الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة20%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56407 / تحميل: 7158
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

[ المقام الأسنى في تفسير الأسماء الحسنى]

الأسماء الحسنى

وسنوردها هنا بثلاث عبارات :

الاُولى : ما ذكرها الشيخ جمال الدين أحمد بن فهد(1) رحمه‌الله في عدّته ، أنّ الرضاعليه‌السلام روى عن أبيه عن آبائه عن علي(2) عليه‌السلام : أنّ لله تسعة وتسعين اسماً من دعا بها استجيب له ومن أحصاها(3) دخل الجنّة ، وهي هذه :

الله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأول ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القاهر ، العليّ ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، الباري ، الأكرم ، الظاهر ، الباطن ، الحيّ ، الحكيم ، العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحقّ ، الحسيب ، الحميد ، الحفيّ ، الربّ ، الرحمن ، الرحيم ، الذاري ، الرازق ، الرقيب ، الرؤوف ، الرائي ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، السيّد ، السبّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ،

__________________

(1) أبو العباس أحمد بن فهد الحلي ، يروي عن الشيخ أبي الحسن علي بن الخازن تلميذ الشهيد وغيره ، له عدة مصنفات ، منها : عدّة الداعي ونجاح الساعي ، في آداب الدعاء ، مشهور نافع مفيد في تهذيب النفس ، مرتّب على مقدّمة في تعريف الدعاء وستّة أبواب ، توفي سنة ( 841 ه‍ ).

الكنى والألقاب 1: 368 ، أعيان الشيعة 3: 147 ، الذريعة 15 : 228 ، معجم رجال الحديث 2 : 189.

(2) في العدة : « عن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام عن آبائه عن عليعليهم‌السلام ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لله عزّ وجلّ تسعة وتسعين اسماً من دعا الله بها استجاب له ومن أحصاها دخل الجنة ».

(3) في هامش (ر) : « قال الصدوقرحمه‌الله : معنى إحصائها هو الإحاطة بها والوقوف على معانيها ، وليس معنى الإحصاء عدّها ، قاله الشيخ جمال الدين في عدته.

ووجدتُ بخط الشيخ الزاهدرحمه‌الله : أن هذه الأسماء حجاب من كل سوء ، وهي للطاعة والمحبة وعقد الألسن ولإبطال السحر ولجلب الرزق نافع إن شاء الله تعالى. منهرحمه‌الله ».

اُنظر : التوحيد : 195 ، عدّة الداعي : 298.

٢١

العدل ، العفوّ ، الغفور ، الغنيّ ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدّوس ، القويّ ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، القاضي(4) ، المجيد ، الولي ، المنّان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصوّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضرّ ، الوتر ، النور ، والوّهاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفيّ ، الوكيل ، الوارث ، البرّ ، الباعث ، التوّاب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الديّان ، الشكور ، العظيم ، اللطيف ، الشافي(5) .

الثانية : ما ذكرها الشهيد(6) رحمه‌الله في قواعده ، وهي : الله ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الباري ، الخالق ، المصوّر ، الغفّار ، الوّهاب ، الرزّاق ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحليم ، العظيم ، العليّ ، الكبير ، الحفيظ ، الجليل ، الرقيب ، المجيب ، الحكيم ، المجيد ، الباعث ، الحميد ، المبدي ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحيّ ، القيّوم ، الماجد ، التوّاب ، المنتقم ، الشديد العقاب ، العفّو ، الرؤوف ، الوالي ، الغني ، المغني ، الفتّاح ، القابض ، الباسط ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الغفور ، الشكور ، المقيت ، الحسيب ، الواسع ، الودود ، الشهيد ، الحقّ ، الوكيل ، القويّ ، المتين ، الوليّ ، المحصي ، الواجد ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، البرّ ، ذو الجلال والإكرام ، المُقِسط ، الجامع ، المانع ، الضارّ ، النافع ، النور ، البديع ، الوارث ، الرشيد ، الصبور ، الهادي ، الباقي(7) .

__________________

(4) في هامش (ر) : « قاضي الحاجات / خ ل ».

(5) عدّة الداعي : 298 ـ 299.

(6) أبو عبدالله محمد بن مكي العاملي الجزيني ، الشهيد الأول ، روى عن الشيخ فخر الدين محمد بن العلاّمة وغيره ، يروي عنه جماعة كثيرة منهم أولاده وبنته وزوجته ، له عدّة مصنّفات ، منها : القواعد والفوائد ، كتاب مختصر مشتمل على ضوابط كلية اُصولية وفرعية يستنبط منها الأحكام الشرعية ، استشهد مظلوماً سنة ( 786 ه‍ ).

رياض العلماء 5 : 185 ، الكنى والألقاب 2 : 342 ، تنقيح المقال 3 : 191 ، الذريعة 17 : 193.

(7) القواعد والفوائد 2: 166 ـ 174.

٢٢

قالرحمه‌الله : ورد في الكتاب العزيز من(8) الأسماء الحسنى : الربّ ، والمولى ، والنصير ، والمحيط ، والفاطر ، والعلاّم ، والكافي ، وذو الطّول ، وذو المعارج(9) .

الثالثة : ما ذكرها فخر الدين محمد بن محاسن(10) رحمه‌الله في جواهره ، وهي :

الله ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الخالق ، الباري ، المصوّر ، الغفّار ، القهّار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العليّ ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الماجد ، الباعث ، الشهيد ، الحقّ ، الوكيل ، القويّ ، المتين ، الوليّ ، الحميد ، المحصي ، المبدي ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحيّ ، القيوم ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البرّ ، التوّاب ، المنتقم ، العفوّ ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المُقسِط ، الجامع ، الغنيّ ، المُغني ، المانع ، الضارّ ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور. فهذه تسعة وتسعون اسماً رواها محمد بن إسحاق(11) في المأثور.

__________________

(8) في ( القواعد ) و (ر) و (م) : « في » وما أثبتناه من (ب) وهو الأنسب.

(9) القواعد والفوائد 2 : 174 ـ 175.

(10) لم أجد من تعرّض لترجمته ، حتّى أن الشيخ العلاّمة الطهراني في الذريعة 5 : 257 حينما ذكر الجواهر ، قال : للشيخ فخر الدين محمد بن محاسن ينقل عنه الكفعمي في آخر البلد الأمين ، فالظاهر أنّه لم يجد له ترجمة أيضاً ، بل إنّما عرف كتابه واسمه من نقل الكفعمي عنه ، ومحمد بن محاسن نفسه الذي يأتي بعنوان البادرائي.

(11) يحتمل أن يكون هو : محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف بن علي القونوي الرومي ، من كبار تلاميذ الشيخ محيي الدين ابن العربي ، بينه وبين نصير الدين الطوسي مكاتبات في بعض المسائل الحكمية ، له عدّة مصنّفات ، منها : شرح الأسماء الحسنى ، مات سنة ( 673 ه‍ ).

كشف الظنون 2: 1956 ، أعلام الزركلي 6 : 30.

٢٣

ولمّا كانت كلّ واحدة من هذه العبارات الثلاث تزيد على صاحبتيها بأسماء وتنقص عنهما بأسماء ، أحببت أن أضع عبارة رابعة مشتملة على أسماء العبارات الثلاث ، مع الإشارة إلى شرح كلّ اسم منها ، من غير إيجاز مخلّ ولا إسهاب مملّ.

وسمّيت ذلك بالمقام الأسنى في تفسير الأسماء الحسنى.

فنقول وبالله التوفيق :

الله :

اسم ، علم ، مفرد ، موضوع على ذات واجب الوجود.

وقال الغزّالي(12) : الله اسم للموجود الحق ، الجامع لصفات الإلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المتفرّد بالوجود الحقيقي ، فإن كلّ موجود سواه غير مستحقّ للوجود بذاته ، وإنّما استفاد الوجود منه(13) .

وقيل : الله اسم لمن هو الخالق لهذا العالم والمدبر له.

وقال الشهيد في قواعده : الله اسم للذات لجريان النعوت عليه ، وقيل : هو اسم للذات مع جملة الصفات الإلهية ، فإذا قلنا : الله ، فمعناه الذات الموصوفة بالصفات الخاصة ، وهي صفات الكمال ونعوت الجلال.

قالرحمه‌الله : وهذا المفهوم هو الذي يعبد ويوحد وينزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد(14) .

وقد اختلف في اشتقاق هذا الاسم المقدّس على وجوه عشرة ، ذكرناها

__________________

(12) أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزّالي ، الملقّب بحجّة الإسلام الطوسي ، تفقّه على أبي المعالي الجويني ، له عدّة مصنّفات ، منها : إحياء علوم الدين ، والمقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وغيرهما ، مات سنة ( 502 ه‍ ).

المنتظم 9 : 168 ، وفيات الأعيان 4 : 216 ، الكنى والألقاب 2 : 450.

(13) المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى : 14.

(14) القواعد والفوائد 2: 166.

٢٤

على حاشية الصحيفة في دعاء زين العابدينعليه‌السلام إذا أحزنه أمر(15) .

واعلم أنّ هذا الاسم الشريف قد امتاز عن غيره من أسمائه ـ تعالى ـ الحسنى بوجوه عشرة :

أ : أنّه أشهر أسماء الله تعالى.

ب : أنّه أعلاها محلاًّ في القرآن.

ج : أنّه أعلاها محلاًّ في الدعاء.

د : أنّه جعل أمام سائر الأسماء.

ه‍ : أنّه خصّت به كلمة الإخلاص.

و : أنّه وقعت به الشهادة.

ز : أنّه علم على الذات المقدّسة ، وهو مختصّ بالمعبود الحقّ تعالى ، فلا

__________________

(15) وهي كما في حاشية المصباح : 315 نقلاً عن الفوائد الشريفة في شرح الصحيفة :

« الأول : أنّه مشتقّ من لاه الشيء إذا خفي ، قال شعر :

لاهت فما عرفت يوماً بخارجةٍ

يا ليتها خرجت حتى عرفناها

الثاني : أنّه مشتقّ من التحيّر ، لتحيّر العقول في كنه عظمته ، قال :

ببيداء تيه تأله العير وسطها

مخفقـة بالآل جرد وأملق

الثالث : أنّه مشتقّ من الغيبوبة ، لأنّه سبحانه لا تدركه الأبصار ، قال الشاعر :

لاه ربّي عن الخلائق طراً

خالق الخلق لا يُرى ويرانا

الرابع : أنّه مشتقّ من التعبّد ، قال الشاعر :

لله درّ الغانيــات المُـدَّهِ

آلهن واسترجعن من تألّهي

الخامس : أنّه مشتق من أله بالمكان إذا أقام به ، قال شعر :

ألهنا بدارٍ لا يدوم رسومها

كأن بقاها وشامٌ على اليدِ

السادس : أنّه مشتقّ من لاه يلوه بمعنى ارتفع.

السابع : أنّه مشتقّ من وَلَهَ الفصيلُ باُمّه إذا ولع بها ، كما أنّ العباد مولهون ، أي : مولعون بالتضرّع إليه تعالى.

الثامن : أنّه مشتقّ من الرجوع ، يقال : ألهت إلى فلان ، أي : فزعت إليه ورجعت ، والخلق يفزعون إليه تعالى في حوائجهم ويرجعون إليه ، وقيل للمألوه [ إليه ] إله ، كما قيل للمؤتمّ به إمام.

التاسع : أنّه مشتقّ من السكون ، وألهت إلى فلان أي : سكنت ، والمعنى أنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

العاشر : أنّه مشتقّ من الإلهيّة. وهي القدرة على الاختراع ».

٢٥

يطلق على غيره حقيقةً ولا مجازاً ، قال تعالى :( هل تَعلَمُ لهُ سَميّاً ) (16) أي : هل تعلم أحداً يسمّى الله ؟ وقيل : سميّاً أي : مثلاً وشبيهاً.

ح : أنّ هذا الاسم الشريف دالّ على الذات المقدّسة الموصوفة بجميع الكمالات ، حتى لا يشذّ به شيء ، وباقي أسمائه تعالى لا تدلّ آحادها إلاّ على آحاد المعاني ، كالقادر على القدرة والعالم على العلم. أو فعل منسوب إلى الذات ، مثل قولنا : الرحمن ، فإنّه اسم للذات مع اعتبار الرحمة ، وكذا الرحيم والعليم. والخالق : اسم للذات مع اعتبار وصف وجودي خارجي. والقدّوس : اسم للذات مع وصف سلبي ، أعني التقديس الذي هو التطهير عن النقائص. والباقي : اسم اللذات مع نسبة وإضافة ، أعني البقاء ، وهو نسبة بين الوجود والأزمنة ، إذ هو استمرار الوجود في الأزمنة. والأبديّ : هو المستمرّ في جميع الأزمنة ، فالباقي أعمّ منه. والأزلي : هو الذي قارن وجوده جميع الأزمنة الماضية المحقّقة والمقدّرة. فهذه الاعتبارات تكاد تأتي على الأسماء الحسنى بحسب الضبط(17) .

ط : أنّه اسم غير صفة ، بخلاف سائر أسمائه تعالى ، فإنها تقع صفات ، أمّا أنّه اسم غير صفة ، فلأنّك تصف ولا تصف به ، فتقول : إله واحد ، ولا تقول : شيء إله ، وأمّا وقوع ما عداه من أسمائه الحسنى صفات ، فلأنّه يقال : شيء قادر وعالم وحيّ إلى غير ذلك.

ي : أن جميع أسمائه الحسنى يتسمّى بهذا الاسم ولا يتسمّى هو بشيء منها ، فلا يقال : الله اسم من أسماء الصبور أو الرحيم أو الشكور ، ولكن يقال : الصبور اسم من أسماء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه قد قيل : إنّ هذا الاسم المقدّس هو الاسم الأعظم. قال ابن فهد في عدّته : وهذا القول قريب جداً ، لأنّ الوارد في هذا المعنى

__________________

(16) مريم 19 : 65.

(17) القواعد والفوائد 2: 166.

٢٦

كثيراً(18) .

ورأيت في كتاب الدرّ المنتظم في السرّ الأعظم ، للشيخ محمد بن طلحة بن محمد ابن الحسين(19) : أنّ هذا الاسم المقدّس يدلّ على الأسماء الحسنى كلّها التي هي تسعة وتسعون اسماً ، لأنك إذا قسمت الاسم المقدّس في علم الحروف على قسمين كان كلّ قسم ثلاثة وثلاثين ، فتضرب الثلاثة والثلاثين في حروف الاسم المقدّس بعد إسقاط المكرر وهي ثلاثة تكون عدد الأسماء الحسنى ، وذكر أمثلة اُخر في هذا المعنى تركناها اختصاراً(20) .

ورأيت في كتاب مشارق الأنوار وحقائق الأسرار ، للشيخ رجب بن محمد بن رجب الحافظ(21) : أن هذا الاسم المقدس أربعة أحرف ـ الله ـ فإذا وقفت على الأشياء عرفت أنها منه وبه وإليه وعنه ، فإذ أُخذ منه الألف بقي لله ، ولله كلّ شيء ، فإن اُخذ اللام وترك الألف بقي إله ، وهو إله كلّ شيء ، وإن اُخذ

__________________

(18) عدّة الداعي : 50.

(19) أبو سالم محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن القرشي الشافعي ، له عدّة مصنفات ، منها : الدرّ المنظم في السرّ الأعظم أو الدرّ المنظم في اسم الله الأعظم ، مات سنة ( 652 ه‍ ).

شذرات الذهب 5 : 259 ، أعلام الزركلي 6 : 175.

علماً بأنّ في (ر) و (ب) و (م) ذكر : الدرّ المنتظم وفي مصادر الترجمة : الدر المنظم ، وكذا ذكر في (ر) و (ب) : محمد بن طلحة بن محمد بن الحسين ، وفي المصادر : ابن الحسن ، فتأمّل.

(20) في حاشية (ر) : « منها : أنك إذا جمعت من الاسم المقدّس طرفيه ، وقسّمت عددهما على حروفه الأربعة ، وضربت ما يخرج القسمة فيما له من العدد في علم الحروف ، يكون عدد الأسماء الحسنى. وبيانه : أن تأخذ الألف والهاء وهما بستة ، وتقسِّمها على حروف الأربعة ، يقوم لكل حرف واحد ونصف ، فتضربة به فيما للإسم المقدّس من العدد وهو ستة وستين ، تبلغ تسعة وتسعين عدد الأسماء الحسنى. منهرحمه‌الله ».

(21) رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي الحلي المعروف بالحافظ ، من متأخّري علماء الإمامية ، كان ماهراً في أكثر العلوم ، له يد طولى في علم أسرار الحروف والأعداد ونحوها ، وقد أبدع في كتبه حيث استخرج أسامي النبي والأئمةعليهم‌السلام من الآيات ونحو ذلك من غرائب الفوائد وأسرار الحروف ، له أشعار لم يرعين الزمان مثلها في مدح أهل البيتعليهم‌السلام ، من مصنافته : مشارق أنوار اليقين في كشف حقائق أسرار أمير المؤمنين ، توفي في حدود سنة ( 813 ه‍ ).

رياض العلماء 2 : 304 ، الكُنى والألقاب 2 : 148 ، أعيان الشيعة 6 : 46.

٢٧

الألف من إله بقي له ، وله كلّ شيء ، فإن اُخذ من له اللام بقي هو ، وهو هو وحده لا شريك له ، وهو لفظ يوصل إلى ينبوع العزة ، ولفظ هو مركب من حرفين ، والهاء أصل الواو ، فهو حرف واحد يدل على الواحد الحق ، والهاء أول المخارج والواو أخرها ، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن(22) .

ولمّا كان الاسم المقدّس الأقدس أرفع أسماء الله تعالى شأناً وأعلاها مكاناً ، وكان لكمالها جمالاً ولجمالها كمالاً ، خرجنا فيه بالإسهاب عن مناسبة الكتاب ، والله الموفّق للصواب.

الرحمن الرحيم :

قال الشهيدرحمه‌الله : هما اسمان للمبالغة من رحم ، كغضبان من غضب وعليم من علم ، والرحمة لغة : رقّة القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه : الرحم ، لانعطافها على ما فيها ، وأسماء الله تعالى إنّما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي انفعال(23) (24) .

وقال صاحب العدّة : الرحمن الرحيم مشتقّان من الرحمة وهي النعمة ،

__________________

(22) مشارق الأنوار : 32 ـ 33 ، وفيه : « والقرآن له ظاهر وباطن ، ومعانيه منحصرة في أربع أقسام ، وهي أربع أحرف وعنها ظهر باقي الكلام ، وهي ( أل‍ ل‍ ه ) ، والألف واللام منه آلة التعريف ، فإذا وضعت على الأشياء عرفتها أنّها منه وله ، وإذا اُخذ منه الألف بقي لله ، ولله كل شيء ، وإذا اُخذ منه ( ل‍ ) بقي إله ، وهو إله كلّ شيء ، وإذا اُخذ منه الألف واللام بقي له ، وله كلّ شيء ، وإذا اُخذ الألف واللامان بقي هو ، وهو هو وحده لا شريك له. والعارفون يشهدون من الألف ويهيمنون من اللام ويصلون من الهاء. والألف من هذا الاسم إشارة إلى الهويّة التي لا شيء قبلها ولا بعدها وله الروح ، واللام وسطاً وهو إشارة إلى أنّ الخلق منه وبه وإليه وعنه ، وله العقل وهو الأول والآخر ، وذلك لأنّ الألف صورة واحدة في الخطّ وفي الهجاء ».

(23) القواعد والفوائد 2 : 166 ـ 167.

(24) في هامش (ر) : « وقال السيد المرتضى : ليست الرحمة عبارة عن رقّة القلب والشفقة ، وإنّما هي عبارة عن الفضل والإنعام وضروب الإحسان ، فعلى هذا يكون إطلاق لفظ الرحمة عليه تعالى حقيقة وعلى الأول مجاز. منهرحمه‌الله تعالى ».

٢٨

ومنه :( وما أرسلناك إلاّ رحمّة للعالمينّ ) (25) أي : نعمة ، ويقال للقرآن رحمة وللغيث رحمة ، أي : نعمة ، وقد يتسمّى بالرحيم غيره تعالى ولا يتسمّى بالرحمن سواه ، لأن الرحمن هو الذي يقدر على كشف الضر والبلوى ، ويقال لرقيق القلب من الخلق : رحيم ، لكثرة وجود الرحمة منه بسبب الرقة ، وأقلها الدعاء للمرحوم والتوجع له ، وليست في حقّه تعالى كذلك ، بل معناها إيجاد النعمة للمرحوم وكشف البلوى عنه ، فالحدّ الشامل أن تقول : هي التخلص من أقسام الآفات ، وإيصال الخيرات إلى أرباب الحاجات(26) .

وفي كتاب الرسالة الواضحة(27) : أنّ الرحمن الرحيم من أبنية المبالغة ، إلاّ أنّ فعلان أبلغ من فعيل ، ثم هذه المبالغة قد توجد تارة باعتبار الكمّية ، واُخرى باعتبار الكيفية :

فعلى الأول قيل : يا رحمن الدنيا ـ لأنّه يعمّ المؤمن والكافر ـ ورحيم الآخرة لأنه يخص الرحمة بالمؤمنين ، لقوله تعالى :( وكان بالمؤمنين رحيماً ) (28) .

وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ، لأنّ النعم الاُخروية كلّها جسام ، وأمّا النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة.

وعن الصادقعليه‌السلام : الرحمن اسم خاصّ بصفة عامة ، والرحيم اسم عامّ بصفة خاصة(29) .

وعن أبي عبيدة(30) : الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم الراحم ، وكرر لضرب

__________________

(25) الأنبياء 21 : 107.

(26) عدّة الداعي : 303 ـ 304 ، باختلاف.

(27) الرسالة الواضحة في تفسير سورة الفاتحة ، للمصنف الشيخ علي بن إبراهيم الكفعمي : مخطوطة.

(28) الأحزاب 33 : 43.

(29) مجمع البيان 1 : 21.

(30) أبو عبيدة معمّر بن المثنى البصري النحوي اللغوي ، أول من صنّف غريب الحديث ، وكان أبو نؤاس الشاعر يتعلّم منه ويصفه ويذمّ الأصمعي ، له عدّة مصنفات ، منها : مجاز القرآن الكريم وغريب القرآن ومعاني القرآن ، مات سنة ( 209 ه‍ ) وقيل غير ذلك.

وفيات الأعيان 5 : 235 ، الكنى والألقاب 1 : 116.

٢٩

من التأكيد(31) .

وعن السيد المرتضى(32) رحمه‌الله : أن الرحمن مشترك فيه اللغة العربية والعبرانية والسريانية ، والرحيم مختصّ بالعربية.

قال الطبرسي(33) : وإنّما قدّم الرحمن على الرحيم ، لأن الرحمن بمنزلة الاسم العلم ، من حيث أنه لا يوصف به إلاّ الله تعالى ، ولهذا جمع بينهما تعالى في قوله :( قلِ ادعوا اللهَ أو ادعوا الرحمنَ ) (34) فوجب لذلك تقديمه على الرحيم ، لأنه يطلق عليه وعلى غيره(35) .

الملك :

التامّ الملك ، الجامع لأصناف المملوكات ، قاله البادرائي في جواهره.

__________________

(31) اُنظر : مجمع البيان 1 : 20.

(32) أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ، المشهور بالسيد المرتضى ، جمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وحاز من الفضائل ما تفرّد به وتوحّد وأجمع على فضله المخالف والمؤالف ، كيف لا وقد أخذ من المجد طرفيه واكتسى بثوبيه وتردّى ببرديه ، روى عن جماعة عديدة من العامة والخاصة منهم الشيخ المفيد والحسين بن علي بن بابويه أخي الصدوق والتلعكبري ، روى عنه جماعة كثيرة من العامة والخاصة منهم : أبو يعلى سلار وأبو الصلاح الحلبي وأبو يعلى الكراجكي ومن العامة : الخطيب البغدادي والقاضي بن قدامة ، له عدّة مصنفات مشهورة ، منها الشافي في الإمامة لم يصنّف مثله والذخيرة ، توفي سنة ( 433 ه‍ ) وقيل ( 436 ه‍ ).

وفيات الأعيان 3 : 313 ، رياض العلماء 4 : 14، الكنى والألقاب 2 : 439.

(33) أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي ، من أكابر مجتهدي علمائنا ، يروي عن الشيخ أبي علي بن الشيخ الطوسي وغيره ، يروي عنه ولده الحسن وابن شهرآشوب والشيخ منتجب الدين وغيرهم ، له عدة مصنفات ، منها : مجمع البيان لعلوم القرآن ، وهو تفسير لم يعمل مثله عيّن كل سورة أنّها مكّية أو مدنية ثم يذكر مواضع الاختلاف في القراءة ثم يذكر اللغة والعربية ثم يذكر الإعراب ثم الأسباب والنزول ثم المعنى والتأويل والأحكام والقصص ثم يذكر انتظام الآيات ، توفي سنة ( 548 ه‍ ) في سبزوار وحمل نعشه إلى المشهد الرضوي ودفن في مغتسل الرضاعليه‌السلام وقبره مزار.

رياض العلماء 4 : 340 ، الكنى والألقاب 2 : 403 ، الذريعة 20 : 24.

(34) الإسراء 17 : 110.

(35) مجمع البيان 1 : 21 ، باختلاف.

٣٠

وقال الشهيد : الملك المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين ، أو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ، ويحتاج إليه كلّ موجود في ذاته وصفاته(36) .

والملكوت : ملك الله ، زيدت فيه التاء كما زيدت في رهبوت ورحموت ، من الرهبة والرحمة.

القدوس :

فعول من القدس وهو الطهارة ، فالقدّوس : الطاهر من العيوب المنزّه عن الأضداد والأنداد ، والتقديس : التطهير ، وقوله تعالى حكاية عن الملائكة :( ونحنُ نسبّحُ بحمدكَ ونقدّسُ لكَ ) (37) أي : ننسبك إلى الطهارة.

وسمّي بيت المقدس بذلك ، لأنه المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب. وقيل للجنة : حظيرة القدس ، لأنها موضع الطهارة من الأدناس والآفات التي تكون في الدنيا.

السلام :

معناه ذو السلامة ، أي : سلم في ذاته عن كل عيب ، وفي صفاته عن كل نقص وآفة تلحق المخلوقين ، والسلام مصدر وصف به تعالى للمبالغة. وقيل : معناه المسلم ، لأن السلامة تنال من قبله.

وقوله :( لهم دارُ السلام ) (38) يجوز أن تكون مضافة إليه تعالى ، ويجوز أن يكون تعالى قد سمّى الجنة سلاماً ، لأن الصائر إليها يسلم من كلّ آفة.

* * *

__________________

(36) القواعد والفوائد 2 : 167.

(37) البقرة 2 : 30.

(38) الأنعام 6 : 127.

٣١

المؤمن :

المصدّق ، لأن الإيمان في اللغة التصديق ، ويحتمل ذلك وجهان :

أ : أنّه يصدق عبادّه وعده ، ويفي لهم بما ضمنه لهم.

ب : أنّه يصدق ظنون عباده المؤمنين ولا يخيّب آمالهم ، قاله البادرائي.

وعن الصادقعليه‌السلام : سمّي تعالى مؤمناً ، لأنه يؤمن عذابه من أطاعه(39) .

وفي الصحاح(40) : الله تعالى مؤمن ، وهو : الذي آمن عباده ظلمه(41) .

المهيمن :

قال العزيزي(42) في غريبه والشهيد في قواعده : هو القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم(43) .

وقال صاحب العدّة : المهيمن : الشاهد ، ومنه قوله تعالى :( ومهيمناً عليه ) (44) أي : شاهداً ، فهو تعالى الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل ، وقيل : هو الرقيب على الشيء والحافظ له ، وقيل : هو الأمين(45) .

__________________

(39) التوحيد : 205.

(40) كتاب الصحاح لأبي نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري الفارابي ، ابن اُخت أبي إسحاق الفارابي صاحب ديوان الأدب ، له عدّة مصنّفات ، منها : هذا الكتاب ـ الصحاح ـ وهو أحسن من الجمهرة وأوقع من التهذيب وأقرب متناولاً من مجمل اللغة ، مات سنة ( 393 ه‍ ).

يتيمة الدهر 4 : 468 ، معجم الاُدباء 5 : 151، النجوم الزاهرة 4 : 207.

(41) الصحاح 5 : 2071 ، أمن.

(42) أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني العزيزي. اشتهر بكتابه غريب القرآن ، وهو على حروف المعجم صنّفه في (15) سنة ، مات سنة ( 330 ه‍ ).

أعلام الزركلي 6 : 268.

(43) غريب القرآن ـ نزهة القلوب ـ : 209 ، القواعد والفوائد 2 : 167.

(44) المائدة 5 : 48.

(45) عدّة الداعي : 304 ـ 305 ، باختلاف.

٣٢

وإلى القول الأوسط ذهب الجوهري ، فقال : المهيمن الشاهد ، وهو من آمن غيره من الخوف(46) .

قلت : إنّما كان المهيمن من آمن ، لأن أصل مهيمن مؤيمن ، فقلبت الهمزة هاء لقرب مخرجهما ، كما في هرقت الماء وأرقته ، وإيهاب وهيهات ، وإبرية وهبرية للخزاز الذي في الرأس ، وقرأ أبو السرائر الغنوي(47) : هياك نعبد وهياك نستعين(48) .

قال الشاعر :

وهياك والأمر الذي إن توسعت

موارده ضاقت عليك مصادره

العزيز :

الغالب القاهر ، أو ما يمتنع الوصول إليه ، قاله الشهيد في قواعده(49) .

وقال الشيخ علي بن يوسف بن عبد الجليل(50) في كتابه منتهى السّؤول في شرح الفصول : العزيز هو الحظير الذي يقلّ وجود مثله ، وتشتدّ الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه ، فليس العزيز المطلق إلاّ هو تعالى.

وقال صاحب العدّة : العزيز المنيع الذي لا يُغلب ، ويقال : من عزّ بزّ ،

__________________

(46) الصحاح 6 : 2217 ، همن.

(47) كذا ، ولم أجد هذا الاسم في كتب التراجم.

(48) قال الزمخشري في الكشّاف 1 : 62 : « وقرئ إياك بتخفيف الياء واياك بفتح الهمزة والتشديد وهياك بقلب الهمزة هاء ».

قال طفيل الغنوي :

فهياك والأمر الذي ان تراحبت موارده ضاقت عليك مصادره.

(49) القواعد والفوائد 2 : 167.

(50) ظهير الدين علي بن يوسف بن عبد الجليل النيلي ، عالم فاضل كامل ، من أجلة متكلمي الإمامية وفقهائهم ، يروي عن الشيخ فخر الدين ولد العلاّمة ، يروى عنه ابن فهد الحلي ، له عدة مصنفات ، منها : منتهى السّؤول في شرح الفصول ، وهو شرح على فصول خواجه نصير الدين الطوسي في اُصول الدين ، وهو شرحُ بالقول يعني قوله قوله.

رياض العلماء 4 : 293 ، الذريعة 23 : 10.

٣٣

أي : من غلب سلب ، ومنه قوله تعالى :( وعزّني في الخطابِ ) (51) أي : غلبني في محاورة الكلام ، وقد يقال العزيز للملك ، ومنه قوله تعالى :( يا أيها العزيزُ ) (52) أي : يا أيها الملك(53) .

والعزيز أيضاً : الذي لا يعادله شيء ، والذي لا مثل له ولا نظير.

الجبار :

القهار ، أو المتكبر ، أو المتسلّط ، أو الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق ، أو الذي تنفذ مشيته على سبيل الإجبار في كل أحد ولا تنفذ فيه مشية أحد. ويقال : الجبّار العالي فوق خلقه ، ويقال للنخل الذي طال وفات اليد : جبّار.

المتكبّر :

ذو الكبرياء ، وهو : الملك ، أو ما يرى الملك حقيراً بالنسبة إلى عظمته ، قاله الشهيد(54) .

وقال صاحب العدّة : المتكبّر المتعالي عن صفات الخلق ، ويقال : المتكبّر على عتاة خلقه ، وهو مأخوذ من الكبرياء ، وهم اسم التكبّر والتعظّم(55) .

الخالق :

هو المبدئ للخلق والمخترع لهم على غير مثال سبق ، قاله البادرائي في جواهره.

__________________

(51) ص 38 : 23.

(52) يوسف 12 : 78 ، 88.

(53) عدّة الداعي : 305.

(54) القواعد والفوائد 2 : 167.

(55) عدّة الداعي : 305 ، باختلاف.

٣٤

وقال الشهيد : الخالق ، المقدّر(56) .

قلت : وهو حسن ، إذ قد يراد بالخلق التقدير ، ومنه قوله تعالى :( إنّي أخلقُ لكم منَ الطينِ كهيئةِ الطيرِ ) (57) أي : اُقدّر.

البارئ :

الخالق ، والبرية : الخلق ، وبارئ البرايا أي : خالق الخلائق.

المصوّر :

الذي أنشأ خلقه على صور مختلفه ليتعارفوا بها ، قال تعالى :( وصوّركم فأحسنَ صوَركُم ) (58) .

وقال الغزّالي في تفسير أسماء الله تعالى الحسنى : قد يظنّ أنّ الخالق والبارئ والمصور ألفاظ مترادفة ، وأن الكلّ يرجع إلى الخلق والاختراع ، وليست كذلك ، بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود مفتقر إلى تقديره أولاً ، وإلى إيجاده على وفق التقدير ثانياً ، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثاً ، والله تعالى خالق من حيث أنّه مقدر ، وبارئ من حيث أنه مخترع موجد ، ومصوّر من حيث أنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب. وهذا كالبناء مثلاً ، فإنه يحتاج إلى مقدّر يقدّر ما لابدّ منه : من الخشب ، واللبن ، ومساحة الأرض ، وعدد الأبنية وطولها وعرضها ، وهذا يتولاّه المهندس فيرسمه ويصوّره ، ثم يحتاج إلى بنّاء يتولّى الأعمال التي عندها تحدث اُصول الأبنية ، ثم يحتاج إلى مزيّن ينقش ظاهره ويزيّن صورته ، فيتولاه غير البناء. هذه هي العادة في التقدير في البناء والتصوير ، وليس كذلك في أفعاله تعالى ، بل هو المقدّر والموجد والصانع ، فهو الخالق والبارئ والمصور(59) .

__________________

(56) القواعد والفوائد 2 : 167.

(57) آل عمران 3 : 49.

(58) غافر 40 : 64 ، التغابن 64 : 3.

(59) المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى : 18.

٣٥

الغفّار :

هو الذي أظهر الجميل وستر القبيح ، قاله الشهيد(60) .

وقال البادرائي : هو الذي يغفر ذنوب عباده ، وكلّما تكررت التوبة من المذنب تكررت منه تعالى المغفرة ، لقوله :( وإني لغفّارٌ لِمن تابَ ) (61) الآية. والغفر في اللغة : الستر والتغطية ، فالغفّار : الستّار لذنوب عباده.

القهّار القاهر :

بمعنى ، وهو : الذي قهر الجبابرة وقهر العباد بالموت ، غير أنّ قهّار وغفّار وجبّار ووهّاب ورزّاق وفتاح ونحو ذلك من أبنية المبالغة ، لأنّ العرب قد بنت مثال من كرر الفعل على فعّال ، ولهذا يقولون لكثير السؤال : سأّال وسأّالة.

قال :

سَأّالةٌ للفتى ما ليس في يده

ذهّابة بعقول القوم والمالي

وكذا ما بني على فعلان وفعيل كرحمن ورحيم ، إلاّ أن فعلان أبلغ من فعيل. وبنت مثال من بالغ في الأمر وكان قوياً عليه على فعول ، كصبور وشكور. وبنت مثال من فعل الشيء مرّة على فاعل ، نحو سائل وقاتل. وبنت مثال من اعتاد الفعل على مِفعال ، مثل امرأة مذكار إذا كان من عادتها أن تلد الذكور ، ومئناث إذا كان من عادتها أن تلد الإناث ، ومعقاب إذا كان من عادتها أن تلد نوبة ذكراً ونوبة اُنثى ، ورجل منعال ومفضال إذا كان ذلك من عادته.

الوهّاب :

هو من أبنية المبالغة كما مرّ آنفاً ، وهو الذي يجود بالعطايا التي لا تفنى ، وكّل من وهب شيئاً من أعراض الدنيا فهو واهب ولا يسمّى وهّاباً ، بل الوهّاب

__________________

(60) القواعد والفوائد 2 : 168.

(61) طه 20 : 82.

٣٦

من تصرّفت مواهبه في أنواع العطايا ودامت ، والمخلوقون إنّما يملكون أن يهبوا مالاً أو نوالاً في حال دون حال ، ولا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم ولا ولداً لعقيم ، قاله البادرائي.

وقال صاحب العدّة : الوّهاب الكثير الهبة ، والمفضال في العطية(62) .

وقال الشهيد : الوهّاب المعطي كل ما يحتاج إليه لكلّ من يحتاج إليه(63) .

الرزّاق الرازق :

بمعنى ، وهو : خالق الأرزقة والمرتزقة والمتكفّل بإيصالها لكلّ نفس ، من مؤمن وكافر ، غير أنّ في الرزّاق المبالغة.

الفتاح :

الحاكم بين عباده ، وفتح الحاكم بين الخصمين : إذا قضى بينهما ، ومنه :( ربّنا افتح بيننا وبينَ قومنا بالحقِ ) (64) أي : احكم.

وهو أيضاً الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده ، وهو الذي بعنايته ينفتح كل مغلق.

العليم :

العالم بالسرائر والخفيات وتفاصيل المعلومات قبل حدوثها وبعد وجودها(65) .

__________________

(62) عدّة الداعي : 311.

(63) القواعد والفوائد 2 : 68.

(64) الأعراف 7 : 89.

(65) في هامش (ر) : « والعليم مبالغة في العالم ، لأنّ قولنا : عالم ، يفيد أنّ له معلوماً ، كما أنّ قولنا : سامع ، يفيد أنّ له مسموعاً ، وإذا وصفناه بأنّه عليم أفاد أنّه متى صحّ معلوم فهو عالم به ، كما أنّ سميعاً يفيد

٣٧

القابض الباسط :

هوالذي يوسع الرزق ويقدره بحسب الحكمة.

ويحسن القران بين هذين الاسمين ونظائرهما ـ كالخافض والرافع ، والمعزّ والمذلّ ، والضارّ والنافع ، والمبدئ والمعيد ، والمحيي والمميت ، والمقدّم والمؤخّر ، والأول ، والآخر ، والظاهر والباطن ـ لأنّه أنبأ عن القدرة ، وأدلّ على الحكمة ، قال الله تعالى :( واللهُ يقبضُ ويبسطُ ) (66) فإذا ذكرت القابض مفرداً عن الباسط كنت كأنك قد قصرت الصفة على المنع والحرمان ، وإذا وصلت أحدهما بالآخر فقد جمعت بين الصفتين. فالأولى لمن وقف بحسن الأدب بين يدي الله تعالى أن لا يفرد كلّ اسم عن مقابله ، لما فيه من الإعراب عن وجه الحكمة.

الخافض الرافع :

هو الذي يخفض الكفار بالإشقاء ويرفع المؤمنين بالاسعاد. وقوله :( خافضةُ رافعةٌ ) (67) أي : تخفض أقواماً إلى النار وترفع أقواماً إلى الجنة ، يعني : القيامة.

المعزّ المذلّ :

الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممّن يشاء ، أو الذي أعزّ بالطاعة أولياءه ، فأظهرهم على أعدائه في الدنيا وأحلّهم دار الكرامة في العقبى ، وأذل أهل

__________________

أنّه متى وجد مسموع فلابدّ أن يكون سامعاً له ، والعلوم كلّها من جهته تعالى ، لأنّها لا تخلو من أن تكون ضرورية فهو الذي فعلها ، أو استدلالية فهو الذي أقام الأدلة عليها ، فلا علم لأحد إلاّ الله تعالى. منهرحمه‌الله ».

(66) البقرة 2 : 245.

(67) الواقعة 56 : 3.

٣٨

الكفر في الدنيا ، بأن ضربهم بالرق والجزية والصغار ، وفي الآخرة بالخلود في النار(68) .

السميع :

بمعنى السامع ، يسمع السّر والنجوى ، سواء عنده الجهر والخفوت والنطق والسكوت. وقد يكون السميع بمعنى القبول والإجابة ، ومنه قول المصلّي : سمع الله لمن حمده ، معناه : قبل الله حمد من حمده واستجاب له. وقيل : السميع العليم بالمسوعات ، وهي : الأصوات والحروف.

البصير :

العالم بالخفيّات ، وقيل : العالم بالمبصرات.

وفي عبارة الشهيد ،السميع : الذي لا يعزب عن إداركه مسموع خفيّ أو ظاهر ، والبصير : الذي لا يعزب عنه ما تحت الثرى ، ومرجعهما إلى العلم ، لتعاليه سبحانه عن الحاسّة والمعاني القديمة(69) .

الحَكَم :

هو الحاكم الذي سلّم له الحكم ، وسمّي الحاكم حاكماً لمنعه الناس من التظالم(70) .

__________________

(68) في هامش (ر) : « وقيل يعزّ المؤمن بتعظيمه والثناء عليه ، ويذلّ الكافر بالجزية والسبي ، وهو سبحانه وإن أفقر أولياءه وابتلاهم في الدنيا ، فإنّ ذلك ليس على سبيل الإذلال ، بل ليكرمهم بذلك في الآخرة ، ويحلّهم غاية الإغزاز والإجلال ، ذكر ذلك الكفعمي في كتابه جُنّة الأمان الواقية. منهرحمه‌الله ».

انظر : جُنّة الأمان الواقية ـ المصباح ـ : 322.

(69) القواعد والفوائد 2 : 168.

(70) في هامش (ر) : « قلت : ومن ذلك اُخذ معنى الحكمة ، لأنّها تمنع من الجهل. وحكمة الدابة ما أحاط بالحنك ، سمّيت بذلك لمنعها من الجماح ، وحكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يده

٣٩

العدل :

أي : ذو العدل ، وهو مصدر اُقيم مقام الأصل ، وحفّ به تعالى للمبالغة لكثرة عدله. والعدل : هو الذي يجوز في الحكم ، ورجل عدل وقوم عدل وامرأة عدل ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.

اللطيف :

العالم بغوامض الأشياء ، ثم يوصلها إلى المستصلح برفق دون العنف ، أو البرّ بعباده الذي يوصل إليهم ما ينتفعون به في الدارين ويهيّئ لهم أسباب مصالحهم من حيث لا يحتسبون ، قاله الشهيد في قواعده(71) .

وقيل : اللطيف فاعل اللطف ، وهو ما يقرب معه العبد من الطاعة ويبعد من المعصية ، واللطف من الله التوفيق.

وفي كتاب التوحيد(72) عن الصادقعليه‌السلام : أنّ معنى اللطيف هو :

__________________

ومنعته مما أراد ، وحكمته أيضاً إذا فوّضت إليه الحكم ، وفي حديث النخعي : حكّم اليتيم كما تحكّم ولدك ، أي : امنعه من الفساد ، وقيل : أي حكّمه في ماله إذا صلح لذلك ، وفي الحديث : إنّ في الشعر لحكمة ، أي : من الشعر كلاماً نافعاً يمنع عن الجهل والسفه وينهى عنهما ، والحكم : الحكمة ، ومنه :( وآتيناه الحكم صبيّاً [ 19 : 12 ]) أي : الحكمة ، وقوله تعالى :( فوهب لي ربيّ حكماً [ 26 : 21 ]) أي : حكمة ، والصمت : حكم وقوله تعالى عن داودعليه‌السلام :( وآتيناه الحكمة [ 38 : 20 ]) قيل : هي الزبور ، وقيل : هي كلّ كلام وافق الحق ، والمحاكمة : المخاصمة إلى الحاكم ، من مغرب المطرزي ، وغريبي الهروي وصحاح الجوهري. منهرحمه‌الله ».

اُنظر : المغرب 1 : 133 حكم ، الصحاح 5 : 1901 حكم.

(71) القواعد والفوائد 2 : 170.

(72) كتاب التوحيد لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، شيخ الحفظة ووجه الطائفة المستحفظة ، ولد بدعاء مولانا صاحب الأمر روحي له الفداء ، وصفه الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في التوقيع الخارج من الناحية المقدّسة بأنّه : فقيه خيِّر مبارك ينفع الله به ، فعّمت بركته ببركة الإمام وانتفع به الخاصّ والعامّ ، له عدّة مصنفات ، منها : هذا الكتاب ـ التوحيد ـ توفي سنة ( 381 ه‍ ) بالري ، وقبره قرب قبر عبد العظيم الحسني معروف.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الضمائر في الآيات ، فما ألطف إشارة قوله :( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) (١) .

وقد مرّ في" فصل الشهود " أنّ ظواهر الآيات تعطي سراية الحياة والعلم إلى جميع الموجودات .

واعلم أنّ ما ذكرناه من شمول البعث لغير البشر والمَلَك ، من سائر ما خلق الله تعالى في السموات والأرض وما بينهما ، هو الذي تدلّ عليه الأخبار ، إلاّ أنها متفرّقة مثل :

ما يدلّ على أنّ كلب أصحاب الكهف وناقة صالح والنِّعم التي حجّ عليها ثلاث سنين أو سبعاً تدخل الجنّة ، وأنّ الوحوش والكلاب تدخل النار تنهش المجرمين ، قال تعالى :( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) (٢) .

وما ورد أنّ الله تعالى يأخذ يوم القيامة للجماء من القرناء ، رواه في (المحاسن) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام (٣) وفي (المجمع) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

وما ورد من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حين رأى ناقة معقولة عليها جهازها ـ :(أين صاحبها ؟! مروه فليستعدّ غداً للخصومة) ، رواه في (الفقيه) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) .

وما ورد عنهمعليهم‌السلام في مانع الزكاة ، أنّه :(تنهشه كلّ ذات ناب بنابها وتطأهُ كلّ ذات ظلف بظلفها) (٦) .

وما ورد في الضحايا ، إلى غير ذلك .

واعلم أنّ الآيات غير متعرّضة لحال بعث مَن خلقه الله تعالى فيما وراء السموات والأرض ، وهم جماعة من خلق الله تعالى لا يَحدّ وجودهم حدّ ، ولا يقدِّر ذواتهم قدر ، فهم أرفع من الحدّ والقدر ، فلا يُتصوّر في حقّهم بعث وإعادة غير أصل خلقهم ، والصفات التي تبرز يوم القيامة حاصلة عندهم دائماً ، وقد ذكرناها في الفصل الرابع فالبدء والعود في حقّهم واحد ؛ ولذلك لم يرد في كلامه سبحانه ما يشعر بالبعث في حقّهم .

ـــــــــــــ

(١) سورة الشورى : الآية ٢٩ .

(٢) سورة التكوير : الآية ٥ .

(٣) المحاسن : ١ / ٦٨ ، باب الثلاثة ، الحديث ١٨ .

(٤) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٦٧٣ .

(٥) مَن لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٨٩ ، الباب ٩٣ ، الحديث ١ .

(٦) تفسير العياشي : ١ / ٢٢١ ، الحديث ١٧٧ .

١٨١

هذا ، ويلحق بهم في ذلك المخلَصون ، فقد مرّت نبذة من حالهم في تضاعيف الفصول الماضيّة ، فهم عند الله لا يحجبهم عنه حجاب مستور ، ليسوا في سماء ولا أرض ، وهم الميهمنون على الجميع ، المتوسطون بينه وبين خلقه في المبدأ والمعاد وهم المستثنون من حكم قبض ملك الموت وأعوانه ، والآمنون من فزع النفخة وصعقتها وهم غير محضرين لعرصة المحشر ، وهم السالكون في الحجاب ، الحاكمون بين الناس ولبيان أزيد من هذا من صفاتهم مقام آخر .

واعلم أنّ ما مرّ هو المستفاد من البرهان على ما تعطيه الأُصول السابقة ، فإنّ الغاية عين الفاعل بالضرورة ، فما بدأ منه شيء في وجوده ، وتعيّن من لدنه في ذاته ، لا بُدّ أنْ يكون هو المنتهي إليه وجوده .

ومن هنا يظهر أنّ كلاًّ من الجنّة والنار ذات مراتب ودرجات ، فمراتب الجنّة آخذة من تحت إلى فوق ، ومراتب النّار بالعكس من ذلك .

ومن هنا يظهر أنّ كلّ درجة عالية في الجنّة مرتبة لفاعل ذي الدرجة الدانية ولو تصوّر في النّار مثل ذلك لكان الأمر بعكسه .

ومن هنا يظهر معنى اللحوق والشفاعة ، وقد مرّ مراراً ، ويظهر معنى جمّ غفير من الآيات والروايات ، والله الهاد وهو المعين .

١٨٢

خاتمة :

وقد عزمنا فيما مرّ على تخصيص فصل مستقلّ في آخر الرسالة بالكلام في معنى المغفرة ؛ لكن ضيق المجال ، وتراكم الأشغال منعنا عن الكلام ، وحجب دون المرام ، والله سبحانه أسأل أن يوفّقني أن ألحق فصلاً بهذه الرسالة يتبيّن به ما كنّا نريده من وضع الكلام في ذلك ، وأرجوه إن يشاء ذلك فإنّه على كلّ شيء قدير .

واعلم أنّ نوع الكلام في مباحث المعاد طويل الذيل ، مبسوط الأطراف ؛ ويهديك إلى ذلك أن تتدبّر في ما ورد في كلّ من المبدأ والمعاد من الآيات القرآنيّة والبيانات الإلهية .

والذي صدّنا عن الغور في أكثر ممّا تشاهده في تضاعيف الفصول السابقة ، هو إيثار الاختصار ، على أنّ بسط المقال بأزيد ممّا رأيت غير ميسّر ولا ميسور عند الباحثين عن الحقائق ؛ ولذلك فالإشارة في هذه المطالب تغلب العبارات ، ولذلك غيّرنا أُسلوب هذه الرسالة عن سائر الرسائل المتقدّمة عليها(١) .

رسالة الولاية

العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي (طاب ثراه)

تحقيق : الشيخ علي الأسدي

مكتبة فدك

ـــــــــــــ

(١) وفي ذيل هذه الرسالة ذكر المؤلّفقدس‌سره قائلاً :

الحمد لله على الإتمام بالدوام ، والصلاة على أوليائه المقرّبين ، سيّما سيّدنا محمّد وآله والسلام .

وقع الفراغ في العشر الأُوَل من شهر جمادي الثانية من شهور سنة ألف وثلثمئة وواحد وستّين هجريّة قمريّة ، وأنا العبد " محمّد حسين الحسني الحسيني الطباطبائي " .

كُتبت في قرية شادآباد من أعمال بلدة تبريز

١٨٣

تمهيد :

هذه" رسالة في الولاية " بقلم وارث الفلسفة الإسلامية المعاصر ، العلاّمة الفقيد السيّد محمد حسين الطباطبائيقدس‌سره ، صاحب التفسير الكبير المعروف :( الميزان في تفسير القرآن ) .

وتدور فصول الرسالة حول الكمال الإنساني الذي يبلغه أولياء الله ، والدرجة الرفيعة التي يتسنّمها هؤلاء في سلّم الرُّقيّ الفكري والنفسي والعملي ويخلص المؤلّف في رسالته إلى أنّ هدف الرسالات السماوية ، يتمثّل في دفع الإنسان نحو كماله المطلوب وإيصاله إلى درجة الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون إلى درجة الإنسان المرتبط بالحقيقة المطلقة حيث تزول الجبال ولا يزول وكلّ تفاصيل التشريع إنّما تستهدف خلق المناخ الفكري والنفسي والاجتماعي اللازم لمثل هذه المسيرة التكامليّة .

وبعد ، فالرسالة مكتوبة على طريقة سلفنا الصالح (رضوان الله عليهم) في معالجة القضايا الفكريّة ، وبلغتهم وهي طريقة ولغة لا يستأنس بها المحدَثون ، ولكن يركن إليها المتعوّدون على الغوص في بحار التراث الإسلامي ، ويجدون فيها عمقاً وأصالة لا تتوفّر عادة في النصوص المسطّحة الحديثة .

نأمل من نشر هذه الرسالة أن يستفيد منها المعنيّون ، والله من وراء القصد .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أوليائه المقرّبين سيّما سيّدنا محمّد وآله الطاهرين .

" رسالة في الولاية " ، وأنّها هي الكمال الأخير الحقيقي للإنسان ، وأنّها الغرض الأخير من تشريع الشريعة الحقّة الإلهية على ما يستفاد من صريح البرهان ، ويدلُّ عليه ظواهر البيانات الدينيّة .

والكلام موضوع في فصول ، والله سبحانه المستعان :

الفصل الأوّل : في أنّ لظاهر هذا الدين باطناً ، ولصورته الحقّة حقائق

نقول : إنّ الموجودات تنقسم باعتبار إلى قسمين ، فإنّ كلّ معنى عقلناه ، إمّا أن يكون له مطابق في الخارج موجود في نفسه ، سواء كان هناك عاقل أو لم يكن ، كالجواهر الخارجيّة من الجماد والنبات والحيوان وأمثالها .

١٨٤

وإمّا أن يكون مطابقه موجوداً في الخارج بحسب ما نعقله ، غير موجود لولا التعقّل ، كالمِلك فإنّا لا نجد في مورد الملكيّة ، وراء جوهر المملوك ـ وهو الأرض مثلاً ـ وجوهر المالك ـ وهو الإنسان مثلاً ـ شيئاً آخر في الخارج يسمّى بالمِلك ، بل هو معنى قائم بالتعقّل ؛ فلولاه لا ملك ولا مالك ولا مملوك ، بل هناك إنسان وأرض فحسب .

ويسمّى القسم الأوّل بالحقيقة ، والقسم الثاني بالاعتبار .

وقد برهنّا في كتاب الاعتبارات على أنّ كلّ اعتبار فهو متقوّم بحقيقة تحتها .

ثمّ إنّا إذا تتبّعنا وتأمّلنا وجدنا جميع المعاني المربوطة بالإنسان ، والارتباطات التي بين أنفس هذه المعاني ، كالملك وسائر الاختصاصات والرئاسة والمعاشرات ومتعلّقاتها وغير ذلك ، أُموراً اعتبارية ، ومعاني وهميّة ، ألزم الإنسان باعتبارها احتياجُه الأوّلي إلى الاجتماع والتمدّن لجلب الخير والمنافع ، ودفع الشرّ والمضارّ .

فكما أنّ للنبات نظاماً طبيعيّاً في دائرة وجوده ، من سلسلة عوارض منظّمة طبيعية طارئة عليه ، يستحفظ بها جوهره بالتغذّي والنموّ وتوليد المثل ؛ فكذلك الإنسان ـ مثلاً ـ له نظام طبيعي من عوارض يستحفظ بها جوهره في أركانه ، إلاّ أنّ هذا النظام محفوظ بمعاني وهميّة ، وأُمور اعتباريّة ، بينها نظام اعتباري ، وتحتها النظام الطبيعي يعيش الإنسان بحسب الظاهر بالنظام الاعتباري ، وبحسب الباطن والحقيقة بالنظام الطبيعي ، فافهم ذلك!

وبالجملة ، فهذا النظام الاعتباري موجود في ظرف الاجتماع والتمدّن ، فحيث لا اجتماع ولا اعتبار ، وهذا بعكس النقيض .

ثمّ إنّ ما تعرّض لبيانه وشرحه الدينُ ، من المعارف المتعلّقة بالمبدأ ، ومن الأحكام والمعارف المتعلقة بما بعد هذه النشأة الدنيويّة ، كلّ ذلك بيان بلسان الاعتبار ؛ يشهد بذلك التأمّل الصادق وحيث لا ظرف اجتماع ولا تعاون في غير ظرف الأحكام ، وقد أُدّيت بلسان الاعتبار ، فهناك حقائق أُخر مبنيّة بهذا اللسان ، وكذلك مرحلة الأحكام .

وبعبارةٍ أُخرى : ما قبل هذه النشأة الاجتماعيّة من العوالم السابقة على وجود الإنسان الاجتماعي ، وما بعد نشأة الاجتماع ممّا يستقبله الإنسان من العوالم بعد الموت ، حيث لا اجتماع مدنيّاً فيها ، لا وجود لهذه المعاني الاعتباريّة فيها البتّة .

١٨٥

فالمعارف المشروحة في الدين المتعلّقة بها ، تحكي عن حقائق أُخر بلسان الاعتبار ، وكذلك مرحلة الأحكام ، فإنّ الدين الإلهي يجعل الأمور الموجودة فيما بعد هذه النشأة ، مترتّبة على مرحلة الأحكام والأعمال ، ومنوطة ومربوطة حقيقة بها ، ووجود الربط بين شيئين حقيقة ؛ يوجب اتّحادهما في نوع الوجود وسنخه ، كما برهنّا عليه في محلّه .

وحيث إنّ تلك الموجودات أُمور حقيقيّة خارجيّة ، فالنسب إنَّما هي بينها وبين الحقائق التي تحت هذه الأُمور الاعتباريّة لا أنفسها ؛ فقد ثبت أنّ لظاهر هذا الدين باطناً وهو المطلوب .

تتمّة : فيما يدلُّ على ذلك من الكتاب والسُّنّة .

نقول : إنّ من المسلّم عند عامّة مَن يرى الرجوع إلى الكتاب والسُّنّة معاً ، أنّ هناك معارف وأسراراً وعلوماً خفيّة مخفيّة عنّا ، لا يعلمها إلاّ الله عزّ اسمه ، أو مَن شاء وارتضى والكتاب الإلهي مشحون بذلك ، وكفى فيه قوله سبحانه :( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١) أي أنّ الحياة الحقيقيّة الصادقة هي الحياة الآخرة ؛ بدليل عدّه سبحانه الحياة الدنيا لعباً ولهواً ، وقصْرِه الحياة في الحياة الآخرة بقصر الأفراد ، أو على طريق قصر القلب كما يشهد به قوله سبحانه : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) (٢) .

وهذه الآية تشعر بأنّ للحياة الدنيا شيئاً آخر غير ظاهره ، وأنّه هي الآخرة لمكان الغفلة ، كما يستفاد من كلامك تقول لصاحبك : إنّك أخذت بظاهر كلامي وغفلت عن شيء آخر دلّ قولك هذا على أنّ المغفول عنه باطن الكلام ، وهو الشيء الآخر .

ويدلّ على هذا قوله سبحانه :

( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ) (٣) ، حيث يتحصّل منه أنّ ذكر الله سبحانه هو السبيل إليه ، والتولّي عنه ضلال عن سبيله ، وأنّ ذكره سبحانه لا يحصل إلاّ بالإعراض عن الحياة الدنيا ، وأنّ المعرِض عن ذكره إنّما يبلغ علمه الحياة الدنيا ، لا يتجاوزه إلى غيره الحاصل بالذكر فهناك شيء غير الحياة الدنيا ، وفي طوله ربّما بلغه العلم ، وربّما وقف دون الحياة الدنيا .

ـــــــــــــ

(١) سورة العنكبوت : الآية ٦٤ .

(٢) سورة الروم : الآية ٧ .

(٣) سورة النجم : الآيتان ٢٩ و ٣٠ .

١٨٦

هذا ، والزائد على هذا المقدار يطلب ممّا سيجيء في أواخر الفصول إن شاء الله العزيز .

ومن الأخبار في هذا الباب ، ما في (البحار) ، عن (المحاسن) ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : (إنّا معاشر الأنبياء نكلّم النّاس على قدر عقولهم) (١) .

أقول : وهذا التعبير إنّما يحسن إذا كان هناك من الأُمور ما لا يبلغه فهم السامعين من النّاس ، وهو ظاهر .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( نكلّم ) ، ولم يقل : نقول ، أو نبيّن ، أو نذكر ، ونحو ذلك ، يدلُّ على أنّ المعارف التي بيّنها الأنبياءعليهم‌السلام إنّما وقع بيانها على قدر عقول أُممهم ، ميلاً من الصعب إلى السهل ، لا أنّه اقتصر بهذا المقدار من المعارف الكثيرة إرفاقاً بالعقول ، اقتصاراً من المجموع بالبعض .

وبعبارةٍ أُخرى : التعبير ناظر إلى الكيف دون الكمّ ، فيدلّ على أنّ هذه المعارف حقيقتها التي هي عليها ، وراء هذه العقول التي تسير في المعارف بالبرهان والجدل والخطابة ، وقد بيّنها الأنبياءعليهم‌السلام بجميع طرق العقول من البرهان والجدل والوعظ كلّ البيان ، وقطعوا في شرحها كلّ طريق ممكن .

ومن هنا يعلم أنّ لها مرتبة فوق مرتبة البيان اللفظي ؛ لو نزلت إلى مرتبة البيان دفعتها العقول العادية ؛ إمّا لكونها خلاف الضرورة عندهم ، أو لكونها منافية للبيان الذي بيّنت لهم به ، وقبلته عقولهم .

ومن هنا يظهر أنّ نحو إدراك هذه المعارف بحقائقها غير نحو إدراك العقول ، وهو الإدراك الفكري ، فافهم ذلك!

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ١ / ١٠٦ ، باب ٣ ـ احتجاج الله تعالى على النّاس بالعقل ، الحديث ٤ .

١٨٧

ومنها : الخبر المستفيض المشهور :(إنّ حديثنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلاّ مَلك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان) (١) .

ومنها ـ وهو أدلّ على المقصود من سابقه ـ : ما في (البصائر) مسنداً عن أبي الصامت ، قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :(إنّ من حديثنا ما لا يحتمله مَلك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا عبد مؤمن) ، قلت : فمَن يحتمله ؟ قال :(نحن نحتمله) (٢) .

أقول : والأخبار في هذا المساق أيضاً مستفيضة ، وفي بعضها : قلت : فمَن يحتمله جعلت فداك ؟ قال :(مَن شئنا) (٣) .

وفي (البصائر) ـ أيضاً ـ عن المفضّل ، قال : قال أبو جعفرعليه‌السلام :(إنّ حديثا صعب مستصعب ، ذكوان ، أجرَد ، لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا عبد امتحن الله قلبه للإيمان أمّا الصعب فهو الذي لم يركب بعد ، وأمّا المستصعب فهو الذي يهرب منه إذا رُئِيَ ، وأمّا الذكوان فهو ذكاء المؤمنين ، وأمّا الأجرد فهو الذي لا يتعلّق به شيء من بين يديه ولا من خلفه ، وهو قول الله : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) (٤) ، فأحسن الحديث حديثنا ، لا يحتمل أحد من الخلائق أمره بكماله حتّى يحدّه ؛ لأنّه من حدّ شيئاً فهو أكبر منه ، والحمد لله على التوفيق ، والإنكار هو الكفر) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٢ / ١٨٣ ، باب ٢٦ ـ أنّ حديثهمعليهم‌السلام صعب مستصعب ، الحديث ١ أمالي الصدوق ـ المجلس الأوّل : ٥٢ ، الحديث ٦ / ٦ ، ومثله في الكافي : ١ / ٤٥٥ ، باب فيما جاء أنّ حديثهم صعب مستصعب ، الحديث ١٠٤٥ / ١ .

(٢) المصدر المتقدّم : ١٩٣ ، الحديث ٣٦ بصائر الدرجات : ٢٣ ، باب في أئمّة آل محمّدعليهم‌السلام حديثهم صعب مستصعب ، الحديث ١١ .

(٣) بحار الأنوار : ٢ / ١٩٢ ، باب أنّ حديثهمعليهم‌السلام صعب مستصعب .

(٤) سورة الزُّمر : الآية ٢٣ .

(٥) بصائر الدرجات : ٤٤ / ١٦ ، باب في أئمّة آل محمّدعليهم‌السلام حديثهم صعب مستصعب ، بحار الأنوار : ٢ / ١٩٤ ، باب ٢٦ ، الحديث ٣٩ .

١٨٨

قوله :(لا يُحتمل) إلى قوله :(حتّى يحدّه) مع ما في صدر الحديث من نفي الاحتمال ، يدلّ على أنّ حديثهمعليهم‌السلام أمر ذو مراتب ، يمكن أن يحتمل بعض مراتبه بواسطة التحديد ويشهد له تعبيره عن الحديث في رواية أبي الصامت بقولهعليه‌السلام :( من حديثنا ) ، فيكون حينئذٍ مورد هذه الرواية مع الرواية الأُولى :( لا يحتمله إلاّ ) ، مورداً واحداً لكونه مشكّكاً ذا مراتب ، ويكون أيضاً كالتعميم للنبويّ السابق :(إنّا معاشر الأنبياء نكلِّم الناس على قدر عقولهم) (١) .

هذا ، وتحديد كلّ واحد من الخلائق حديثهمعليهم‌السلام ؛ لكون ظرفه الذي به يحتمل ما يحتمل ، وهو ذاته محدوداً ، فيصير به ما يحتمله محدوداً ؛ وهو السبب في عدم إمكان الاحتمال بكماله ، فهو أمر غير محدود ، وعليه يكون خارج عن حدود الإمكان ؛ لأنّه مقامهم من الله سبحانه ، حيث لا يحدُّه حدّ ، وهو الولاية المطلقة .

وسيجيء ـ إنّ شاء الله العزيز ـ في بعض الفصول الأخيرة كلام يكون أبسط من هذا .

ومنها : أخبار أُخر تؤيّد ما مرّ ، كما عن (البصائر) مسنداً ، عن مُرازم ، قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(إنّ أمرنا هو الحقّ وحقُّ الحقّ ، وهو الظاهر وباطن الظاهر ، وباطن الباطن ، وهو السرّ وسرُّ السرّ ، وسرُّ المستسَرّ ، وسرّ مقنّع بالسرّ) (٢) .

وما في بعض الأخبار أنّ للقرآن ظهراً وبطناً ، ولبطنه بطناً ، إلى سبعة أبطن(٣) .

ـــــــــــــ

(١) تقدّم ذكره في الصفحة ٢٠٨ ، الهامش رقم ١ .

(٢) بحار الأنوار : ٢ / ٧١ ، باب ١٣ ـ النهي عن كتمان العلم والخيانة ، وجواز الكتمان عن غير أهله ، الحديث ٣٣ بصائر الدرجات : ١ / ٤٩ ، نادر من الباب في أنّ علم آل محمّدعليهم‌السلام سرّ مستتر ، الحديث ٤ ، مع اختلاف يسير .

(٣) عوالي اللآلي : ٤ / ١٥٩ ، الحديث ١٥٩ ، الجملة الثانية في الأحاديث المتعلّقة بالعلم وأهله وحامليه .

١٨٩

وما في خبر آخر أنّ ظاهره حكم ، وباطنه علم(١) .

وما في بعض أخبار الجبر والتفويض ، كما عن (التوحيد) مسنداً عن مهزم ، عن الصادقعليه‌السلام في حديث ، قال : فقلت له : فأيُّ شيء هذا أصلحك الله ؟ قال : فقلّب يده مرّتين ، أو ثلاثاً ، ثمّ قالعليه‌السلام :(لو أجبتك فيه لكفرت) (٢) .

وفي الأبيات المنسوبة إلى السجّادعليه‌السلام قوله :

ورُبَّ جوهرِ علمٍ لو أبوح به

لقيل لي : أنت ممّن يعبد الوثنا

ومن الروايات ، أخبار الظهور التي تفضي بأنّ القائم المهديعليه‌السلام بعد ظهوره ، يبثُّ أسرار الشريعة ، فيصدِّقه القرآن(٣) .

وما في (البصائر) ، مسنداً عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفرعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام ، قال : ذكرت التقيّة يوماً عند عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، فقالعليه‌السلام :(واللهِ! لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله ، وقد آخى بينهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (٤) الحديث .

وفي الخبر : أنّ أبا جعفرعليه‌السلام حدّث جابراً بأحاديث ، وقال :(لو أذعتها فعليك لعنة

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٢ / ٥٩٢ ، كتاب فضل القرآن ، الحديث ٢ .

(٢) بحار الأنوار : ٥ / ٥٣ ، باب ١ ـ نفي الظلم والجور عنه تعالى ، الحديث ٨٩ التوحيد : ٣٦٣ ، باب نفي الجبر والتفويض ، الحديث ١١ .

(٣) فمنها : ما ورد في نهج البلاغة : الخطبة ١٣٨ ، حيث قال : (فيريكم كيف عدل السيرة ، ويحيي ميّت الكتاب والسنّة).

ومنها : ما في الغيبة / النعماني : ٢٣٩ ، الحديث ٣٠ ، (تؤتون الحكمة في زمانه حتّى إنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ، وأيضاً في إلزام الناصب : / ٢٢٢ ، فقد ورد في الحديث : (منّا الإمام الذي يكون عنده الكتاب والعلم والسلاح) .

(٤) بصائر الدرجات : ٤٥ ، الحديث ٢١ ، باب في أئمّة آل محمّدعليهم‌السلام حديثهم صعب مستصعب .

١٩٠

الله والملائكة والناس أجمعين) (١) .

وما في (البصائر) أيضاً : عن المفضّل ، عن جابر ، حديث ملخّصه أنّه شكى ضيق نفسه عن تحمّلها وإخفائها بعد أبي جعفرعليه‌السلام ، إلى عبد اللهعليه‌السلام ، فأمره أن يحفر حفيرة ، ويدلي رأسه فيها ، ثمّ يحدّث بما تحمله ، ثمّ يطمّها ، فإنّ الأرض تستر عليه(٢) .

وما في (البحار) : عن (الاختصاص) و(البصائر) ، عن جابر ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، في حديث : (يا جابر ، ما سترنا عنكم أكثر ممّا أظهرنا لكم) (٣) .

أقول : ومتفرّقات الأخبار في هذه المعاني أكثر من أن تحصى ، وقد عَدُّوا جمعاً من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيت من أصحاب الأسرار ، كسلمان الفارسي ، وأُويس القرني ، وكميل بن زياد النخعي ، وميثم التمّار الكوفي ، ورُشيد الهجري ، وجابر الجُعفي (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) .

ـــــــــــــ

(١) ورد في الحديث : (إن أنت حدّثت به فعليك لعنتي ولعنة آبائي) راجع رجال الكشّي : ٢٦٥ ، الحديث ٣٣٩ ، ما ورد في جابر بن يزيد الجعفي .

(٢) لم أعثر على هذا الحديث في البصائر ، ولكن راجع بحار الأنوار : ٤٦ / ٣٤٤ ، باب ٨ ـ أحوال أصحابه وأهل زمانه من الخلفاء ، الحديث ٣٧ روضة الكافي : ١٣٥ ، الحديث ١٤٩ ، حديث الذي أضاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطائف رجال الكشّي : ٢٦٦ ، الحديث ٣٤٣ ، ما ورد في جابر بن يزيد الجعفي .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦ / ٢٣٩ ، باب ١٦ ـ معجزاته ومعالي أُموره ، الحديث ٢٣ الاختصاص : ٢٧٢ ، حديث في زيارة المؤمن لله بصائر الدرجات : ٣٩٥ ، باب في الأئمةعليهم‌السلام أنّهم أُعطوا خزائن الأرض ، الحديث ٥ .

١٩١

الفصل الثاني : في أنّه حيث لم يكن النظام نظام الاعتبار ، فكيف يجب أن يكون الأمر في نفسه ؟

وبعبارة أُخرى : هذه الأسرار الباطنة الكامنة في الشريعة من أي سنخ هي ؟

نقول : البراهين العقليّة مطبِقة على أنّ العليّة والمعلوليّة بنحو الكمال والنقص والترشّح ، كترشّح الظلّ من ذي الظلّ ، وأيضاً على أنّ النواقص من لوازم مرتبة المعلوليّة ، وعلى أنّ هذه النشأة مسبوقة الوجود بعوالم أُخر ، بنحو العليّة والمعلوليّة ، حتّى ينتهي إلى الحقّ الأوّل سبحانه .

هذا ، ويستنتج من جملتها أنّ جميع الكمالات الموجودة في هذه النشأة موجودة فيما فوقها بنحو أعلى وأشرف ؛ وأنّ النواقص التي فيها مختصّة بها غير موجودة فيما فوقها ، ولا سارية إليها البتّة وهذا إجمالٌ ، بيان تفصيله وشرحه على ما هو حقّه متعسّرٌ أو متعذّرٌ .

مثال ذلك : أنّ كمالات هذه النشأة ، كالطعام اللذيذ والشراب الهنيء والصورة الجميلة وأمثالها ، وهي من أعظم ما يستلَذُّ بها في هذه النشأة ، أوّل ما فيها أنّها غير دائمي الوجود ، وأنّ بروزها في أيام قلائل ، وهي محفوفة بآلاف من الآفات الطبيعيّة والعاهات الخارجيّة ، أو المشوّهات الممكنة التي لو طرء عليها واحد منها ، بطل جمالها .

فالاستلذاذ بها ، وكذلك نفس الاستلذاذ والمستلِذّ ، الجميع واقف بين أُلوف وأُلوف من المنافيات ، لو مال إلى واحد منها بطل وفسد الأمر .

ثمّ إنّا بعد التأمّل الوافي ، نجد أنّ جميع هذه النواقص والمنافيات راجعة إلى المادّة ، إمّا ابتداءً ، أو بالواسطة ، كالنواقص الخُلقيّة والوهميّة ، فحيث لا مادة ، لا شيء من النواقص الراجعة إليها .

فهي مقصورة على هذه النشأة ، فالنشأة التي فوق هذه النشأة معرّاة من هذه النواقص ، مبرّاة من هذه العيوب ، وإنّما هي صور بلا مواد ، ولذائذ مثاليّة بلا منافٍ البتّة .

ومرادنا من المادّة هي الجوهر الغير المحسوس الذي يقبل الانفعال ، دون الجسميّة التي هي صورة غير المادة ، فافهم ذلك .

ثمّ إذا تأمّلنا ثانياً ، وجدنا الحدود المثالية في أنفسها نواقص ، وأنّ للمحدود في نفسه مرتبة خالية عن الحدّ ؛ إذ هو خارج عن ذاته على ما بُرهن عليه في محلّه .

١٩٢

فهناك نشأة أُخرى ، يوجد فيها نفس هذه اللذائذ والكمالات بنحو بحت ، أي خالية عن الحدود ، فإنّ لذائذ الأكل والشرب والنكاح والسمع والبصر ـ مثلاً ـ في مرحلة المثال موجودة أيضاً ، ولكن لكلِّ واحد منها محلّ لا يتعدّاه فلا تجد لذّة النكاح ـ مثلاً ـ من السمع والأكل ، ولا كمال الأكل من الشرب ، وكذلك ما في هذا الفرد من الأكل في الفرد الآخر منه ، وعلى هذا القياس .

وليس ذلك كلّه إلاّ من جهة الحدود الوجوديّة بحسب ظرف الوجود ، فالنشأة التي فوق نشأة المثال الساقطة فيها الحدود ، يوجد فيها جميع هذه الكمالات واللذائذ بنحو الوحدة والجمع والكلّية والإرسال .

هذا ، وهذه كلّها معانٍ متفرّعة عن أُصول مبرهن عليها في محلّها مسلّمة عند أهلها .

هذا كلُّه بالنسبة إلى ما قبل هذه النشأة المادية وأمّا بالنسبة إلى ما بعدها ، فالكلام فيه نظير الكلام ، غير أنّ نشأة المثال في العود قبل نشأة العقل بالنسبة إلينا ، بخلاف البدو ، فإنّها بعدها فيه .

نعم ، بين البدء والعود فرق آخر ، وهو أنّ مادّة الصور المثاليّة هي النفس ، وهي التي توجد لها تلك الصور بإذن ربّها ، وحيث إنّها متوقّفة حيناً ما في نشأة المادة ومتعلّقة بها ، وهي عالم الوهم والاعتبار ، فهي فيها تأخذ ملكات وأحوالاً ، ربّما لاءمت نشأتها السابقة ، وربّما لم تلائمها فإنّ هذه النشأة شاغلة حاجبة عمّا ورائها ، فربّما استقرّت المَلَكات على ما هي عليه من الحُجب ، وذلك بالإخلاد إلى الأرض ، والغفلة عن الحقّ ، وربّما استقرّت على غير هذا الوجه بالانصراف عن زخارف هذه النشأة ، والإعراض عن عرَض هذا الأدنى ، وقصر التعلّق بها على ما تقتضيه ضرورة التعلّق بالمادّة ، وصرف الوجه إلى ما ورائها والأُنس بها .

فهذه النفس بعد الانقطاع عن المادّة ، تُشرف على الصور الملائمة لذاتها من عالم الأنوار المثالية والروحيّة ، وقد كانت ما تستأنس بها من قبل في الأيّام الخالية ، فتطلع على روح وريحان وجنّة نعيم ، وتتضاعف صورها الكمالية ولذائذها الروحية بالنسبة إلى مثال النزول والبدو .

وكذا عالم التجرّد التام بالضرورة ، من جهة ازدياد معلوماتها في نشأة المادة ، فتشاهد أنواراً وأسراراً ، وملائكة مثالية ، وأرواحاً صوريّة برزخية ، وجميع أنواع لذائذها التي تشاهدها وهي متعلّقة بالمادة في نشأتها ، من مطعوم ومشروب وملبوس ومنكوح ومسموع ومبصَر وغيرها على أهنأ ما يكون كلُّ ذلك على طريق تمثيل ما فوقها في ظرفها على نسق ما في مراتب النزول .

١٩٣

هذا ، وليس معها ألم مادي ولا وهمي ، ولا يمسّها نصب ولا لغوب ، وهذا كلّه حين كونها في عالم المثال .

وإذا كانت مَلَكاتها غير حاجبة عن الكلّيات ، أشرفت أحياناً على أنوار عالم التجرّد ووجودها ، وهي في البهاء والسناء والجمال والكمال بحيث لا يقدّر بقدر الصور ، ولا يقاس بقياس المثال ، ويتكرّر هذا الإشراف حتّى تتمكّن النفس منه تمام التمكّن ، وتأخذها مقاماً ، وترتقي درجة ، فتشرف حينئذ على منشأة الأسماء ، وهي عالم المحض من كلّ معنى ، والبحت من كلّ بهاء وسناء ، فتشاهد علْماً بحتاً ، وقدرة بحتة ، وحياة بحتة ، ومن الوجود والثبوت والبهاء والسناء والجمال والجلال والكمال والسعادة والعزّة والسرور والحبور ، من كلّ منها ، البحت المحض ، حتّى تلحق بالأسماء والصفات ، ثمّ تندمج باندماجها في الذات المتعالية ، ثمّ تغيب بغيبها ، وتفنى بفناء نفسها ، وتبقى ببقاء الله سبحانه وتعالى عن كلّ نقص ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (١) ،( إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ) (٢) . هذا إذا كانت ملكاتها مقدّسة ملائمة لعالم القدس .

وإذا كانت ملائمة لثقل هذه النشأة غير ملائمة لعالم القدس ، فينعكس كلّما تشاهده ألماً عليها ، وعذاباً من أنواعه ، كلّما أرادت أن تخرج من غمّ بواسطة أصل ذاتها ، أُعيدت فيها بواسطة رداءة ملكاتها ، وقيل لها : ذوقي عذاب الحريق .

هذا ، وليس الأمر على ما تزعمه العامّة من أنّ جنّة السعداء حديقة فقط ، وأنّ نار الأشقياء حفرة نار فقط ، بل هي نشآت تامّة وسيعة أوسع من هذه النشأة بما لا يوصف .

وقد ظهر ممّا قدّمنا أنّ بين البدء والعود فرقاً من وجهين :

أحدهما : أنّ العود أوسع من البدء ، من حيث اتّساع النفس بمعلوماتها في نشأة المادة .

وثانيهما : أنّ الطريق متشعّب في العود إلى طريقَي السعادة والشقاوة ، واللذّة والألم ، والجنّة والنّار ، بخلاف البدء وهذا لا ينافي سبق شقاوة الأشقياء وجفاف القلم الأعلى .

واعلم أنّ هذه المعاني بين ما هو ضروري ، وما أُقيم عليه البرهان في محلّه .

وممّا مرّ من البيان ، يظهر وجه ارتباط الأعمال والمجاهدات الشرعيّة بما وعده وأوعده الحقّ سبحانه بلسان أنبيائه المرسلين ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك بعد يسير .

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآية ٤٢ .

(٢) سورة العلق : الآية ٨ .

١٩٤

تتمّة : فيما يدلُّ على ما مرّ من الكتاب والسُّنّة .

نقول : إذا نظرنا نظر المتدبّر إلى خصوصيّات شريعة الإسلام ، بل جميع الملل الإلهيّة ، وجدنا أنّ المقصود الوحيد فيها ، هو صرف وجه الإنسان إلى ما وراء هذه النشأة الطبيعيّة وهذه سبيلُها ، تدعو إلى الله على بصيرة ، فهي في جميع جهاتها تروم إلى هذا المرام ، وتطوف على هذا المطاف ، بأيٍّ طريق أمكن .

ثمّ إنّ الناس من حيث درجات الانقطاع إلى الله سبحانه والإعراض عن هذه النشأة المادّية ، على ثلاث طبقات :

الطبقة الأُولى : إنسان تامّ الاستعداد ، يمكنه الانقطاع قلباً عن هذه النشأة ، مع تمام الإيقان باللازم من المعارف الإلهية ، والتخلّص إلى الحقّ سبحانه وهذا هو الذي يمكنه شهود ما وراء هذه النشأة المادّية ، والإشراف على الأنوار الإلهيّة ، كالأنبياءعليهم‌السلام ، وهذهطبقة المقرّبين .

الطبقة الثانية : إنسان تامُّ الإيقان ، غير تامّ الانقطاع ؛ من جهة ورود هيآت نفسانيّة وإذعانات قاصرة ، تُيْئسه أن يذعن بإمكان التخلّص إلى ما وراء هذه النشأة المادّية ، وهو فيها .

فهذه طبقة تعبد الله كأنّها تراه ، فهي تعبد عن صدق من غير لعب ، لكن من وراء حجاب إيماناً بالغيب ، وهم المحسنون في عملهم .

وقد سُئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الإحسان ، فقال :(أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك) (١) .

والفرق بين هذه الطبقة وسابقتها ، فرق ما بين إنّ وكأنّ .

الطبقة الثالثة : غير أهل الطبقتين الأُوليين ، من سائر الناس وعامّتهم .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٦٧ / ١٩٦ ، باب ٥٣ ـ النيّة وشرائطها ومراتبها وكمالها ـ الرابعة : من يعبده حياءً ، الحديث ٢ .

١٩٥

وهذه الطائفة ، باستثناء المعاند والمكابر الجاحد ، طائفة يمكنها الاعتقاد بالعقائد الحقّة الراجعة إلى المبدأ والمعاد ، والجريان عملاً على طبقها في الجملة لا بالجملة ؛ وذلك من جهة الإخلاد إلى الأرض وإتباع الهوى وحبّ الدنيا ، فإنّ حبّ الدنيا وزخارفها يوجب الاشتغال بها ، وكونها هي المقصود من حركات الإنسان وسكناته ، وذلك يوجب انصراف النفس إليها ، وقصر الهمّة عليها والغفلة عمّا ورائها ، وعمّا توجبه الاعتقادات الحقّة من الأحوال والأعمال ؛ وذلك يوجب ركودها ووقوفها ، أعني الاعتقادات الحقّة على حالها ، من غير تأثير لها وفعليّة للوازمها ، وجمود الأعمال والمجاهدات البدنيّة على ظاهر نفسها وأجسادها ، من غير سريان أحوالها وأحكامها إلى القلب وفعليّة لوازمها ، وهذا من الوضوح بمكان .

مثال ذلك : إنّا لو حضرنا عند مَلِك من الملوك ، وجدنا من تغيّر حالنا وسراية ذلك إلى أعمالنا البدنيّة من حضور القلب والخشوع والخضوع ما لا نجده في الصلاة البتّة ، وقد حضرنا فيها عند ربّ الملوك .

ولو أشرف على شخصنا مَلِك من الملوك ، وجدنا ما لا نجده في أنفسنا ، ونحن نعتقد أنّ الله سبحانه يرى ويسمع ، وأنّه أقرب إلينا من حبل الوريد ، ونعتمد على الأسباب العادية التي تخطئ وتصيب ، اعتماداً لا نجد شيئاً منه في أنفسنا ، ونحن نعتقد أنّ الأمر بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .

ونركن إلى وعد إنسان ، أو عمل سبب ، ما لا نركن جزءاً من ألف جزء منه إلى مواعيد الله سبحانه فيما بعد الموت والحشر والنشر ، وأمثال هذه التناقضات لا تحصى في اعتقادنا وأعمالنا ؛ وكلُّ ذلك من جهة الركون إلى الدنيا ، فإنّ انكباب النفس على المقاصد الدنيوية يوجب قوّة حصول صورها في النفس ، على أنّها متسابقة إليها ، تذهل صورة ، وتتمكّن صورة ، وتخرج أخرى آناً بعد آن وذلك يوجب ضعف صور هذه الأُصول والمعارف الحقّة ، فيضعف حينئذٍ تأثيرها بإيجاد لوازمها عند النفس ، وحبُّ الدنيا رأس كلّ خطيئة .

وهذه الطائفة لا يمكنها من الانقطاع إلى الله سبحانه أزيد من الاعتقادات الحقّة الإجماليّة ، ونفس أجساد الأعمال البدنيّة التي توجب توجّهاً ما وقصداً ما ـ في الجملة ـ إلى المبدأ سبحانه في العبادات .

١٩٦

ثمّ إنّا إذا تأمّلنا في حال هذه الطبقات الثلاث ، وجدناها تشترك في أُمور ، وتختصُّ بأُمور فما يمكن أن يوجد من أنحاء التوجّه والانقطاع في الطبقة الثالثة ، يمكن أن يوجد في الأوّليين من غير عكس ، وما يمكن أن يوجد في الثانية يوجد في الأُولى من غير عكس .

ومن هنا يتبيّن أنّ تربية الطبقات الثلاث مشتركة ومختصّة ؛ ولهذا نجد الشريعة المقدّسة الإسلاميّة تعيّن أحكاماً نظرية وعمليّة عامّة فيما لا يمكن إهماله بالنسبة إلى طبقة من الطبقات ، من الواجبات والمحرّمات .

ثمّ تؤسّس بقايا ما يتعلّق بجميع جزئيّات الأُمور وكلّياتها ، بحسب ما يناسب ذوق أهل الطبقة الثالثة ، من المستحبّ والمكروه والمباح ، ويمكَّن ذلك في قلوبهم بالوعد والوعيد ، بالجنّة والنّار ، ويحفظ ذلك بالعادة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ التكرّر أقوى برهان عند العامّة .

ثمّ هي تسلك بالنسبة إلى الطبقة الثانية بما سلكته هي بالنسبة إلى الثالثة ، مع زيادات خاصّة من الأحكام الخُلقيّة وغيرها .

وعمدة الفرق بين الطائفتين في قوّة العلم وتأثيره ، وضعف ذلك كما عرفت .

ثمّ تسلك بالنسبة إلى الطبقة الأُولى بأدقّ من مسلكه في الثانية والثالثة ، فربّ مباح أو مستحبّ أو مكروه بالنسبة إليها ، هو واجب أو محرّم بالنسبة إلى الطبقة الأُولى ، فحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، إلاّ أنّ ذلك كذلك عندهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم .

وتخصّها أيضاً بأُمور وأحكام غير موجودة في الثانية والثالثة ؛ ولا غير هذه الطبقة تكاد تفهم شيئاً من تلك المختصّات ، ولا يهتدي إلى طريق تعليمها .

وذلك كلُّه لِمَا أنّ ميِّز طبقتهم وأساسها المحبّة الإلهية دون محبّة النفس فالفرق بينها وبين الآخرين في نحو العلم والإدراك ، دون قوّته وضعفه ، وتأثيره وعدمه .

ولئن شئت أن تعقل شيئاً من ذلك في الجملة ، فعليك بالتأمّل التامّ في أطوار الاتّحاد : فللمعاشرة أحكام ، وللصداقة أحكام ، وللخلّة أحكام ، ولكلّ من المحبّة والعشق والوجد والوله وما يسمّى (فناء) ، أحكام أُخر ، وكلّ حكم مختصّ بمرتبة نفسه لا يتعدّاها إلى غيرها أبداً .

١٩٧

والمحصّل : أنّ الشرائع الإلهية ، وخاصة الشريعة الإسلامية ، تروم في جميع جزئيّات الأُمور وكلّياتها ، نحو غرضها المذكور ، وهو توجيه وجه الإنسان لله ، وصرفه إليه سبحانه وذلك بتكوين المَلَكات والأحوال المناسبة لذلك ، بواسطة الدعوة إلى الاعتقادات الحقّة ، والأعمال المولِّدة للحالات الزاكية النفسانيّة الموصلة إلى المَلَكات المقدّسة .

ويظهر ذلك تمام الظهور لمَن تتبّع تضاعيف الكتاب والسُّنّة ، فمن الواضح منها أنّ الميزان هو الإطاعة والتمرّد ، والتقرّب والتباعد ، بالنسبة إلى الحق سبحانه على اختلاف أنواع الأحكام .

ثمّ إنّ الظاهر من الشريعة أنّ ما وعده الله سبحانه في كتابه ، وبلسان رسوله ، من المقامات والكرامات وغير ذلك ، على طبق هذه الأحوال والملكات ، فلها نسبة معها ، أعني أنّ للنفس بواسطتها نسبة معها ، وتلك المقامات والمنازل هي التي بيّنتها الشريعة المقدّسة في معارف المبدأ والمعاد .

وقد مرّ في تتمّة الفصل الأوّل أنّ هذه المعارف هي التي لها الحقائق والبواطن التي هي فوق مرتبة البيان(١) ، وهي فوق تحمّل العامّة من الناس ، لا تطيقها أفهامهم .

فقد ظهر أنّ هذه الأُمور كيف هي .

ـــــــــــــ

(١) راجع : الصفحة ٢٠٨ وما بعدها من هذا الكتاب .

١٩٨

الفصل الثالث : [وسائل الاتّصال بالعالم الغيبي وطرق معرفته](١)

لا ريب عند أرباب الملل الإلهية أنّ الأنبياءعليهم‌السلام لهم اتّصال بما وراء هذه النشأة ، واطّلاع على الأُمور الباطنة على اختلاف مراتبهم .

فهل هذا موقوفٌ عليهم مقصورٌ بهم ، هبة إلهيّة ، أو أنّه ممكن في غيرهم ، غير موقوف عليهم ؟

وبعبارة أُخرى : هل هذا أمر اختصاصي بهم لا يوجد في غيرهم في هذه النشأة إلاّ بعد الموت ، أو أمر اكتسابي ؟ والثاني هو الصحيح .

نقول : وذلك لأنّ النسبة بين هذه النشأة وما ورائها ، نسبة العلّية والمعلوليّة ، والكمال والنقص ، وهي التي نسمّيها بنسبة الظاهر والباطن وحيث إنّ الظاهر مشهود بالضرورة ، وشهود الظاهر لا يخلو من شهود الباطن ؛ لكون وجوده من أطوار وجود الباطن ، ورابطاً بالنسبة إليه ، فالباطن أيضاً مشهود عند شهود الظاهر بالفعل وحيث إنّ الظاهر حدّ الباطن وتعيُّنه ، فلو أعرض الإنسان عن الحدّ بنسيانه بالتعمل والمجاهدة ، فلا بدّ من مشاهدته للباطن ، وهو المطلوب .

توضيح ذلك : إنّ تعلّق النفس بالبدن واتّحادها به ، هو الذي يوجب أن تذعن النفس بأنّها هي البدن وعينه ، وأنّ ما تشاهده من طريق الحواسّ منفصل الوجود عن نفسها ؛ لِمَا ترى من انفصاله عن البدن والوقوف على هذا الحدّ يوجب نسيانها لمرتبتها العُليا من هذه المرتبة ، وهي مرتبة المثال ، وأعلى منها غيرها .

وبنسيان كلّ مرتبة ينسى خصوصيّاتها وموجودات عالمها ، وهي مع ذلك تشاهد إنّيّتها ، وهي التي نعبّر عنها بـ (أنا) ، مشاهدة ضرورية لا تنفكّ عنها .

ثمّ بالانقطاع عن البدن لا يبقى حاجب عنها ولا مانع ، وعلى هذا فلو رجع الإنسان بالعلم النافع والعمل الصالح إلى نفسه وإنّّيّته ، فلا بدّ من مشاهدتها ومشاهدة مراتبها وموجودات عالمها من أسرار الباطن .

فقد بان أنّ من الممكن أن يقف الإنسان ، وهو في هذه النشأة ، على الحقائق المستورة الخفيّة التي تستقبله فيما بعد الموت الطبيعي في الجملة .

ـــــــــــــ

(١) ليس في الأصل وإنّما اختاره المحقّق .

١٩٩

تتمّة : [فيما يدلّ على ما تقدّم من الكتاب والسنّة] (١)

ويشهد على ذلك عمدة الآيات والأخبار التي سننقلها إن شاء الله فيما بعد ، إلاّ أنّ عمدة إنكار عامّة المنكرين لهذه السعادة متوجّهة إلى شهود الحقّ سبحانه ، فقد زعموا استحالته ؛ واستدّلوا على ذلك بأنّ وجود الحقّ سبحانه وجود مجرّد مبرَّأ عن الأعراض والجهات والأمكنة ، فيمتنع عليه تعلّق الرؤية البصريّة لاستلزامها جسماً ذا كيفيّة وجهة ووضع خاصّ .

هذا ، وتمسّك محدّثوهم بالأخبار النافية للرؤية ، وأوّلوا جميع الآيات والروايات التي تثبتها بحملها على المجاز ونحو ذلك .

وأنت خبير بأنّ دليلهم مخصوص بنفي الرؤية البصرية ، ولا يدّعيها أحد غير شرذمة من متكلّمي العامّة وظاهريِّيهم على ما ينسب إليهم والأخبار النافية ، في مقام الردّ عليهم ، كما هو ظاهر لمَن راجع مناظراتهم واحتجاجاتهمعليهم‌السلام .

بل المثبتون للرؤية والشهود إنّما يثبتون شيئاً آخر ، وهو شهود الموجود الإمكاني ـ على فقره وعدم استقلال ذاته المحض ، بتمام وجوده الإمكاني ، لا بالبصر الحسّي أو الذهن الفكري ـ وجود مبدعه الغني المحض .

وهذا معنى يثبته البراهين القاطعة ، ويشهد عليه ظواهر الكتاب والسُّنّة ، بل مقتضى البراهين استحالة انفكاك الممكن عن هذا الشهود وإنّما المطلوب العلم بالشهود ، وهو المعرفة ، لا أصل الشهود الضروري ، وهو العلم الحضوري .

ـــــــــــــ

(١) ليس في الأصل وإنّما اختاره المحقّق .

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292