة على البكاء عليه والحُزن لأجله، فتمثيل تلك المصائب للأنظار له تأثير عظيم في القلوب، لأنَّه يجعل العامَّ والخاصَّ مِن الجعفريَّة راسخ العقيدة ثابت اليقين.

لاشكَّ أنَّ الجعفريَّة في تمثيلها للفادحة الحسينيَّة تُصيب مِن جهة إحياء أمر الأئمَّة عليهم السلام، وهذا هو السبب الوحيد لتسليم الحسين عليه السلام نفسه للقتل، ومِن جهة أُخرى يحصل لهم ولغيرهم تحزين الطبايع، وإبكاء النواظر، وإثارة العواطف الرقيقة نحو المصاب بتلك الفادحة الكبرى، ورفع الستار عن فضايح الظالمين وأتباعهم.

التمثيل وإنْ لم يكن قديماً عند الشيعة، بلْ هو حادث مُنذ عِدَّة قرون، ولكنْ ليس كلُّ حادث في المذهب لا يكون معمولاً به.

الحادث إذا كان مُفيداً فائدة القديم المشروع بوجه أتمّ وأبلغ، كان مشروعاً(1) ،

____________________

= الخطيب، فتقريب الفاجعة وتصوير مواطن الألم التي مر بها أهل البيت عليهم السلام موقوفة على ما تقدمه مواكب الشبيه التي سعى الشيعة لإقامتها.

(1) أي أن مصلحة الشارع لا تتعلق بموضوع بعينه، بل كل موضوع في الخارج يحقق إرادة الشارع فهو المطلوب الذي تقتضيه عمومات الأدلة في الحث على تحقيق إرادته، كما لو علم العبد أن المولى يريد من أمره بإطعام زيد إكرامه، من دون أن تكون خصوصية للإطعام، لكن كل فعل فيه إكرام لزيد - وإن لم يكن إطعاماً - محبوباً ومطلوباً للمولى، إذ علة الحكم هو الإكرام لا الإطعام.

وهكذا المقام، فإن معرفة علة الحكم يبيح تعدد أفراد المأمور به خارجاً تبعاً لمقتضيات الموضوع. وبعنى آخر =

٢٨

لا سِيَّما إذا احتمل كون تركه في الزمن الأقدم لعدم إمكان إقامته اتِّقاءً.

لا شكَّ أنّ إظهار الحزن ومظلوميَّة سيِّد الشهداء عليه السلام، والإبكاء عليه وإحياء أمره بسنخه عبادة في المذهب، لا بشخص خاصٍّ منه، ضرورة أنَّه لم ترد في الشريعة كيفيَّة خاصَّة للحزن والإبكاء وإحياء الذكر المأمور بها، ليقتصر عليها الحزين في حزنه، والمحيى لأمرهم في إحيائه، والمبكي في إبكائه(1) .

وإذا كان سنخ الشيء عبادة ومندوباً إليه، سرت مشروعيَّته إلى جميع أفراده مِن جهة الفرديَّة، ولذلك لم نرَ أحداً مِن صلحاء الشيعة وعلمائهم، ولم يؤثَر ولم يُنقَل عن أحد منهم في الأجيال السالفة، مِن لا يعدُّ التمثيل مثل قراءة كتاب المقتل في عباديَّتهن وفي كونه مُبكياً ومُحزناً، فضلاً عن إنكار مشروعيَّته.

إنَّ الذين أدخلوا التمثل في التذكارات الحسينيَّة لا شكَّ أنَّهم مِن كبراء رجال أهل الدين المفكِّرين، وأرباب السلطة المتَّبعة مِن الشيعة، ولذلك يظنُّ البعض أنَّه انتشر في بلدان الشيعة مِن قِبَل سياسة السلاطين الصفويَّة(2) ، الذين هم أوَّل سلسلة استولت

____________________

= أن الحادث لا يمنع من تحقق إرادة الشارع عند تعدد أفراده لعدم اقتصار هذه الإرادة على فرد واحد، وهو إقامة المآتم، خصوصاً إذا علمنا أن الغرض هو شد الناس بمصيبة سيد الشهداء عليه السلام، فيكون التمثيل وغيره من هذه الأفراد مطلوباً لدى الشارع المقدس، كما هو معلوم.

(1) لم يحدد أهل البيت عليهم السلام صيغة خاصة لإحياء أمرهم أو الاقتصار على فرد خاص، بل تكروا ذلك بما يقتضيه العرف من تحقق هذا الإحياء، وتركوا حرية الاختيار موكولة إلى اجتهادات المكلف في إحياء الأمر بها يتناسب والواقع الخارجي، فعموم قولهم عليهم السلام: (أحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيى أمرنا) يبيح اختيار صيغة الإحياء وكيفيته للإطلاق، كما هو ظاهر.

(2) الدولة الصفوية نسبة إلى صفي الدين الأردبيلي، وهو أحد مشايخ الطريقة الصفوية التي تميل إلى الصوفية، وكانت لحركات الشيخ جنيد الصفوي والشيخ حيدر وغيرهما الأثر في ترويج الحركة الصفوية، حتى تم الإعلان عن الدولة الصفوية في حقيقتها منعطفاً خطيراً في الوضع السياسي الإيراني وكذلك الاجتماعي والعقائدي، فعلى المستوى السياسي تحررت إيران من الحكم المغولي التيموري، =

٢٩

____________________

= واستقلت بالحكم الصفوي الذي يتزعمه سلسلة من العائلة الصفوية المنتسبة للإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وعلى المستوى الاجتماعي انتجت الدولة الصفوية حالة من التماسك الاجتماعي، بعد أن كانت إيران مقطعة الأوصال، نتيجة لحركات سياسية، أهمها حركة فضل الله لحروقي سنة 805 هـ، وحركة نعمة الله الولي سنة 731 هـ، التي قضت عليها الدولة التيمورية، وحاولت هذه الحركات أن تتزعم الدولة سياسياً، إلا أنها لم تنجح في الاستيلاء على الزعامة السياسية، وكان لهذا الصراع أثره في تشتت الوضع الاجتماعي، إلا أن قيام الدولة الصفوية أسهم في عودة اللحمة الاجتماعية الإيرانية، وبدّد مطامع التوسعيين العثمانيين الذين كان لهم طموحهم التوسعي على حساب البلدان الإسلامية.

أما على المستوى الفكري فلعلّ الدولة الصفوية أدخلت في مفاهيمها دور عقيدة أهل البيت عليهم السلام في النظامين السياسي والاجتماعي، وحاولت إلغاء حقبة طويلة من التراكمات الفكرية المناوئة لأهل البيت عليهم السلام، فاستبدلت المجتمعات الإيرانية ثقافاتها بثقافة أهل البيت عليهم السلام، فاستبدلت المجتمعات الإيرانية ثقافاتها أهل البيت عليهم السلام، وطمحت أن تكون لهذه الثقافة الأولية في جميع برامجها.

من هنا حاول البعض أن يلصق ثقافة الشعائر بالفكر الصفوي، وأن الدولة الصفوية لها الدور الكبير في توطيد هذه الصلة الشعبية بالشعائر الحسينية، إلا أن الواقع هو أن الشعائر الحسينية عربية الهوية، عراقية المنشأ، لكنها كانت مغيّبة بسبب فترات الحمن العباسي الذي أطاح بكل هذه المراسم، وأعلنت بشكلها الرسمي في منتصف القرن الرابع، بأمر من معز الدولة، فالتأريخ يحدثنا أن معز الدولة كانت فترته معروفة بالانفتاح على هذه الشعائر، وتحريض الناس على إقامتها في بغداد علناً.

ففي أحداث سنة 352 هـ، يحدثنا ابن الأثير في كامله بقوله: (في هذه السنة عاشر محرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق البيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن، يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن علي الحسين بن علي (رضي الله عنه)، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنية قدرة على المنع منه، لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم). الكامل في التأريخ لابن الأثير ج 7 ص 7.

وفي تأريخ الإسلام: (وهذا أول يوم نيح عليه - أي الحسين عليه السلام - ببغداد).

وأحسب أن هذا أول إعلان عن الشعائر الحسينية في بغداد، ولعلها كانت من قبل، إلا أنها بشكل خفي، فإذا كان إعلان الشعائر سنة 352 للهجرة والدولة الصفوية كان تأسيسها سنة 905 هـ، فكيف تكون =

٣٠

على السلطنة بقوَّة المذهب، ثمَّ أيّده رؤساء الشيعة الروحانيُّون شيئاً فشيئاً وأجازوه.

وبما أنَّ حُكماء الهند أقدم مِن الصفويَّة في استعماله استنبط منه أنَّ هؤلاء أخذوه مِن أولئك، وألبسوه لباس المذهب لما رأوا مِن فوائده المذهبيَّة.

وحيث أنهيت المقصود مِن المقدِّمة، التي هي في الحقيقة نتيجة المقصد، فأني شارع - بعون الله تعالى - في ذكر جميع التذكارات الحسينيَّة على التفصيل، وباحث في كلِّ منها عن مشروعيَّته وعدمها، وعن حسنه وقُبحه، وهناك يكون التعرُّض لردِّ (الصولة) بكمال الأدب والاحترام.

____________________

= الشعائر أطلقت في أيام الفويين؟

الواقع أن الصفويين أخذوا هذه الشعائر من شيعة العراق، فكانت الشعائر عربية الهوية عراقية المنشأ.

ولعل المؤلف (رضوان الله عليه) أراد أن يجاري ما هو الشائع أو المرتكز في أذهان البعض، أو قصد أن سبب انتشار الشعائر بهذه القوة هو السياسة الصفوية، التي جعلت مذهب أهل البيت عليهم السلام أساساً لدولتهم وعنواناً لكيانهم.

٣١

٣٢

فمِن التذكارات الحسينيَّة...

المآتم

٣٣

٣٤

وهي النوادي الخاصَّة المنعقدة للبكاء على ذلك القتيل، الذي بكته السموات والأرضون ومَن فيهنَّ(1) ، وعُدَّ في الأخبار البكاء عليه فيها وفي غيرها صلةً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأداءً لحقِّه ولحقوق الأئمَّة عليهم السلام، وإسعاداً للزهراء عليها السلام(2) .

وليس التكلُّم فيها موضع عنايتي، ولا بيان العناوين التي تنطبق على الباكي والمبكي والمتباكي مِن مقاصدي، ولا موارد ومحالُّ البكاء وذكر الثواب عليه ممَّا تُحيط به ذاكرتي، وإنَّما أذكر هذا التذكار استقصاء للتذكارات التي هذا أهمُّها أعمُّها، وقد عرفت فيما تقدَّم أنَّه لم يُشرَّع لنيل الثواب الأُخروي فقط، بلْ لنُكات أُخَر غير عباديَّة يجمعها إحياء أمر الأئمَّة، فلولاها ما امتازت هذه الفرقة عن غيرها، ولا عرفت أئمّتها، ولا أذعنت بالأحكام المأثورة عنهم، ولا صدَّقت بفضلهم وتفوُّقهم على البشر في كلِّ مزيَّة فاضلة، ولا، ولا، ولا.

____________________

(1) عن الحسين بن ثوير، قال: (كنت أنا ويونس بن ظبيان والمفضل بن عمر وأبو سلمة السراج جلوساً عند أبي عبد الله عليه السلام، فكان المتكلم يونس، وكان أكبرنا سناً، وذكر حديثاً طويلاً، يقول: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: إن أبا عبد الله عليه السلام لما مضی بکت علیه السماوات السبع والارضون السبع، وما فیهن وما بینهن، ومن یتقلب فی الجنة والنار من خلق ربنا، وما یری و ما لا یری بکى علی أبی عبدالله. كامل الزيارات ص 80.

(2) فعن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال - في حديث طويل -: (وما من عين أحب إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه، وما من باك يبكيه إلا وقد وصل فاطمة عليها السلام وأسعدها عليه، ووصل رسول الله وأدى حقنا). كامل الزيارات ص 83.

٣٥

٣٦

ومِن التذكارات الحسينيَّة

التمثيل

٣٧

٣٨

المعبَّر عنه بلسان العامَّة (السبايا والشبيه) وهو عبارة عن تجسيم الواقعة لحاسَّة البصر بما صدر فيها مِن حركة وسكون، وقول وفعل، وهذا بما هو حكاية عن شيء غابر بشيء حاضر، غير محظور ولا محذور فيه، بلْ ربَّما يُرجَّح على المآتم، لكونه أبلغ في إظهار مظلوميَّة سيِّد الشهداء مِن الأقوال المجرَّدة على المنابر وفي المجامع، وأشدَّ منها تأثيراً في القلوب، وقد أسلفنا ثمَّة نُبذة شافية ممَّا يتعلَّق به، إذا تأمَّلها المنصف يُذعن بأنَّه لا يحتاج في شرعيَّته إلى برهان، لقيام العلَّة التي أوجبت أنْ يُسلِّم الحسين عليه السلام نفسه للقتل به، قيام الورد بماء الورد، لا تخلص عنه، ولا ينفكُّ عنها، إلا بقاسر شبه الإماتة للمذهب، هذا غير ما ينطبق عليه مِن العناوين المرغَّب فيها، مِن كونه إبكاءً وتحزيناً وإحياءً لأمر الحسين عليه السلام، لكنَّ السيِّد الصائل حرَّم كلَّ تمثيل ومنع منه.

قال في الصفحة (1و2) مِن مقالته: (التشبيهات التي يُمثلونها يوم عاشوراء قد صرت مُنوِّهاً برفضها، ومُصرِّحاً بما فيها مِن التحريم، لأنِّي أراها مُجلبة لسخريَّة المِلَل الخارجة، وداعياً مِن دواعي الاستهزاء). انتهى.

أقول: إنَّ لكلِّ أُمَّة مِن الأُمم مراسم دينيَّة، وعوائد قوميَّة، تُنكرها عليهم الأُمم الأُخرى، حتَّى لو كانت طفيفة، نحو الاختلاف بالأزياء، وذلك للمنافاة بين العوائد والمراسم والطبايع، الناشي بعضها مِن تأثير الإقليم والبيئة التي يعيش بها الإنسان، وربَّما

٣٩

عدَّ البعض مراسم البعض الآخر ضرباً مِن الجنون والتوحُّش(1) ، وهذا لا يقتضي رفض الرسم الديني أو المذهبي أو غيرهما بين أهله، لا سِيَّما مثل التمثيل الذي تجتني الشيعة مِن فوائده ما لا تجتنيه في إقامة المآتم المجرَّدة عن التمثيل والتشبيه.

ولعمري ما استهزاء الأجانب به إلّا كاستهزاء قريش وسائر مُشركي العرب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، التي لم يعرفوا أسرارها، ولم يذوقوا ثمارها، أفهل كان يلزمه أنْ يتركها وهي مِن شعائر دينه(2) ؟!

____________________

(1) ماذا أدرك المؤلف (رضوان الله عليه) ما تبثّه بعض القنوات الفضائية من الأعمال الوحشية التي لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة، قفد أظهرت بعض الفضائيات استعراضاً رياضياً يظهر قوة المتصارعين، حيث يتشابكون بالأيدي ويلكمون الوجوه حتى تسيل الدماء، ويتعرض - كما يذكر التقرير - بعض الأشخاص إلى الموت في كل عام من خلال هذا المهرجان السنوي الذي تقيمه بعض البلدان، وهذا غير الملاكمة والمصارعة وأمثالهما.

أضف إلى ذلك ما يمارسه الأسبانيون من مصارعة الثيران حتى يودي بحياة هذا الحيوان البريء، أو إصابة أحد المشاركين، بعنوان رياضة مصارعة الثران، ولم يعترض على ذلك أحد، بحجة أن ذلك أحد مراسم هذه البلدان.

أضف إلى ما يقام من مهرجانات رمي الطماطم أو البرتقال حتى تذهب آلاف الأطنان هدراً في دول تدعي التحضر وتنادي بحقوق الإنسان، وهم على مسمع ومرأى من موت العشرات نتيجة الجوع والفقر الذي يدبّ أنحاء المعمورة.

كل هذا ولم يعترض شيعة أهل البيت عليهم السلام على مثل هذا المراسم، تأدباً منهم، واحتراماً لمشاعر الآخر، ويرون أن هذه المراسم تنطلق من ثقافة الممارس لها، في حين تجد المراسم الحسينية الهادفة حملةً ظالمة تُشنّ من بعض المشدّقين لا همّ لهم إلا الصراخ والتهريج ضدها.

ومن المؤسف أن يكون ذلك من داخلنا الشيعي الذي لا يمتلك هؤلاء سوى همجية التقليد والتسويق لبضاعة الآخرين مجاناً.

(2) ومعنى ذلك أننا لو أردنا مراعاة ذوق الآخرين في مسألة الشعائر لراعيناهم في كل عباداتنا، ولابد أن نستذكر ما كان يعانيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من استهزاء المشركين بجميع عباداته، كصلاته وحجه وصومه، إلى غير ذلك من العبادات التي لا يستسيغها المشركون، فهل يسوغ للنبي =

٤٠