الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة6%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56541 / تحميل: 7197
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الفصل السادس: في الصراط

قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ) (١) ، وقال :( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ) (٢) ، فأخبر تعالى أنّ للجحيم صراطاً يُهدى الظالمون إليه ، مع أزواجهم ، وهم الشياطين ؛ كما يدلّ عليه قوله سبحانه :( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) (٣) ، إلى أن قال :( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (٤) .

والصراط كما تدلّ عليه هذه الآيات : صراط على الجحيم ، أو فيها ؛ إذ قد أخبر سبحانه بالورود والنجاة والترك في هذه الآيات ، وبالمِلءِ الحتمي في قوله : ( وَلَوْ

ـــــــــــــ

(١) سورة النساء : الآيتان ١٦٨ و ١٦٩ .

(٢) سورة الصافّات : الآيات ٢٢ ـ ٢٥ .

(٣) سورة مريم : الآية ٦٨ .

(٤) سورة مريم : الآيتان ٧١ و ٧٢ .

١٠١

شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وهذا الصراط الممدود على جهنّم ممرّ الخلائق أجمعين من برّ وفاجر ، ثمَّ ينجي الله الذين اتّقوا ويذر الظالمين فيها جثيّاً .

ولقد كرّر سبحانه في هذه الآيات لفظ الظلم ، ومثله قوله سبحانه : ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ) (٢) والطغيان : الإفراط في الظلم والاستكبار :( فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (٣) ، وقال سبحانه : ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً ) (٤) .

والظلم إمّا بتفريط في جنب النّاس ، وإمّا تفريط في جنب النفس ، وإمّا بتفريط في جنب الله ، وهو الولاية التي لأولياء الله والجميع يحصل بإتّباع الهوى والشيطان ، وأصله الاغترار بزينة الحياة الدنيا والإخلاد إلى هذه الأوهام التي نسمّيها مجموعاً بنظام التمدّن ، وهو التناصر بالأوهام غير الحقائق ؛ ولعلّ هذا هو المسئول عنه في قوله سبحانه :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ* مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) (٥) .

وممّا مرّ يظهر معنى ما ورد من الروايات في الباب ؛ ففي (تفسير القمّي) في قوله تعالى : ( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) (٦) الآية ،

ـــــــــــــ

(١) سورة السجدة : الآية ١٣ .

(٢) سورة الفجر : الآية ١١ .

(٣) سورة الفجر : الآيات ٢٤ ـ ٢٦ .

(٤) سورة النبأ : الآية ٢١ .

(٥) سورة الصافّات : الآيات ٢٤ ـ ٢٦ .

(٦) سورة الفجر : الآية ٢٣ .

١٠٢

عن الباقرعليه‌السلام ، قال :

(لمّا نزلت هذه الآية : ( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) سئل عن ذلك رسول الله ( صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخبرني الروح الأمين أنّ الله ـ لا إله غيره ـ إذا برز الخلائق ، وجمع الأوّلين والآخرين ، أتى بجهنّم تُقاد بألف زمام ، آخذ بكلّ زمان مئة ألف يقودها من الغلاظ الشداد ، لها هدة وغضب ، وزفير وشهيق .

وإنّها لتزفر زفرة ، فلولا أنّ الله أخّرهم للحساب ، لأهلكت الجميع ثمَّ يخر منها عنق فيحيط بالخلائق ، البرّ منهم والفاجر ، ما خلق الله عبداً من عباد الله ، ملكاً ولا نبيّاً ، إلاّ ينادي : ربّ نفسي نفسي ، وأنت ـ يا نبيّ الله ـ تناديِ : أُمّتي أُمّتي!

ثمَّ يوضع عليها الصراط أدقّ من الشعر ، وأحدّ من حدّ السيف ، عليه ثلاث قناطر : فأمّا واحدة فعليها الأمانة والرحم ، والثانية فعليها الصلاة ، والثالثة فعليها ربّ العالمين ـ لا إله غيره ـ فيكلّفون الممرّ عليها ، فيحبسهم الرحم والأمانة ، فإن نجوا منها حبستهم الصلاة ، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين ، وهو قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (١) .

... فمتعلّق بيد وتزل بقدم ويستمسك بقدم ، والملائكة حولها ينادون : يا حليم ، اعف واصفح ، وعد بفضلك ، وسلّم سلّم ، والنّاس يتهافتون في النّار كالفراش فيها فإذا نجا ناج برحمة الله ، مرّ بها ، فقال : الحمد لله ، وبنعمته تتمّ الصالحات وتزكو الحسنات ، والحمد لله الذي نجّاني منكِ ـ بعد اليأس ـ بمنّه وفضله ، إنّ ربّنا لغفور شكور) (٢) .

وروى الكليني في (الكافي)(٣) والصدوق في (الأمالي) (٤) ما في معناه .

وفي (العلل) عن الصادقعليه‌السلام ، في تفسير قوله :( إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) ، قالعليه‌السلام :(لا يجاذبه قَدما عبد حتّى يُسأل عن أربع : عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الفجر : الآية ١٤ .

(٢) تفسير القمّي : ٢ / ٤٥١ .

(٣) الكافي : ٨ / ٢٤٦ ، الحديث ٤٨٦ .

(٤) أمالي الصدوق : ١٧٦ ، المجلس الثالث والثلاثون ، الحديث ٣ .

١٠٣

وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت) (١) .

وروى القمّي في تفسيره عن الصادقعليه‌السلام ، والصدوق في (الأمالي) و(العيون) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(أنّ المسئول عنه ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ) (٢) .

وفي (المجمع) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :(يرد النّاس النّار ثمَّ يصدرون بأعمالهم ، فأوّلهم كلمع البرق ، ثمَّ كمرّ الريح ، ثمَّ كمحضر الفَرس ، ثمَّ كالراكب ، ثمَّ كشدّ الرجُل ، ثمَّ كمشيه) (٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جزْ يامؤمن ، فقد أطفأ نورُك لهبي) (٤) .

وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً ، أنّه سئل عن قوله تعالى : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ) (٥) الآيات ، فقال :(إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، قال بعضهم لبعض : أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النّار ، فقال : قد وردتموها وهي خامدة) (٦) .

أقول : وبالتأمّل فيما قدّمنا ، وفي ما سيجيء في الشفاعة ، يتّضح معنى هذه الأحاديث ، والله الهادي .

ـــــــــــــ

(١) علل الشرائع : ١ / ٢٥٦ ، الباب ١٥٩ .

(٢) تفسير القمّي : ٢ / ٢٢٤ .

(٣) تفسير مجمع البيان : ٦ / ٨١٢ .

(٤) تفسير مجمع البيان : ٦ / ٨١٢ .

(٥) سورة مريم : الآية ٧١ .

(٦) بحار الأنوار : ٨ / ٢٥٠ ، الباب ٢٤ (النار أعاذنا الله وسائر المؤمنين من لهبها) ، وفيه : (فيقال لهم) بدل (فقال) .

١٠٤

الفصل السابع: في الميزان

قال سبحانه :( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ) (١) ، بيّن سبحانه أنّ الوزن حقّ ثابت يوم القيامة .

ثمَّ قال : ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) و( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) ؛ ولعلّ الجمع باعتبار عدد الزِّنات ، والثقل في الحسنات والخفّة في السيّئات ، مع أنّ ظاهر الأمر يقتضي العكس ، كما قال :( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٢) ،( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) (٣) ، وقال :( ثمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) (٤) .

وبناء على ما بيّنه سبحانه من بوار السيّئات وبقاء الحسنات ، قال تعالى :( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) (٥) ، فالثقل إنّما هو للحسنات دون السيّئات ؛ وفي قوله سبحانه :( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ ) إشارة إلى ذلك .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : الآيتان ٨ و ٩ .

(٢) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٣) سورة المجادلة : الآية ١١ .

(٤) سورة التين : الآية ٥ .

(٥) سورة الرعد : الآية ١٧ .

١٠٥

ثمَّ إنّه سبحانه قال : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (١) ، ففسّر الموازين بالقسط ، وهو العدل في مقابلة الظلم ، وبيّن وجه الثقل في الحسنات والخفّة في السيّئات .

وفي (التوحيد) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في قوله تعالى :( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) ، قال : (إنّما يعني الحسنات ، تُوزن الحسنات والسيّئات ، والحسنات ثِقْل الميزان ، والسيّئات خفّة الميزان) (٢) .

وفي (الاحتجاج) عنهعليه‌السلام :(هي قلّة الحسنات وكثرتها) (٣) ـ الحديث .

ويتبيّن بما مرّ معنى قوله سبحانه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (٤) ؛ إذ لا معنى لوضع الميزان والوزن مع الحبط .

وبه يتبيّن أنّ الوزن بالميزان يوم القيامة يختصّ بالأعمال غير المحبَطة ؛ ولذلك فالآية لا تنافي قوله سبحانه :( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأنبياء : الآية ٤٧ .

(٢) التوحيد : ٢٦٢ ، الباب ٣٦ ، الحديث ٥ .

(٣) الاحتجاج : ١ / ٣٢١ ، وفيه : (قلّة الحساب وكثرته) بدل (قلّة الحسنات وكثرتها) .

(٤) سورة الكهف : الآية ١٠٥ .

(٥) سورة المؤمنون : الآيات ١٠٢ ـ ١٠٦ .

١٠٦

وفيما مرّ يظهر معنى ما ورد عنهمعليهم‌السلام من الروايات :

ففي (الاحتجاج) عن الصادقعليه‌السلام ، حيث سأل عنه الزنديق : أوَليس توزن الأعمال ؟ قال :(لا ؛ لأنّ الأعمال ليست أجساماً ، وإنّما هي صفة ما عملوا وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ، ولا يعرف ثقلها ولا خفّتها ، وأنّ الله لا يخفى عليه شيء) ، قال : فما معنى الميزان ؟ قالعليه‌السلام :(العدل) ، قال : فما معناه في كتابه : ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) ؟ قال : (فمَن رَجَحَ عمله) (١) ـ الخبر .

وفي (التوحيد) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في خبر مَن ادّعى التناقض بين آيات القرآن ، قالعليه‌السلام :(وأمّا قوله : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ) ، فهو ميزان العدل ، يُؤخذ به الخلائق يوم القيامة ، يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين) (٢) ـ الخبر .

وفي (الكافي) و(المعاني) عن الصادقعليه‌السلام وقد سئل عن قوله تعالى :( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ، قال :(الأنبياء والأوصياء) (٣) .

أقول : ووجهه واضح ممّا مرّ .

وفي (الكافي) عن السجّادعليه‌السلام ، في كلام له في الزهد : (واعلموا ـ عباد الله ـ أنّ أهل الشرك لا يُنصب لهم الموازين ، ولا يُنشر لهم الدواوين ، وإنّما يحشرون إلى جهنّم زُمَراً وإنّما نصبُ الموازين ونشرُ الدواوين لأهل الإسلام ، واتّقوا الله عباد الله) (٤) ـ الخبر .

ـــــــــــــ

(١) الاحتجاج : ٢ / ٨٦ .

(٢) التوحيد : ٢٦١ ، الباب ٣٦ ، الحديث ٥ .

(٣) الكافي : ١ / ٤٧٥ ، الباب ١٦٤ ، الحديث ٣٦ معاني الأخبار : ٣١ ، باب معنى الموازين ، الحديث ١ .

(٤) الكافي : ٨ / ٦٦ ، الحديث ٢٩ .

١٠٧

الفصل الثامن: في الكتب

قال سبحانه :( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (١) .

بيّن سبحانه أنّه ألزم الإنسان طائره ، وهو عمله الذي يتفاءل به ويتشاءم ، فطائر الإنسان عمله الذي قلّده ؛ ولذلك وصفه بأنّه في عنقه وقد كانت الأعمال التي تُحفظ للإنسان وعليه غير محسوسة ولا ظاهرة ؛ إذ الحسّ في الدنيا لا يجاوز سطح الأشياء ، والاستدلال فيها إنّما هو بالآثار ، لكنّ نشأة القيامة تُبلى فيها السرائر ،( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) ؛ فلذلك وصف الطائر بأنّه سيخرج له كتاباً منشوراً ، وقال سبحانه :( أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ) (٢) .

ونسب الإحصاء والبداء واللزوم إلى نفس الأعمال ؛ إذ كان الكتاب مشتملاً على نفسها ، أو حقائقها دون الخطوط التي نصطلح عليها فيما عندنا من الكتابة ، وهو قوله سبحانه :( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ

ـــــــــــــ

(١) سورة الإسراء : الآيتان ١٣ و ١٤ .

(٢) سورة المجادلة : الآية ٦ .

(٣) سورة الأنعام : الآية ٢٨ .

١٠٨

*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (١) ، وقوله سبحانه : ( وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (٢) .

ومن هذا الباب قوله سبحانه :( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) (٣) ، وقوله :(يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) (٤) .

وقد مرّ أنّ هذا اليوم محِيط بجميع المراتب الوجوديّة ، فالأعمال كما تحضر بأنفسها تحضر بحقائقها التي ظهرت منها ، وهو قوله سبحانه : ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٥) ، وهذا هو الكتاب المخصوص الذي يشتمل على نفس الأعمال .

ثمَّ قال سبحانه :( هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٦) ، وهذا هو الكتاب المبين ، الذي مكتوب فيه ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة كما في الأخبار ، ومنه النسخ الجزئيّة كلّها ، ومنه تستنسخ الأعمال في نشأة ظهورها ، وهو المشتمل على حقائقها والحجّة على الكلّ ، ولعلّه المراد بقوله سبحانه :( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ ) (٧) .

وفي (الكافي) عن الصادقعليه‌السلام في حديث اللوح ، وهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلّها :( أوَلستم عرباً ! فكيف لا تعرفون معنى الكلام ؟! وأحدكم يقول لصاحبه : انسخ ذلك الكتاب ، أوَليس إنّما ينسخ من كتاب أُخذ من الأصل ، وهو قوله :

ـــــــــــــ

(١) سورة الزلزلة : الآيات ٦ ـ ٨ .

(٢) سورة الأحقاف : الآية ١٩ .

(٣) سورة الفجر : الآية ٢٣ .

(٤) سورة القيامة : الآية ١٣ .

(٥) سورة الجاثية : الآية ٢٨ .

(٦) سورة الجاثية : الآية ٢٩ .

(٧) سورة الزُّمر : الآية ٦٩ .

١٠٩

( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) ) (٢) .

وفي (تفسير العيَّاشي) عن خالد بن نجيح ، عن الصادقعليه‌السلام قال : (إذا كان يوم القيامة ، دُفع إلى الإنسان كتابه ، ثمَّ قيل له : اقرأ) ، قلت : فيعرف ما فيه ؟ فقال :(إنّ الله يذكِّره ، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قَدِم ، ولا شيء فعله ، إلاّ ذكّر ، كأنّه عمله تلك الساعة ؛ فلذلك قالوا : ( يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ) (٣) ) (٤) .

وفيه أيضاً : عن خالد بن يحيى ، عن الصادقعليه‌السلام ، قريب منه(٥) .

أقول : وقد فسّرعليه‌السلام القراءة بالذِّكر ، وقد ذكرنا في رسالتي الأفعال والوسائط في الكتاب كلاماً أبسط من هذا(٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الجاثية : الآية ٢٩ .

(٢) لم نعثر عليه في الكافي ، راجع تفسير القمّي : ٢ / ٣٩٨ .

(٣) سورة الكهف : الآية ٤٩ .

(٤) تفسير العيَّاشي : ٢ / ٢٥٤ ، الحديث ٣٤ .

(٥) تفسير العيَّاشي : ٢ / ٣٥٤ ، الحديث ٣٥ ، وفيه : عن (خالد بن نجيح) بدل (خالد بن يحيى) .

(٦) جاء في رسالة الأفعال : ( على أنّ كلّ فعل متحقّق في دار الوجود مع إسقاط جهات النقص عنه ، وتطهيره من أدناس المادة والقوّة والإمكان .

وبالجملة : كلّ جهة عدميّة فهو فعله سبحانه ، بل حيث كان العدم وكلّ عدمي بما هو عدمي مرفوعاً عن الخارج حقيقة ؛ إذ ليس فيه إلاّ الوجود وأطواره ورشحاته ، فلا فعل في الخارج إلاّ فعله سبحانه وتعالى وهذا أمر يدلّ عليه البرهان والذوق أيضاً ...) .

الرسائل التوحيدية / قم ـ ١٣٦٥ هـ / رسالة الأفعال : ٥٥ و ٥٦ .

وجاء في رسالة الوسائط :

( وممّا يدل على ذلك ؛ قوله تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) [الحجر : ٢١] ، تدلّ بعمومها على أنّ لجميع موجودات عالمنا هذا وجودات مخزونة عنده تعالى ، ذات سعة غير محدودة ولا مقدّرة ؛ إذ ظاهرها أنّ التقدير إنّما يحدث مع التنزيل ، وليس التنزيل بالتجافي وتخلية المحلّ بالنزول .

وبعبارة أُخرى : إنّ في كلّ شيء وجهاً إلهيّاً ، ووجهاً كونيّاً خلقياً ، وهذا الوجه حيث إنّه بمقدار، فهو محدود مثالي ، وقد أفاد قوله تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا ... ) الآية ، وجهاً آخر غير محدود ولا مقدّر ) .

الرسائل التوحيديّة / قم ـ ١٣٦٥ / رسالة الوسائط : ١٠٩ ـ ١١٠ .

١١٠

ثمَّ إنّه سبحانه قال :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) (١) ، فعمّم الكتابة لأعمالهم التي فعلوها بلا واسطة ، وما يترتّب عليها من الآثار ، فالكّل محاسب به ؛ ويظهر به معنى قوله :( يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) (٢) .

وفي (تفسير القمي) عن الباقرعليه‌السلام :(بما قدّم من خير وشرّ وما أخّر ، فما سنّ من سُنّة يُستنّ بها ، فإن كان شرّاً كان عليه مثل وزرهم ولا ينقص من وزرهم شيئاً ، وإن كان خيراً كان له مثل أُجورهم ولا ينقص من أُجورهم شيئاً) (٣) .

ثمَّ عَقَبَه سبحانه بقوله :( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (٤) .

ومن هنا يظهر أنّ اللوح المحفوظ يحاسب به العباد كما يحاسبون بالألواح المخصوصة لكلّ واحد منهم .

ويظهر ـ أيضاً ـ أنّ الكتاب الذي ذكره سبحانه بقوله :( هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ... ) (٥) ، هو اللوح المحفوظ ، وصف الكتاب في هذه الآية بالإمامة ، وهو المتبوعيّة في الأعمال ، ووصفه هناك باستنساخ الأعمال منه ؛ فهو واحد .

ـــــــــــــ

(١) سورة يس : الآية ١٢ .

(٢) سورة القيامة : الآية ١٣ .

(٤) سورة يس : الآية ١٢ .

(٥) سورة الجاثية : الآية ٢٩ .

١١١

ثمَّ بيّن سبحانه تفاوت أخذهم الكتاب بالسعادة والشقاوة ، فقال :( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ ) (١) ، إلى أن قال :( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ ) (٢) .

واليمين والشمال جانبا الإنسان : القوي والضعيف ، أو اليدان التاليتان لهما ، أو جانبا السعادة والشقاوة .

وليس المراد وضع الكتاب في يد الإنسان اليمنى أو اليسرى ، على ما يفهمه الظاهريّون من المحدّثين وغيرهم ؛ إذ لم يقل سبحانه أُوتي كتابه ليمينه أو لشماله ، بل أتى بالباء المفيد للوساطة .

ويشهد به قوله سبحانه :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً ) (٣) ، فقد وضع مكان الشمال قوله :( وَرَاء ظَهْرِهِ ) .

وقوله سبحانه : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (٤) ، فقد قال سبحانه : إنّه يدعوهم بإمامهم ، ولم يقل : إلى إمامهم وقد قال : كلّ أُمّة تدعى إلى كتابها ، ولم يقل : بكتابها ، فالدعوة بالإمام غير الدعوة إلى الكتاب .

ـــــــــــــ

(١) سورة الحاقّة : الآيات ١٨ ـ ٢٠ .

(٢) سورة الحاقّة : الآيتان ٢٥ و ٢٦ .

(٣) سورة الانشقاق : الآيات ٧ ـ ١١ .

(٤) سورة الإسراء : الآيتان ٧١ ـ ٧٢ .

١١٢

ثمَّ فصّله سبحانه بأنّ طائفة منهم بعد ذلك يؤتى كتابه بيمينه ، أي بوساطة اليمين ، فيمينه إمامه الحقّ الذي يُدعى به ، ثمَّ بدّل الإيتاء بالشمال بقوله :( وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) ، فظهر به أنّ الإيتاء باليمين نور واهتداء في الآخرة ، كما قال سبحانه :( يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ) (١) ، وقال :( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) (٢) .

ومن هنا يظهر أنّ النور هو الإمام ، والمراد هو اللحوق به ، والكلام فيه كثير ، وبالجملة : فيشبه أن يكون المراد باليمين والشمال ، البركة والشأمة ، والسعادة والشقاوة ، دون اليدَين اليمنى واليسرى .

وقد عبّر سبحانه في سورة الواقعة عن الطائفتين تارةً بقوله : ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ) (٣) ،( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ) (٤) ، وتارةً يقول :( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ) (٥) ، وتارةً يقول : ( وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ) (٦) .

فوضع في مكان أصحاب الشمال المكذّبين الضالّين ، فهم أصحاب شقاء وأصحاب

ـــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ١٢ .

(٢) سورة الحديد : الآية ١٩ .

(٣) سورة الواقعة : الآية ٢٧ .

(٤) سورة الواقعة : الآية ٤١ .

(٥) سورة الواقعة : الآيتان ٨ و ٩ .

(٦) سورة الواقعة : الآيات ٩٠ ـ ٩٣ .

١١٣

تكذيب وضلال ، وكأنّه إشارة إلى قوله : ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) ، إلى أن قال :( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ) (١) .

وقد عرفت هناك كون الآية في أصحاب الشقاء من ضلال الملِّيِّين ، ونَقَضَة عهد الأئمّة الحقّ وأمّا الكفّار الجاحدون ، فلا يقيم سبحانه لهم وزناً ، فلا كتاب لهم ولا حساب .

وبالجملة : فأصحاب الشمال هم الأشقياء ، أصحاب الضلال ؛ ولذلك فهم يقولون في ما حكى عنهم سبحانه : ( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ ) (٢) .

فهذه الأُمور هي الصادّة إيّاهم عن إتّباع الحقّ بعد الإذعان به فكلّ من أصحاب السعادة والشقاوة مدعوٌّ بإمامه ، ملحق به ، يؤتى بكتابه به ، وهو اللحوق الذي تشتمل عليه أخبار الطينة والسعادة والشقاوة الذاتيتين ، وسيأتي ذكر منه إن شاء الله ؛ ولذلك كان أصحاب الشقاء يؤتَون كتابهم بشمالهم ووراء ظهرهم ؛ إذ أئمّتهم قدّامهم ، ووجوههم منكوسة مطموسة ، قال سبحانه في فرعون :( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) (٣) ، وقال سبحانه :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) (٤) ، وقال سبحانه: ( قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ) (٥) ، وقد مرّ أنّ النور هو الإمام الحقّ .

ـــــــــــــ

(١) سورة المؤمنون : الآيات ١٠٣ ـ ١٠٦ .

(٢) سورة الحاقّة : الآيتان ٢٨ و ٢٩ .

(٣) سورة هود : الآية ٩٨ .

(٤) سورة النساء : الآية ٤٧ .

(٥) سورة الحديد : الآية ١٣ .

١١٤

هذا ، والاعتبار أيضاً يساعد هذا المعنى ؛ فإنّ الإنسان بوجوده الدنيوي ـ أعني بدنه الحيّ بقواه وإحساساته ، على ما نزل من عند الحكيم الخبير ودبّره العليم القدير ـ متوجّه القوى والإحساسات إلى جهتي القدّام واليمين وأمّا جهتا الشمال والوراء ، فعندهما نفاد القوى وهلاك الإحساس .

والإنسان إذا شقي وأخلد إلى الأرض واتّبع هواه ، أقبل إلى الأرض ووجهه لها ، وإذا قام لربّه وأُحضر لحسابه واتّبع( الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) ، سار ووجهه إلى خلفه ، فحالهم حال ضرير منكوس الوجه ، مدهوش ، ساع إلى غاية لا يدري ما يفعل ، ولا ماذا يُفعل به .

واعلم أنّ الإمام الحقّ على أنّه مهيمن على أُناس دعوا به ، كذلك هو مهيمن على إمام الباطل وحزبه ، قال سبحانه :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (١) ، فوصف الكتاب المحصي لكلّ شيء من السعادة والشقاوة بالإمامة .

وقال أيضاً :( هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) ، فالإمام ـ الذي هو الكتاب ـ حاكم في الفريقين : السعيد والشقيّ ، مهيمن على الطائفتين جميعاً .

وهذا غير منافٍ لما مرّ أنّ الدعوة إلى الكتاب غير الدعوة بالإمام ، فإنّه سبحانه ما وصف صُحفَ الأعمال بالإمامة ، بل وصفها بالإلزام والمتابعة ، وقال :( أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ ) (٣) الآية .

وإنّما وصف بالإمامة اللوحَ المحفوظ ، الذي منه تُستنسخ الأعمال وصُحف الأعمال ، وهو الأصل المتبوع ، والإمام المقتدى الذي عليه مدار أُمور العالم برمّتها .

واعلم أنّه سبحانه فسّر الإمامة في آيات كثيرة بالولاية ، غير أنّه وصف نفسه بالولاية دون الإمامة ؛ لاقتضائه سنخيّة ما بين الإمام والمأموم ، وهو واضح .

ـــــــــــــ

(١) سورة يس : الآية ١٢ .

(٢) سورة الجاثية : الآية ٢٩ .

(٣) سورة الإسراء : الآية ١٣ .

١١٥

وبالجملة : فإمام الحقّ وليّ المؤمنين ، وأئمّة الباطل أولياء الكافرين ؛ والوجه في جميع ذلك واضح، وبه تنحلّ عُقد الأخبار التي تدلّ على حكومة أرباب الولاية في أمر النّاس يوم القيامة ، وسيأتي عدّة منها .

واعلم ـ أيضاً ـ أنّ الكتاب يؤتى للطائفتين من النّاس ، وهنا جماعة غيرهم ، وهم السابقون المقرّبون ، قال سبحانه : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (١) .

فهؤلاء هم المخلصون المستثنون من حكم الصور والإحضار والميزان ، وقد استثنوا من حكم إعطاء الكتاب أيضاً وستجيء مزايا أُخر من أحوالهم في يوم القيامة ، فحكم الكتاب واقع على غيرهم من أصحاب الأعمال ، إلاّ المستثنون من المعاندين الجاحدين ، كما مرّ ، قال سبحانه :( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) (٢) .

فهي فيمَن له عمل فإمّا مَن ارتفع عن سطح العمل ، ممّن ليس له إلاّ الله تعالى ، كالمخلصين ، ومَن حبط عمله من المكذّبين المنكرين للقاء الله ، فلا كتاب له أصلاً ، ثمَّ قال سبحانه : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً ) (٣) .

ويشبه أن يكون الكتاب غير الطائر الملزم في عنقه ؛ إذ لم يقل سبحانه : ونخرجه ، وكان حقّ الكلام ذلك لو كان كذلك ؛ فالآية في مساق قوله : ( وَإِذَا

ـــــــــــــ

(١) سورة الواقعة : الآيات ٧ ـ ١١ .

(٢) و (٣) سورة الإسراء : الآية ١٣ .

١١٦

الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) (١) .

ثمَّ قال سبحانه :( اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (٢) ، ويظهر منه أنّ حال الكتاب وقراءته يومئذٍ غير حال الكتاب وقراءته عندنا في الدنيا ، وإنّما هو الذِّكر ، قال سبحانه :( يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) (٣) ، وهذا في تفاصيل الأعمال .

وقال :( بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) (٤) ، وهذا في الإجمال .

وقد مرّت الرواية في كيفيّة قراءة الكتاب ، والله أعلم .

ـــــــــــــ

(١) سورة التكوير : الآية ١٠ .

(٢) سورة الإسراء : الآية ١٤ .

(٣) سورة القيامة : الآية ١٣ .

(٤) سورة القيامة : الآية ١٤ .

١١٧

الفصل التاسع: في الشهداء يوم القيامة

قال سبحانه: ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (١) .

وقد عدّ سبحانه أصنافاً من الشهداء على الأعمال يوم القيامة ، والشهادة على الشيء هي تلقِّيه بالحضور والرؤية ، ويسمّى تحمّلها وحكايتها كلاهما : شهادة .

ومن المعلوم أنّ الشهادة على الأعمال ليست على مجرّد صورها الظاهرة ، بل على ما هي عليها من الطاعة والعصيان ، والسعادة والشقاوة ؛ إذ هو قضيّة القضاوة وسيّما من أحكم الحاكمين .

وهذا الأوصاف غير ممكنة الإحراز إلاّ بارتباط الشاهد على محتد هذه الأعمال ، من الضمائر والسرائر وخصوصيّات انشاءات الأعمال من الإرادات والقصود ، فالشهادة يومئذٍ على أنّه تشريف للشاهد بالإذن في كلامه كما قال سبحانه :( لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) (٢) .

إنّما يختصّ بها من أتاه الله سبحانه هذه الكرامة في الدنيا ، وهو الوقوف على حقائق الأعمال ومحتدها من الضمائر والسرائر ، قال سبحانه :

ـــــــــــــ

(١) سورة الزُّمر : الآية ٦٩ .

(٢) سورة هود : الآية ١٠٥ .

١١٨

( لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) (١) ، والصواب خلاف الخطأ .

وقال :( إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) ، فالشهادة يومئذٍ إنّما تتحقّق ممّن حفظ أعمال العاملين على حقيقتها من غير خطأ وعوج .

وأنت إذا تأمّلت هذه البنيّة الإنسانيّة على قواها وحواسّها ، وجدت أنّ هذه الشهادة والتلقّي مستحيلة في حقّها بالنسبة إلى أعمال الحاضرين ، فضلاً عن الغائبين ، ومع الحضور من الشاهد فضلاً عن الغيبة ، ومع القرب فضلاً عن البعد ، وهو واضح فليس إلاّ أنّ ذلك بأمر آخر وقوّة أُخرى وراء ما عند الإنسان المتعارف من القوّة والإحساس ، يمسّ باطن الإنسان ذي الأعمال كمسّه بظاهره ، وبالغائب كالحاضر ، وبالبعيد كالقريب فهو نور غير جسماني ، لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الجسم في تأثيراته وأعماله من خصوصيّات الزمان والمكان والحال ، فهو نور يُبصَر به السرائر ، ويميّز به الطيّب من الخبيث ، قال سبحانه: ( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (٣) ، وقال سبحانه :( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ) (٤) .

وقد مرّ في الفصل السابق أنّ أصحاب اليمين وأصحاب الشمال يؤتون كتابهم بإمامهم الحقّ(٥) .

وقال سبحانه أيضاً : ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ

ـــــــــــــ

(١) سورة النبأ : الآية ٣٨ .

(٢) سورة الزخرف : الآية ٨٦ .

(٣) سورة المطفّفين : الآيات ١٨ ـ ٢١ .

(٤) سورة المطفّفين : الآيات ٧ ـ ١٠ .

(٥) راجع الصفحة : ١٢٥ .

١١٩

إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) ، والخطاب عامّ غير مختصّ بالمنافقين ، وهو يقتضي خصوصيّة المراد بقوله :( وَالْمُؤْمِنُونَ ) الآية .

وفيه تلويح بأنّ رؤية الرسول والمؤمنين لأعمالهم ستندرج في ضم ما سينبئهم سبحانه بما كانوا يعملون .

وروى القمّي في تفسيره عن الصادقعليه‌السلام :(أنّ أعمال العباد تعرض على رسول الله كلّ صباح ، أبرارها وفجّارها ، فاحذروا ، وليستحيي أحدكم أن يعرض على نبيّه العملَ القبيح) (٢) .

وروى العيّاشي في تفسيره عن الصادقعليه‌السلام أنّه سئل عن قوله :( وَقُلِ اعْمَلُواْ ) الآية ، فقال :(والمؤمنون هم الأئمّة) (٣) .

والأخبار الواردة في (الكافي)(٤) و(الأمالي)(٥) ، و(المناقب) ، و(البصائر)(٦) ، والتفسيرين : للقمّي(٧) والعيّاشي(٨) في هذا المعنى فوق حدّ الاستفاضة .

وبالجملة : فتحمُّل هذه الشهادة هو بشهادة نفس الأعمال ، وكذلك أدائها يوم القيامة ، وكذلك المجازاة بها يومئذٍ ، قال تعالى : ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ *

ـــــــــــــ

(١) سورة التوبة : الآية ١٠٥ .

(٢) تفسير القمّي : ٢ / ٤٢١ .

(٣) تفسير العيّاشي : ٢ / ١١٥ ، الحديث ١٢٥ .

(٤) الكافي : ١ / ٢٤٥ ، الباب ٨٥ ، الحديث ٢ .

(٥) أمالي الطوسي : ٤٠٩ ، المجلس الرابع عشر ، الحديث ٩١٨ .

(٦) بصائر الدرجات : ٩ / ٤٤٧ ، الباب ٥ ، الحديث ٣ .

(٧) تفسير القمّي : ١ / ٣٣٢ .

(٨) تفسير العيّاشي : ٢ / ١١٥ ، الحديث ١٢٥ .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292