الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة0%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: باقيات
تصنيف: الصفحات: 292
المشاهدات: 53720
تحميل: 6700

توضيحات:

الإنسان والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53720 / تحميل: 6700
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الضمائر في الآيات ، فما ألطف إشارة قوله :( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) (١) .

وقد مرّ في" فصل الشهود " أنّ ظواهر الآيات تعطي سراية الحياة والعلم إلى جميع الموجودات .

واعلم أنّ ما ذكرناه من شمول البعث لغير البشر والمَلَك ، من سائر ما خلق الله تعالى في السموات والأرض وما بينهما ، هو الذي تدلّ عليه الأخبار ، إلاّ أنها متفرّقة مثل :

ما يدلّ على أنّ كلب أصحاب الكهف وناقة صالح والنِّعم التي حجّ عليها ثلاث سنين أو سبعاً تدخل الجنّة ، وأنّ الوحوش والكلاب تدخل النار تنهش المجرمين ، قال تعالى :( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) (٢) .

وما ورد أنّ الله تعالى يأخذ يوم القيامة للجماء من القرناء ، رواه في (المحاسن) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام (٣) وفي (المجمع) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

وما ورد من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حين رأى ناقة معقولة عليها جهازها ـ :(أين صاحبها ؟! مروه فليستعدّ غداً للخصومة) ، رواه في (الفقيه) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) .

وما ورد عنهمعليهم‌السلام في مانع الزكاة ، أنّه :(تنهشه كلّ ذات ناب بنابها وتطأهُ كلّ ذات ظلف بظلفها) (٦) .

وما ورد في الضحايا ، إلى غير ذلك .

واعلم أنّ الآيات غير متعرّضة لحال بعث مَن خلقه الله تعالى فيما وراء السموات والأرض ، وهم جماعة من خلق الله تعالى لا يَحدّ وجودهم حدّ ، ولا يقدِّر ذواتهم قدر ، فهم أرفع من الحدّ والقدر ، فلا يُتصوّر في حقّهم بعث وإعادة غير أصل خلقهم ، والصفات التي تبرز يوم القيامة حاصلة عندهم دائماً ، وقد ذكرناها في الفصل الرابع فالبدء والعود في حقّهم واحد ؛ ولذلك لم يرد في كلامه سبحانه ما يشعر بالبعث في حقّهم .

ـــــــــــــ

(١) سورة الشورى : الآية ٢٩ .

(٢) سورة التكوير : الآية ٥ .

(٣) المحاسن : ١ / ٦٨ ، باب الثلاثة ، الحديث ١٨ .

(٤) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٦٧٣ .

(٥) مَن لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٨٩ ، الباب ٩٣ ، الحديث ١ .

(٦) تفسير العياشي : ١ / ٢٢١ ، الحديث ١٧٧ .

١٨١

هذا ، ويلحق بهم في ذلك المخلَصون ، فقد مرّت نبذة من حالهم في تضاعيف الفصول الماضيّة ، فهم عند الله لا يحجبهم عنه حجاب مستور ، ليسوا في سماء ولا أرض ، وهم الميهمنون على الجميع ، المتوسطون بينه وبين خلقه في المبدأ والمعاد وهم المستثنون من حكم قبض ملك الموت وأعوانه ، والآمنون من فزع النفخة وصعقتها وهم غير محضرين لعرصة المحشر ، وهم السالكون في الحجاب ، الحاكمون بين الناس ولبيان أزيد من هذا من صفاتهم مقام آخر .

واعلم أنّ ما مرّ هو المستفاد من البرهان على ما تعطيه الأُصول السابقة ، فإنّ الغاية عين الفاعل بالضرورة ، فما بدأ منه شيء في وجوده ، وتعيّن من لدنه في ذاته ، لا بُدّ أنْ يكون هو المنتهي إليه وجوده .

ومن هنا يظهر أنّ كلاًّ من الجنّة والنار ذات مراتب ودرجات ، فمراتب الجنّة آخذة من تحت إلى فوق ، ومراتب النّار بالعكس من ذلك .

ومن هنا يظهر أنّ كلّ درجة عالية في الجنّة مرتبة لفاعل ذي الدرجة الدانية ولو تصوّر في النّار مثل ذلك لكان الأمر بعكسه .

ومن هنا يظهر معنى اللحوق والشفاعة ، وقد مرّ مراراً ، ويظهر معنى جمّ غفير من الآيات والروايات ، والله الهاد وهو المعين .

١٨٢

خاتمة :

وقد عزمنا فيما مرّ على تخصيص فصل مستقلّ في آخر الرسالة بالكلام في معنى المغفرة ؛ لكن ضيق المجال ، وتراكم الأشغال منعنا عن الكلام ، وحجب دون المرام ، والله سبحانه أسأل أن يوفّقني أن ألحق فصلاً بهذه الرسالة يتبيّن به ما كنّا نريده من وضع الكلام في ذلك ، وأرجوه إن يشاء ذلك فإنّه على كلّ شيء قدير .

واعلم أنّ نوع الكلام في مباحث المعاد طويل الذيل ، مبسوط الأطراف ؛ ويهديك إلى ذلك أن تتدبّر في ما ورد في كلّ من المبدأ والمعاد من الآيات القرآنيّة والبيانات الإلهية .

والذي صدّنا عن الغور في أكثر ممّا تشاهده في تضاعيف الفصول السابقة ، هو إيثار الاختصار ، على أنّ بسط المقال بأزيد ممّا رأيت غير ميسّر ولا ميسور عند الباحثين عن الحقائق ؛ ولذلك فالإشارة في هذه المطالب تغلب العبارات ، ولذلك غيّرنا أُسلوب هذه الرسالة عن سائر الرسائل المتقدّمة عليها(١) .

رسالة الولاية

العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي (طاب ثراه)

تحقيق : الشيخ علي الأسدي

مكتبة فدك

ـــــــــــــ

(١) وفي ذيل هذه الرسالة ذكر المؤلّفقدس‌سره قائلاً :

الحمد لله على الإتمام بالدوام ، والصلاة على أوليائه المقرّبين ، سيّما سيّدنا محمّد وآله والسلام .

وقع الفراغ في العشر الأُوَل من شهر جمادي الثانية من شهور سنة ألف وثلثمئة وواحد وستّين هجريّة قمريّة ، وأنا العبد " محمّد حسين الحسني الحسيني الطباطبائي " .

كُتبت في قرية شادآباد من أعمال بلدة تبريز

١٨٣

تمهيد :

هذه" رسالة في الولاية " بقلم وارث الفلسفة الإسلامية المعاصر ، العلاّمة الفقيد السيّد محمد حسين الطباطبائيقدس‌سره ، صاحب التفسير الكبير المعروف :( الميزان في تفسير القرآن ) .

وتدور فصول الرسالة حول الكمال الإنساني الذي يبلغه أولياء الله ، والدرجة الرفيعة التي يتسنّمها هؤلاء في سلّم الرُّقيّ الفكري والنفسي والعملي ويخلص المؤلّف في رسالته إلى أنّ هدف الرسالات السماوية ، يتمثّل في دفع الإنسان نحو كماله المطلوب وإيصاله إلى درجة الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون إلى درجة الإنسان المرتبط بالحقيقة المطلقة حيث تزول الجبال ولا يزول وكلّ تفاصيل التشريع إنّما تستهدف خلق المناخ الفكري والنفسي والاجتماعي اللازم لمثل هذه المسيرة التكامليّة .

وبعد ، فالرسالة مكتوبة على طريقة سلفنا الصالح (رضوان الله عليهم) في معالجة القضايا الفكريّة ، وبلغتهم وهي طريقة ولغة لا يستأنس بها المحدَثون ، ولكن يركن إليها المتعوّدون على الغوص في بحار التراث الإسلامي ، ويجدون فيها عمقاً وأصالة لا تتوفّر عادة في النصوص المسطّحة الحديثة .

نأمل من نشر هذه الرسالة أن يستفيد منها المعنيّون ، والله من وراء القصد .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أوليائه المقرّبين سيّما سيّدنا محمّد وآله الطاهرين .

" رسالة في الولاية " ، وأنّها هي الكمال الأخير الحقيقي للإنسان ، وأنّها الغرض الأخير من تشريع الشريعة الحقّة الإلهية على ما يستفاد من صريح البرهان ، ويدلُّ عليه ظواهر البيانات الدينيّة .

والكلام موضوع في فصول ، والله سبحانه المستعان :

الفصل الأوّل : في أنّ لظاهر هذا الدين باطناً ، ولصورته الحقّة حقائق

نقول : إنّ الموجودات تنقسم باعتبار إلى قسمين ، فإنّ كلّ معنى عقلناه ، إمّا أن يكون له مطابق في الخارج موجود في نفسه ، سواء كان هناك عاقل أو لم يكن ، كالجواهر الخارجيّة من الجماد والنبات والحيوان وأمثالها .

١٨٤

وإمّا أن يكون مطابقه موجوداً في الخارج بحسب ما نعقله ، غير موجود لولا التعقّل ، كالمِلك فإنّا لا نجد في مورد الملكيّة ، وراء جوهر المملوك ـ وهو الأرض مثلاً ـ وجوهر المالك ـ وهو الإنسان مثلاً ـ شيئاً آخر في الخارج يسمّى بالمِلك ، بل هو معنى قائم بالتعقّل ؛ فلولاه لا ملك ولا مالك ولا مملوك ، بل هناك إنسان وأرض فحسب .

ويسمّى القسم الأوّل بالحقيقة ، والقسم الثاني بالاعتبار .

وقد برهنّا في كتاب الاعتبارات على أنّ كلّ اعتبار فهو متقوّم بحقيقة تحتها .

ثمّ إنّا إذا تتبّعنا وتأمّلنا وجدنا جميع المعاني المربوطة بالإنسان ، والارتباطات التي بين أنفس هذه المعاني ، كالملك وسائر الاختصاصات والرئاسة والمعاشرات ومتعلّقاتها وغير ذلك ، أُموراً اعتبارية ، ومعاني وهميّة ، ألزم الإنسان باعتبارها احتياجُه الأوّلي إلى الاجتماع والتمدّن لجلب الخير والمنافع ، ودفع الشرّ والمضارّ .

فكما أنّ للنبات نظاماً طبيعيّاً في دائرة وجوده ، من سلسلة عوارض منظّمة طبيعية طارئة عليه ، يستحفظ بها جوهره بالتغذّي والنموّ وتوليد المثل ؛ فكذلك الإنسان ـ مثلاً ـ له نظام طبيعي من عوارض يستحفظ بها جوهره في أركانه ، إلاّ أنّ هذا النظام محفوظ بمعاني وهميّة ، وأُمور اعتباريّة ، بينها نظام اعتباري ، وتحتها النظام الطبيعي يعيش الإنسان بحسب الظاهر بالنظام الاعتباري ، وبحسب الباطن والحقيقة بالنظام الطبيعي ، فافهم ذلك!

وبالجملة ، فهذا النظام الاعتباري موجود في ظرف الاجتماع والتمدّن ، فحيث لا اجتماع ولا اعتبار ، وهذا بعكس النقيض .

ثمّ إنّ ما تعرّض لبيانه وشرحه الدينُ ، من المعارف المتعلّقة بالمبدأ ، ومن الأحكام والمعارف المتعلقة بما بعد هذه النشأة الدنيويّة ، كلّ ذلك بيان بلسان الاعتبار ؛ يشهد بذلك التأمّل الصادق وحيث لا ظرف اجتماع ولا تعاون في غير ظرف الأحكام ، وقد أُدّيت بلسان الاعتبار ، فهناك حقائق أُخر مبنيّة بهذا اللسان ، وكذلك مرحلة الأحكام .

وبعبارةٍ أُخرى : ما قبل هذه النشأة الاجتماعيّة من العوالم السابقة على وجود الإنسان الاجتماعي ، وما بعد نشأة الاجتماع ممّا يستقبله الإنسان من العوالم بعد الموت ، حيث لا اجتماع مدنيّاً فيها ، لا وجود لهذه المعاني الاعتباريّة فيها البتّة .

١٨٥

فالمعارف المشروحة في الدين المتعلّقة بها ، تحكي عن حقائق أُخر بلسان الاعتبار ، وكذلك مرحلة الأحكام ، فإنّ الدين الإلهي يجعل الأمور الموجودة فيما بعد هذه النشأة ، مترتّبة على مرحلة الأحكام والأعمال ، ومنوطة ومربوطة حقيقة بها ، ووجود الربط بين شيئين حقيقة ؛ يوجب اتّحادهما في نوع الوجود وسنخه ، كما برهنّا عليه في محلّه .

وحيث إنّ تلك الموجودات أُمور حقيقيّة خارجيّة ، فالنسب إنَّما هي بينها وبين الحقائق التي تحت هذه الأُمور الاعتباريّة لا أنفسها ؛ فقد ثبت أنّ لظاهر هذا الدين باطناً وهو المطلوب .

تتمّة : فيما يدلُّ على ذلك من الكتاب والسُّنّة .

نقول : إنّ من المسلّم عند عامّة مَن يرى الرجوع إلى الكتاب والسُّنّة معاً ، أنّ هناك معارف وأسراراً وعلوماً خفيّة مخفيّة عنّا ، لا يعلمها إلاّ الله عزّ اسمه ، أو مَن شاء وارتضى والكتاب الإلهي مشحون بذلك ، وكفى فيه قوله سبحانه :( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١) أي أنّ الحياة الحقيقيّة الصادقة هي الحياة الآخرة ؛ بدليل عدّه سبحانه الحياة الدنيا لعباً ولهواً ، وقصْرِه الحياة في الحياة الآخرة بقصر الأفراد ، أو على طريق قصر القلب كما يشهد به قوله سبحانه : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) (٢) .

وهذه الآية تشعر بأنّ للحياة الدنيا شيئاً آخر غير ظاهره ، وأنّه هي الآخرة لمكان الغفلة ، كما يستفاد من كلامك تقول لصاحبك : إنّك أخذت بظاهر كلامي وغفلت عن شيء آخر دلّ قولك هذا على أنّ المغفول عنه باطن الكلام ، وهو الشيء الآخر .

ويدلّ على هذا قوله سبحانه :

( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ) (٣) ، حيث يتحصّل منه أنّ ذكر الله سبحانه هو السبيل إليه ، والتولّي عنه ضلال عن سبيله ، وأنّ ذكره سبحانه لا يحصل إلاّ بالإعراض عن الحياة الدنيا ، وأنّ المعرِض عن ذكره إنّما يبلغ علمه الحياة الدنيا ، لا يتجاوزه إلى غيره الحاصل بالذكر فهناك شيء غير الحياة الدنيا ، وفي طوله ربّما بلغه العلم ، وربّما وقف دون الحياة الدنيا .

ـــــــــــــ

(١) سورة العنكبوت : الآية ٦٤ .

(٢) سورة الروم : الآية ٧ .

(٣) سورة النجم : الآيتان ٢٩ و ٣٠ .

١٨٦

هذا ، والزائد على هذا المقدار يطلب ممّا سيجيء في أواخر الفصول إن شاء الله العزيز .

ومن الأخبار في هذا الباب ، ما في (البحار) ، عن (المحاسن) ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : (إنّا معاشر الأنبياء نكلّم النّاس على قدر عقولهم) (١) .

أقول : وهذا التعبير إنّما يحسن إذا كان هناك من الأُمور ما لا يبلغه فهم السامعين من النّاس ، وهو ظاهر .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( نكلّم ) ، ولم يقل : نقول ، أو نبيّن ، أو نذكر ، ونحو ذلك ، يدلُّ على أنّ المعارف التي بيّنها الأنبياءعليهم‌السلام إنّما وقع بيانها على قدر عقول أُممهم ، ميلاً من الصعب إلى السهل ، لا أنّه اقتصر بهذا المقدار من المعارف الكثيرة إرفاقاً بالعقول ، اقتصاراً من المجموع بالبعض .

وبعبارةٍ أُخرى : التعبير ناظر إلى الكيف دون الكمّ ، فيدلّ على أنّ هذه المعارف حقيقتها التي هي عليها ، وراء هذه العقول التي تسير في المعارف بالبرهان والجدل والخطابة ، وقد بيّنها الأنبياءعليهم‌السلام بجميع طرق العقول من البرهان والجدل والوعظ كلّ البيان ، وقطعوا في شرحها كلّ طريق ممكن .

ومن هنا يعلم أنّ لها مرتبة فوق مرتبة البيان اللفظي ؛ لو نزلت إلى مرتبة البيان دفعتها العقول العادية ؛ إمّا لكونها خلاف الضرورة عندهم ، أو لكونها منافية للبيان الذي بيّنت لهم به ، وقبلته عقولهم .

ومن هنا يظهر أنّ نحو إدراك هذه المعارف بحقائقها غير نحو إدراك العقول ، وهو الإدراك الفكري ، فافهم ذلك!

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ١ / ١٠٦ ، باب ٣ ـ احتجاج الله تعالى على النّاس بالعقل ، الحديث ٤ .

١٨٧

ومنها : الخبر المستفيض المشهور :(إنّ حديثنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلاّ مَلك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان) (١) .

ومنها ـ وهو أدلّ على المقصود من سابقه ـ : ما في (البصائر) مسنداً عن أبي الصامت ، قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :(إنّ من حديثنا ما لا يحتمله مَلك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا عبد مؤمن) ، قلت : فمَن يحتمله ؟ قال :(نحن نحتمله) (٢) .

أقول : والأخبار في هذا المساق أيضاً مستفيضة ، وفي بعضها : قلت : فمَن يحتمله جعلت فداك ؟ قال :(مَن شئنا) (٣) .

وفي (البصائر) ـ أيضاً ـ عن المفضّل ، قال : قال أبو جعفرعليه‌السلام :(إنّ حديثا صعب مستصعب ، ذكوان ، أجرَد ، لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا عبد امتحن الله قلبه للإيمان أمّا الصعب فهو الذي لم يركب بعد ، وأمّا المستصعب فهو الذي يهرب منه إذا رُئِيَ ، وأمّا الذكوان فهو ذكاء المؤمنين ، وأمّا الأجرد فهو الذي لا يتعلّق به شيء من بين يديه ولا من خلفه ، وهو قول الله : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) (٤) ، فأحسن الحديث حديثنا ، لا يحتمل أحد من الخلائق أمره بكماله حتّى يحدّه ؛ لأنّه من حدّ شيئاً فهو أكبر منه ، والحمد لله على التوفيق ، والإنكار هو الكفر) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٢ / ١٨٣ ، باب ٢٦ ـ أنّ حديثهمعليهم‌السلام صعب مستصعب ، الحديث ١ أمالي الصدوق ـ المجلس الأوّل : ٥٢ ، الحديث ٦ / ٦ ، ومثله في الكافي : ١ / ٤٥٥ ، باب فيما جاء أنّ حديثهم صعب مستصعب ، الحديث ١٠٤٥ / ١ .

(٢) المصدر المتقدّم : ١٩٣ ، الحديث ٣٦ بصائر الدرجات : ٢٣ ، باب في أئمّة آل محمّدعليهم‌السلام حديثهم صعب مستصعب ، الحديث ١١ .

(٣) بحار الأنوار : ٢ / ١٩٢ ، باب أنّ حديثهمعليهم‌السلام صعب مستصعب .

(٤) سورة الزُّمر : الآية ٢٣ .

(٥) بصائر الدرجات : ٤٤ / ١٦ ، باب في أئمّة آل محمّدعليهم‌السلام حديثهم صعب مستصعب ، بحار الأنوار : ٢ / ١٩٤ ، باب ٢٦ ، الحديث ٣٩ .

١٨٨

قوله :(لا يُحتمل) إلى قوله :(حتّى يحدّه) مع ما في صدر الحديث من نفي الاحتمال ، يدلّ على أنّ حديثهمعليهم‌السلام أمر ذو مراتب ، يمكن أن يحتمل بعض مراتبه بواسطة التحديد ويشهد له تعبيره عن الحديث في رواية أبي الصامت بقولهعليه‌السلام :( من حديثنا ) ، فيكون حينئذٍ مورد هذه الرواية مع الرواية الأُولى :( لا يحتمله إلاّ ) ، مورداً واحداً لكونه مشكّكاً ذا مراتب ، ويكون أيضاً كالتعميم للنبويّ السابق :(إنّا معاشر الأنبياء نكلِّم الناس على قدر عقولهم) (١) .

هذا ، وتحديد كلّ واحد من الخلائق حديثهمعليهم‌السلام ؛ لكون ظرفه الذي به يحتمل ما يحتمل ، وهو ذاته محدوداً ، فيصير به ما يحتمله محدوداً ؛ وهو السبب في عدم إمكان الاحتمال بكماله ، فهو أمر غير محدود ، وعليه يكون خارج عن حدود الإمكان ؛ لأنّه مقامهم من الله سبحانه ، حيث لا يحدُّه حدّ ، وهو الولاية المطلقة .

وسيجيء ـ إنّ شاء الله العزيز ـ في بعض الفصول الأخيرة كلام يكون أبسط من هذا .

ومنها : أخبار أُخر تؤيّد ما مرّ ، كما عن (البصائر) مسنداً ، عن مُرازم ، قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(إنّ أمرنا هو الحقّ وحقُّ الحقّ ، وهو الظاهر وباطن الظاهر ، وباطن الباطن ، وهو السرّ وسرُّ السرّ ، وسرُّ المستسَرّ ، وسرّ مقنّع بالسرّ) (٢) .

وما في بعض الأخبار أنّ للقرآن ظهراً وبطناً ، ولبطنه بطناً ، إلى سبعة أبطن(٣) .

ـــــــــــــ

(١) تقدّم ذكره في الصفحة ٢٠٨ ، الهامش رقم ١ .

(٢) بحار الأنوار : ٢ / ٧١ ، باب ١٣ ـ النهي عن كتمان العلم والخيانة ، وجواز الكتمان عن غير أهله ، الحديث ٣٣ بصائر الدرجات : ١ / ٤٩ ، نادر من الباب في أنّ علم آل محمّدعليهم‌السلام سرّ مستتر ، الحديث ٤ ، مع اختلاف يسير .

(٣) عوالي اللآلي : ٤ / ١٥٩ ، الحديث ١٥٩ ، الجملة الثانية في الأحاديث المتعلّقة بالعلم وأهله وحامليه .

١٨٩

وما في خبر آخر أنّ ظاهره حكم ، وباطنه علم(١) .

وما في بعض أخبار الجبر والتفويض ، كما عن (التوحيد) مسنداً عن مهزم ، عن الصادقعليه‌السلام في حديث ، قال : فقلت له : فأيُّ شيء هذا أصلحك الله ؟ قال : فقلّب يده مرّتين ، أو ثلاثاً ، ثمّ قالعليه‌السلام :(لو أجبتك فيه لكفرت) (٢) .

وفي الأبيات المنسوبة إلى السجّادعليه‌السلام قوله :

ورُبَّ جوهرِ علمٍ لو أبوح به

لقيل لي : أنت ممّن يعبد الوثنا

ومن الروايات ، أخبار الظهور التي تفضي بأنّ القائم المهديعليه‌السلام بعد ظهوره ، يبثُّ أسرار الشريعة ، فيصدِّقه القرآن(٣) .

وما في (البصائر) ، مسنداً عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفرعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام ، قال : ذكرت التقيّة يوماً عند عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، فقالعليه‌السلام :(واللهِ! لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله ، وقد آخى بينهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (٤) الحديث .

وفي الخبر : أنّ أبا جعفرعليه‌السلام حدّث جابراً بأحاديث ، وقال :(لو أذعتها فعليك لعنة

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٢ / ٥٩٢ ، كتاب فضل القرآن ، الحديث ٢ .

(٢) بحار الأنوار : ٥ / ٥٣ ، باب ١ ـ نفي الظلم والجور عنه تعالى ، الحديث ٨٩ التوحيد : ٣٦٣ ، باب نفي الجبر والتفويض ، الحديث ١١ .

(٣) فمنها : ما ورد في نهج البلاغة : الخطبة ١٣٨ ، حيث قال : (فيريكم كيف عدل السيرة ، ويحيي ميّت الكتاب والسنّة).

ومنها : ما في الغيبة / النعماني : ٢٣٩ ، الحديث ٣٠ ، (تؤتون الحكمة في زمانه حتّى إنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ، وأيضاً في إلزام الناصب : / ٢٢٢ ، فقد ورد في الحديث : (منّا الإمام الذي يكون عنده الكتاب والعلم والسلاح) .

(٤) بصائر الدرجات : ٤٥ ، الحديث ٢١ ، باب في أئمّة آل محمّدعليهم‌السلام حديثهم صعب مستصعب .

١٩٠

الله والملائكة والناس أجمعين) (١) .

وما في (البصائر) أيضاً : عن المفضّل ، عن جابر ، حديث ملخّصه أنّه شكى ضيق نفسه عن تحمّلها وإخفائها بعد أبي جعفرعليه‌السلام ، إلى عبد اللهعليه‌السلام ، فأمره أن يحفر حفيرة ، ويدلي رأسه فيها ، ثمّ يحدّث بما تحمله ، ثمّ يطمّها ، فإنّ الأرض تستر عليه(٢) .

وما في (البحار) : عن (الاختصاص) و(البصائر) ، عن جابر ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، في حديث : (يا جابر ، ما سترنا عنكم أكثر ممّا أظهرنا لكم) (٣) .

أقول : ومتفرّقات الأخبار في هذه المعاني أكثر من أن تحصى ، وقد عَدُّوا جمعاً من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيت من أصحاب الأسرار ، كسلمان الفارسي ، وأُويس القرني ، وكميل بن زياد النخعي ، وميثم التمّار الكوفي ، ورُشيد الهجري ، وجابر الجُعفي (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) .

ـــــــــــــ

(١) ورد في الحديث : (إن أنت حدّثت به فعليك لعنتي ولعنة آبائي) راجع رجال الكشّي : ٢٦٥ ، الحديث ٣٣٩ ، ما ورد في جابر بن يزيد الجعفي .

(٢) لم أعثر على هذا الحديث في البصائر ، ولكن راجع بحار الأنوار : ٤٦ / ٣٤٤ ، باب ٨ ـ أحوال أصحابه وأهل زمانه من الخلفاء ، الحديث ٣٧ روضة الكافي : ١٣٥ ، الحديث ١٤٩ ، حديث الذي أضاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطائف رجال الكشّي : ٢٦٦ ، الحديث ٣٤٣ ، ما ورد في جابر بن يزيد الجعفي .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦ / ٢٣٩ ، باب ١٦ ـ معجزاته ومعالي أُموره ، الحديث ٢٣ الاختصاص : ٢٧٢ ، حديث في زيارة المؤمن لله بصائر الدرجات : ٣٩٥ ، باب في الأئمةعليهم‌السلام أنّهم أُعطوا خزائن الأرض ، الحديث ٥ .

١٩١

الفصل الثاني : في أنّه حيث لم يكن النظام نظام الاعتبار ، فكيف يجب أن يكون الأمر في نفسه ؟

وبعبارة أُخرى : هذه الأسرار الباطنة الكامنة في الشريعة من أي سنخ هي ؟

نقول : البراهين العقليّة مطبِقة على أنّ العليّة والمعلوليّة بنحو الكمال والنقص والترشّح ، كترشّح الظلّ من ذي الظلّ ، وأيضاً على أنّ النواقص من لوازم مرتبة المعلوليّة ، وعلى أنّ هذه النشأة مسبوقة الوجود بعوالم أُخر ، بنحو العليّة والمعلوليّة ، حتّى ينتهي إلى الحقّ الأوّل سبحانه .

هذا ، ويستنتج من جملتها أنّ جميع الكمالات الموجودة في هذه النشأة موجودة فيما فوقها بنحو أعلى وأشرف ؛ وأنّ النواقص التي فيها مختصّة بها غير موجودة فيما فوقها ، ولا سارية إليها البتّة وهذا إجمالٌ ، بيان تفصيله وشرحه على ما هو حقّه متعسّرٌ أو متعذّرٌ .

مثال ذلك : أنّ كمالات هذه النشأة ، كالطعام اللذيذ والشراب الهنيء والصورة الجميلة وأمثالها ، وهي من أعظم ما يستلَذُّ بها في هذه النشأة ، أوّل ما فيها أنّها غير دائمي الوجود ، وأنّ بروزها في أيام قلائل ، وهي محفوفة بآلاف من الآفات الطبيعيّة والعاهات الخارجيّة ، أو المشوّهات الممكنة التي لو طرء عليها واحد منها ، بطل جمالها .

فالاستلذاذ بها ، وكذلك نفس الاستلذاذ والمستلِذّ ، الجميع واقف بين أُلوف وأُلوف من المنافيات ، لو مال إلى واحد منها بطل وفسد الأمر .

ثمّ إنّا بعد التأمّل الوافي ، نجد أنّ جميع هذه النواقص والمنافيات راجعة إلى المادّة ، إمّا ابتداءً ، أو بالواسطة ، كالنواقص الخُلقيّة والوهميّة ، فحيث لا مادة ، لا شيء من النواقص الراجعة إليها .

فهي مقصورة على هذه النشأة ، فالنشأة التي فوق هذه النشأة معرّاة من هذه النواقص ، مبرّاة من هذه العيوب ، وإنّما هي صور بلا مواد ، ولذائذ مثاليّة بلا منافٍ البتّة .

ومرادنا من المادّة هي الجوهر الغير المحسوس الذي يقبل الانفعال ، دون الجسميّة التي هي صورة غير المادة ، فافهم ذلك .

ثمّ إذا تأمّلنا ثانياً ، وجدنا الحدود المثالية في أنفسها نواقص ، وأنّ للمحدود في نفسه مرتبة خالية عن الحدّ ؛ إذ هو خارج عن ذاته على ما بُرهن عليه في محلّه .

١٩٢

فهناك نشأة أُخرى ، يوجد فيها نفس هذه اللذائذ والكمالات بنحو بحت ، أي خالية عن الحدود ، فإنّ لذائذ الأكل والشرب والنكاح والسمع والبصر ـ مثلاً ـ في مرحلة المثال موجودة أيضاً ، ولكن لكلِّ واحد منها محلّ لا يتعدّاه فلا تجد لذّة النكاح ـ مثلاً ـ من السمع والأكل ، ولا كمال الأكل من الشرب ، وكذلك ما في هذا الفرد من الأكل في الفرد الآخر منه ، وعلى هذا القياس .

وليس ذلك كلّه إلاّ من جهة الحدود الوجوديّة بحسب ظرف الوجود ، فالنشأة التي فوق نشأة المثال الساقطة فيها الحدود ، يوجد فيها جميع هذه الكمالات واللذائذ بنحو الوحدة والجمع والكلّية والإرسال .

هذا ، وهذه كلّها معانٍ متفرّعة عن أُصول مبرهن عليها في محلّها مسلّمة عند أهلها .

هذا كلُّه بالنسبة إلى ما قبل هذه النشأة المادية وأمّا بالنسبة إلى ما بعدها ، فالكلام فيه نظير الكلام ، غير أنّ نشأة المثال في العود قبل نشأة العقل بالنسبة إلينا ، بخلاف البدو ، فإنّها بعدها فيه .

نعم ، بين البدء والعود فرق آخر ، وهو أنّ مادّة الصور المثاليّة هي النفس ، وهي التي توجد لها تلك الصور بإذن ربّها ، وحيث إنّها متوقّفة حيناً ما في نشأة المادة ومتعلّقة بها ، وهي عالم الوهم والاعتبار ، فهي فيها تأخذ ملكات وأحوالاً ، ربّما لاءمت نشأتها السابقة ، وربّما لم تلائمها فإنّ هذه النشأة شاغلة حاجبة عمّا ورائها ، فربّما استقرّت المَلَكات على ما هي عليه من الحُجب ، وذلك بالإخلاد إلى الأرض ، والغفلة عن الحقّ ، وربّما استقرّت على غير هذا الوجه بالانصراف عن زخارف هذه النشأة ، والإعراض عن عرَض هذا الأدنى ، وقصر التعلّق بها على ما تقتضيه ضرورة التعلّق بالمادّة ، وصرف الوجه إلى ما ورائها والأُنس بها .

فهذه النفس بعد الانقطاع عن المادّة ، تُشرف على الصور الملائمة لذاتها من عالم الأنوار المثالية والروحيّة ، وقد كانت ما تستأنس بها من قبل في الأيّام الخالية ، فتطلع على روح وريحان وجنّة نعيم ، وتتضاعف صورها الكمالية ولذائذها الروحية بالنسبة إلى مثال النزول والبدو .

وكذا عالم التجرّد التام بالضرورة ، من جهة ازدياد معلوماتها في نشأة المادة ، فتشاهد أنواراً وأسراراً ، وملائكة مثالية ، وأرواحاً صوريّة برزخية ، وجميع أنواع لذائذها التي تشاهدها وهي متعلّقة بالمادة في نشأتها ، من مطعوم ومشروب وملبوس ومنكوح ومسموع ومبصَر وغيرها على أهنأ ما يكون كلُّ ذلك على طريق تمثيل ما فوقها في ظرفها على نسق ما في مراتب النزول .

١٩٣

هذا ، وليس معها ألم مادي ولا وهمي ، ولا يمسّها نصب ولا لغوب ، وهذا كلّه حين كونها في عالم المثال .

وإذا كانت مَلَكاتها غير حاجبة عن الكلّيات ، أشرفت أحياناً على أنوار عالم التجرّد ووجودها ، وهي في البهاء والسناء والجمال والكمال بحيث لا يقدّر بقدر الصور ، ولا يقاس بقياس المثال ، ويتكرّر هذا الإشراف حتّى تتمكّن النفس منه تمام التمكّن ، وتأخذها مقاماً ، وترتقي درجة ، فتشرف حينئذ على منشأة الأسماء ، وهي عالم المحض من كلّ معنى ، والبحت من كلّ بهاء وسناء ، فتشاهد علْماً بحتاً ، وقدرة بحتة ، وحياة بحتة ، ومن الوجود والثبوت والبهاء والسناء والجمال والجلال والكمال والسعادة والعزّة والسرور والحبور ، من كلّ منها ، البحت المحض ، حتّى تلحق بالأسماء والصفات ، ثمّ تندمج باندماجها في الذات المتعالية ، ثمّ تغيب بغيبها ، وتفنى بفناء نفسها ، وتبقى ببقاء الله سبحانه وتعالى عن كلّ نقص ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (١) ،( إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ) (٢) . هذا إذا كانت ملكاتها مقدّسة ملائمة لعالم القدس .

وإذا كانت ملائمة لثقل هذه النشأة غير ملائمة لعالم القدس ، فينعكس كلّما تشاهده ألماً عليها ، وعذاباً من أنواعه ، كلّما أرادت أن تخرج من غمّ بواسطة أصل ذاتها ، أُعيدت فيها بواسطة رداءة ملكاتها ، وقيل لها : ذوقي عذاب الحريق .

هذا ، وليس الأمر على ما تزعمه العامّة من أنّ جنّة السعداء حديقة فقط ، وأنّ نار الأشقياء حفرة نار فقط ، بل هي نشآت تامّة وسيعة أوسع من هذه النشأة بما لا يوصف .

وقد ظهر ممّا قدّمنا أنّ بين البدء والعود فرقاً من وجهين :

أحدهما : أنّ العود أوسع من البدء ، من حيث اتّساع النفس بمعلوماتها في نشأة المادة .

وثانيهما : أنّ الطريق متشعّب في العود إلى طريقَي السعادة والشقاوة ، واللذّة والألم ، والجنّة والنّار ، بخلاف البدء وهذا لا ينافي سبق شقاوة الأشقياء وجفاف القلم الأعلى .

واعلم أنّ هذه المعاني بين ما هو ضروري ، وما أُقيم عليه البرهان في محلّه .

وممّا مرّ من البيان ، يظهر وجه ارتباط الأعمال والمجاهدات الشرعيّة بما وعده وأوعده الحقّ سبحانه بلسان أنبيائه المرسلين ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك بعد يسير .

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآية ٤٢ .

(٢) سورة العلق : الآية ٨ .

١٩٤

تتمّة : فيما يدلُّ على ما مرّ من الكتاب والسُّنّة .

نقول : إذا نظرنا نظر المتدبّر إلى خصوصيّات شريعة الإسلام ، بل جميع الملل الإلهيّة ، وجدنا أنّ المقصود الوحيد فيها ، هو صرف وجه الإنسان إلى ما وراء هذه النشأة الطبيعيّة وهذه سبيلُها ، تدعو إلى الله على بصيرة ، فهي في جميع جهاتها تروم إلى هذا المرام ، وتطوف على هذا المطاف ، بأيٍّ طريق أمكن .

ثمّ إنّ الناس من حيث درجات الانقطاع إلى الله سبحانه والإعراض عن هذه النشأة المادّية ، على ثلاث طبقات :

الطبقة الأُولى : إنسان تامّ الاستعداد ، يمكنه الانقطاع قلباً عن هذه النشأة ، مع تمام الإيقان باللازم من المعارف الإلهية ، والتخلّص إلى الحقّ سبحانه وهذا هو الذي يمكنه شهود ما وراء هذه النشأة المادّية ، والإشراف على الأنوار الإلهيّة ، كالأنبياءعليهم‌السلام ، وهذهطبقة المقرّبين .

الطبقة الثانية : إنسان تامُّ الإيقان ، غير تامّ الانقطاع ؛ من جهة ورود هيآت نفسانيّة وإذعانات قاصرة ، تُيْئسه أن يذعن بإمكان التخلّص إلى ما وراء هذه النشأة المادّية ، وهو فيها .

فهذه طبقة تعبد الله كأنّها تراه ، فهي تعبد عن صدق من غير لعب ، لكن من وراء حجاب إيماناً بالغيب ، وهم المحسنون في عملهم .

وقد سُئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الإحسان ، فقال :(أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك) (١) .

والفرق بين هذه الطبقة وسابقتها ، فرق ما بين إنّ وكأنّ .

الطبقة الثالثة : غير أهل الطبقتين الأُوليين ، من سائر الناس وعامّتهم .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٦٧ / ١٩٦ ، باب ٥٣ ـ النيّة وشرائطها ومراتبها وكمالها ـ الرابعة : من يعبده حياءً ، الحديث ٢ .

١٩٥

وهذه الطائفة ، باستثناء المعاند والمكابر الجاحد ، طائفة يمكنها الاعتقاد بالعقائد الحقّة الراجعة إلى المبدأ والمعاد ، والجريان عملاً على طبقها في الجملة لا بالجملة ؛ وذلك من جهة الإخلاد إلى الأرض وإتباع الهوى وحبّ الدنيا ، فإنّ حبّ الدنيا وزخارفها يوجب الاشتغال بها ، وكونها هي المقصود من حركات الإنسان وسكناته ، وذلك يوجب انصراف النفس إليها ، وقصر الهمّة عليها والغفلة عمّا ورائها ، وعمّا توجبه الاعتقادات الحقّة من الأحوال والأعمال ؛ وذلك يوجب ركودها ووقوفها ، أعني الاعتقادات الحقّة على حالها ، من غير تأثير لها وفعليّة للوازمها ، وجمود الأعمال والمجاهدات البدنيّة على ظاهر نفسها وأجسادها ، من غير سريان أحوالها وأحكامها إلى القلب وفعليّة لوازمها ، وهذا من الوضوح بمكان .

مثال ذلك : إنّا لو حضرنا عند مَلِك من الملوك ، وجدنا من تغيّر حالنا وسراية ذلك إلى أعمالنا البدنيّة من حضور القلب والخشوع والخضوع ما لا نجده في الصلاة البتّة ، وقد حضرنا فيها عند ربّ الملوك .

ولو أشرف على شخصنا مَلِك من الملوك ، وجدنا ما لا نجده في أنفسنا ، ونحن نعتقد أنّ الله سبحانه يرى ويسمع ، وأنّه أقرب إلينا من حبل الوريد ، ونعتمد على الأسباب العادية التي تخطئ وتصيب ، اعتماداً لا نجد شيئاً منه في أنفسنا ، ونحن نعتقد أنّ الأمر بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .

ونركن إلى وعد إنسان ، أو عمل سبب ، ما لا نركن جزءاً من ألف جزء منه إلى مواعيد الله سبحانه فيما بعد الموت والحشر والنشر ، وأمثال هذه التناقضات لا تحصى في اعتقادنا وأعمالنا ؛ وكلُّ ذلك من جهة الركون إلى الدنيا ، فإنّ انكباب النفس على المقاصد الدنيوية يوجب قوّة حصول صورها في النفس ، على أنّها متسابقة إليها ، تذهل صورة ، وتتمكّن صورة ، وتخرج أخرى آناً بعد آن وذلك يوجب ضعف صور هذه الأُصول والمعارف الحقّة ، فيضعف حينئذٍ تأثيرها بإيجاد لوازمها عند النفس ، وحبُّ الدنيا رأس كلّ خطيئة .

وهذه الطائفة لا يمكنها من الانقطاع إلى الله سبحانه أزيد من الاعتقادات الحقّة الإجماليّة ، ونفس أجساد الأعمال البدنيّة التي توجب توجّهاً ما وقصداً ما ـ في الجملة ـ إلى المبدأ سبحانه في العبادات .

١٩٦

ثمّ إنّا إذا تأمّلنا في حال هذه الطبقات الثلاث ، وجدناها تشترك في أُمور ، وتختصُّ بأُمور فما يمكن أن يوجد من أنحاء التوجّه والانقطاع في الطبقة الثالثة ، يمكن أن يوجد في الأوّليين من غير عكس ، وما يمكن أن يوجد في الثانية يوجد في الأُولى من غير عكس .

ومن هنا يتبيّن أنّ تربية الطبقات الثلاث مشتركة ومختصّة ؛ ولهذا نجد الشريعة المقدّسة الإسلاميّة تعيّن أحكاماً نظرية وعمليّة عامّة فيما لا يمكن إهماله بالنسبة إلى طبقة من الطبقات ، من الواجبات والمحرّمات .

ثمّ تؤسّس بقايا ما يتعلّق بجميع جزئيّات الأُمور وكلّياتها ، بحسب ما يناسب ذوق أهل الطبقة الثالثة ، من المستحبّ والمكروه والمباح ، ويمكَّن ذلك في قلوبهم بالوعد والوعيد ، بالجنّة والنّار ، ويحفظ ذلك بالعادة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ التكرّر أقوى برهان عند العامّة .

ثمّ هي تسلك بالنسبة إلى الطبقة الثانية بما سلكته هي بالنسبة إلى الثالثة ، مع زيادات خاصّة من الأحكام الخُلقيّة وغيرها .

وعمدة الفرق بين الطائفتين في قوّة العلم وتأثيره ، وضعف ذلك كما عرفت .

ثمّ تسلك بالنسبة إلى الطبقة الأُولى بأدقّ من مسلكه في الثانية والثالثة ، فربّ مباح أو مستحبّ أو مكروه بالنسبة إليها ، هو واجب أو محرّم بالنسبة إلى الطبقة الأُولى ، فحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، إلاّ أنّ ذلك كذلك عندهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم .

وتخصّها أيضاً بأُمور وأحكام غير موجودة في الثانية والثالثة ؛ ولا غير هذه الطبقة تكاد تفهم شيئاً من تلك المختصّات ، ولا يهتدي إلى طريق تعليمها .

وذلك كلُّه لِمَا أنّ ميِّز طبقتهم وأساسها المحبّة الإلهية دون محبّة النفس فالفرق بينها وبين الآخرين في نحو العلم والإدراك ، دون قوّته وضعفه ، وتأثيره وعدمه .

ولئن شئت أن تعقل شيئاً من ذلك في الجملة ، فعليك بالتأمّل التامّ في أطوار الاتّحاد : فللمعاشرة أحكام ، وللصداقة أحكام ، وللخلّة أحكام ، ولكلّ من المحبّة والعشق والوجد والوله وما يسمّى (فناء) ، أحكام أُخر ، وكلّ حكم مختصّ بمرتبة نفسه لا يتعدّاها إلى غيرها أبداً .

١٩٧

والمحصّل : أنّ الشرائع الإلهية ، وخاصة الشريعة الإسلامية ، تروم في جميع جزئيّات الأُمور وكلّياتها ، نحو غرضها المذكور ، وهو توجيه وجه الإنسان لله ، وصرفه إليه سبحانه وذلك بتكوين المَلَكات والأحوال المناسبة لذلك ، بواسطة الدعوة إلى الاعتقادات الحقّة ، والأعمال المولِّدة للحالات الزاكية النفسانيّة الموصلة إلى المَلَكات المقدّسة .

ويظهر ذلك تمام الظهور لمَن تتبّع تضاعيف الكتاب والسُّنّة ، فمن الواضح منها أنّ الميزان هو الإطاعة والتمرّد ، والتقرّب والتباعد ، بالنسبة إلى الحق سبحانه على اختلاف أنواع الأحكام .

ثمّ إنّ الظاهر من الشريعة أنّ ما وعده الله سبحانه في كتابه ، وبلسان رسوله ، من المقامات والكرامات وغير ذلك ، على طبق هذه الأحوال والملكات ، فلها نسبة معها ، أعني أنّ للنفس بواسطتها نسبة معها ، وتلك المقامات والمنازل هي التي بيّنتها الشريعة المقدّسة في معارف المبدأ والمعاد .

وقد مرّ في تتمّة الفصل الأوّل أنّ هذه المعارف هي التي لها الحقائق والبواطن التي هي فوق مرتبة البيان(١) ، وهي فوق تحمّل العامّة من الناس ، لا تطيقها أفهامهم .

فقد ظهر أنّ هذه الأُمور كيف هي .

ـــــــــــــ

(١) راجع : الصفحة ٢٠٨ وما بعدها من هذا الكتاب .

١٩٨

الفصل الثالث : [وسائل الاتّصال بالعالم الغيبي وطرق معرفته](١)

لا ريب عند أرباب الملل الإلهية أنّ الأنبياءعليهم‌السلام لهم اتّصال بما وراء هذه النشأة ، واطّلاع على الأُمور الباطنة على اختلاف مراتبهم .

فهل هذا موقوفٌ عليهم مقصورٌ بهم ، هبة إلهيّة ، أو أنّه ممكن في غيرهم ، غير موقوف عليهم ؟

وبعبارة أُخرى : هل هذا أمر اختصاصي بهم لا يوجد في غيرهم في هذه النشأة إلاّ بعد الموت ، أو أمر اكتسابي ؟ والثاني هو الصحيح .

نقول : وذلك لأنّ النسبة بين هذه النشأة وما ورائها ، نسبة العلّية والمعلوليّة ، والكمال والنقص ، وهي التي نسمّيها بنسبة الظاهر والباطن وحيث إنّ الظاهر مشهود بالضرورة ، وشهود الظاهر لا يخلو من شهود الباطن ؛ لكون وجوده من أطوار وجود الباطن ، ورابطاً بالنسبة إليه ، فالباطن أيضاً مشهود عند شهود الظاهر بالفعل وحيث إنّ الظاهر حدّ الباطن وتعيُّنه ، فلو أعرض الإنسان عن الحدّ بنسيانه بالتعمل والمجاهدة ، فلا بدّ من مشاهدته للباطن ، وهو المطلوب .

توضيح ذلك : إنّ تعلّق النفس بالبدن واتّحادها به ، هو الذي يوجب أن تذعن النفس بأنّها هي البدن وعينه ، وأنّ ما تشاهده من طريق الحواسّ منفصل الوجود عن نفسها ؛ لِمَا ترى من انفصاله عن البدن والوقوف على هذا الحدّ يوجب نسيانها لمرتبتها العُليا من هذه المرتبة ، وهي مرتبة المثال ، وأعلى منها غيرها .

وبنسيان كلّ مرتبة ينسى خصوصيّاتها وموجودات عالمها ، وهي مع ذلك تشاهد إنّيّتها ، وهي التي نعبّر عنها بـ (أنا) ، مشاهدة ضرورية لا تنفكّ عنها .

ثمّ بالانقطاع عن البدن لا يبقى حاجب عنها ولا مانع ، وعلى هذا فلو رجع الإنسان بالعلم النافع والعمل الصالح إلى نفسه وإنّّيّته ، فلا بدّ من مشاهدتها ومشاهدة مراتبها وموجودات عالمها من أسرار الباطن .

فقد بان أنّ من الممكن أن يقف الإنسان ، وهو في هذه النشأة ، على الحقائق المستورة الخفيّة التي تستقبله فيما بعد الموت الطبيعي في الجملة .

ـــــــــــــ

(١) ليس في الأصل وإنّما اختاره المحقّق .

١٩٩

تتمّة : [فيما يدلّ على ما تقدّم من الكتاب والسنّة] (١)

ويشهد على ذلك عمدة الآيات والأخبار التي سننقلها إن شاء الله فيما بعد ، إلاّ أنّ عمدة إنكار عامّة المنكرين لهذه السعادة متوجّهة إلى شهود الحقّ سبحانه ، فقد زعموا استحالته ؛ واستدّلوا على ذلك بأنّ وجود الحقّ سبحانه وجود مجرّد مبرَّأ عن الأعراض والجهات والأمكنة ، فيمتنع عليه تعلّق الرؤية البصريّة لاستلزامها جسماً ذا كيفيّة وجهة ووضع خاصّ .

هذا ، وتمسّك محدّثوهم بالأخبار النافية للرؤية ، وأوّلوا جميع الآيات والروايات التي تثبتها بحملها على المجاز ونحو ذلك .

وأنت خبير بأنّ دليلهم مخصوص بنفي الرؤية البصرية ، ولا يدّعيها أحد غير شرذمة من متكلّمي العامّة وظاهريِّيهم على ما ينسب إليهم والأخبار النافية ، في مقام الردّ عليهم ، كما هو ظاهر لمَن راجع مناظراتهم واحتجاجاتهمعليهم‌السلام .

بل المثبتون للرؤية والشهود إنّما يثبتون شيئاً آخر ، وهو شهود الموجود الإمكاني ـ على فقره وعدم استقلال ذاته المحض ، بتمام وجوده الإمكاني ، لا بالبصر الحسّي أو الذهن الفكري ـ وجود مبدعه الغني المحض .

وهذا معنى يثبته البراهين القاطعة ، ويشهد عليه ظواهر الكتاب والسُّنّة ، بل مقتضى البراهين استحالة انفكاك الممكن عن هذا الشهود وإنّما المطلوب العلم بالشهود ، وهو المعرفة ، لا أصل الشهود الضروري ، وهو العلم الحضوري .

ـــــــــــــ

(١) ليس في الأصل وإنّما اختاره المحقّق .

٢٠٠