لا شكَّ أنَّ غير العارف برموزها وحِكمها وأسرارها، يستهزأ بها ويعدُّها ضرباً مِن الجنون والتوحُّش، وفعلاً مِن أظهر أفعال الهمجيَّة.
أفهل يصلح للعارف برموزه وحكمه أنْ يمنع منه لمجرَّد عَدِّه عند الجاهل همجيَّاً؟! ولقد وقع الاستهزاء جهاراً بتلك المناسك العالية الأسرار، الدقيقة الحكم، والسخرية بها مِن قِبَل المادِّيِّين الأقدمين، كعبد الكريم بن أبي العوجاء وعبد الله الديصاني وأضرابهما، وخلَّدت كتب الحديث إنكارهما على مولانا الصادق عليه السلام، وإنكار المتأخِّرين أظهر مِن ذلك، وناهيك الكتب المؤلَّفة منهم للاستهزاء بالحجِّ بخصوصه.
وأمَّا ثمرتها في التعزية، فإنَّما يُنكرها مَن يجهل السرَّ في إقامة المآتم العزائيَّة، وقد أسلفنا في صدر الرسالة نُبذة تتضمَّن الأسرار المشار إليها، ومَن تأمَّلها يجدها حاصلة في الشبيه وضرب القامات بوجه أتمٍّ وأنفع.
إنَّ أدنى فوائد التذكارات الحسينيَّة - التي تعملها الجعفريَّة اليوم - أنْ تجعل كلَّ فرد منهم راسخ الاعتقاد بمذهبه، شديد اليقين به، وذلك ما رمزنا إليه وصرَّحنا به في غير موضع مِن الرسالة، ولا يلزم أنْ تكون فائدتها أمراً فوق ذلك.
ومِن ثمَّة لو كان قرية - مثلاً - ليس فيها مِن غير الجعفريَّة أحد أبداً، لكان يلزم عليهم إقامة التذكارات بجميع مظاهرها لذلك، خشية أنْ يضعف اعتقادهم ويزول بمرور الأيَّام، كذا لو كانت القرية وما فيها مِن الجعفريَّة إلا أفراد معدودة، بلْ هذه أولى بإقامتها مِن هذه الجهة. وأُخرى أنَّ تلك الأعمال ربَّما تكون داعية للأغيار إلى الفحص عن أسباب تلك التذكارات واستحسانها، حتَّى تكون بنفسها مُبشِّراً مِن المبشِّرين بها.
قال بعض مؤرِّخي الأجانب في مقام استشهاده على نحو هذا: (رأيت في بندر (مارسل) في الفندق شخصاً واحداً عربيَّاً شيعيَّاً مِن أهل البحرين، يُقيم المآتم مُنفرداً، جالساً على الكرسي بيده الكتاب يقرأ ويبكي، وكان قد أعدَّ مائدة مِن الطعام ففرَّقها على الفقراء).
فبالله عليك، ماذا الذي صيَّر هذا الرجل الغريب في البلدة التي لا مُماثل له فيها