نصرة المظلوم

نصرة المظلوم0%

نصرة المظلوم مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 123

نصرة المظلوم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن آل العلامة الشيخ إبراهيم المظفر
تصنيف: الصفحات: 123
المشاهدات: 30781
تحميل: 5336

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 123 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30781 / تحميل: 5336
الحجم الحجم الحجم
نصرة المظلوم

نصرة المظلوم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أمنع منه ما يكون في المآتم، وإنَّما منعتُ علناً مِن خروج مواكب اللطم في الأزقَّة، لما بلغني مِن ترتُّب بعض المحرَّمات على ذلك، مِن فتنة وفساد ومُضاربة ومقاتلة عندما يلتقي أهل محلَّتين، بحيث يحصل مِن جرَّاء ذلك جرح وقتل، إلى غير ذلك).

قلت: أضف إلى هذا اللازم الفاسد - بزعمه - أُموراً: نظر النساء إلى الرجال عُراة الصدور، بروز المتبرِّجات والمومِسات مِن النساء حسرات، نظر الرجال إليهن وهُنْ مُكشَّفات الوجوه، صياحهنَّ عند ذلك المنظر الهائ، واستماع الرجال لأصواتهنَّ الرقيقة و... و...، ومع هذه الإضافات نقول: لا يجهل أحد مِن أهل العلم أنَّ ترتُّب بعض المحرَّمات أحياناً على خروج المواكب لا يقدح برُجحانه ألبتَّة.

إنَّ المحرَّم المقارن ما لم يكن لازماً لذات الواجب، أو عنواناً ثانويَّاً يتعنون به ذلك الرجح، لا يوجب حرمته ولا مرجوحيَّته.

ولو كانت الأعراض المفارقة الاتِّفاقيَّة في مورد اقترانها بالراجح توجب مرجوحيَّته لحرمت الصلاة في بعض الصور، ومُنِع الحجُّ، ولكان المنع مِن زيارة ذلك الشهيد الأعظم الكريم على الله تعالى أولى بالمنع، لما فيها مِن مُزاحم النساء للرجال، وبروزهنَّ في وسط تلك المشاهد الشريفة المقدَّسة مُكشَّفات الوجوه، بلْ كثيراً ما يحدث فيها تخاصم فئتين مُتعاديتين جمعتهما البلدة للزيارة، بحيث يحدث مِن خصامهم الضرب المؤلم والجروح الدامية، بلْ إزهاق النفوس البريئة.

لا شكَّ أنَّ ما يحدث مِن مُضاربة ومُقاتلة في الزيارات أكثر مِمَّا يحدث في المواكب، التي تكون مرَّة واحدة في السنة.

عجباً! كيف يعدُّ هذا الرجل الشُّخوص مِن البلدان النائية للزيارة، وبذل الأموال الطائلة في سبيلها مِن الشعائر المذهبيَّة التي يجب تعظيمها، ويجعلها مِن مظاهر المودَّة في القُربى، التي ندب إليها الكتاب والسُّنَّة، ورفع شأنها، إذ جعلها جزاءً للنبي

٦١

الأعظم على تبليغه عن الله جلَّ شأنه(1) ، ولا يعدُّ مِن ذلك هذه المواكب السائرة، مع اشتراك الجميع في المسنونيَّة بالذات، وفي ترتب المحرَّمات، مِن غير فرق بينهما أصلاً(2) .

لعمري إنَّ اختراق تلك المواكب المشجية للشوارع واجتماع الجماهير مِن النساء والرجال - مسلمين وغيرهم - للنظر إليها هو أبلغ في إظهار مظلوميَّة سيِّد الشهداء، التي سُنَّ البكاء عليه لأجلها، لأنَّ به تتأثَّر قلوب جميع الفِرَق بنفس الأثر الذي تتأثَّر به قلوب الجعفريَّة فقط مِن اللَدْم واللطم في نادٍ خاصٍّ بهم.

ويعلم كلُّ أحد أنَّ المآتم المنعقدة لذكر رزيَّة الحسين عليه السلام والبكاء لها قد يقع في كلٍّ منها في كلِّ يوم غيبة أو نميمة، أو مؤامرة على باطل، أو تسابٌّ بين اثنين أو جماعة، أو إيذاء مؤمن، أو هتك حرمة، ونحو ذلك، فكان يلزم صاحب المقالة - قياماً بوظيفته الروحيَّة - أنْ يمنعها، ويسدَّ أبوابها، ويُكسِّر منابرها، لترتُّب هذه المفاسد والمحرَّمات عليها، وما هي بأهون عند الله تعالى مِمَّا يحدث في المواكب السائرة، مِن فتنة وفساد ومُضاربة ومُقاتلة، كما يقول(3) .

إنْ قال: إنَّ تلك المفاسد ليست بلازمة لذات المآتم، ولا موجبة لتعنونها بكونها اجتماعاً للغيبة والنساب - مثلاً -.

قلنا له: بمثل ذلك في الموكب اللاطم سائراً، حرفاً بحرف.

____________________

(1) لقوله تعالى:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) . سورة الشورى: 23.

(2) لوحدة الملاك في الجميع، فلا معنى للتفريق، فالزيارة لمراقدهم المشرفة نوع مواساة لهم عليهم السلام، وإظهار الألم والتفجع بمواكب العاء يندرج تحت عنوان المواساة كذلك، فدليل الاستحباب يشمل كلا الجهتين كما يشملهما العنوان المحرم الطارئ عليهما.

(3) وهو فرض نقضيّ على صاحب المقالة تنزّليّ، يفرضه المؤلف دون أن نشاهد لها مصداقاً في الخارج، كما هو واضح، فالقضية ليست خارجية ومتحققة في الخارج، فإن المجالس ومثلها المواكب تعطي زخماً روحياً وتكاملاً لم يتوفر في كل محفل من المحافل الاجتماعية الإصلاحية.

٦٢

بالله عليك، لو تخاصم رجلان في مجلس العزاء الموقَّر، المحفوظ مِن كلِّ مفسدة، و أدَّى تخاصمهما إلى الضرب المؤلم، كما يتَّفق ذلك فيها أكثر مِن اتَّفاقه في المواكب، أو أدّى إلى الجروح الدامية مِن باب الاتِّفاق، فهل يصلح لعارف مِن الشيعة أنْ يمنعها بتَّاً، أو يحكم بأنَّ ذلك النادي الذي لم ينعنون بعنوان كون (نادي المضاربة والمقاتلة) محرَّماً، لا أجر لصاحبه ولا لأهله عليه، بلْ عليهم العقاب؟!

مِن المحتمل أنْ يُريد صاحب المقالة المنع مِن فرد خارج لم يقع في الخارج أبداً، وهو الذي لا تكون له علَّة ولا مُحرِّك على الخروج إلا المقاتلة، وهو ما نعنيه بأنَّه المعنون بالخروج للفساد، نحو خروج جماعة مِن محلِّهم إلى الزنا واللهو، أو إلى قتل النفوس.

ويدلُّ على ذلك قوله في الصفحة (9): (نحن نأسف ونحزن إلى الغاية على مَن يُتعب نفسه باللطم لغير الله سبحانه، فإنَّه لو كان لله لما حصل ما ذُكِر).

وأنت لا يخفى عليك أنَّ اتَّفاق وقوع المحرَّم فيه لا يجعله لطماً لغير الله، كما أنَّ كونه لله لا يُنافي حصول ما ذكر بضرب مِن الاتِّفاق، وإنَّما الضارُّ بالإخلاص كون المحرَّم أمراً غير طاعة الله جلّ شأنه.

ثمَّ قال في الصحيفة المذكورة: (ناهيك بما يصدر مِن جدال وضرب وتقاتل بين أهل اللطم وغيرهم، مِن جهلة فرق المسلمين، فتكثر القتلى والجرحى مِن الفريقين، وجميعها ناشئة مِن سخافة العقل وشدَّة الجهل، ولقد صدر الكثير مِن هذه الفتن، وحتَّى في العام الماضي صدر شيء منها في بغداد، فقُتِل مَن قُتِل، وحُبِس مَن حُبِس).

أقول: أنظر إلى التهويل، والكلام الشعري الخيالي، الذي أظهر به هذا الرجل تلك المواكب بمظهر فئات مُتعادية، بينها ثارات أو ألف هنات، قد خرجت لأخذ الثار وإبادة بعضها بعضاً، لا شكَّ أنَّ عند التقائها تكون الملحمة العظمى، التي تكثر بها القتلى والجرحى مِن الفريقين، الذين همْ في الحقيقة (ثواب) سمُّوا أنفسهم بالمعزِّين،

٦٣

وقائمين بأكبر (ثورة دمويَّة) يسمُّونها بالعزاء... غفرانك اللَّهمَّ مِن عاقبة هذه السفسطة، التي لا مقيل لها في ظلِّ الحقيقة أبداً. لا أقول إنَّ المضاربة والمنازعة والجرح لم تحدث في موكب أصلاً، بلْ ربَّما يتَّفق بالسنة أو بالأكثر حدوث ذلك مَرَّة واحدة في بلدة أو بلدتين لا أكثر، وذلك مِمَّا لا يُخلُّ بمسنونيَّة تلك المواكب المقدَّسة، إنْ هذا إلا كما يعرض للرجل القادم على إقامة صلاة جماعةٍ في معبد، أو زيارة في مشهد، أنْ يتخاصم مع غيره مِن المصلِّين والزائرين، جمعه وإيَّاه المكان، وربَّما كان تخاصمهما على المكان نفسه، فيحدث بينهما - لسخافة العقل وشدَّة الجهل - على ما يقول مِن السباب والقذف والضرب والإهانة، ما لا ريب في حُرمته، وعدم اقتضائه بوجه حرمة الصلاة والزيارة، إلّا أنْ يكون الخروج لذلك، أو يكون مُعنوناً بذلك العنوان، وهذا أمر قد مرَّت نظائره ثمَّة، لكنِّي أعدته ليعرفه الجاهل، ويتدبَّره الصائل والجائل.(1)

قوله: (وحتَّى في العام الماضي صدر شيء منها في بغداد).

فالحكم بين الشيعة وبينه ثقات البغداديِّين في النجف، فإنَّهم أخبروا أنَّه بعد طوال السنين لم يصدر في العام الماضي إلا ضرب رجل مِن غير الشيعة، ضحك مُستهزئاً على مُجتمعهم المحزن، ولم يكن ضربه في المواكب، بلْ بعد انقضائه، ولم يُحبَس بسبب ذلك الضارب نفسه، وإنَّما حُبِس غيره، لأغراض شخصيَّة، وليس ثمَّة مِن أمر مذهبيٍّ يكون سبباً للحبس.

____________________

(1) يشير المؤلف إلى حالة سابقة مضى عليها الدهر، فالجهل الذي يعيشه البعض والعصبية التي يفرزها هذا الجهل تدعو إلى حالة من التنافس الحادّ لإظهار موكب كل واحد منهم بالمظهر الأحسن من غيره، ولربما كانت هناك أطراف خارجية تفتعل مثل هذه الأزمات لتودي بهذه المواكب، كما أن غياب السلطة والقانون يُحدث فراغاً أمنياً يستغله بعض الحادقين على الشعائر ليثيروا حفيظة بعض المغفلين.

أما في عصرنا الحاضر فمن الانفتاح الثقافي للمجتمع باتت هذه الشعائر مألوفاً لوحدة المجتمع وتظافر كلمتهم، وتدبروا أكثر في مقتضيات هذه الشعائر التي دعا لها أهل البيت عليهم السلام، وبحمد الله لم نسمع اليوم آية حالة خرق صاحبت شعيرة من الشعائر.

٦٤

والسيِّد الناقل في رسالته حاشاه مِن الافتراء، لكنَّه مُموَّه عليه مِن قِبَل المستائين مِن أعمال الجعفريَّة، الذين يجدُّون ليل نهار في إبطال هذه المراسم المذهبيَّة، لنزعة أُمويَّة أو وهابيَّة، فهم يَديفون الصابَّ العسل، ويُذيقونه غير أهل الأذواق مِن الجعفريَّة.

قوله: (الشريعة المقدَّسة والعقل السليم قاضيان بأنَّ اللطم محلُّه المآتم دون الطُّرق).

فهو مِن التلفيقات الفارغة، ونسبة ذلك إلى العقل والشريعة فرية بلا مرية.

ها نحن لو عزلنا أنفسنا عن سلامة العقل، فليأتنا هذا الرجل بما يدلُّ مِن الشريعة على أنَّ اللطم محلَّه المآتم لا الطُّرقات، كيف؟! وهؤلاء حَمَلة الشريعة المقدَّسة، وصلحاء أهل الدين، مُنذ مئات مِن السنين يرون ويسمعون اللطم في الطرقات ولا يُنكرون؟! هَبْ أنَّ هذا الرجل تأتىَّ له أنْ يُباهت الجهَّال بدعوى حُكم الشريعة، لكنَّ دعوى حُكم العقول السليمة بذلك فرية لا تُستر، ولقد كان يكفيه أنْ يُنكِر وجود دليل على جواز اللطم في الطرقات، ولا يدَّعي وجود الدليل على كونها ليس محلَّاً له، فيُطالب بإثباته، وأنَّى له بذلك.

حقَّاً أقول: اللطم لا محلُّ له أصلاً، لا الطرقات ولا المآتم، لكنَّ رزية الحسين يكون كلُّ محلٍّ محلَّاً لها، لأنَّها بنفسها إذا كانت غير محدودة بحدِّ فأيُّ برهان يحلُّ محلَّها ويعينه؟! فما ذلك إلا عن عدم تقديرها حقِّها.

إنَّ مِن الأدلَّة الجليَّة على أنَّ اللطم لمصاب الحسين لا يختصُّ محلَّه بالمآتم، بلْ يُقام في المجامع العموميَّة، وأنَّها أحسن وأوقع محالِّه، ما روي عن الصادق عليه السلام مِن عدَّة طرق، أصحُّها ما في (الكافي) عن يونس بن يعقوب عنه عليه السلام أنّه قال: (قال لي أبي: يا جعفر، أوقف لي مِن مالي كذا وكذا لنوادب يندبنني عشر سنين بمِنى أيَّام مِنى)(1) .

____________________

(1) الكافي ج 5 ص 117.

٦٥

إنَّ مِنى في تلك الأيَّام هي أعظم المجامع لطوائف المسلمين القاصدين إلى مكَّة مِن كلِّ فجٍّ، فلماذا اختار ندبته فيها؟! وهلّا أوصى أنْ يُندَب في بيته، أو في ميدان واسع في المدينة، أو في البقيع، حيث محلُّ قبره؟! ألست تعتقد أنَّه يرمز بذلك إلى تنبيه الناس على فضائله وإظهارها، وليتذكَّر أولياؤه والعارفون به ما جرى عليه، ومِن مجموع ذلك تثبت عقائدهم، ويدوم ذكره الجميل فيما بينهم؟!

قال شيخنا الشهيد الأوَّل محمد بن مكِّي(1) في كتابه (ذكرى الشيعة) بعد إيراد الخبر المزبور: (والمراد بذلك تنبيه الناس على فضائله وإظهارها، ليُقتدى بها، ويعلم الناس ما كان عليه أهل البيت، فتُقتفى آثارهم). انتهى.

فانظر مُتأمِّلاً إلى آخر كلامه هذا، الذي يُريد به أنَّ ندبته بتلك المجامع سبب لظهور التشيُّع في الناس، لارتفاع الاتِّقاء عليه بعد موته (سلام الله عليه).

ومِن هذا تعرف أنَّ النوادي الخاصَّة محلُّ عزاء مَن لا شرف له كالحسين عليه السلام وأبنائه، ولا فضل له ولا قُرب كفضلهم وقُربهم، ولا مظلوميَّة له كمظلوميَّتهم،

____________________

(1) محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد قدس سره، شيخ الطائفة وعلامة وقته، صاحب التحقيق والتدقيق، من أجلاء هذه الطائفة وثقاتها، نقي الكلام، جيد التصانيف... كانت وفاته سنة سبعمائة وست وثمانين اليوم التاسع من جمادي الأولى، قتل بالسيف، ثم صلب، ثم رجم، ثم أحرق بدمشق في دولة بيدر وسلطنة برقوق، بفتوى القاضي برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة الشافعي، بعد ما حبس سنة كاملة في قلعة الشام.

وفي الحبس ألف اللمعة الدمشقية في سبعة أيام، وما كان يحضره من كتب الفقه غير المختصر النافع.

وكان سبب حبسه وقتله أنه وشى به رجل من أعدائه، وكتب محضراً يشمل على مقالات شنيعة عند العامة، من مقالات الشيعة وغيرهم، وشهد بذلك جماعة كثيرة، وكتبوا عليه شهاداتهم، وثبت ذلك عند قاضي صيدا، ثم أتوا به إلى قاضي الشام فحبس سنة، ثم أفتى الشافعي بتوبته والمالكي بقتله، فتوقف من التوبة خوفاً من أن يثبت عليه الذنب، وأنكر ما نسبوه إليه. انظر تنقيح المقال في أحوال الرجال للشيخ عبد الله المامقاني ج 3 ص 192 الطبعة الحجرية.

٦٦

أمَّا همْ فإنَّ أوقع المحالِّ لندبتهم المجامع العموميَّة، كمِنى وغير مِنى.

وفي آخر هذا الفصل طلب الكاتب مِن الله أنْ يتفضَّل على أهل المواكب السائرة برفض ما تعوَّدوه في اللطم مِن المقاتلة، والسير على الهيئات المنكَرة، مِن الوثبات والزعقات الموحِشة.

فكأنَّه يتمنَّى لكلِّ فرد مِن أفراد الجعفريَّة، حتَّى الشبَّان منهم وأهل المهن الدنيَّة والبذيئين، أنْ يكون لهم مثل ما هو حاصل لأغلب الشيوخ والصلحاء، مِن الهدوء والسكون والمشي بخشوع ووقار، وهذا ما لا يكون، ولكنْ لا يلزم أنْ تكون المواكب على هذه الحال المتمنَّاة، فإنَّ تلك الوثبات والزعقات الموحشة - على ما يقول - لها مِن التأثير في بعض القلوب ما لا يؤثِّره الوقار والتوئدة.

* وفي الحميَّة معنى ليس في العنب *

أوهما حقيقة..

* مثل الفواكه كلٌّ فيه لذَّته *

والناس ليسوا على شاكلة واحدة.

وذكر الوثبات والزعقات على لسان هذا الرجل تهويل آخر، وإعابة لحال المواكب الحسينيَّة، والحقيقة لا تنزجر بالتهاويل، والأحكام لا تستند في نفي أو إثبات إليها، وما تضرُّ الوثبات مِن فئات لم تُبنَ سائر أعمالهم العباديَّة والعاديَّة على الخشوع والاستكانة، هؤلاء الزوَّار مِن الأعراب يجتمعون موكباً كبيراً، يتواثبون ويزعقون ويُنشدون مِن الشعر الدارج بلُغتهم، المسمَّى عند العامَّة (هوسه)، وهي بلحنها مُهيِّجة للشعور، مُتضمِّنة لنحو..

* يحسين اشرب ماي عيوني *

وشبهه، فتطير القلوب لهم فرحاً، ويلقون مِن كلِّ أحد الترحيب بهم، والارتياح

٦٧

إلى هيئتهم المنكَرة بزعم هذا الرجل، لأنَّها وثبات وزعقات.

بالله عليك، أيُّ فرق بين مواكب زائري سيِّد الشهداء، الذين يختلط بهم مثل الوحيد البهبهاني، أُستاذ الكلُّ في الكلِّ، وهو لا يعرف ما يقولون بمادَّته ولحنه، وبين مواكب اللطم في نفس الوثبات والزعقات، التي أنكر الكاتب عليها؟!

اللَّهمَّ أنِّي لا أجد فرقاً بين وثبات الموكب وبين الهرولة في السعي، إنْ لم تكن تلك أهون، ولا بين التلبية برفيع الصوت وبين ألحان المواكب.

ومِن المواكب..

موكب السلاسل

وهو يتألَّف مِن جماعة مِن الرجال، مكشوفي الظهور والرؤوس فقط، بأيديهم سلاسل الحديد، يضربون ظهورهم بها بدل الأيدي، عليهم الثياب السود، وأمامهم وخلفهم الأعلام المسوَّدة، يمشون بهدوء وسكون، لا يتواثبون ولا يزعقون، ينشدون - وهم بتلك الحال - أناشيد الحزن، ويخرجون صفوفاً مُتكاتفة، مُخترقين الأزقَّة والجوادَّ العموميَّة.(1)

وهذا لا ريب في كونه أجلى مِن موكب لَدْم الصدور باليد، في كونه مظهر الحزن

____________________

(1) إن المتابع لسيرة هذه المواكب - كالزنجيل مثلاً - يجد أن هؤلاء المشاركين قد انتظموا ضمن صفّين متوازيين، ويرفعان أيديهما ويقدمان أرجلهما على إيقاع واحد من النغمات الشجية المحزنة، أي ضمن هيكلية تنظيمية يعجز عنها أكبر جيش في العالم أن يقتفي أثر هذه المواكب، فهي تراعي نظاماً مرسوماً لها من قيادة أسست لها هذا النظام، وسارت عليه هذه المجاميع منذ عقود، فهل تجد في كل تنظيمات العالم مثل هذه الدقة والاحترام للنظام وتقنين المسيرة ضمن هدفية واحدة؟ فأين الغوغاء من هذا، وأين التخلف يا ترى؟!.

بل إن هذه المواكب تربي أتباعها على حب النظام والحفاظ عليه، وتؤسس في نفوسهم احترام القانون بكل جزئياته، وهذه إحدى فوائد الشعائر الحسينية.

٦٨

والجزع، وكلَّما قلنا في ذلك نقوله في هذا، ويأتي في أدلَّة الموكب الأخير ما يدلُّ على رجحان هذا بالأولويَّة القطعيَّة.

ومِن المواكب...

موكب القامات

وهو موكب يتألَّف مِن جماعة، لابسي الأكفان البيض، بأيديهم السيوف والقامات، قد ضربوا المقدَّم مِن رؤوسهم بها، وتناثرت قطرات كثيرة مِن الدم على تلك الأكفان، وهمْ يسيرون صفوفاً مُتكاتفين مُتلازمين، كأنَّهم حلقات سلسلة واحدة، كلٌّ قد أخذ بيده الأُخرى حُجزة الآخر، يخترقون الشوارع على هذه الهيئة، حُفاة الأقدام، حُسَّر الرؤوس، لا يتوارثون ولا يزعقون، غير أنَّهم يهزُّون السيوف، مُؤمِّين بها إلى رؤوسهم، ومِن ذلك تحدث لهم في المشي هيئة خاصَّة.

وهؤلاء.. مِن جِهة يُمثِّلون للأبصار طائفة قد استسلمت للموت، أقدمت على الحرب في نُصرة سليل خير الأنبياء، ودفع الأعداء عنه، وقد سالت دماؤها الطاهرة على وجوهها، وضمَّخت بها رؤوسها، ولطَّخت بها ثيابها المتَّخذة أكفاناً يوم الطفِّ.

ومِن جهة أُخرى يظهرون بمظهر موكب، قد ارتفع في مقادير الحزن عن أنْ يضرب صدره بيده أو بسلسلة حديديَّة، بلْ هو يُريد أنَّ يقتل نفسه جزعاً، مِن جرَّاء تلك الفادحة التي أُصيب بها الإسلام في قتل سبط النبي المرسَل.

فهذا الموكب عزاء مِن جهة، وتمثيل رزيَّة مِن جهة أُخرى، وكلُّ ما حرَّرناه في المآتم آتٍ فيه بالأولويَّة، بلْ هو في كونه نصرة للحسين عليه السلام، وبذلاً للنفس في سبيله، أظهر وأجلى. وقد مرَّ عليك ما يدلُّ على ذلك، مِن قوله عليه السلام: (ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا)(1) .

____________________

(1) الخصال ص 635.

٦٩

لكنَّ صاحب المقالة لا يُذعن بذلك، إذ قال: (أمَّا الضرب بالسيوف والقامات على الرؤوس فمُحرَّم، لما شاهدناه وشاهده غيرنا مِن موت جماعة منهم في كلِّ سنة، لكثرة نزف الدم، ولو قطعنا النظر عن هذه الجهة فهو فعلٌ همجيٌّ وحشيٌّ، مثل الضرب بسلسلة مِن حديد، ولم يرد دليل شرعي بتجويزها، وما مِن سيرة يستند إليها فيهما، بلْ هي بنظر أرباب العقول والمعرفة أفعال وحشيَّة، ما فيها مِن ثمرة في التعزية). انتهى.

قلت: لا ريب في أنَّ دعوى موت جماعة في كلِّ سنة لكثرة نزف الدم فرية بلا مرية، فإنِّي مُنذ أدركت لليوم ما رأيت ولا سمعت أنَّ واحداً مات بذلك في أيِّ سنة، وأيِّ بلدة، فضلاً عن جماعة في كلِّ سنة، ولقد سألت كثيراً مِمَّن جاوز السبعين والثمانين مِن سِنيِّ عُمُره، مِن ثقات أهل النجف وكربلاء والكاظميَّة، وغيرهم مِن علماء البلدان وصلحائهم، وكلٌّ أنكر أنْ يكون رأى أو سمع أنَّ واحداً مِن أولئك تألَّم ألماً يوجب مراجعة الجرَّاح أو المضمِّد، فضلاً عن موته، فعسى أنْ يكون ذلك طيفاً سوَّلته له الأحلام، أو خيالاً جسَّمته له الأوهام، أو حقيقة واقعة في الجيل الواحد مرَّة واحدة اتِّفاقاً، كيف لا؟! وأغلب أفراد موكب السيوف يجرحهم كبراؤهم بسكين دقيقة جروحاً خفيفة يظهر منها الدم بواسطة الضرب على الرأس، لا بالجرح بمُجرَّده، مِن دون أنْ يحصل لهم إيلام مزعِج، لأنَّ غرضهم صوري، وهو البروز بصورة القتيل والجريح، وليس مِن أغراضهم الإيلام الحقيقي لأنفسهم.

ومع الغضِّ عن هذه الحقيقة الواقعيَّة، لو تنزَّلنا وقلنا: إنَّ الجرح يكون بالسيف للإيلام لا غيره، فلا شكَّ أنَّ ذلك إنَّما يوجب التحريم إذا كان مُقدِّمة لإيجاد الموت، نحو أنْ يضرب رأسه ليقتل نفسه، وأمَّا الضرب لا لذلك، بلْ لأمر آخر، قد يترتَّب عليه في بعض الأحيان لبعض الأفراد الموت، مِن دون أنْ يكون مقصوداً بالأصالة أو بالتبع،

٧٠

ولا لازماً عاديَّاً للضرب نفسه، فإنَّ قواعد الفَنِّ لا تقتضي تحريمه ألبتَّة(1) ، ومُجرَّد الإيلام وإخراج مقدار مِن الدم - لا يضرُّ بالصحَّة - لا دليل على حُرمته(2) .

قوله: (ولو قطعنا النظر عن هذه الجهة (وهي نزف الدم) فهو فعلٌ همجيٌّ وحشيٌّ: مثل الضرب بسلاسل مِن الحديد).

أقول: إذا قطع النظر عن تلك الجهة التي هي علَّة التحريم، فكونه فعلاً همجيَّاً لا يفي بالحكم المقصود - لو يعلم، إلا أنْ يدلَّ البرهان على أنَّ كلَّ عبث وفعل لا ترتكبه العقلاء لهمجيَّته هو مُحرَّم(3) ، وأنَّى لأحد بإثباته، على أنَّ عَدَّه فعلاً همجيَّاً وحشيَّاً إنَّما هو بنظر مَن لم يعرف حكمته، ولم يطَّلع على المقصود منه، وإلّا فضرب الصدور بالأيدي في الدور والبيوت يعدُّه غير العارف برموزه وأسراره ضرباً مِن التوحُّش والهمجيَّة، مع أنَّه عند الجميع مِن الأُمور المستحسنة المرضيَّة.

أقول: وأنا استسلف العُذر عن حزازة القدح اللساني الظاهري - فقط - بأعظم شعائر الله وحرماته (الحجِّ)..

ليس الحجُّ إلا طواف حول بيته، وسعي وهرولة بين رابيتين، ووقوف على جبل، وهبوط في وادٍ، ورمي أحجار على أحجار، في هيئة مُقرحة، مِن كشف الرؤوس لحَرِّ الشمس، وتوفير الشعر، وعري البدن إلا عن نحو إزار ورداء.

____________________

(1) لأصالة الإباحة، من دون حاجة للدليل على حلّيته، بل مقتضى الفن هو أن القول بالحرمة يحتاج إلى دليل، فمطالبة المستشكل بالدليل على الجواز عجيبة، والأعجب نفي السيرة عنها.

(2) إذ لا دليل على حرمة كل إيلام، فمن الإيلام ما يكون ضرورياً بنظر العقلاء، كالمعالجات الجراحية التي يقوم بها الطبيب.

(3) فدعوى المستشكل في غير محلها، إذ لا أحد يلتزم بأن كل ما لا يفعله العقلاء هو محرّم، وعدّه في نظر العقلاء همجياً لا يسوّغ التحريم، إذ ملاكات الأحكام بيد الشارع لا بيد العرف والعقلاء، والحج خير مثال لما أوردناه، والمؤلف يأخذ الحج مثالاً في دعم دليله، كما سيأتي.

٧١

لا شكَّ أنَّ غير العارف برموزها وحِكمها وأسرارها، يستهزأ بها ويعدُّها ضرباً مِن الجنون والتوحُّش، وفعلاً مِن أظهر أفعال الهمجيَّة.

أفهل يصلح للعارف برموزه وحكمه أنْ يمنع منه لمجرَّد عَدِّه عند الجاهل همجيَّاً؟! ولقد وقع الاستهزاء جهاراً بتلك المناسك العالية الأسرار، الدقيقة الحكم، والسخرية بها مِن قِبَل المادِّيِّين الأقدمين، كعبد الكريم بن أبي العوجاء وعبد الله الديصاني وأضرابهما، وخلَّدت كتب الحديث إنكارهما على مولانا الصادق عليه السلام، وإنكار المتأخِّرين أظهر مِن ذلك، وناهيك الكتب المؤلَّفة منهم للاستهزاء بالحجِّ بخصوصه.

وأمَّا ثمرتها في التعزية، فإنَّما يُنكرها مَن يجهل السرَّ في إقامة المآتم العزائيَّة، وقد أسلفنا في صدر الرسالة نُبذة تتضمَّن الأسرار المشار إليها، ومَن تأمَّلها يجدها حاصلة في الشبيه وضرب القامات بوجه أتمٍّ وأنفع.

إنَّ أدنى فوائد التذكارات الحسينيَّة - التي تعملها الجعفريَّة اليوم - أنْ تجعل كلَّ فرد منهم راسخ الاعتقاد بمذهبه، شديد اليقين به، وذلك ما رمزنا إليه وصرَّحنا به في غير موضع مِن الرسالة، ولا يلزم أنْ تكون فائدتها أمراً فوق ذلك.

ومِن ثمَّة لو كان قرية - مثلاً - ليس فيها مِن غير الجعفريَّة أحد أبداً، لكان يلزم عليهم إقامة التذكارات بجميع مظاهرها لذلك، خشية أنْ يضعف اعتقادهم ويزول بمرور الأيَّام، كذا لو كانت القرية وما فيها مِن الجعفريَّة إلا أفراد معدودة، بلْ هذه أولى بإقامتها مِن هذه الجهة. وأُخرى أنَّ تلك الأعمال ربَّما تكون داعية للأغيار إلى الفحص عن أسباب تلك التذكارات واستحسانها، حتَّى تكون بنفسها مُبشِّراً مِن المبشِّرين بها.

قال بعض مؤرِّخي الأجانب في مقام استشهاده على نحو هذا: (رأيت في بندر (مارسل) في الفندق شخصاً واحداً عربيَّاً شيعيَّاً مِن أهل البحرين، يُقيم المآتم مُنفرداً، جالساً على الكرسي بيده الكتاب يقرأ ويبكي، وكان قد أعدَّ مائدة مِن الطعام ففرَّقها على الفقراء).

فبالله عليك، ماذا الذي صيَّر هذا الرجل الغريب في البلدة التي لا مُماثل له فيها

٧٢

في العنصر والمذهب أنْ يكون شديد الاعتقاد بمذهبه إلى تلك الدرجة، لولا ما تعوَّده في بلده مُنذ نعومة أظفاره مِن إقامة المآتم والتذكارات.

أمَّا صاحب المقالة، فإنَّه يطلب للتذكارات فائدة خاصَّة، نحو أنْ تكون الشيعة إذا أقامتها ترتقي في نظر غير الجعفريَّة كلَّ مُرتقى عالٍ في الدنيا والعُقبى!!!

قوله: (لم يرد دليل شرعي على تجويزها وما مِن سيرة يستند إليها).

أقول: هذا ناشٍ عن القصور في الفقه والأصول؛ لأنَّ التحريم هو المحتاج إلى الدليل والأصل الإباحة؛ لما استفاض وتواتر معنى مِن الأخبار والآثار مِن أنَّ كلُّ شيء مُطلق حتَّى يرد فيه نهي، ومع الغضِّ عن هذا، فإنَّ إباحة الشيء أو استحبابه لا يتوقَّف على دليل يخصُّ مورده، بلْ تكفي فيه الأدلَّة العامَّة.

وبما أنَّ هذا الموكب مِن جهةٍ يُمثِّل موقف الحسين عليه السلام وأنصاره بالطفِّ، يكون إحياءً لأمرهم، ومِن جهةٍ يظهر بمظهر مُرتفع في مقدار الحزن عن أنْ يضرب صدره بيده، بلْ يهمُّ بقتل نفسه يكون حزناً لأجلهم، وباعتبار الجهتين يكون كلُّ فرد مِن أفراد الموكب مُتَّصفاً بكونه موجَع القلب لهم، وباذلاً نفسه فيهم، ومؤدِّياً حقَّهم، ومُعظِّماً شعائرهم، وناصراً لهم بعد وفاتهم، وغير ذلك مِن العناوين العامَّة التي تكثَّرت فيها الأخبار الخاصَّة عن أئمَّة الهُدى (سلام الله عليهم).

إنَّ أشدَّ الأخبار العامَّة مساساً بهذا الموكب، وأتمَّ اعتلاقاً به الأخبار الكثيرة المستفيضة الدالَّة على أنَّ الجزع مكروه ومحظور، ما عدا الجزع على الحسين عليه السلام فإنَّه مندوب إليه ومرغب فيه.

ففي رواية معاوية بن وهب التي رواها المفيد والشيخ وابن قولويه عن الصادق عليه السلام: (كلُّ الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين)(1) .

____________________

(1) أمالي الطوسي ص 162.

٧٣

بلْ في خبر مُسمع بن عبد الملك البصري، عن الصادق عليه السلام أنَّه قال له - يعني الصادق -: (أفما تذكر ما صُنِع به؟ - يعني بالحسين عليه السلام. قلت: بلى، قال: فتجزع؟ قلت: أيْ والله، وأستعبر لذلك حتَّى يرى أهلي أثر ذلك عليَّ، فأمتنع مِن الطعام والشراب حتَّى يستبين ذلك في وجهي، قال: رحم الله دمعتك، أما إنَّك مِن الذين يُعدُّون مِن أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنَّا). الحديث(1) .

وهذه وما بعدها - بنظري - عُمدة الأدلَّة على جواز إدماء الرؤوس بالسيوف، بلْ واستحبابه، وذلك أنَّ كلَّ ما يفعله الشيعة مِن الضرب بسلاسل الحديد، وبالقامات وغيرها هو دون الجزع المرغِّب فيه.(2)

إنَّ الضرب بالسيوف والقامات على الرؤوس هو مظهر مِن مظاهر الجزع وليس بجزع حقيقية، فإنَّ الجزع أم معروف في اللغة والعرف، وهو ضدُّ الصبر نحو أنْ ينتحر الرجل العاقل أو يُلقي نفسه مِن شاهق لحادثة تحدث تغلب صبره وتورده الهلاك، وأين هذا مِن جرح الرأس بسكِّين أو سيف جرحاً خفيفاً، يوجب خروج الدم ولا يؤلم إلا بمُقدار ما تؤلِم الحِجامة وغيرها، مِمَّا يُرتكب لأغراض عقلائيَّة سياسيَّة أو طبيَّة؟!

ولا يُراد مِن الجزع في الخبر السابق البكاء لعطفه عليه، فيه وفيما لا أُحصيه عدداً مِن الأخبار، وذلك آية المغايرة بينهما، ولا ما ذكرناه مِن بلوغ الحُزن إلى حيث يورد الهلاك، وإنْ كان هذا لو صدر مِن أحد في مصاب، فكثيراً ما يحدث بغير اختيار، وكلَّما هو دون

____________________

(1) كامل الزيارات ص 203.

(2) ونِعمَ ما يراه المؤلف، فإن الجزع الذي يظهره الشيعة لهو أقل بكثير مما جرى عليهم (صلوات الله عليهم) من مصاب، وهو لا يساوي شهقة واحدة من امرأة ثكل، أو زفرة من زفرات حجة الله في الأرض (صلوات الله عليهم).

٧٤

هذه المرتبة، مِمَّا يُتحمَّل عادة ولا يجرُّ إلى الضرر بالنفس، فهو مِن الجزع المرغَّب فيه.

وله مراتب.. منها: الامتناع مِن الطعام والشراب مع الحاجة إليهما، كما صدر عن مُسمع، وذلك للتأثُّر القلبي الموجِب لعدم قبول النفس لهما مع شدَّة الجوع والعطش. وما ورد في بعض أخبارنا مِن تحديد أشدِّ الجزع بالصراخ والويل والعويل، ولطم الوجه والصدور، وجزِّ الشعر مِن النواصي، وإقامة النياحة، فهو في غير شأن الحسين عليه السلام، لأنّ أعظم هذه المعدودات: النياحة وهي عليه راجحة بلْ واجبة قطعاً.

ولطم الخدِّ، وقد دلَّ على جوازه وجواز شقِّ الجيب الخبر الصحيح، المروي في (التهذيب) عن خالد بن سدير، عن الصادق عليه السلام وفيه: (على مثله - يعني الحسين - تُلطَم الخُدود وتُشقُّ الجيوب)(1) .

ولقد كان شيخنا العلاَّمة شيخ الشريعة (قدِّس سرِّه)(2) بهذا الاعتبار، وبتلك

____________________

(1) تهذيب الأحكام ج 8 ص 325.

(2) شيخ الشريعة، الشيخ فتح الله النمازي، المعروف بشيخ الشريعة الأصفهاني، ولد سنة 1266، وتوفي سنة 1339، درس في أصفهان على كبار علمائها، ثم سافر إلى مشهد الرضا عليه السلام التي كانت يوم ذاك حافلة بالعلماء، فجرت بينه وبينهم المباحثات والمناظرات، ثم عاد إلى أصفهان، وانصرف إلى البحث والتدريس، ولم يلبث أن انتقل إلى النجف وتصدي فيها - كذلك - إلى البحث والتدريس.

كان رحمه الله ممن اشترك في الجهاد ضد الان گ ليز، بل كان أحد قادته... كما امتاز بمشاركته في فنون الفلسفة القديمة والحكمة الإلهية، فضلاً عن العلوم الإسلامية في الكلام والحديث والرجال وخلافيات الفرق والمقالات وما لها وما عليها من الحجج والأدلة.

وكان يحضر مجالس محاضراته وإفاداته أفاضل العلماء، وتتلمذ عليه مئات الفضلاء، وكان جمع كثير من الناس يرجعون إلى فتاواه ويقلدونه في أحكامهم الشرعية من عهد بعيد، ولكن بعد وفاة السيد كاظم اليزدي أقبل عليه جمهور، ثم بعد وفاة الشيخ محمد تقي الشيرازي أصبح المقلّد الوحيد للشيعة في غالب الأقطار. راجع موسوعة النجف الأشرف ج 11 ص 204 بتصرف يسير.

٧٥

الأخبار يُصحِّح الخبر المرسَل الذي استبعده بعض العظماء، مِن أنَّ (عقيلة علي الكُبرى): لما لاح لها رأس الحسين عليه السلام وهو على رمح والريح تلعب بكريمته، نطحت جبينها بمُقدَّم المحمل حتَّى سال الدم مِن تحت قناعها(1) .

ويقول العلاَّمة شيخ الشريعة قدِّس سرِّه: (إنَّه لا استبعاد فيه إلا مِن جهة ظهور الجزع منها، وإيلام نفسها، والإيلام الغير المؤدِّي إلى الهلاك لا دليل على عدم جواره، والجزع مندوب إليه ومُرغَّب فيه في كثير مِن الأخبار)(2) .

قلت: الظاهر مِن الأخبار جواز الهلع أيضاً، وهو - على ما ذكروا - أفحش الجزع، ويظهر مِن الخبر الصحيح، الذي تدلُّ مضامينه على صحَّته، المروي في (الكامل) عن قدامة بن زائدة، عن السجَّاد عليه السلام، أنَّه قد صدر منه الهلع لو استطاعه.

وروى المجلسي (أعلى الله مقامه)(3) ، والسيِّد عبد الله شبَّر (رفع الله درجته)(4) في

____________________

(1) بحار الأنوار ج 45 ص 115.

(2) انظر: كامل الزيارات ص 117.

(3) العلامة شيخ الإسلام المولى محمد باقر بن المولى محمد تقي المجلسي... قال المقدس الأردبيلي عنه: محمد باقر بن محمد تقي بن مقصود علي الملقب بالمجلسي (مد ظله) أستاذنا وشيخنا وشيخ الإسلام والمسلمين خاتم المجتهدين. وقال عنه الحر العاملي: عالم فاضل ماهر محقق مدقق علامة فهامة فقيه متكلم محدّث ثقة ثقة جامع للمحاسن والفضائل جليل القدر عظيم الشأن. وقال البحراني: العلامة الفهامة غواص بحار الأنوار. وقال المولى محمد شفيع: السحاب الهابر والبحر الزاخر، فتاح العلوم والأسرار، كشّاف الأستار من الأخبار. وقال الأمير محمد صالح الخواتون آبادي... كان أعظم أعاظم الفقهاء والمحدّثين، وأفخم أفاخم علماء أهل الدين. وفي كتاب مناقب الفضلاء: ملاذ المحدّثين في كل الأعصار. راجع مقدمة بحار الأنوار في ترجمة المؤلف ص 37 وما بعدها.

(4) السيد عبد الله شبر بن العلامة السيد محمد رضا شبر، ولد في النجف سنة 1188، نشأ على التقوى والصلاح وحب العلم والفضيلة منذ صغره... كان من مشاهير العلماء الذين لهم الصيت الذائع في الفنون الإسلامية كلها، فهو إلى جنب فقاهته التي هي الأصل في ثقافته معروف بتبحره في التفسير والحديث والكلام وغيرها... كان في وقته مرجعاً كبيراً للطائفة الإمامية من ناحية التقليد والتدريس =

٧٦

كتاب (جلاء العيون): إنَّ زين العابدين عليه السلام كان إذا أخذ إناءً ليشرب يبكي حتَّى يملأه دماً(1) .

وهذا بظاهره مِن غرائب الأخبار، فإنَّ العيون لا تسيل دموعها دماً، ولذلك كنت أحتمل وقوع التحريف فيه وأنّ الصحيح (دمعاً) بدل (دماً) لكنِّي وجدت المخطوط والمطبوع مِن الجلاء وغيره كما هو مروي فيه.

وعليه، فأقرب توجيهاته أنْ يُقال: إنَّ العيون وإنْ لم تبكِ دماً، لكنَّها لكثرة البكاء والاحتراق تتقرَّح أجفانها، فإذا اشتدَّ البكاء تنفجر القروح دماً يمتزج بالدموع، فهو إذا سال في الإناء يسيل كأنَّه دمٌ، ويصدق حينئذ أنْ يُقال: (يملؤ الإناء دماً)(2) .

وإذا ساغ للسجَّاد عليه السلام أنْ يسيل الدم باختياره مِن عضو مِن أعضائه ببكاء الدم، أو بتقريح الجِفن جزعاً وهلعاً على رزيَّة الحسين عليه السلام، فما هو إذاً شأن ما يصدر مِن الشيعة مِن ضرب السلاسل والقامات؟!

____________________

= والاستفادة العلمية وإجازة الحديث... نافت مؤلفاته على السبعين وهو لم يتجاوز من عمره 54 عاماً. راجع مقدمة كتاب مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار للسيد عبد الله شبر والمقدمة للسيد جواد شبر رحمه الله.

(1) يراجع البحار جلاء العيون.

(2) ما الغرابة في ذلك؟! فالطب يؤكد أن الدمع بسبب إفرازات الغدد الدمعية الموجودة في العين، فأي تحسس بالحزن وأحياناً بالفرح - أي في حالتي البكاء والضحك - يوعز الدماغ إلى هذه الغدد بالإفراز، والدم هو مصدر هذه المادة الدمعية يتحول بفعل فسلجي في هذه الغدد إلى دمع، فأي إجهاد يصيب هذه الغدد وكثرة لإفراز غير طبيعي يؤدي على نضوب هذه المادة الدمعية لتحال إلى دم فقط، وهذا في كل غدد الجسم، إذا المواد السائلة مصدرها الدم، فأي نضوب في أي سائل يتحول السائل عند ذلك إلى دم، كما في حالة نضوب الحليب من الثدي، فيخرج الدم بدل الحليب، وهكذا الحال في الدمع، وبما أنه لا يمكن وصف كثرة بكاء الإمام زين العابدين عليه السلام على أبيه والطاهرين من آل بيته وأصحابه، ولا بد أن تكون النتيجة بما وصفه المؤرخون أن يمتلئ الإناء دماً.

٧٧

وهلْ سيلان دمِ السجَّاد في الإناء أهون مِن انتثار قطرات مِن دمِ رأس الجريح على ثيابه حزناً على تلك الفادحة العظيمة؟!

ثمَّ أقول: بهذا الاعتبار أيضاً - مضافاً إلى ما سلف مِن قوله عليه السلام: (على مثله تُلطَم الخدود وتُشقُّ الجيوب) - يرفع الاستبعاد عمَّا روي في الكتب مِن أنَّ (عقيلة آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم)، في موارد عديدة لطمت وجهها، وشقَّت جيبها، وصاحت ودعت بالويل والثبور، فإنَّه لا حامل لها على شقِّ الجيب إلا الجزع في مصابٍ حقَّ أنْ تُشقَّ له القلوب لا الجيوب، كما صرَّح بذلك سيِّدنا العلاَّمة السيِّد إسماعيل الصدر قدِّس سرِّه(1) في بعض حواشيه: وكيف لا تفعل ذلك في مصابٍ جزع له وبكى إبراهيم خليل الرحمان، وموسى كليمه، كما في الخبر؟.

وفي آخر: إنَّ فاطمة عليها السلام لما أخبرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الحسين جزعت وشَقَّ عليها(2) .

وفي خبر آخر: إنَّها تنظر كلَّ يوم إلى مصرع الحسين عليه السلام فتشهق شهقةً تضطرب لها الموجودات(3) .

وفي غيره قال: سمعت أبا ذر وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة، فقال الناس: يا أبا ذر، أبْشِر فهذا قليل في الله، فقال: ما أيسر هذا! ولكنْ كيف أنتم إذا قُتِل الحسين بن علي قتلاً؟! أو قال: ذُبِح ذبحاً، وإنَّ الله سَيسلُّ سيفه على هذه الأُمَّة، لا

____________________

(1) السيد إسماعيل بن السيد صدر الدين العاملي الأصفهاني من أعاظم العلماء وأكابر المراجع. ولد في أصفهان سنة 1258، ونشأ بها، وتشرف إلى النجف سنة 1271 ولازم درس الشيخ راضي النجفي والفقيه الأوحد الشيخ مهدي بن الشيخ علي كاشف الغطاء، واستقر في نهاية أمره في الكاظمية، وتوفي فيها في 12 جمادي الأولى سنة 1338. مع علماء النجف ج 2 ص 91.

(2) بحار الأنوار ج 44 ص 292.

(3) كامل الزيارات ص 137.

٧٨

يغمده أبداً، ويبعث ناقماً مِن ذرِّيَّته، فينتقم مِن الناس، وإنَّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكَّان الجبال في الفيافي والآكام وأهل السماء مِن قتله لبكيتم - والله - حتَّى تزهق أنفسكم).

ومِن الأدلَّة على ذلك - مُضافاً إلى ما سلف وإنْ كان فيه غنىً وكفاية – ما دلَّ على إدماء الله. كثيراً مِن أنبيائه، لأجل أنْ يحصل لهم الفوز بدرجة المواساة للحسين عليه السلام.

فمِن ذلك المروي في (البحار) و(الأنوار): أنَّ آدم عليه السلام لما انتهى في طوافه في الأرض إلى كربلاء، عثر في الموضع الذي قتل فيه الحسين عليه السلام حتى سال الدم من رجله(1) .

وكذلك إبراهيم عليه السلام لما مرَّ بها عثر فرسه، فسقط وشُجَّ رأسه وسال دمه(2) .

وكذلك موسى عليه السلام حين جاء كربلاء انخرق نعله، وانقطع شراكه ودخل الحسك في رجليه وسال دمه(3) .

وكلُّ هؤلاء لما ذُعروا مِن ذلك، وخشوا أنْ يكون ذلك لذنب حدث منهم، أوحى الله إلى كلِّ واحد منهم أنْ لا ذنب لك ولكنْ يُقتل في هذه الأرض الحسين بن علي عليه السلام وقد سال دمك موافقة لدمه.

فإنَّ في هذا الإعثار والإدماء مِن الله لا عن ذنب، والتعليل بكونه موافقة لدم الحسين دلالة جليَّة على جواز إدماء الإنسان نفسه مواساة له، لأنَّ سيلان دمائهم - مع

____________________

(1) بحار الأنوار ج 44 ص 242.

(2) بحار الأنوار ج 44 ص 243.

(3) بحار الأنوار ج 44 ص 244.

٧٩

كونه غير مقصود لهم - إذا كان محبوباً لمجرَّد الموافقة في السيلان، فالمقصود إسالته مواساة لهم أولى بالمحبوبيَّة.

إنَّ التأسِّي بالحسين عليه السلام مندوب إليه، وقد رغَّب فيه الغلام الزكي يحيى بن زكريَّا والصادق الوعد إسماعيل، كما في الخبر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إنَّ إسماعيل الذي قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ) لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بلْ كان نبيَّاً مِن الأنبياء بعثه الله عزَّ وجلَّ إلى قومه فاخذوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه مَلَك فقال: إنَّ الله جلَّ جلاله بعثني إليك فمُرْني بما شئت فقال: لي بما يُصنع بالحسين عليه السلام أُسوة).(1)

بلْ روي: أنَّ غنمه التي كانت ترعى في شاطئ الفرات، لما امتنعت مِن ورود الماء وسألها عن سبب الامتناع. قالت: هذه المشرعة يُقتَل عليها الحسين عليه السلام فنحن لا نشرب منها مواساةً له.(2)

وقد روي امتناع بعض الأئمَّة مِن شرب الماء يوم عاشوراء مواساةً للحسين عليه السلام.

وورد في صومه: لا تجعله صوم يومٍ كاملٍ، ولكنْ افطر بعد الزوال بساعة على شربة ماء فعندها تجلت الهيجاء عن آل الرسول(3) .

وكان موسى بن جعفر عليه السلام إذا دخل شهر المحرَّم لا يُرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان يوم مصيبته وحزنه وبكائه(4) .

____________________

(1) كامل الزيارات ص 137.

(2) نفس المصدر.

(3) مصباح المتهجد ص 782.

(4) أمالي الصدوق: ص 191.

٨٠