الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة0%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: باقيات
تصنيف: الصفحات: 292
المشاهدات: 53634
تحميل: 6691

توضيحات:

الإنسان والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53634 / تحميل: 6691
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وبالجملة : فصُوَر علومهم وأخلاقهم وأعمالهم أنوار إلهية طاهرة موهوبة ، تطهّرهم من الأرجاس وتنجيهم من الظلمات ، فيشاهدون به عظمة الله وكبريائه وملكوت السموات والأرض ، طوبى لهم وحسن مآب .

ثمَّ بيّن ذلك في الكافرين والفاسقين ، فقال عزّ من قائل : ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) (١) ، وقال : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٢) ، وقال :( أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ) (٣) ، وقال :( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (٤) ، وقال : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٥) ، وقال :( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) (٦) ، إلى أن قال :( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ) (٧) ، وقال :( فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (٨) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ٢٥٧ .

(٢) سورة الأنعام : الآية ٣٩ .

(٣) سورة مريم : الآية ٨٣ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٢١ .

(٥) سورة الزخرف : الآية ٣٦ .

(٦) سورة الأنعام : الآية ١٠٨ .

(٧) سورة الأنعام : الآية ١٠٨ .

(٨) سورة الأنعام : الآية ١٢٥ .

١٤١

وقال :( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ) (١) ، وقال :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٢) .

فأخبر سبحانه أنّ الشرك بالله والمعاصي على اختلاف تصوّراتها ، تُوجب خروجهم من النور إلى عام الظلمات ، فيضلّهم الله عزّ وجلّ في الظلمات ، ويصمّهم ، ويبكمهم ، ويُرسل الشياطين إليهم ، وهم قرناؤهم إلى يوم القيامة فيقطب أبصارهم وأفئدتهم فلا يقصدون إلاّ السراب الباطل ، ولا يقدرون أن يروموا الحقّ ويتناولوه( كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) ، بل الأغلال في أعناقهم والسدود من بين أيديهم ومن خلفهم وهم المغشيُّون ، وليس كلّ ذلك إلاّ صور الأعمال ونتيجة الحساب فيما يُعتبر فيه ثواب وعقاب .

وكثير من الأخبار يشهد بذلك :

فعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(كما تعيشون تموتون ، وكما تموتون تُبعثون) (٣) ـ الخبر ، وهو من جوامع الكلم ، وهو مع قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(النّاس معادن كمعادن الذهب والفضّة) (٤) ـ الخبر ، يعطيان علم مبدأ الإنسان ومعاده بالاستيفاء .

وفي (الكافي) عن الصادقعليه‌السلام ، قال :(إذا وُضع الميّت في قبره ، مثُل له شخص فقال : يا هذا ، كنّا ثلاثة : كان رزقك فانقطع بانقطاع أجَلِك ، وكان أهلك فخلَّفوك وانصرفوا عنك ، وكنت عملك فبقيت معك أمَا إنّي كنت أهون الثلاثة عليك) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) سورة يس : الآيتان ٨ و ٩ .

(٢) سورة النور : الآية ٣٩ .

(٣) عوالي اللئالي : ٤ / ٧٢ .

(٤) بحار الأنوار : ٥٨ / ٦٥ ، الباب ٤٢ كتاب السماء والعالم ، الحديث ٥١ .

(٥) الكافي : ٣ / ٢٢٨ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ١٤ .

١٤٢

وعن البهائي (رحمه الله) قال : روى أصحابنا عن قيس بن عاصم قال : وفدت مع جماعة من بني تميم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدخلت عليه وعنده الصلصال بن الدلهمس ، فقلت : يا رسول الله ، عظنا موعظة ننتفع بها ، فإنّا قوم نعير في البرية ، فقال رسول الله :(يا قيس ، إنّ مع العزّ ذلاًّ ، وإنّ مع الحياة موتاً ، وإنّ مع الدنيا آخرة ، وإنّ لكلّ شيء حسيباً ، وإنّ لكلّ أجل كتاباً وإنّه لا بدّ لك ـ يا قيس ـ من قرين يدفن معك وهو حيّ وأنت ميّت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ثمَّ لا يحشر إلاّ معك ولا تحشر إلاّ معه ، ولا تسأل إلاّ عنه فلا تجعله إلاَّ صالحاً : فإنّه إن صلح أنستَ به ، وإن فسدَ لا تستوحِش إلاّ منه ، وهو فعلُك) (١) ـ الخبر .

والأخبار في تمثيل الصوم والصلاة والزكاة والولاية والصبر والرفق والقرآن والتسبيح والتهليل ، وسائر العبادات والمعاصي ، بصور تعطيها معانيها ، أكثر من أن تُحصى ، والبرهان المذكور سابقاً يُعطى ذلك .

وأيضاً الثواب والعقاب إنّما هما على الطاعة والمعصية ، أي موافقة الأمر ومخالفته ، وهو كما ذكرناه في" رسالة الإنسان في الدنيا " أمرٌ اعتباريٌ وهميٌ ، والثواب والعقاب الآجلان من الأُمور الحقيقيّة الواقعيّة ، والنسبة الرابطة بين الأمرين ـ الاعتباري والحقيقي ـ ممتنعة ، إلاّ بكون الآخر الاعتباري مكتنَفاً بأمر حقيقي ، وحيث إنّ الإنسان بثبوته تثبت الطاعة والمعصية ولو فرضنا رفع ما عداه وبارتفاعه يرتفعان ، ولو فرضنا وضع ما عداه فهذا الأمر الحقيقي مع الإنسان ، وهو مجموع النفس والبدن والبدن يتبدّل بالتدريج قطعاً مع بقاء صفة الطاعة والمعصية والسعادة والشقاوة ، فالذي يدور مداره الأمر هو الروح الذي هو الإنسان ، فمع الإنسان معنى هو المصحّح للنسبة المذكورة ، وهو المعاني المخصوصة من خصوصيّات الطاعات والمعاصي .

ـــــــــــــ

(١) أمالي الصدوق : ٥٠ ، المجلس الأوّل ، الحديث ٤ .

١٤٣

الفصل الثاني عشر: في الشفاعة

قال سبحانه :( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ) (١) ، وقال :( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ) (٢) ، وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ) (٣) .

تنفي الآيات قبول شفاعة من نفسٍ في نفس ، غير أنّ هناك آيات أُخر تخصّص هذا العموم وتفسّره كما تخصّص عموم عدم النصر وتفسّره ، قال سبحانه :( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ٤٨ .

(٢) سورة البقرة : الآية ١٢٣ .

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٥٤ .

(٤) سورة الدخان : الآيتان ٤١ و ٤٢ .

١٤٤

وقال :( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) (١) ، وقال : ( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) (٢) .

فبيّن سبحانه أنّ الشفاعة يومئذٍٍ لا تقع ولا تنفع إلاّ بإذن للشافع في شفاعته وللمشفوع في الشفاعة له ، وقد فسّر الإذن للشافع بقوله :( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٣) ، فإذنه سبحانه رضاه بقوله ، أي كون قوله ـ وهو شفاعته ـ مرضياً .

وقال سبحانه :( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) (٤) ، فالقول المرضي هو القول الصواب وقد أسلفنا في (فصل الشهادة) أنّ مرجع ذلك إلى انتهاء أعمال العاملين ولحقوها بهذا الذي أذن له القول الصواب ، وحضورها له ووساطته في إفاضة الفيوضات الإلهيّة لهم ، ويرجع ذلك إلى تمكين الحقّ سبحانه للشافع من شهادة حقائق الأعمال والعلم بها كما قال سبحانه :( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٥) .

وبالجملة : فإذن سبحانه في قولٍ هو الرضا عنه ، ومن المعلوم أنّ الرضا لا يتعلّق إلاّ بكمال الشيء من حيث إنّه كمال ، فالقول المرضي عنه هو كمال القول ، وهو كونه صواباً فالمأذونون مرضيّون في قولهم ، صائبون في علمهم ، مرضيّون في ذاتهم ؛ إذ القول في آثار الذات ، ولا يُستكمل أثر من آثار الذات إلاّ بعد استكمال نفسه التي هي المبدأ وهو ظاهر ،. دون العكس ؛ إذ الذات يمكن أن يقع مرضيّاً لطهارة محتده ، وخلوص عقائده ، ولا يقع مرضيّاً في أفعاله وآثاره لورود مانع حاجب .

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ٢٥٥ .

(٢) سورة سبأ : الآية ٢٣ .

(٣) سورة طه : الآية ١٠٩ .

(٤) سورة النبأ : الآية ٣٨ .

(٥) سورة الزخرف : الآية ٨٦ ، فقد أخذ سبحانه في تملّك الشافع للشفاعة قيدين ، وهما : العلم ، وكون الشفاعة بالحقّ دون الباطل والظاهر أنّ المراد بالشهادة هو تحمّل الأداء وإن كان مرجعهما واحداً (منه قُدِّس سِرُّه) .

١٤٥

والحاصل : أنّ الشافعين هم الذين رضي الله عنهم ، ورضي قولهم ، أي شهد كمالهم ، وكمال قولهم لا يشوبه نقص ولا خطأ ، أي أنّ علمهم علمه سبحانه ، لم يختلط بشبهات الأوهام وخطأ الأهواء ، فإنّ العلم فيما يحيط به ويصدق هو له سبحانه ، قال تعالى :( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ) (١) .

ولذلك فإنّ النبيّين ، وهم السابقون من المرضيّين ، ينفون العلم عن أنفسهم إذا خاطبهم الله سبحانه :( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) (٢) ، مع أنّ العلوم التي معهم أكثر وأصدق من علوم غيرهم بلا شكّ ، فهؤلاء باقون على طهارة الذات الأصليّة ، موفون بعهدهم الذي واثقوه مع ربّهم ، قال سبحانه :( لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) (٣) .

وبالجملة : فالشافعون هم المرضيّون ذاتاً وأعمالاً .

ومثل ذلك في الذات مأخوذ في جانب المشفوعين ، قال سبحانه : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) (٤) ، فالارتضاء مطلق وليس ناظراً إلى الأعمال ، فإنّ الشفاعة إنّما هي فيها فالارتضاء إنّما تعلّق بهم لا بأعمالهم ، أي أنّ نفوسهم طاهرة بالإيمان ، ويشهد به أيضاً قوله

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ٢٥٥ .

(٢) سورة المائدة : الآية ١٠٩ .

(٣) سورة مريم : الآية ٨٧ .

(٤) سورة الأنبياء : الآية ٢٨ .

١٤٦

سبحانه :( وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (١) ، يشعر بأنّ الإيمان ـ وهو مقابل الكفر ـ مرضي له .

ثمّ إنّه سبحانه قال :( فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (٢) ، فبانَ بذلك أنّ نفع الشفاعة هو تبدّل السيّئات ـ التي توجب الفسق ـ بغيرها من الحسنات بسببها حتّى يحصل الرضا ، رضى الربّ وقد وعد سبحانه مغفرة الصغائر من المعاصي لمَن اجتنب الكبائر منها ، فقال :( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) (٣) ، وقال سبحانه : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) (٤) .

فلم يبق لسخط الربّ سبحانه وعدم رضاه إلاّ الكبائر في المستحقّ بها للشفاعة ، وقد صحّ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الفريقان قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(إنّما شفاعتي (٥) لأهل الكبائر من أُمّتي) (٦) ، أو ما في معناه .

فالشفاعة إنّما توجب تبدّل هذه الكبائر ، قال سبحانه :( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) (٧) .

فالشفاعة ـ كما ترى ـ تحلّ محلّ العمل الصالح ، وقال سبحانه : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ

ـــــــــــــ

(١) سورة الزُّمر : الآية ٧ .

(٢) سورة التوبة : الآية ٩٦ .

(٣) سورة النساء : الآية ٣١ .

(٤) سورة النجم : الآية ٣٢ .

(٥) ويظهر ممّا قدّمناه من القول في باب الشهادة من عموم شفاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّ المراد بالشفاعة هو الشفاعة الخاصّة في الحديث ، أو أنّ (من أُمّتي) متعلّق بقوله : (شفاعتي) (منه قُدِّس سِرُّه) .

(٦) مَن لا يحضره الفقيه : ٣ / ٣٦٩ ، الباب ١٧٩ معرفة الكبائر ، الحديث ٣٣ .

(٧) سورة الفرقان : الآية ٧٠ .

١٤٧

الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (١) .

فالشفاعة كالعمل الصالح تفيد رفع الكلم الطيّب ـ وهو الإيمان ـ إلى الله سبحانه فالشفاعة توجب لحوق المذنبين من المؤمنين فقط بالصالحين منهم ، فمثل الشفاعة كمثل البدن إذا اعتراه مرض أو قرحة خطيرة ، فإنّ المزاج إذا كان قويّا ، والطبيعة البدنيّة سلامة ، أصلحت الصحّة ودفعت المرض عنه ، وإلاّ احتيجّ إلى علاج بالضدّ ، ودواء يبطل فعل المرض وينصر الطبيعة في إعادتها صحّة البدن إليه ، وتبديلها المواد الفاسدة المجتمعة فيه إلى الصالحة الملائمة له .

فالفاعل للصحّة على كلّ حال هي الطبيعة ، غير أنّها مستقلّة في فعلها حيناً ما ، ومحتاجة إلى ناصر ينصرها حيناً ما ؛ ولذلك فإنّه سبحانه يكرّر القول : ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) (٢) ، وأصرح من ذلك محلاًّ قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) (٣) ، فبيّن أوّلاً أنّه سيلحق ذرّيتهم بآبائهم في درجاتهم ، لا في أصل الرحمة لقوله :( وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ) الآية .

فعدّ هذا اللحوق من الكسب ، مع أنّ أعمالهم دون ذلك ، فعلمنا به أنّ الإيمان يوجب اتّصالاً ما من الداني بالعالي ، وإذا حجبهما من الاستواء في الدرجات حاجبٌ مانعٌ من القصور ، أصلحه الإيمان ، وارتفعا جميعاً إلى درجة واحدة وهذه حال الشفاعة توجب لحوق المشفوع بالشافع ، ثمّ إصلاح أعماله السيّئة وجعلها حسنة بذلك .

ـــــــــــــ

(١) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٨٦ .

(٣) سورة الطور : الآية ٢١ .

١٤٨

وفي قوله :( يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الآية(١) ، إشارة إلى ذلك ؛ إذ لولا أصل محفوظ بين المبدّل والمبدّل منه ، كان التبديل إعداماً للمبدّل وإيجاداً للمبدّل منه .

واعلم أنّ المغفرة في ذلك كالشفاعة ، وسيأتي في فصلي" الأعراف " و" المغفرة " ما يتبيّن به هذا المعنى فضل تبيُّن .

ومن هنا يتبيّن أنّ الشفاعة نوع تصرّف في الأعمال بتبدُّلها ؛ ولذلك خصّه سبحانه بنفسه في قوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) (٢) .

وهذا يؤيّد ما ذكرناه من مقام الشافع ، أنّ الشفاعة لا تتمّ إلاّ بكمال القرب منه سبحانه ، ويظهر ذلك أيضاً من قوله :( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) (٣) .

والتفزيع عن القلب كشف الفزع ، وهو الدهشة والصعقة التي توجب غيبوبته عن نفسه ، قوله سبحانه : ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (٤) إذا ضمّ إلى الآية الأُولى ـ والسياقان واحد ـ أفادت أنّ تمليكه تعالى الشفاعة لغيره يتحقّق بعد الإذن ، أي بعد الإذن يتحقّق كون فعل الشافع في شفاعته وقوله فعل الله سبحانه .

وأصرح منه قوله :( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) (٥) ، فالإذن هو الموجب لهذا الذي نسمّيه كمال القرب ، وهو الجاعلُ فعلَ الشافعِ فعلَه سبحانه ، وقد مرّ تفسير الإذن بالرضا .

ـــــــــــــ

(١) سورة الفرقان : الآية ٧٠ .

(٢) سورة السجدة : الآية ٤ .

(٣) سورة سبأ : الآية ٢٣ .

(٤) سورة يونس : الآية ٣ .

(٥) سورة البقرة : الآية ٢٥٥ .

١٤٩

وقد قال سبحانه أيضاً :( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ) (١) ، فبيّن به أنّ الذي نسمّي (شفاعة) قائم بالرحمة ، فهو رحمته سبحانه كما يستشمّ أيضاً من قوله سبحانه :( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) (٢) .

ثمّ إنّه سبحانه قال لرسوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (٣) ، وهو كلام مطلق يعطي أنّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله سبحانه مقاماً غير مقام الشفاعة ، أرفع منها ، وهو مقام الإذن الذي يحصل بعده وبسببه الشفاعة فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شفيع الشفعاء ـ كما مرّ ـ وإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد الشهداء .

واعلم أنّ مساقَ هذه الآية في تفضيلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العالمين غيرُ مساقِ قوله :( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٤) الآية ؛ فإنّ الظاهر منها أنّ تفضيلهم إنّما هو بجمع الآيات الباهرات لهم ، وهو كذلك ، وليس تفضيلاً في قرب التقوى من الله تعالى ؛ ويدلّ على ذلك النقمات والسخطات ونزول الرجز بهم وليس تفضيل أُمّة على العالمين كتفضيل الواحد على العالمين ، وخاصّة بالرحمة التي هي الواسطة التامّة بين الله سبحانه وبين الموجودات ، وهي شيء في البين وليس بشيء في البين ، فهو سبحانه يخلق كلّ شيء بذاته ، ويرزق كلّ شيء بذاته ، ويبدأ ويدبّر ويعيد كلّ شيء بذاته ، ويفعل ذلك كلّه برحمته .

ـــــــــــــ

(١) سورة الدخان : الآيتان ٤١ و ٤٢ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٥٦ .

(٣) سورة الأنبياء : الآية ١٠٧ .

(٤) سورة الجاثية : الآية ١٦ .

١٥٠

وفي هذا المعنى خطابه تعالى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ) (١) .

ولفظ (يبعث) كأنّه تضمَّنَ معنى الإقامة ، وهو كلام مطلق لم يعترضه في كلامه سبحانه تقييد ، فهو مقام محمود بكلّ حمد من كلّ حامد ، فهو مقام فيه كلّ جمال وكمال ؛ لاقتضاء الحمد ذلك ، فكلّ جمال وكمال مترشّح من هناك ، وقد قال سبحانه :( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢) .

فخصّ كلّ حمد من كل حامد بنفسه ، فالمقام المحمود مقام متوسط بينه سبحانه وبين الحمد ، فهو كالرحمة شيء وليس بشيء ، وهي المسمّاة بالولاية الكبرى .

وقال سبحانه :( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (٣) ، وهذا أيضاً كلام مطلق ومن المعلوم أنّ العطية المطلقة منه سبحانه هي الرحمة المطلقة ، فيرجع مضمون الآية إلى الآيتين ، وهما :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٤) ،( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ) (٥) .

وتزيد عليهما بالرضى ، ولم يقل سبحانه : حتّى ترضى ، فإنّ العطيّة هذه غير تدريجيّة بتواتر الأمثال وتعاقب الجزئيّات ، وهاهنا كلام كثير لكنّه أرفع سطحاً ممّا جرينا عليه في هذه الرسالة .

ـــــــــــــ

(١) سورة الإسراء : الآية ٧٩ .

(٢) سورة الفاتحة : الآية ٢ .

(٣) سورة الضحى : الآية ٥ .

(٤) سورة الأنبياء : الآية ١٠٧ .

(٥) سورة الإسراء : الآية ٧٩ .

١٥١

فالمحصّل من جميع ما مرّ : أن محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّ له الشفاعة للمذنبين من أُمّته ، له مقام الإذن في الشفاعة .

والأخبار في ذلك كثيرة متظافرة :

فقد روى القمّي في تفسيره عن الباقرعليه‌السلام ـ في حديث ـ ثمّ قال :(ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ وهو محتاج إلى شفاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة) (١) ـ الحديث .

وروى هذا اللفظ في المحاسن عن الصادقعليه‌السلام (٢) .

وروى العيّاشي في تفسيره عن الصادقعليه‌السلام ـ في حديث طويل : ثمّ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(ما من نبيّ من لدن آدم إلى محمّد إلاّ وهم تحت لواء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (٣) ـ الحديث .

وروى القمّي في تفسيره عن سماعة ، عن الصادقعليه‌السلام قال : سألته عن شفاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة ، قال :(يَلجم النّاسَ يوم القيامة العرق ، ويرهقهم الفلق ، فيقولون : انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا ، فيأتون آدم فيقولون : اشفع لنا عند ربّك ، فيقول : إنّ لي ذنباً وخطيئة فعليكم بنوح فيأتون نوحاً فيردّهم إلى مَن يليه ، ويردّهم كلّ نبيّ إلى مَن يلي حتّى ينتهوا إلى عيسى ، فيقول : عليكم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعرضون أنفسهم عليه ويسألونه فيقول : انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنّة ويستقبل باب الرحمان ، ويخرّ ساجداً ، فيمكث ما شاء الله ، فيقول الله عزّ وجلّ : ارفع رأسك واشفع تشفّع ، وسلْ تعطَ وذلك قوله : (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) ) (٤) .

وروى العيّاشي في تفسيره ما يقرب منه(٥) .

وهذا المعنى وارد في إنجيل برنابا بنحو أبسط فيما بشّر به المسيح عيسى بن مريمعليه‌السلام بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمّي : ٢ / ٢٠٢ .

(٢) المحاسن : ١ / ٢٩٣ ، الحديث ١٨٨ .

(٣) تفسير العيّاشي : ٢ / ٣٣٤ ، الحديث ١٤٥ .

(٤) تفسير القمّي : ٢ / ١٧٠ .

(٥) تفسير العيّاشي : ٢ / ٣٣٣ ، الحديث ١٤٥ .

١٥٢

وروى فرات بن إبراهيم في تفسيره عن بشر بن شريح ، قال : قلت لمحمّد بن عليّعليه‌السلام : أيَّةُ آيةٍ في كتاب الله أرجى ؟ قالعليه‌السلام :(ما يقول فيها قومُك ؟) ، قلت : يقولون :( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ) (١) ، قال :(لكنّا أهل بيت لا نقول ذلك) ، قال : قلت : فأيُّ شيء تقولون فيها : قال :( ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) واللهِ الشفاعة ، واللهِ الشفاعة) (٢) .

القول في أقسام الشافعين

منهم : الأنبياء والأولياء من البشر ، وقد سبق الكلام فيه .

ـــــــــــــ

(١) سورة الزُّمر : الآية ٥٣ .

(٢) تفسير فرات الكوفي : ٥٧٠ .

١٥٣

ومنهم : الملائكة ، قال سبحانه :( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) (١) ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومنهم : المؤمنون ، قال سبحانه :( وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) ، فقد استشعروا أنّ هناك صديقاً حميماً ينفع البعض ؛ لمكان قولهم : (لَنَا) الآية ويظهر منه أنّ الشافع والحميم إنّما ينفع المؤمنين .

وفي (الكافي) عن الباقرعليه‌السلام :(إنّ الشفاعة لمقبولة ، وما تُقبل في الناصب وإنّ المؤمن ليشفع جاره وما له حسنة ، فيقول : يا ربّ ، جاري كان يكفّ عنّي الأذى ، فيشفع فيه ، فيقول الله تبارك وتعالى : أنا ربّك وأنا أحق مَن كافى عنك فيدخله الله الجنّة وما له من حسنة وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنساناً ، فعند ذلك يقول أهل النار : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) ) (٣) .

والروايات في هذا المعنى كثيرة .

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآية ٢٦ .

(٢) سورة الشعراء : الآيات ٩٩ ـ ١٠٢ .

(٣) الكافي : ٨ / ٨٨ ، الحديث ٧٢ .

١٥٤

ومن الشفعاء : القرآن والأمانة والرَّحِم عُدّت من الشفعاء في الروايات ، ففي فردوس الديلمي عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :(الشفعاء خمسة : القرآن ، والأمانة ، والرحم ، ونبيّكم ، وأهل بيت نبيّكم) (١) .

أقول : ولعلّ شفاعة الثلاثة الأُول يستفاد من قوله سبحانه في وصف كتابه :( وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (٢) ، وقد قال سبحانه :( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ) (٣) ، وقوله سبحانه :( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ) (٤) .

فبيّن سبحانه أنّ غاية عرض الأمانة على الإنسان وتحمّله لها هو التوبة على المؤمنين ، والعذاب على المنافقين والمشركين بسببها ، وهي الشفاعة ، وقد فسّرنا الآية سابقاً بالولاية ، ولا تنافي ؛ وذلك لأنّ المأخوذ في كلامه سبحانه الأمانة دون الولاية ، فهو أخذ الخاصّ من العامّ ، وانطباقه به .

وقوله سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ *

ـــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب : ٢ / ١٤ فصل : في أنّه الساقي والشفيع بحار الأنوار : ٨ / ٤٣ ، الباب ٢١ الشفاعة ، الحديث ٣٩ الجامع الصغير / السيوطي : ٢ / ٨٦ ، الحديث ٤٩٤٢ .

(٢) سورة النحل : الآية ٨٩ .

(٣) سورة الدخان : الآيتان ٤١ و ٤٢ .

(٤) سورة الأحزاب : الآيتان ٧٢ و ٧٣ .

١٥٥

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ) (١) ، والحميم هو القريب ذو الرحم ؛ والدليل على شفاعته قوله تعالى : (لَهُ) الآية .

وفي (الكافي) عن سعد الخفّاف ، عن الباقرعليه‌السلام أنّه قال :(يا سعد ، تعلّموا القرآن ، فإنّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخَلق) ، ثمَّ ذكرعليه‌السلام :(أنّه يأتي صفّ المسلمين ، ثمَّ صفّ الشهداء ، ثمَّ الأنبياء ، ثمَّ الملائكة ، وكلّ يحسب أنّه منهم ، ثمَّ يشفع فيشفّع ، ويسال فيُعطى) . وفي آخره قال سعد : قلت : جعلت فداك يا أبا جعفر ، وهل يتكلّم القرآن ؟ فتبسّمعليه‌السلام ثمَّ قال :(رحم الله الضعفاء من شيعتنا ، إنّهم أهل تسليم) ، قال سعد : فتغيّر لذلك لوني ، وقلت : هذا شيء لا استطيع التكلّم به في الناس ، فقال أبو جعفرعليه‌السلام :(وهل الناس إلاّ شيعتنا ، فمَن لم يُعرف بالصلاة فقد أنكر حقّنا) ، ثمَّ قال :(يا سعد ، أُسمعك كلام القرآن ؟ ) ، قال سعد : فقلت : بلى صلّى الله عليك ، فقال :( ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) (٢) ، فالنهي كلام الفحشاء ، والمنكر رجال ، ونحن ذكر الله ، ونحن أكبر) (٣) ـ الحديث .

وهو مشتمل على معانٍ جمّة يستفاد بها أُخرى ، والذي يرتبط بما نحن فيه ، أنّ المعاني التي تشترك في اللفظ مع المعاني والأحوال الموجودة في الأحياء ، كالأمر والنهي والنفع والشفاعة وغيرها ، ستتمثّل في البرزخ بصورها ، وتتحقّق في الحشر بحقيقتها ولمزيد البيان موضعٌ آخر ، على أنّها مستفاد من البرهان المذكور سابقاً ، وهاهنا روايات أُخر متفرّقة في أبواب المعارف والعبادات .

ومن الشفعاء : الأعمال الصالحة ، قال سبحانه :( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً

ـــــــــــــ

(١) سورة الحاقّة : الآيات ٣٣ ـ ٣٥ .

(٢) سورة العنكبوت : الآية ٤٥ .

(٣) الكافي : ٢ / ٥٩١ ، كتاب فضل القرآن ، الحديث ١ .

١٥٦

صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) (١) ، فقد مرّ أنّ معنى الشفاعة تبديل سيّئة المذنب بالحسنة(٢) ؛ لقربٍ بين الشافع والمشفوع له ، والرواية السابقة في شفاعة القرآن تعطي معنى كلّياً في شفاعة الأعمال .

ـــــــــــــ

(١) سورة الفرقان : الآية ٧٠ .

(٢) راجع الصفحة : ١٦٣ .

١٥٧

الفصل الثالث عشر: في الأعراف

قال سبحانه :( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) (١) .

أعراف الحجاب : أعاليه ، والأعراف : التلال المرتفعة من كثبان الرمل ، واتّصال الأعراف في الآية الشريفة بالحجاب ، يُؤيّد المعنى الأوّل ، وكون الرجال عليها يُؤيّد المعنى الثاني لكن لا مغايرة ؛ فالحجاب ما يحجب شيئاً عن شيء ، فهؤلاء الرجال في مقام عالٍ مرتفع مطلّ على الفريقين : أهل الجنّة وأهل النار ، مشرف على المقامين : الجنّة والنار ، ولذلك كانوا على الأعراف ليعرفوا كلاًّ بسيماهم ، وقد وصف سبحانه الأمر بلسان آخر في قوله :( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) (٢) .

فقوله :( انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ) كقوله في ذيل آية الأعراف :( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ) (٣) .

واختصاص المنافقين بالباب لمكان نفاقهم واشتراكهم مع المؤمنين في ظاهر أمرهم ، فيعذّبون من ظاهر الحجاب من قبل الباب .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : الآية ٤٦ .

(٢) سورة الحديد : الآية ١٣ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ٥٠ .

١٥٨

وبالجملة : فقد بيّن سبحانه أنّ هذا الحجاب والسور شيء واحد ذو ظاهر وباطن ، وأنّ الرحمة للفائزين في باطنه ، وأنّ العذاب للهالكين في ظاهره فكأنّهم لو جازت أنظارهم ظاهره ، أصابوا النعيم وغشيتهم الرحمة وكأنّ المؤمنين والكافرين ليس قبلهم إلاّ شيء واحد ، وإنّما الاختلاف من ناحية إدراكهم كحالهم في الدنيا ، وهو السبيل إلى الله ، سلكه المؤمنون في الدنيا صراطاً مستقيماً ، وانحرف فيه غيرهم ؛ ولذلك قال سبحانه ـ قبل آية الأعراف :( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ) (١) ، فالسبيل واحد ، وهو الله وإلى الله ، سلكه سالك بالاستقامة وآخر قصده عِوجاً ومنحرفاً .

وهذا المعنى مكرّر الورود تصريحاً وتلويحاً في القرآن :

قال سبحانه : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ) (٢) .

وقال :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ) (٣) .

وقال :( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم

ـــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : الآيتان ٤٤ و ٤٥ .

(٢) سورة الروم : الآيتان ٧ و ٨ .

(٣) سورة النور : الآية ٣٩ .

١٥٩

مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ) (١) .

وقال سبحانه :( إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (٢) .

والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً ؛ يمنعنا عن الاستقصاء فيها وبيانها ما شرطنا على أنفسنا في صدر الرسالة من الاختصار ، ومن أبلغها في هذا الباب قوله سبحانه :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً ) (٣) .

وقد مرّ أنّ النعمة في هذه الآية هي الولاية ، وهي السبيل إلى الله ويقابله الكفر : ( وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) (٤) ، فغاية هؤلاء البوار ؛ لجمودهم على الظاهر وإعراضهم عن الباطن ، والظاهر بائر والباطن ثابت قاطن كما يشير إليه قوله سبحانه :( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) (٥) ، وقوله : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) (٦) ، وقوله :( لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً ) (٧) ، وقوله :( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً ) (٨) ، فغاية المؤمنين هو محلّ الصدق ، والحقّ ليس فيه لغو ولا كذب بخلاف غيرهم .

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآيتان ٢٩ و ٣٠ .

(٢) سورة يونس : الآيتان ٧ و ٨ .

(٣) سورة إبراهيم : الآية ٢٨ .

(٤) سورة إبراهيم : الآيتان ٢٨ و ٢٩ .

(٥) سورة يونس : الآية ٢ .

(٦) سورة القمر : الآية ٥٥ .

(٧) سورة الواقعة : الآية ٢٥ .

(٨) سورة النبأ : الآية ٣٥ .

١٦٠