نصرة المظلوم

نصرة المظلوم0%

نصرة المظلوم مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 123

نصرة المظلوم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن آل العلامة الشيخ إبراهيم المظفر
تصنيف: الصفحات: 123
المشاهدات: 30785
تحميل: 5336

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 123 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30785 / تحميل: 5336
الحجم الحجم الحجم
نصرة المظلوم

نصرة المظلوم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فهذه الرموز تُشير إلى استحباب مواساة الحسين بتحمُّل العطش وبإدماء الرأس، وبكلِّ ما يكون مصداقاً لها سوى القتل.

وإنَّما خُصَّ الرأس بالإدماء لأنَّ المواساة لا تصدق الآن عرفاً بإدماء غيره.

وربَّما يستأنس لهذا بما ورد مِن التوبيخ على ترك زيارته عند الخوف، بناءً على ما يذهب إليه صاحب (الخصائص الحسينيَّة)، مِن شمول الخوف فيه لما عدا تلف النفس مِن الجروح والأضرار البدنيَّة، حتَّى مع عدم ظنِّ سلامة النفس، مُدَّعياً أنَّ ذلك مِن خصائصه كالجهاد معه يوم عاشوراء، وبناءً على التعدِّي عن موردها(1) إلى غيره ممَّا يتعلَّق بالحسين عليه السلام لاتِّحاد الطريق في الجميع أو لانفهام التعميم مِن نحو قوله (عليه السلام) في بعض تلك الأخبار: (ما كان مِن هذا أشدُّ فالثواب فيه على قدر الخوف)(2) وقوله: (أما تُحبُّ أنْ يراك الله فينا خائفاً)(3) .

قوله: (وما مِن سيرة يستند إليها فيها...) إلى آخر كلامه.

أقول: إنّ مرجع الضمائر مِن قوله (تجويزها) وفيه إلى لفظ (جهاتها) مجهول، ليس لديَّ فقط، بلْ لدى كلِّ عارف بالتعبير العربي، وهذه المجهوليَّة هي السبب للتردُّد في السيرة التي يُنكرها. هي السيرة على ضرب السيوف والقامات، أو على جميع ما أنكر مشروعيَّته حتَّى خروج المواكب والشبيه، الذي نسب الفرقة في علمه - صدر رسالته - إلى الإبداع في المذهب.

والظاهر أنَّه يُريد هذا بقرينة قوله: (أفعال وحشيَّة)، وقوله: (ولو صرف

____________________

(1) الضمير يعود الأخبار، أي بناء على تعدي مورد الأخبار الدالة على عدم لزوم ظنيّة سلامة النفس في زيارة الحسين عليه السلام، فإن ذلك يتعدى إلى الشعائر، لوحدة الملاك في الجميع، لأن الزيارة والمواكب شعيرتان تشتركان في ملاك واحد.

(2) كامل الزيارات ص 244.

(3) المصدر السابق ص 243.

٨١

المال...)، إلى آخر الكلام.

لأنَّ ضرب السيوف لا يُكلِّف مِن المصرف مقدار نصف العشر مِن مصرف مأتم واحد، فكيف بزيادة مأتمين، ولكنَّه لما كان يعلم وجود السيرة في الجملة، ويعرف أنَّ في ارتكاب خلافها تضليل السلف، وادِّعاء عدم نفوذ الكلمة منهم أدمج مُراده بلا إفصاح.

والذي أراه وأعتقده أنَّ السيِّد المذكور يُنكر قِدَم السيرة، بحيث تتَّصل بزمن المعصومين، لا أنَّه يُنكر وجودها وقِدَمها في الجملة، ولكنَّه لم يعلم أنَّ ذلك التقدُّم ممَّا لا حاجة إليه، لما أسلفناه مِن أنَّ ما ليس بقديم بشخصه إذا كان مُندرجاً تحت عنوان كليٍّ راجح، كفى في رُجحانه انطباق ذلك العنوان عليه، وإنْ كانت مصداقيَّته له حادثة، وهذا ما عبَّرنا عنه سابقاً بكونه مأموراً به بسنخه، فإنَّ المراد منه ما كان مشروعاً بعنوانه العام، في قبال ما كان مشروعاً بخصوصه.(1)

وأدنى ما ينطبق على الشبيه والمواكب بأنواعها: ذكر مصاب الحسين عليه السلام، الإبكاء عليه، إحياء أمره، الحزن لأجله، وغير ذلك مِن العناوين العامَّة، التي ثبت رجحانها بالأدلَّة الخاصَّة.(2)

إنَّ الحزن أمر قلبي نفسي، وله مظاهر هي المندوب إليها حقيقة، ولا ريب في أنَّه

____________________

(1) اندراج الحادث تحت عنوان قديم لا يضر حادثيته بمشروعيته، إذ مشروعيته محفوظة ما دام من سنخه، والمأمور به مأمور بملاكه لا بمصداقه، فتغير المعنون تحت عنوانه الكلي يضمن له اندراجه تحت ذلك العنوان المطلوب.

وهكذا هي الشعائر الحسينية، مصاديقها الحادثة لا تضر في عنوانها الكلي وهو المواساة، والسيرة قائمة على أن كل مواساة مرغوب فيها، فالشعائر الحادثة مرغوب فيها لنفس الملاك، والتطبير منها.

(2) المجتمعة تحت عنوان المواساة: كما قدمنا، إذ المواساة وردت فيها النصوص المتكثرة والتي تحفظ مشروعية كل معنوت يندرج تحت هذا العنوان الكلي.

٨٢

لم ترد له مِن الشرع كيفيَّة خاصَّة، بحيث يُقتصر عليها في مقام إظهار الحزن، كما أنَّه لا ريب أيضاً في أنَّ مظاهره تختلف باختلاف أطوار الأُمَم وعاداتها، وباختلاف الأحوال والأزمان، وكذلك البكاء والإبكاء المندوب إليهما لهما أسباب ووسائل كثيرة، لا تقع تحت الحصر، وليس في شيء مِن أخبارنا شيء يُشير إلى قَصْرها على وسائل خاصَّة، بحيث لا يتعدَّى عنها في مقام إرادة البكاء والإبكاء.(1)

وإذا كانت المواكب بجميع أنواعها في زماننا مِن مظاهر الحزن، والتشبيهات بجميع أفرادها مِن وسائل الإبكاء، والجميع ذكرى لمصائبهم، وإحياء لأمرهم، وصلة وإسعاد لهم، وأداء لحقِّهم، فبأيِّ صنعة أو صيغة علميَّة يتجرَّأ أحد مِن الجعفريَّة أنْ يقول: إنَّها لا دليلَ شرعيَّاً على تجويزها، وما مِن سيرة يستند إليها فيها، بلْ هي بنظر أرباب العقول والمعرفة أفعال وحشيَّة؟!

إنْ كان صاحب الرسالة يطلب اتِّصال السيرة بالصدر الأوَّل، لزمه أنْ يبطل لطم الصدور في الدُّور؛ لأنَّه حادث، وكذا لبس الثياب السود وإلباس الجدران بالسواد. ويُبطل النار والروايات والأعلام، وكشف الرؤوس وصرف الأموال و.. و.. و...، لأنَّها أمور لكم تكن في زمن الأئمَّة، ولا حاجة له على هذا في تحريم خروج مواكب اللطم إلى وقوع الفتن فيها، بلْ يكفي في ذلك حدوثها.

____________________

(1) فقد ورد عنهم عليهم السلام: (أحيوا أمرنا)، والإحياء لم يقيده الدليل بهيئة خاصة، بل ترك اختيار كيفية الإحياء إلى المحيي، دون التقييد بهيئة خاصة.

٨٣

٨٤

نظرة في التاريخ

٨٥

٨٦

أنا الآن أذكر لك نُبذة تاريخيَّة، تعرف منها الزمن الذي ظهرت فيه المآتم بلا اتِّقاء، وحدثت فيه المواكب والتمثيل بنفوذ ملوك الجعفريَّة وعلمائهم.

فبالرغم مِن حثِّ الأئمَّة عليهم السلام على التذكارات الحسينيَّة، ما كان ينعقد فيها مِن المآتم، إلا نحو ما كانوا يعقدونه في دورهم، يحضره - لضرب مِن الاتِّفاق - مثل أبي هارون المكفوف، وأبي عمارة المنشد، وجعفر بن عفان وأضرابهم(1) ، لأنَّ بني أُميَّة

____________________

(1) أبو هارون المكفوف وأبو عمارة المنشد وجعفر بن عفان، هؤلاء الثلاثة شعراء منشدون، وكان للإنشاد أهميته في زمن الأئمة عليهم السلام، فهم ينشدون قصائد شعراء معروفين، فضلاً عما تجود به قريحتهم.

وهكذا ترعرع الإنشاد تحت ظل الأئمة عليهم السلام وبرعايتهم، والمنشدون اليوم - والذي نطلق عليهم الرادود - يشكلون معلماً مهماً من معالم الشعائر الحسينية لتحريك العواطف وتهييج الوجدانيات لقضية الحسين عليه السلام. نسأل من الله تعالى لهم التوفيق، ومن الأمة الاهتمام بهم وتكريمهم بما ينبغي.

أما أبو هارون المكفوف هو موسى بن عمير الكوفي مولى آل جعدة، ذكره الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق عليه السلام تارة بعنوان موسى بن عمير أبو هارون المكفوف، وتارة بعنوان موسى بن أبي عمير أبو هارون المكفوف... عن أبي هارون المكفوف قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه السلام، فأنشدته، فقال لي: أنشدني كما ينشدون - يعني بالرقة - فأنشدته..

مدارس آيات خلت مِن تِلاوة

ومنزل وحيٍ مُقفر العرصات

فبكى، ثم قال: زدني، فأنشدته القصيدة الأخرى فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر. راجع أعيان الشيعة ج 10 ص 193. =

٨٧

تمنع الشعراء أنْ ترثي الحسين عليه السلام، بلْ تمنع أنْ يُرثى مَن قُتِل في سبيل الأخذ بثأره، كالتوَّابين، وأمَّا آل العباس فلم يكونوا أقلَّ تشدُّداً مِن بني أُميَّة في الضغط على العلويِّين، وإيذاء مَن يُنسب إليهم مدَّة خلافتهم، عدا أيَّام نزره في الفترة بين الدولتين، وفي أيَّام المأمون العباسي، حين يُجاهر الصولي بقصيدته المستورة، التي أولها:

أزال عزاء القلب بعد التجلُّد

مصارع أبناء النبي محمد

ويقوم الخزاعي منشداً بحضرة المأمون قصيدته المشهورة التي منها:

مدارس آيات خلت مِن تِلاوة

ومنزل وحيٍ مُقفر العرصات

ثمَّ اشتدَّ الأمر بعده وبلغ غايته في أيَّام المتوكِّل ومِن بعده، إلى أنْ تضاءل

____________________

= وأما جعفر بن عفان فهو أبو عبد الله جعفر بن عفان الطائي، توفي في حدود سنة 150.

عن زيد الشحام قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام ونحن جماعة من الكوفيين، فدخل جعفر بن عفان علي أبي عبد الله عليه السلام، فقربه وأدناه، ثم قال: يا جعفر، قال: لبيك جعلني الله فداك، قال: بلغني أنك تقول الشعر في الحسين عليه السلام تجيد، فقال له: نعم، جعلني الله فداك، فقال: قل، فأنشده عليه السلام ومن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته.

وروى أبو الفرج في (الأغاني) باسناده عن محمد بن يحيى بن أبي مرة التغلبي، قال: مررت بجعفر بن عفان الطائي فرأيته على باب منزله، فسلمت عليه، فقال: مرحباً بك يا أخاه تغلب، اجلس، فجلست إليه، فقال: ألا تعجب من مروان بن أبي حفصة حيث يقول:

أنّي يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

فقلت: والله إني لأتعجب منه وأكثر لعنه لذلك، فهل قلت في ذلك شيئاً؟ فقال: نعم، قلت فيه:

ولا يكون وإن ذاك لكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

للبنت نصف كامل من ماله

والعم متروك بغير سهام

ما للطليق وللتراث وإنما

صلى الطليق مخافة

انظر: أعيان الشيعة ج 6 ص 186.

٨٨

مُلكهم وضعفت قواهم، وذلك مِن بعد الغيبة الصغرى بزمن غير قصير، حتى تولَّى عزل الخلفاء ونصبهم أمراء الجند، وهم على الأغلب غلمانهم، وابتدأ مِن ذلك الوقت حكم ملوك الطوائف، ومنهم البويهيِّون.

لما قامت الدولة البويهيَّة في جبال الديلم، وثبتت دعائمها، أسَّس مُعزُّ الدولة أحمد بن بويه(1) إقامة العزاء علناً يوم عاشوراء في زمن المستكفي بالله، سنة 352 هـ، وبنى الدور الخاصَّة بإقامة المآتم (الحسينيَّات) وبقي ذلك مُتداولاً في أيَّامه، وعضده بعده عضد الدولة الحسن بن بويه(2) ، وهو الذي بني القُبَّة المرتضويَّة، بعد البناء الهاروني، والقُبَّة

____________________

(1) احمد بن بويه معز الدولة، ولد سنة 303 هـ، وتوفي سنة 356. قال ابن الأثير في الكامل: كان حليماً كريماً عاقلاً، ولما أحس بالموت أظهر التوبة وتصدق بأكثر ماله وأعتق مماليكه... وكان متصلباً في التشيع.

وذكر في حوادث 356 أنه كتب عامة الشيعة ببغداد بأمر معز الدولة على المساجد ما هذه صورته: لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة (رضي الله عنها) فدكاً، ومن منع من أن يدفن الحسن عند قبر جده عليه السلام، ومن نفى أبا ذر الغفاري، ومن أخرج العباس من الشورى، فأما الخليفة فكان محكوماً عليه لا يقدر على المنع، وأما معز الدولة فبأمره كان ذلك، فلما كان اليل حكّه بعض الناس، فأراد معز الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير أبو محمد المهلبي بأن يكتب مكان ما محي لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يذكر أحداً في اللعن إلا معاوية، ففعل ذلك.

وهو أول من أمر بإقامة المآتم على الحسين الشهيد عليه السلام في العشرة الأولى من المحرم، على النحو المعروف اليوم، واستمرت عليه الشيعة من ذلك الحين.

وليس المراد أنه أول من أقام المآتم وأنها لم تكن تقام على الحسين عليه السلام قبل، فقد ذكرنا في إقناع اللائم أن المآتم أقيمت على الحسين عليه السلام قبل قتله، وأن أول مآتم أقيم عليه هو الذي أقامه جده صلى الله عليه وآله وسلم بمحضر الصحابة حين أخبره جبرائيل بأنه سيقتل، كما رواه المارودي الشافعي في أعلام النبوة وغيره، وروته الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

انظر: أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ج 4 ص 82.

(2) الحسن بن بويه وهو ركن الدولة، لا كما ذكره المؤلف رحمه الله، وعضد الدولة ولده الذي انتقلت إليه الإمارة. ولد سنة 284، وتوفي سنة 366 هـ بالري. =

٨٩

الحسينية لأوَّل مرَّة، ودَفَنَ في النجف.

وما زال الأمر على ذلك في العراق وفي جبال الديلم مُدَّة تلك الدولة، بفضل اعتقاد ملوكها، وتدبير مِن وزرائها، مثل الصاحب بن عباد(1) ، وأعان على ذلك شدَّة وطأة الملوك العلويَّة الإسماعيليَّة بالمغرب ومصر(2) ، الذين جعلوا يوم عاشوراء في كلِّ

____________________

= كان ركن الدولة ملكاً جليلاً عظيماً شجاعاً موفقاً كريماً عاقلاً مدبراً ناظراً في العواقب حسن التدبير في الحروب حليماً محباً للعفو حسن النية كريم المقدرة حافظاً للذمام وفياً بالعهود رفيع الهمة شريف النفس. أعيان الشيعة ج 8 ص 39.

وما ذكره المؤلف رحمه الله هو عضد الدولة بن ركن الدولة، وهو فنا خسرو أبي علي بن بويه الديلمي. ولد بأصفهان في ذي القعدة سنة 324، وتوفي يوم الاثنين ثامن شوال سنة 371، ونقل إلى مقبرته في النجف فدفن فيها.

وعمّر الأمير عضد الدولة فنا خسرو من آل بويه مشهد أمير المؤمنين عليه السلام في النجف ومشهد الحسين عليه السلام في كربلاء ومشهد موسى والجواد عليهما السلام في بغداد ومشهد العسكريين عليهما السلام في سامراء عمارة كثيرة، وكتب اسمه على باب مشهد علي بن أبي طالب عليه السلام، وكتب هناك: (وكلبهم باسط دراعيه بالوصيد)، وفي موسم عاشوراء والغدير والمواقف الأخرى كان يخضر في المشاهد، ويقوم بالمراسم التي يقوم بها الشيعة. راجع أعيان الشيعة ج 13 ص 19.

(1) الصاحب بن عباد أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس القزويني الطالقاني الأصفهاني المعروف بالصاحب وكافي الكفاة.

كان من مفاخر علماء الشيعة الإمامية وأدبائهم شارك في مختلف العلوم، كالحكمة والطلب والنجوم والموسيقي والمنطق، وكان محدّثاً ثقة شاعراً مبدعاً... كان فصيحاً سريع البديهة كثير المحفوظات متكلماً محققاً نحوياً لغوياً، ولجلاجة قدره وعظيم شأنه مدحه خمسمائة شاعر، ولأجله ألف الثعالبي كتاب يتيمة الدهر، وألف الشيخ الصدوق رحمه الله كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام.

توفي بالري في الرابع والعشرين من صفر سنة 385 هـ، ونقل جثمانه إلى أصفهان، ودفن في باب دريه، مشاهير شعراء الشيعة ج 1 ص 185.

(2) راجع الخطط المقريزية للمقريزي، حيث يذكر تفاصيل شعائر عاشوراء الذي يقيمه أهل مصر، وعلى رأسهم الخليفة الفاطمي.

٩٠

مكان لهم سلطان عليه يوم حزن، تتعطَّل فيه الأسواق، وتُترك فيه الزينة، وتُقام فيه مآتم العزاء لسيِّد الشهداء، في مُدَّة تزيد على مئتي عام.

وكأنَّ البذر الذي ألقته الأئمَّة عليهم السلام في قلوب الشيعة ما اخضرَّ نباته إلا يومئذ، وما زال ينمو غِراسه، ويتأصَّل في القلوب شيئاً فشيئاً، حتَّى في زمن ملوك المغول المتوحِّشين، الذين أكثروا مِن القتل في الأرض نحو هولاكو خان، والسلطان محمد خدا بنده(1) ، الذي تمَّ مآتم على يده لعلماء الشيعة الذين كانت الحلة السيفيَّة مغرسَهم، وذلك في حدود سنة 700، والخلافة العباسيَّة مُنقرضة يومئذ، وكانت مِن قبل ذلك في مُدَّة أربعمائة عام تقريباً اسميَّة فقط، وما كانت التذكارات الحسينيَّة حينئذ إلا مآتم يُقرأ فيها نحو كتاب (المقتل) تأليف أبي مخنف(2) ، وهو مِن أكابر المحدِّثين الذين

____________________

(1) محمد خدابنده السلطان محمد الخايتو خان خدابنده بن أرغون بن أبقاخان بن هولاكو بن تولي بن جنكيز خان المغولي.

كان تشيعه على يد العلامة الحلي سنة 708، بعد ما مضى من سلطنته خمس سنين، فأدخل أسماء الأئمة عليهم السلام في الخطبة والسكة. وعن الشيخ البهائي رحمه الله أنه كان متصلّباً في التشيّع، معظّماً لعلماء الشيعة، كالعلامة جمال الحق والدين (قدس الله روحه) وغيره من علماء الإمامية. أعيان الشيعة ج 13 ص 342.

(2) أبو مخنف يحيى بن لوط بن سعيد بن سليم الأزدي، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، توفي سنة 157. يروي عن الصادق عليه السلام وعن هشام الكلبي.

جده مخنف بن سليم صحابي شهد الجمل في أصحاب علي عليه السلام حاملاً راية الأزد، فاستشهد في تلك الوقعة.

وكان أبو مخنف من أعاظم مؤرخي الشيعة، وعلى اشتهار تشيعه اعتمد عليه علماء السنة في النل عنه، كالطبري وابن الأثر وغيرهما، وليعلم أن لأبي مخنف كتباً كثيرة في التأريخ والسير، منها كتاب مقتل الحسين عليه السلام، الذي نقل عنه أعاظم العلماء المتقدمين، واعتمدوا عليه.

ولكنه - للأسف - فُقد، ولا توجد منه نسخة. وأما المقتل المنسوب إليه والذي بأيدينا فليس له، بل ولا لأحد المؤرخين المعتمدين، ومن أراد تصديق ذلك فليقارن بين ما في المقتل وما نقله الطبري وغيره عنه، حتى يعرف ذلك. الكنى والألقاب ج 1 ص 151.

٩١

تلقَّى منه ابن جرير الطبري(1) وغيره مقتل الحسين، أو كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد(2) ، أو كتاب (اللهوف) لابن طاووس(3) ، وبضع قصائد انفرد الشعراء مِن أهل الحلَّة خاصَّة بإنشائها، ولم تُعرَف لغيرهم يومئذ قصيدة قطُّ.

____________________

(1) ابن جرير الطبري يطلق على رجلين. أحدهما: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير الكبير والتأريخ الشهير، وكتاب طرق حديث الغدير، المسمى بكتاب الولاية، الذي قال عنه الذهبي: إني وقفت عليه فاندهشت لكثرة طرقه، وقال إسماعيل بن عمر الشافعي في ترجمته: إني رأيت كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين، وكتاباً جمع فيه طرق حديث الطير.

ثانيهما: أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي الشيعي من أعاظم علمائنا الإمامية في المائة الرابعة، ومن أجلائهم وثقاتهم. ويبدو أن المؤلف يقصد الثاني لا الأول، وإن كان الأول له مقتل الحسين عليه السلام، يرويه عن أبي مخنف يحيى بن لوط.

(2) الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي البغدادي المعروف بابن المعلم.

ولد سنة 336، وقيل 338 في عكبرا - بلدة بينها وبين بغداد عشرة فراسخ - وتوفي سنة 413، وشيعه ثمانون ألف من الباكين عليه، وصلى عليه تلميذه الشريف المرتضى... ثم نقل إلى الكاظمية فدفن بمقابر قريش بالقرب من رجلي الإمام الجواد عليه السلام... له أكثر من 195 مؤلف في الفقه والكلام والتأريخ وغيرها من أنواع العلوم.

وكان شيخ الطائفة في زمانه ثنيت له وسادة التدريس، ومنح له كرسي الكلام، وكان مهاباً من قبل ملوك عصره، ويزوره ركن الدولة البويهي إلى بيته، ويعوده عند مرضه. أعيان الشيعة ج 14 ص 251 بتصرف.

(3) ابن طاووس يطلق غالباً على رضي الدين أبي القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الحسيني السيد الأجل الأورع الأزهد قدوة العارفين الذي ما اتفقت كلمة الأصحاب - على اختلاف مشاربهم وطريقتهم - على صدور الكرامات عن أحد ممن تقدمه أو تأخر عنه غيره.

قال العلامة الحلي في إجازته الكبيرة: وكان رضي الدين علي صاحب كرامات حكي لي بعضها، وروى لي والدين (رحمة الله عليه) البعض الآخر.

وذكر الميرزا النوري في المستدرك بعض كراماته، ثم قال: ويظهر من مواضع من كتبه - خصوصاً كشف المحجة - أن باب لقائه بالإمام الحجة عليه السلام كان مفتوحاً.

وكان رحمه الله من عظماء المعظمين لشعائر الله تعالى، فلا يذكر في تصانيفه لفظ الجلالة إلا وأعقبه بقوله: (جل جلاله)، وكان أعبد أهل زمانه. الكنى والألقاب ج 1 ص 333.

٩٢

حتَّى إذا تسنَّم عرش الملْك الملوك الصفويَّة، وهم علويُّون موسويُّون، تفنَّنوا بإظهار ضروب الحزن على جدِّهم الأعلى الحسين بن علي، فأحدثوا تمثيل فاجعته لعيون الملأ في يوم عاشوراء، بأمر وإشارة وبتقرير وإمضاء مِن العلاَّمة الفاضل المجلسي(1) ، صاحب كتاب (بحار الأنوار) (أعلى الله درجته)، وذلك بعد الألف مِن الهجرة، في أواسط المئة الحادية عشر زمن السلطان الحسين بن سليمان الصفوي(2) ، والتمثيل يومئذ في دَوْر نشأته، حتَّى بلغ إلى ما هو عليه الآن، وقد أتى عليه إلى هذه الأيَّام نحو ثلاث مئة سنة، وهو يُقام في بلدان الشيعة بمرأى علمائهم ومسمع مِن دون إنكار منهم فكأنَّهم لعدم نفوذهم - ولا أقول لجهلهم - تركوا الإنكار إلى الزمن الذي ينفرد به حضرة (السيِّد) في البصرة والكويت!! فيُنكر ما جرت عليه سيرة الشيعة وأيَّدته علماؤها وانطبقت عليه مِن العناوين الراجحة، التي تضمَّنتها أخبار الأئمَّة الأطهار ما لا يُحصى كثرة.

أنا لا أبخس هذا الرجل حقَّه مِن الفضل في بعض النقليَّات، لكنَّه لم يُخلَق للإفتاء ولا للخوض في الفنون الدقيقة والأسرار الغامضة و(المرء ميسَّر لما خُلِق له)(3) ، وهذا عذره عندي فيما ارتبك فيه، وهو عذري عنده فيما ارتكبته في هذه الرسالة.

____________________

(1) تقدمت ترجمته، فراجع.

(2) الحسين بن سليمان الصفوي ابن شاه عباس الثاني ابن الشاه صفي الدين بن صفي ميرزا بن الشاه عباس الأول ابن الشاه محمد بن الشاه طهماسب بن الشاه إسماعيل بن السلطان حيدر بن السيد أبو محمد القاسم بن القاسم حمزة بن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام.

استشهد نتيجة التعصب الطائفي الذي عرف به حكام الأفغان آنذاك، وذلك في 23 من المحرم سنة 1140، ونقل بعد مدة إلى قم فدفن بجوار آبائه تحت جناح عتبة أخت الرضا عليه السلام. أعيان الشيعة ج 9 ص 205 بتصرف.

(3) مضمون حديث وارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اعملوا فكلٌ ميسّر لما خُلق له). بحار الأنوار ج 5 ص 157 عن التوحيد للشيخ الصدوق.

٩٣

لقد مرَّ زمن، وهو أوائل المئة الثانية عشر، والمبرّز بالعلم والفضل والورع في إيران، وخاصَّة بالري وقمْ: الميرزا أبو القاسم القُمِّي(1) ، وفي أصفهان وفارس وبلاد الجبل: الإمام الشفتي السيِّد محمد باقر الرشتي(2) ، صاحب كتاب (مطالع الأنوار)، وفي العراق بلْ وإيران وأكثر البلدان الشيخ جعفر النجفي كاشف الغطاء(3) .

وهؤلاء في الاشتهار ونفوذ الكلمة بمنزلةٍ لا توصَف، ومع اجتماعهم في الزمن وشِدَّة النفوذ منهم كان التمثيل يقع بمرئى منهم ومسمع ولا مُنكِر منهم.

نعم صرَّح كاشف الغطاء بأنَّ الأوْلى ترك تشبيه الرؤوس، وتشبيه النساء في محافل الرجال، فحسب. أترى كاشف الغطاء والسيِّد الرشتي المذكور يُمضيان ذلك

____________________

(1) أبو القاسم القمي ابن المولى محمد حسن الجيلاني المعروف بالميرزا القمي، العالم الكامل الفاضل المحقق المدقق، رئيس العلماء الأعلام، ومولى فضلاء الإسلام، شيخ الفقهاء المتبحرين، وملاذ علماء المجتهدين، أحد أركان الدين والعلماء الربانيين، مسهل سبيل التدقيق والتحقيق، مبين قوانين الأصول ومناهج الفروع، كما هو به حقيق... وكان مؤيّداً مسدداً، كيساً في دينه، فطناً في أمور آخرته، شديداً في ذات الله، مجانباً لهواه، مع ما كان عليه من الرئاسة وخضوع ملك عصره وأعوانه له... له مصنفات شريفة، كالقوانين والغنائم والمناهج ومرشد العوام. الكنى والألقاب ج 1 ص 139.

(2) السيد محمد باقر بن السيد محمد تقي الموسوي الشفتي الرشتي، توفي في أصفهان سنة 1260، ودفن في البقعة التي بناها. والشفتي نسبة إلى شفت قرية من قرى جيلان.

الفقيه الإمام الرئيس في أصفهان، هاجر إلى العراق في إبّان الطلب، وأخذ في النجف من بحر العلوم الطباطبائي، وفي كربلاء عن صاحب الرياض، وفي الكاظمية عن صاحب المحصول، وفي رجوعه إلى إيران مرّ بقم، فأخذ من صاحب القوانين... وكان رئيساً مسبوط اليد في أصفهان وسائر إيران، يقيم الحدود الشرعية، وله آثار شرعية لا يشيدها إلا الملوك. أعيان الشيعة ج 13 ص 442 بتصرف.

(3) الشيخ جعفر كاشف الغطاء هو الشيخ الأكبر جعفر بن الشيخ خضر الجناحي النجفي، علم الأعلام وسيف الإسلام وشيخ الفقهاء، صاحب كشف الغطاء. قال في المستدرك: وهو من آيات الله العجيبة التي تقصر عن دركها العقول وعن وصفها الألسن، فإن نظرت إلى علمه فكتابه كشف الغطاء الذي ألفه في سفره ينبيك عن أمر عظيم ومقام عليّ في مراتب العلوم الدينية أصولاً وفروعاً.

٩٤

ويمنعه أُستاذهما بحر العلوم الطباطبائي(1) ، أو أُستاذه الوحيد البهبهاني(2) ، أُستاذ الكلِّ أو العلاَّمة المجلسي؟! كلاَّ ثمَّ كلاَّ.

إنَّ السيِّد محمد باقر المذكور كان - لنفوذ كلمته - يقتل القاتل، ويقطع يد السارق، ويرجم الزاني ويُقيم سائر الحدود، وهو أوَّل مَن أحرز لقب (حُجَّة الإسلام) في الشيعة، ومع ذلك لم يُنكِر ما يُصنَع في إيران مِن الأعمال الحسينيَّة، وهي في جميع ذلك القطر الواسع تقع بنحوٍ لا يكون ما يقع في العراق كلِّه إلا جزء مِن مائة جزء منه، أو أقلُّ.

____________________

(1) بحر العلوم الطباطبائي هو السيد مهدي - ويقال: محمد مهدي - ابن السيد مرتضى بن السدي محمد الحسني البروجردي، المعروف بحر العلوم الطباطبائي، من نسل إبراهيم الملقب (طباطبا) من ذرية الحسن المثنى.

ولد بكربلاء ليلة الجمعة في شوال سنة 1155، وتوفي في النجف الغروي سنة 1212، ودفن قريباً من قبر الشيخ الطوسي وقبره مشهور.

رئيس الإمامية وشيخ مشايخهم في عصره، قارورة الدهر وإمام العصر، الفقيه الأصولي الكلامي المفسر المحدث الرجالي، الماهر في المعقول والمنقول، المتضلع بالأخبار والحديث والرجال، التقي الورع الأديب الشاعر، الجامع لجميع الفنون والكمالات، الملقب ببحر العلوم عن جدارة واستحقاق، ذو همة عالية وصفات سامية ونفس عصامية وأخلاق كريمة وسخاء هاشمي ورئاسة عامة. أعيان الشيعة ج 15 ص 31.

(2) الوحيد البهبهاني هو محمد باقر بن محمد أكمل، ولد سنة 1116 أو 1117، وتوفي سنة 1205 في كربلاء، ودفن في الرواق الشرقي مما يلي قبور الشهداء.

وصفوه بأنه مجدد المذهب على رأس المائة الثانية عشرة، ووصفه تلميذه السيد مهدي بحر العلوم في بعض إجازاته بقوله: شيخنا العالم العامل والعلامة وأستاذنا الحبر الفاضل الفهامة، المحقّق النحرير والفقيه العديم النظير، بقية العلماء ونادرة الفضلاء، مجدد ما اندرس من طريقة الفهاء، ومعيد ما انمحى من آثار القدماء، البحر الزاخر والإمام الباهر، الشيخ محمد باقر بن الشيخ الأجل الأكمل والمولى الأعظم الأبجل محمد أكمل أعزه الله تعالى برحمته الكاملة، وألطافه السابقة الشاملة. أعيان الشيعة ج 13 ص 433.

٩٥

النجف وعمل الشبيه

تمتاز النجف - وهي مغرس علماء الشيعة - بعمل الشبيه عن جميع البلدان العراقيَّة، وذلك أنَّه كان في النجف ميدان واسع طولاً وعرضاً، لو اجتمع فيه أهل البلدة جميعاً يومئذ لوَسِعهم، قد أكلته العمارة اليوم ولم يبقَ منه إلا خطٌّ طوليٌّ وهو شارع محدود، كان هذا الميدان مِن أزمنة قديمة محلَّاً لإقامة الشبيه في عشرة أيَّام مِن شهر المحرَّم، ويقوم بتمثيل واقعة الطفِّ جماعة كثيرة مِن أهل المعرفة، فيُمثِّلون كلَّ يوم نُبذة مُمْتِعة مِن تلك الواقعة، إلى اليوم العاشر.

ودام هذا إلى أيَّام المحقِّق الشيخ مُرتضى الأنصاري(1) ، والسيِّد علي آل بحر العلوم(2) ، وسائر السلف الصالح مِن آل كاشف الغطاء وصاحب الجواهر(3) ، حتَّى أوائل

____________________

(1) الشيخ الأنصاري هو مرتضى بن محمد أمين الدزفولي الأنصاري النجفي، ينتهي إلى جابر بن عبد الله الأنصاري.

الأستاذ الإمام المؤسس شيخ مشايخ الإمامية، وكان أستاذه النراقي يقول: لقيت خمسين مجتهداً لم يكن أحدهم مثل الشيخ مرتضى.

ورد النجف أيام رئاسة الشيخ علي بن الشيخ جعفر وصاحب الجواهر، فاختلف إلى مدرسته عدة أشهر، ثم انفرد واشتغل بالتدريس والتأنيف، واختلف إليه الطلاب، ووضع أساس علم الأصول الحديث عند الشيعة، وطريقته الشهيرة المعروفة، إلى أن انتهت إليه رئاسة الإمامية العامة في شرق الأرض وغربها... وصار على كتبه ودراستها معول أهل العلم لم يبق أحد لم يستفد منها وإليها يعود الفضل في تكوين النهضة العليمة الأخيرة في النجف الأشرف. أعيان الشيعة ج 14 ص 455 بتصرف.

(2) السيد علي بحر العلوم هو السيد علي بن السيد محمد رضا الطباطبائي صاحب البرهان القاطع، ولد سنة 1224، وتوفي سنة 1299 في النجف الأشرف... كان عالماً محققاً مدققاً فقهياً أصولياً مدرساً، له من المؤلفات البرهان القاطع في شرح المختصر النافع، ورسالة في القبلة، ورسالة في المسافة الملفقة، ورسالة في نية الإقامة في السفر، ورسالة في تصرفات المريض، إلى آخرها من المؤلفات الفقهية والأصولية.

(3) صاحب الجواهر هو الشيخ محمد حسن بن الشيخ باقر النجفي، توفي سنة 1266، فقيه الإمامية الشهير =

٩٦

أيَّام الرياسة الكبرى للسيِّد الميرزا محمد حسن الشيرازي(1) ، نزيل سامراء، ثمَّ تُرِك هذا التمثيل لتعمير الحكومة قسماً كبيراً مِن ذلك الميدان ولغير ذلك، وصار التمثيل ما هو الجاري الآن في أيَّامنا هذه.

أمَّا مواكب السيوف ولطم الصدور في الطُّرقات فحدِّث عنها ولا حرج، كثرة واستدامة، مع أنَّ النجف مِن بين سائر البلدان ما زالت مُنقسمة بين فئتين مُتقابلتين، بلْ فئات كثيرة، وكثيراً ما يحدث العراك فيما بينهم، ولكنَّه لم يوجب منع العلماء إيَّاهم مِن إقامة الشعارات، نعم ربَّما منعتهم الحكومة مُحافظةً على الأمن العامِّ، حتَّى تتكفَّل الرؤساء بعدم حدوث شيء مِن ذلك. السيِّد الميرزا محمد حسن الشيرازي، نزيل سامراء، وهو الذي انتهت إليه رياسة الإماميَّة في عصره في جميع العالم، وعُدَّ مُجدِّداً للمذهب الجعفري على رأس القرن الثالث عشر - كما أنَّ الوحيد البهبهاني (محمد باقر بن محمد أكمل) مُجدِّده في القرن الثاني عشر - قد كان أنفذ كلمة على عموم الشيعة، ملوكها وسَوقتها مِن كلِّ سابق ولاحق، وقد يوجد اليوم في كلِّ بلدة كثير ممَّن يُعرف اشتهاره ونفوذه، وكان مع علمه بوقوع الشبيه وخروج المواكب وما يحدث فيها مِن حوادث، وبضرب القامات والسيوف في بلدان الشيعة في العراق وإيران وعدم وقوع الإنكار منه أصلاً، تُقام جميع الأعمال المشار إليها في (سامراء) محلِّ إقامته نُصْب عينيه بلا إنكار.

____________________

= وعالمهم الكبير، مربي العلماء وسيد الفقهاء، أخذ عن الشيخ جعفر وولده الشيخ موسى وعن صاحب مفتاح الكرامة... انتهت إليه رئاسة الطائفة في منتصف القرن الثالث عشر، وصار مرجعاً للتقليد في سائر الأقطار، وأذعن له معاصروه، وفيهم من الأئمة المؤلفين... رحل إليه الطلاب من كل فجّ، وتخرج به، ويمكن أن يقال: إن الأئمة المجتهدين منهم يبلغون الستين عداً من عرب وفرس، ورزق في التأليف حظاً عظيماً قلّما اتفق لسواه، واشتهرت كتبه اشتهاراً يقلّ نظيره، وهو يدل على غزارة مادته. أعيان الشيعة ج 13 ص 384.

(1) الميرزا محمد حسن الشيرازي المعروف بالمجدد هو محمد حسن بن الشيخ محمود الشيرازي النجفي، أعظم علماء عصره وأشهرهم، وأعلى مراجع الإمامية في سائر الأقطار الإسلامية بوقته.

ولد في شيراز عام 1230، ثم هاجر إلى العراق سنة 1259، ودرس على صاحب الجواهر والشيخ حسن آل كاشف الغطاء صاحب أنوار الفقاهة، وعلى الشيخ الأنصاري، ثم التزم الأخير في الفقه والأصول إلى آخر حياته، وكان مرموقاً معظماً لدى الشيخ الأنصاري... وبعد وفاة الشيخ الأنصاري أصبح المرجع الوحيد للإمامية، ووقف ضد ناصر الدين شاه عندما وقّع اتفاقية اقتصادية حول التبغ مع شركة بريطانية، وأفتى بحرمة التدخين فخسرت الشركة.

انتقل إلى سامراء وتوفي فيها سنة 1312، وحمل على الأكتاف إلى النجف...

له عدة مؤلفات في الفقه والأصول، انظر: مع علماء النجف الأشرف ص 293.

٩٧

قد يظنُّ الظانُّ لأوَّل وهلة أنَّه (قدَّس الله سرَّه) لا يرى رجحان ذلك بالنظر إلى حال محيطه؛ لأنَّ جميع مَن في البلدة - عدا النزلاء - مِن غير الفرقة الجعفريَّة، وفيها أخلاط مِن غير المسلمين وفي ذلك مجال الاستهزاء والسخرية.

وقد سألت كثيراً ممَّن كان يقطن سامراء في أيَّامه، فكان أقلُّهم مُبالغة في تعظيمه لشأن المواكب والشبيه شيخنا المتقِن المتفنِّن (الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي) وعنه أنقل ما يلي:

كان الشبيه يترتَّب يوم العاشر في دار الميرزا (قدِّس سرُّه) ثمَّ يخرج للملأ مُرتَّباً، وكذلك موكب السيوف، كان أهله يضربون رؤوسهم في داره ثمَّ يخرجون، وكانت أثمان أكفانهم تؤخَذ منه، وما كان أفراد الشبيه سوى الفضلاء مِن أهل العلم لعدم معرفة غيرهم بنظمه في قول وفعل.

وأمَّا المواكب اللاطمة في الطُّرقات، فكانت تتألَّف مِن أهل العلم وغيرهم، وكان السيِّد مهدي صاحب (الصولة) يومئذ أحد الطلبة اللاطمين جزء المواكب مُتجرِّداً مِن ثيابه إلى وسطه، وهو

٩٨

مِن دون اللآدمين مؤتزر فوق ثيابه بإزار أحمر.

ودام هذا كلُّه بجميع ما فيه إلى آخر أيَّام خَلَفه الصالح الورع، الميرزا محمد تقي الشيرازي قدِّس سرُّه(1) ، وكان الشبيه يترتَّب أيضاً في داره، ومنه تخرج المواكب وإليه تعود بيد أنَّ موكب السيوف لم يتألَّف غير مرَّة؛ لأنَّ القائمين به - وهم الأتراك لا غيرهم - كانوا يومئذ قليلين، ولقلَّتهم استحقروا موكبهم فتركوه مِن تلقاء أنفسهم. انتهى كلامه.

وإنَّ بَعُد عليك عهد الشيخ الأنصاري والسيِّد الشيرازي، فهذا بالأمس الأفقه الأورع الشيخ محمد طه نجف قدِّس سرُّه(2) ، يرى في النجف - بلْ العراق - جميع

____________________

(1) الميرزا محمد تقي الشيرازي المتوفى سنة 1338 في كربلاء، قصد سامراء فحضر على الميرزا الشيرازي وانقطع إليه، حتى صار من أكبر تلامذته، وبعد وفاة الشيرازي بقي في سامراء، ورجع إلى تقليده والعمل بفتاواه جماعة كثيرة، وفي أثناه الحرب العامة وانسحاب العثمانيين من العراق لم يتمكن من البقاء في سامراء فغادرها إلى الكاظمية، ثم إلى كربلاء، وأقام فيها، وبعد وفاة السيد محمد كاظم اليزدي انتقلت الرياسة إليه، وبفتواه الشهيرة أعلنت الثورة العراقية على الاحتلال الانكليزي، وكان له فيها مواقف مشهودة على ما هو معروف في تأريخ تلك الثورة، وما زال على ذلك حتى توفي والثورة قائمة على قدم وساق، فدفن في البقعة المخصوصة في الصحن الحسيني.

كتب كثيراً من مباحث الأصول، وطبع له حاشية على المكاسب، وهو شاعر باللغة الفارسية، وأكثر عشره في مدائح أهل البيت النبوي ورثائهم. أعيان الشيعة ج 13 ص 448.

(2) الشيخ محمد طه نجف هو الشيخ محمد طه بن الشيخ مهدي بن الشيخ محمد رضا التبريزي النجفي، مرجع كبير من مشاهير علماء عصره تفوق في الفقه والأصول والحديث والرجال، وبرع فيها منتهى براعة، وشهد باجتهاده فحول العلماء وكبار الفقهاء، وعدّ في مصافّ أعلام عصره النابهين... ثم إن الناس قد رجعوا إليه بعد وفاة الشيخ محمد حسين الكاظمي والسيد محمد حسن الشيرازي رغم مشاركة الشيخ الميرزا حسين الخليلي له في المرجعية.

وكان رحمه الله مقتصراً على المأكل الجشب الملبس الخشن، معرضاً عن زخارف الحياة ومباهجها... له عدة مؤلفات في الفقه والأصول. انظر: مع علماء النجف الأشرف ص 434 بتصرف يسير.

٩٩

الأعمال المشار إليها، وهو أقدر على المنع فلا يمنع.

إنَّ المواكب جميعاً - حتَّى موكب القامات - تدخل إلى داره، وهي بتلك الهيئات المنكرة - على ما يقول - وهو لا يُحرِّك شفته بحرف مِن المنع، بيد أنَّه يلطم معهم ويبكي وهو واقف مكانه.

وكان الشيخ المذكور يُقيم مآتم الحسين عليه السلام في داره عصراً، فتغصُّ بالعلماء والصلحاء وأهل الدين، وفي يوم مُعيَّن مِن كلِّ سنة يقع في المأتم نفسه تمثيل بعض وقائع الطفِّ ولا مُنكِر منه ولا منهم.

وهَبْ أنَّه لا يستطيع تعميم المنع، لكنَّه يستطيع منع أنْ يُصنع ذلك في داره، أو أنْ تدخل المواكب داره، وهو يعلم أنَّه قد يتقاتل ويتضارب أهل المواكب في الطُّرقات.

وكذا العلاَّمة المتقِن المتبحِّر السيِّد محمد آل بحر العلوم الطباطبائي(1) ، تُقام في داره أعظم وأفخم مآتم النجف، ويحضره جميع أهل العلم، ويقع فيه التمثيل الذي يقع في دار الشيخ وزيادة.

هذا غير كون الدار المذكورة موئلاً لجميع المواكب، وبها تضرب أرباب السيوف رؤوسها مِن لدُن أيَّام السيِّد علي بحر العلوم، أو قبله حتَّى اليوم، ومنها تخرج إلى الشوارع والبيوت والجوادِّ العموميَّة، وإليها تعود بلا إنكار ولا استيحاش.

____________________

(1) السيد محمد ابن السيد محمد تقي بن السيد رضا ابن السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي، ولد سنة 1261 وتوفي سنة 1326.

الفقيه العلامة، كان محققاً مدققاً عريقاً في الفقه، كثير الممارسة لمسائله، له أنس بكلمات الفقهاء وذوق في الفقاهة، مع مهارته في أصول الفقه، وكان من أجلاء شرفاء العلويين ونبلائهم، ذا جلال وحشمة ووقار وهيبة ومكارم أخلاق جمّة. وكان مرجع العامة والخاصة في النجف الأشرف، رئيساً فيها مطاعاً، أكبر رؤسائها من أهل البيوت العلمية... وكان معروفاً بالفضل والفقاهة، حسن الأخلاق، لطيف العشرة. أعيان الشيعة ج 14 ص 233.

١٠٠