الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة6%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57034 / تحميل: 7325
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وكيف كان ، فأصحاب الأعراف هم المهيمنون على المكانين ، المشرفون على الفريقين وليست هذه الكثبان كثبان رمل من مادة أرضنا ، فقد قال سبحانه في وصف الأرض : ( لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً ) (١) ، بل إنّما هو مقامهم المرتفع عن ساحة أهل الجمع ، فهم غير محضَرين ، فهم المخلصون الذين حفظهم الله سبحانه من صعقة النفخ وفزع اليوم ، ومقامهم الحجاب ، وفيه الرحمة التي وسعت كلّ شيء ، والنّار التي أحاط بأهلها سرادقُها ؛ وهو المستشعر بقوله تعالى : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٢) .

ولم يقل سبحانه : (فأذن بينهم مؤذّن) كما لا يخفى .

وهم الحاكمون يوم القيامة ، قال سبحانه :( وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ) (٣) .

وهي الجنّة كما مرّ ، وكما يدلّ عليه قوله :( ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) (٤) .

وهم أصحاب الروح المأذون لهم في الكلام والقول الصواب في قوله سبحانه :( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) (٥) .

وقد فصّلنا القول في معنى الروح وإيمانه وعلمه في" رسالة الإنسان قبل الدنيا " في قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ) (٦) .

فهم ـ أعني أصحاب الأعراف ـ هم المعنيّون ظاهراً بقول سبحانه :

ـــــــــــــ

(١) سورة طه : الآية ١٠٧ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ٤٤ .

(٣) سورة الأعراف : الآيتان ٤٨ و ٤٩ .

(٤) سورة الأعراف : الآية ٤٩ .

(٥) سورة النبأ : الآية ٣٨ .

(٦) سورة الشورى : الآية ٥٢ .

١٦١

( وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (١) فقد قضوا بخسرانهم .

وهم أيضاً المعنيّون بقوله تعالى :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٢) ، فزعمهم ذلك لِمَا قُيُّدوا في الدنيا ، فلم تتّسع أنظارهم بأزيد من أن يدركوا ساعة من دهرهم واقعون فيها ، ففاتهم ما كانوا عليه قبل النزول في الدنيا ، وما سيكونون عليه بعد الارتحال من الدنيا ووقعوا فيها بحسب سيطرة الزمان ، لا تزال ساعة تبطن وساعة تظهر ، فهم يَقسمون حين البعث ما لبثوا غير ساعة ، وهذا الوهم الشبيه بالحقيقة قد قرّره سبحانه بقوله :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ ) (٣) ، وقوله :( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٤) .

ولذلك فليس قولهم وقَسَمُهم على ما يقولون ويدعون ، تقليلاً منهم لمدّة مكثهم في الأرض بالنسبة إلى البقاء الأبدي الذي شاهدوه حين البعث ؛ ولذلك أردف ذلك بقوله : ( كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ) (٥) .

وقولة أُولي العلم والإيمان :( لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) ، كأنّه

ـــــــــــــ

(١) سورة الشورى : الآية ٤٥ .

(٢) سورة الروم : الآيتان ٥٥ و ٥٦ .

(٣) سورة الأحقاف : الآية ٣٥ .

(٤) سورة المؤمنون : الآيات ١١٢ ـ ١١٤ .

(٥) سورة الروم : الآية ٥٥ .

١٦٢

إشارة إلى قوله :( وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) (١) ، وقد مرّ معنى الآية في الكلام في الأجل والموت .

وإذ كان اللبث وانتهاؤه مفروغاً منه ، أردفوه بقولهم : ( فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ) ، وهو النتيجة ، وقالوا : ولكنّكم كنتم لا تعلمون بهذا الانتهاء والتحديد ، وأنّ الساعة كلمح البصر أو هي أقرب ، وأنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين .

واعلم أنّ صدور هذه الدعوى الباطلة من المبعوثين ، ثمَّ ظهور بطلانها لهم وأمثال ذلك ، كالمخاصمات التي تقع بين الضعفاء والمتكبّرين ، والأتباع والمتبوعين ، يوم القيامة على ما حكاه سبحانه عنهم ، لا ينافي ما مرّ من أنّ اليوم يوم تظهر فيه الحقائق وترتفع فيه الحُجب ؛ فإنّ الظهور بنفسه يتحقّق عن خفاء وينحلّ إلى مراتب ، غير أنّ الأمر طويل عسير عند البعض ، وقليل نزر يسير عن آخرين .

والأخبار الواردة في الباب تؤيّد ما مرّ من المعاني :

فقد روى العيّاشي عن سلمان قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعليّعليه‌السلام أكثر من عشر مرّات :(يا عليّ ، إنّك والأوصياء من بعدك أعرافٌ بين الجنّة والنار ، لا يدخل الجنّة إلاّ مَن عرفكم وعرفتموه ، ولا يدخل النّار إلاّ مَن أنكركم وأنكرتموه) (٢) .

وروى القمّي في تفسيره عن الصادقعليه‌السلام :(كلّ أُمّة يحاسبها إمام زمانها ، ويعرف الأئمة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم (٣) ، وهو قوله : ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) (٤) ، فيَعطون أولياءهم كتابهم بيمنيهم ، فيمروا إلى الجنّة بلا حساب ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الشورى : الآية ١٤ .

(٢) تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٢ ، الحديث ٤٤ .

(٣) وكأنّهم المراد فاعلاً للفعل المجهول في قوله سبحانه :( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ) (الرحمن : ٤١) فهو سبحانه لا يُخفي له منهم شيء ، والمجرمون في شغل عن المعرفة (منه قدِّس سرُّه) .

(٤) سورة الأعراف : الآية ٤٦ .

١٦٣

ويعطون أعداءهم كتابهم بشمالهم ، فيمرّوا إلى النّار بلا حساب) (١) .

ومثله في (الكافي)(٢) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ ) الآية .

ومن المحتمل أن يُرجععليه‌السلام الضمير في سيماهم إلى قوله : (رِجَالٌ) و(كُلاًّ) جميعاً .

وروى القمي عن الباقرعليه‌السلام أنّه سئل عن أصحاب الأعراف ، فقال :(إنّهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم فقصرت بهم الأعمال ، وإنّهم لكما قال الله عزّ وجلّ) (٣) .

أقول : يشيرعليه‌السلام إلى قوله :( وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ) (٤) الآية .

وفي الجوامع عن الصادقعليه‌السلام : (الأعراف : كثبان بين الجنّة والنار يُوقف عليها كلّ نبيّ وكلّ خليفة مع المذنبين من أهل زمانه ، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده ، وقد سبق المحسنون إلى الجنّة ، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه :

انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا إلى الجنّة ، فيسلِّم عليهم المذنبون ، وذلك قوله تعالى : ( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) أن يدخلهم الله إيّاها بشفاعة النبيّ والإمام وينظر هؤلاء إلى النار فيقولون : ( رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٥) .

وينادي أصحاب الأعراف ـ وهم الأنبياء والخلفاء ـ رجالاً من أهل النار ورؤساء الكفّار ، يقولون لهم مقرّعين : ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم ؟! هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة إشارة لهم إلى أهل الجنّة الذين كان الرؤساء يستضعفونهم ويحتقرونهم بفقرهم ، ويستطيلون عليهم بدنياهم ، ويقسمون أنّ الله لا يدخلهم الجنّة أُدخلوا الجنّة .

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمّي : ٢ / ٤٠٤ .

(٢) الكافي : ١ / ٢٣٩ ، الباب ٦٤ ، الحديث ٩ .

(٣) وقد ورد في الكافي : ٢ / ٣٨٨ ، الباب ٣٦٠ أصحاب الأعراف ، الحديث ١ .

(٤) سورة الأعراف : الآية ٤٦ .

(٥) سورة الأعراف : الآية ٤٧ .

١٦٤

يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين عن أمر من أمر الله عزّ وجلّ لهم بذلك : ( ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) (١) ، أي لا خائفين ولا محزونين) (٢) .

أقول : وخصوصيات هذا الحديث مستفادة من خصوصيّات آيات الأعراف ، والأخبار في هذه المعاني كثيرة مروية في تفسيري : القمّي والعيّاشي ، وفي الكافي والبصائر والمجمع والاحتجاج .

والبرهان المذكور سابقاً ربّما استفاد منه هذا الموقف ، وهو وصل قوم إلى مقام ينشعب منه مقام الفريقين ولحوق الضعفاء والمتوسّطين بهم ؛ وبه يظهر أنّ الأعراف ليس موقفاً ذا مرتبة واحدة ، بل ذو مراتب ، ولذلك لا نرى تصريحاً منه سبحانه أنّ المستضعفين على الأعراف كالرجال الذين يحكمون فيها ، وإنّما المفهوم أنّهم عندهم ، يشيرون إليهم ويخاطبونهم ويأمرونهم ويؤمنونهم .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : الآية ٤٩ .

(٢) وقد ورد في بحار الأنوار : ٨٠ / ٣٣٢ ، الباب ٢٥ ، مع اختلاف يسير .

١٦٥

الفصل الرابع عشر: في الجنّة

بسط الكلام فيها وشرح ما تضمّنته الآيات والأخبار ـ على كثرتها فيها ـ أوسع من مجال هذه الرسالة ؛ فقد وردت في كتاب الله تعالى في وصف الجنّة ما يقرب من ثلاثمئة آية ، وذكْرُها مطّرد في جميع سور القرآن إلاّ عشرين سورة ، هي : سورتا الممتحنة والمنافقين ، وثماني عشرة سورة من السور القصار ، لكنّا نتعرّض لكلّيات أوصافها على حسب المقدور .

فاعلم أنّ المستفاد من كلامه سبحانه أنّ هناك ارتباطاً مخصوصاً بين الأرض وبين الجنّة ، قال سبحانه :( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) (١) .

ولعلّ قولهم : ( صَدَقَنَا وَعْدَهُ ) الآية ، إشارة إلى قوله سبحانه :( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٢) .

والوراثة هي أن تُملك شيئاً بعد ما ملكه آخر قبلك ، وتخول منه ما خوّله سلفُك .، فالميراث يحتاج إلى شيء ثابت اعتورته يد بعْدَ يد ، وقام به خلف بعد سلف وكان مقتضى ظاهر السياق في بيان صدق الموعد أن يقال : (وأورثنا الأرض نتبوّأ منها) ، أو يقال : (وأورثنا الجنّة نتبوّأ منها) ، فالعدول عن ذلك إلى ما ترى يعطي ارتباطاً ما ، واتّحاداً مخصوصاً بين الأرض والجنّة كما ترى .

ـــــــــــــ

(١) سورة الزُّمر : الآية ٧٤ .

(٢) سورة الأنبياء : الآية ١٠٥ .

١٦٦

وقد أخبر سبحانه بتبديل الأرض يوم القيامة تارةً ، فقال :( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ) (١) ، وبإشراقها الأرض بنور ربّها تارةً ، فقال :( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ) (٢) ، وبقبضها تارةً ، فقال : ( وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (٣) .

ويشير إلى ما مرّ بقوله : ( وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) (٤) ، وأصرح منه قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) (٥) .

فقد فُسّر ووُصف ، عقبى الدار ، بجنّات عدن يدخلونها ، والدخول يستدعي خروجاً ما سابقاً ، فمثلهم كمثل الذي يسكن أرضاً ثمّ يعمر فيها داراً يسكنها ، ثمّ يزيِّن قبّة من قبابها فيدخلها ، فإنّما هو أوج بعد حضيض ، أو ارتقاء بعد ارتقاء ، قال سبحانه :( كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة إبراهيم : الآية ٤٨ .

(٢) سورة الزُّمر : الآية ٦٩ .

(٣) سورة الزُّمر : الآية ٦٧ .

(٤) سورة الرعد : الآية ٤٢ .

(٥) سورة الرعد : الآيات ٢٢ ـ ٢٤ .

(٦) سورة البقرة : الآية ٢٥ .

١٦٧

وهناك آيات أُخر تشعر بذلك ، كقوله سبحانه :( إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) ، وقوله :( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ) (٢) ، وقوله :( تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣) .

وفي (المجمع) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(ما من أحد إلاّ وله منزل في الجنّة ومنزل في النّار فأمّا الكافر فيرث المؤمنَ منزله من النار ، والمؤمنُ يرث الكافر منزله من الجنّة ، فذلك قوله : ( أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ) (٤) .

أقول : والرواية ـ لو صحّت ـ لم تنافِ ما ذكرناه من وراثة الأرض ، وكذلك سياق قوله سبحانه : ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٥) ، وهو ظاهر هذا ، والبرهان السابق تستفاد منه هذه الوراثة .

ثمّ اعلم أنّه سبحانه كرّر الوعد بتطهير الجنّة وأهلها ، وتطييبها من الكدورات والظلمات ، قال تعالى :( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) (٦) ، فالتفريع بالفاء : يعطي طيب المنزل كطيب النازل .

وقال سبحانه :( سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (٧) ، والتفريع فيها يعطي طيب المنزل ، وهو الأرض ، بطيب النازل بالصبر ، والفرق من جهة أنّ السلام الأوّل شكر ، والثاني في مقام البشرى .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : الآية ١٢٨ .

(٢) سورة مريم : الآية ٦٣ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ٤٣ .

(٤) تفسير مجمع البيان : ٤ / ٦٤٩ .

(٥) سورة الأعراف : الآية ١٢٨ .

(٦) سورة الزُّمر : الآية ٧٣ .

(٧) سورة الرعد : الآية ٢٤ .

١٦٨

وقال سبحانه : ( وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) (١) ، وقال :( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ) (٢) ، وقال : ( لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات ، وأجمعها معنى قوله سبحانه :( ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) (٤) .

فالخوف إنّما يكون من المكروه المحتمل ، والحزن على مكروه واقع ، فقد نفى سبحانه كلّ نقيصة ، وعدم واقع في الموجود ومحتمل ، فأصحاب الجنّة مبرَّءون عن النواقص والإعدام ، وكاملون في وجوداتهم ، فلا مزاحمة من مزاحمات الدنيا هناك أصلاً ، فهي المرفوعة عنهم ، فهم المفلِحون المغشيّون بالأمن والسلام ، قال سبحانه : ( ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ ) (٥) ، وقال : ( لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ) (٦) .

ثمّ اعلم أنّه سبحانه وعدهم فيها كلّ لذّة وبهجة وجمال وكمال ،

ـــــــــــــ

(١) سورة التوبة : الآية ٧٢ .

(٢) سورة الحجر : الآيتان ٤٧ و ٤٨ .

(٣) سورة فاطر : الآية ٣٥ .

(٤) سورة الأعراف : الآية ٤٩ .

(٥) سورة الحجر : الآية ٤٦ .

(٦) سورة الواقعة : الآيتان ٢٥ و ٢٦ .

١٦٩

قال تعالى :( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ) (١) ، وقال سبحانه : ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ) (٢) .

وأكثر الروايات واردة في وصف خصوصيّات من قصورها ، وحورها ، وطيورها ، وأشجارها ، وأثمارها ، وأنهارها ، وفواكهها ، وظلّها ، وشرابها ، وغلمانها ، وخلودها ، وينبغي لك أن تفهم منها معانيها مطلقة غير مشوبة بالنواقص والأعدام .

ثم اعلم أنّه سبحانه وعدهم أمراً وراء ذلك ، فقال : ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) ، وهذا الوعد بعدما وصف سبحانه عطاءه بكلّ صفة جميلة بليغة ، يعطي أنّه أمر وراء ما يسعه إفهام النفوس .

وقد روى القمّي في تفسيره عن عاصم بن صمد ، عن الصادقعليه‌السلام في حديث يصف فيه الجنّة ، قال : قلت : جعلت فداك ، زدني ، فقال :(إنّ الله خلق جنّة بيده ، ولم ترها عين ، ولم يطّلع عليها مخلوق ، يفتحها الربّ كلّ صباح فيقول : ازدادي ريحاً ازدادي طيباً ، وهو قول الله : ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ) (٤) .

أقول : وقوله : ( جَزَاء بِمَا ) الآية ، يعطي أنّ هذا الذي فوق فهم الأفهام أُخفيت للإنسان بإزاء العمل جزاء له ، وقد قال سبحانه : ( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا ) (٥) ، فكلّ ما تتعلّق به المشيئة مملوك للإنسان هناك .

ـــــــــــــ

(١) سورة الزُّمر : الآية ٣٤ .

(٢) سورة فصّلت : الآيتان ٣١ و ٣٢ .

(٣) سورة السجدة : الآية ١٧ .

(٤) تفسير القمّي : ٢ / ١٧٠ .

(٥) سورة ق : الآية ٣٥ .

١٧٠

وقال أيضاً :( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ) (١) .

فكلّ ما يحبّه الإنسان هناك أعمّ ممّا يسعه الفهم ، وما لا يسعه مملوك له ؛ لمكان قوله : (لَهُمْ) الآية ، وواقع تحت المشيئة المطلقة لقوله :( مَا يَشَآؤُونَ ) الآية .

لكنّ الآية تفيد أنّ للإنسان كمالاً فوق مرتبة الفهم ، يمكن أن يملكه بالعمل ، وهو ظاهر ؛ ولعلّ ذلك ما يفيده قوله سبحانه :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (٢) ، وهو المشاهدة بالقلوب في غير جهة ولا جسم ولا تشبيه ؛ لقوله تعالى : ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٣) ، حيث رتّب اللقاء على العلم النافع والعمل الصالح .

ثمّ إنّه سبحانه قال :( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) (٤) ، فإثباته المزيد لديه بعد ما أخبر أنّ لهم كلّ ما يتعلّق به مشيئتهم يعطي أنّه أمر لا يقع تحت مطلق المشيئة ، ولا شكّ أنّه كمال ، وأنّ كلّ كمال يقع تحت المشيئة ، فليس إلاّ أنّه كمال غير محدود ، فلا يقع تحت المشيئة ؛ إذ كلّ ما يقع تحتها يصير محدوداً .

وفي تفسير القمّي في قوله : ( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ، قالعليه‌السلام : (ينظرون إلى رحمة الله) (٥) .

أقول : ولعلّ الرواية مستفادة من قوله تعالى : ( لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآيات ٣٩ ـ ٤١ .

(٢) سورة القيامة : الآيتان ٢٢ و ٢٣ .

(٣) سورة الكهف : الآية ١١٠ .

(٤) سورة ق : الآية ٣٥ .

(٥) تفسير القمّي : ٢ / ٣٣٤ .

(٦) سورة النُّور : الآية ٣٨ .

١٧١

فبيّن أنّ المزيد الذي هو رزق بغير حساب من الفضل ، وقد قال : ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (١) ، فالفضل من الرحمة ، وهي الرحمة من غير استحقاق .

وقال سبحانه :( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) (٢) ، فهذا المكتوب لهم الذي لا يسعه شيء هو المزيد ، ولئن تدبّرت في قوله سبحانه :( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ) (٣) ، وقوله :( أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ ) (٤) الآية ، وقوله :( إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) (٥) ، وقوله :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) (٦) ، أنّ الرحمة هي الجنّة بوجه ، بل إنّ الجنّة من مراتبها .

ـــــــــــــ

(١) سورة النُّور : الآية ٢١ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٥٦ .

(٣) سورة الحديد : الآية ١٣ .

(٤) سورة الأعراف : الآية ٤٩ .

(٥) سورة الأعراف : الآية ٥٦ .

(٦) سورة ق : الآية ٣١ .

١٧٢

الفصل الخامس عشر: في النار

أعاذنا الله سبحانه منها ، والآيات الواردة في تفاصيل العذاب والإخبار بها أكثر عدداً من آيات الجنّة ، فهي تقرب من أربعمئة آية ، وما خلت عن ذكرها تصريحاً أو تلويحاً إلاّ اثنتا عشرة سورة من السور القصار .

وكيف كان فجملة حالهم أنّهم محرومون من الحياة الحقيقيّة الأُخرويّة قال سبحانه :( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) (١) ، وقال :( إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) (٢) ، وقال :( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ) (٣) .

وقد قال سبحانه في وصف الآخرة : ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) (٤) ، هي الرحمة الإلهيّة التي هي منبع كلّ كمال وجمال ، كما قال :( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الممتحنة : الآية ١٣ .

(٢) سورة يوسف : الآية ٨٧ .

(٣) سورة الحجر : الآية ٥٦ .

(٤) سورة العنكبوت : الآية ٦٤ .

(٥) سورة الأعراف : الآية ١٥٦ .

١٧٣

وهي تفيد أنّهم في عين حرمانهم منها مشمولون لها ، وقد قال :( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) (١) ، وقال : ( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) (٢) .

ويتحصّل منه أنّهم في عين مشموليّتهم للرحمة محرومون عنها ؛ لكونها في باطنِ حجابٍ هم لا يجاوزون ظاهره ، وقد مرّ بيانه في" فصل : الأعراف " (٣) فالحجاب هو الذي يمنعهم من النعيم ، وظاهره هو الذي يعذّبون به وقد بيّن سبحانه أنّهم إنّما يعذّبون بأعمالهم السيّئة بأقسامها ، فأعمالهم هي أنواع عذابهم والأصل الذي تنشعب منه هذه الأنواع ، هو أصل الحجاب لهم ، وهو الغفلة ، قال تعالى :( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (٤) ، وقال سبحانه :( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) (٥) ، فهم متوقّفون في حجاب أعمالهم .

وقد قال سبحانه : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) (٦) ، وقال : ( أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ) (٧) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : الآية ٤٦ .

(٢) سورة الحديد : ١٧٥ .

(٣) راجع الصفحة : ١٧٥ .

(٤) سورة الأعراف : الآية ١٧٩ .

(٥) سورة المطفّفين : الآيتان ١٤ و ١٥ .

(٦) سورة الفرقان : الآية ٢٣ .

(٧) سورة النور : الآية ٣٩ .

١٧٤

وقال :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) (١) ، وقال : ( وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ) (٢) ، فمقامهم سراب الأوهام دون الحقيقة ، والظاهر دون الباطن ، والبوار والهلاك دون الحياة ، ومواطنها كلّها هي الدنيا التي حياتها متاع الغرور ؛ ولذلك فلها ارتباط خاصّ بجهنّم ، قال سبحانه :( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (٣) ، وقال سبحانه في سورة السجدة :( وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (٤) .

وهذه أبلغ الآيات في الكشف عن شأن جهنّم ، ولذلك ورد عنهمعليهم‌السلام ، كما في (ثواب الأعمال) عن الصادقعليه‌السلام :(مَن اشتاق إلى الجنّة وإلى صفتها فليقرأ الواقعة ، ومَن أحبّ أن ينظر إلى صفة النّار فليقرأ سجدة لقمان) (٥) .

وفي معنى الآية السابقة قوله :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (٦) .

وممّا ظهر يظهر معنى صنف آخر من الآيات كقوله سبحانه :( فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) (٧) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة إبراهيم : الآيتان ٢٨ و ٢٩ .

(٢) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٣) سورة مريم : الآيتان ٧١ و ٧٢ .

(٤) سورة السجدة : الآية ١٣ .

(٥) ثواب الأعمال : ١١٧ .

(٦) سورة التين : الآيات ٤ ـ ٦ .

(٧) سورة البقرة : الآية ٢٤ .

١٧٥

وقوله :( قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) (١) ، والمراد بالحجارة ـ بقرينة المورود ـ هي الأصنام المتخّذة من الحجارة المعبودة من دون الله .

وقوله سبحانه :( وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) (٢) .

وقوله سبحانه :( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (٣) .

وقد استدرك سبحانه المعبودين من دون الله من عباده الصالحين بقوله ـ بعد الآية ـ : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) (٤) .

وقوله سبحانه :( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) (٥) الآيات .

واعلم أنّ ما مرّ أُصول صفة النار ، وهي المستفادة من البرهان السابق .

ـــــــــــــ

(١) سورة التحريم : الآية ٦ .

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٠ .

(٣) سورة الأنبياء : الآية ٩٨ .

(٤) سورة الأنبياء : الآية ١٠١ .

(٥) سورة الهُمزة : الآيتان ٦ و ٧ .

١٧٦

الفصل السادس عشر: في عموم المعاد

قال سبحانه : ( مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (١) .

أفاد أنّ خِلقة ما في السموات والأرض وما بينهما مقرون بالحقّ وأجل مسمّى ، (والباء للسبيّة أو للمصاحبة) ، وقد عرفت في الفصل الأوّل أنّ الأجل المسمّى هو الحياة عند الله ، حياة تامّة سعيدة من غير فناء وزوال ، ولا شوب بمزاحمات الحياة الدنيا وآلامها وأعراضها وأغراضها ، وهي حياة الدار التي نزلت منها كما قال سبحانه :( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (٢) .

فمنبع حياة جميع هذه الموجودات ، على كثرتها وتفصيلها ، حياة تامّة غير محدودة ، ومعادها إلى ما بدئت منه .

وهذا هو الذي يعطيه كون الخِلقة بالحقّ ، فإنّ الباطل هو الفعل الذي لا ينتهي إلى غاية تكون هي المنتهى إليها والمراد بالفعل ، ومن المحال ، أن يكون المراد والغاية بالفعل نفس الفعل ، وبالخلق نفس الخلق ، إلاّ أن يكون كاملاً في أصل وجوده ، غير متدرِّج من النقص إلى الكمال ، ثابتاً غير متغيّر ، فالبراهين مطبقة على ذلك على أنّه من القضايا التي قياساتها معها .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأحقاف : الآية ٣ .

(٢) سورة الحجر : الآية ٢١ .

١٧٧

ومثل الآية السابقة قوله سبحانه :( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ) (١) وحيث لم يفرّق سبحانه في السياقين بين الموجودات الحيّة باعتقادنا وغيرها ، والعاقلة وغيرها ؛ علمنا بذلك أنّ حكم المعاد والحشر يعمّ الجميع .

ثمّ إنّه سبحانه قال في خصوص الأحياء من خليفة الأرض :( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (٢) ، وظاهر آخر الآية أنّ حشرهم إنّما هو لكونهم أُمماً أمثال الناس ، غير باطل الخلق ؛ ففيهم غاية مقصودة من الخلقة ، وهي العود فالفرق والنشر مقصود للجمع والحشر ، كما أنّ الجمع والحشر مقصود للفرق والنشر ، يعطي ذلك قوله سبحانه : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ) (٣) .

وكذلك صفاته وأسماؤه تعالى ، فاعتبِرْ إن كنت من أهله إن شاء الله .

فحشرهم إلى ربّهم نتيجة كونهم أُممّاً أمثال الناس أو كالنتيجة له ؛ ويبيّن السبب في ذلك قوله تعالى : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) الآية .

فإنّه الكتاب الحقّ الذي يقول فيه :( هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) ، وحقيقة الكتاب تُعطي أن لا تكون الاختلافات التي تجعل الدواب والطير أُمّةٍ أُمّة ، تفترق كلّ أُمّة عن غيرها بأشكال وصور وأفعال وخواصّ فيها لغواً باطلاً ، بل مؤثّراً في الغاية والمنتهى ، من دون استهلاك لها وزوال في الوسط قبل البلوغ إلى الغاية ؛ وإلاّ كان الاختلاف باطلاً وتفريطاً في الكتاب ، مخلاًّ لإتقانه .

ـــــــــــــ

(١) سورة ص : الآية ٢٧ .

(٢) سورة الأنعام : الآية ٣٨ .

(٣) سورة الحجر : الآية ٢١ .

١٧٨

فقد تحصّل أن الحيوانات الأرضيّة أُمم أمثال الناس ، بينهم ولهم ما للناس من العود إلى ربّهم والاجتماع عنده سبحانه ، وقال سبحانه أيضاً : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) (١) ، فعمّم الحكم إلى كلّ ذي روح في السموات والأرض.

ومثله قوله سبحانه :( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ) (٢) .

وقوله : (عَبْداً) الآية ، يعطي أنّ لكلّ منها عبودية بحسب نفسه ، ونُسكاً إليها يتقرّب به إلى ربّه ، وقد مرّ تفسير الفرد .

واعلم أنّ قوله :( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ) ـ على ما تفسِّره الآيات من معنى (الفرد) ـ يعطي لقوله :( وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ ) الآية ، معنىً آخر غير ما يتسابق إلى الفهم من معنى الجمع ، وقد تكرّر إطلاق الجمع والحشر على البعث في الآيات ، كقوله :( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) (٣) ، وقوله : ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) (٤) .

وبذلك يتّضح معنى قوله سبحانه :( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) (٥) ، وقوله :( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ) (٦) ، وقوله :( لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ

ـــــــــــــ

(١) سورة الشورى : الآية ٢٩ .

(٢) سورة مريم : الآيات ٩٣ ـ ٩٥ .

(٣) سورة النساء : الآية ٨٧ .

(٤) سورة التغابن : الآية ٩ .

(٥) سورة الزُّمر : الآية ٧٣ .

(٦) سورة الزُّمر : الآية ٧١ .

١٧٩

جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) (١) .

ولنرجع إلى ما كنّا فيه .

يُشير إلى بعث غير ذوي الروح والشعور قوله سبحانه :( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ) (٢) .

وضمير (كانوا) في الموضعين راجع إلى المعبودات من غير الله ، كما يدلّ عليه قوله سبحانه :( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (٣) وكُفرُهم قولهم على ما حكاه سبحانه : ( تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ) (٤) .

وبالجملة فقوله :( مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ ) (٥) إلخ ، ظاهر الدلالة على أنّ المعبودات من غير الله ، من النبات والجماد ، غير البشر والملائكة ، فهم مبعوثون ليوم القيامة ؛ بدلالة قوله :( وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء ) (٦) إلخ .

ويدلّ عليه بعينه قوله سبحانه : ( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) (٧) .

واعلم أنّ ظاهر هذه الآيات ملازمة البعث مع الحياة والعلم كما يفيده حال

ـــــــــــــ

(١) سورة الأنفال : الآية ٣٧ .

(٢) سورة الأحقاف : الآيتان ٥ و ٦ .

(٣) سورة فاطر : الآيتان ١٣ و ١٤ .

(٤) سورة القصص : الآية ٦٣ .

(٥) سورة الأحقاف : الآية ٥ .

(٦) سورة الأحقاف : الآية ٦ .

(٧) سورة النحل : الآية ٢١ .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292