الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة0%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: باقيات
تصنيف: الصفحات: 292
المشاهدات: 53719
تحميل: 6700

توضيحات:

الإنسان والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53719 / تحميل: 6700
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإنسان والعقيدة

العلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائيقدس‌سره

تحقيق : الشيخ صباح الربيعي ـ الشيخ علي الأسدي .

١

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدِّمة التحقيق

من أكثر المواضيع حسّاسية بالنسبة للإنسان ، تلك التي ترتبط بمصيره وبداياته ومآله ، فلقد أولاها عناية كبيرة ، وشغلت مساحة واسعة من تفكيره ، فهو يجد أنّ هذا النوع من المعرفة يُمثّل له حاجة ماسّة ، ولعلّ ثمّة ما يسبّب ذلك الإحساس والتوجّه ، ويشكّل عنصراً يحرّكه للبحث في مثل هذه المسائل ؛ ومرجع ذلك ـ حسب تصوّري ـ قد يعود لأمرين :

أوّلهما : أنّ الإنسان إلى يومنا هذا يشعر بأنّه لم يقف على حقيقة الخلق والموت والروح ، وما شاكلها من مسائل تدفع الإنسان للبحث والوقوف على حقيقة تلك الأُمور ، التي شغلت الإنسانيّة منذ بدايتها وإلى اليوم .

ثانيهما : ذلك القلق الذي رافق الإنسانيّة طيلة فترات حياتها ، وفي مختلف مراحلها ، فهي دائمة القلق والخوف ممّا ستئول إليه بعد هذه الحياة ، التي تدرك بفطرتها السليمة وإحساساتها الداخليّة بأنّها ما هي إلاّ محطة ستعقبها محطَّات أُخرى ، فيا ترى ما حال تلك المحطات ؟ وكيف سيكون الأمر فيها؟

لذلك لم تهمل الشريعة الإسلامية هذا الجانب من تطلّعات الفكر الإنساني ، كما لم تهمل أية قضيّة من شأنها أن تكون عقبة أمام كماله المنشود ، فكانت تلك الشريعة بحقّ ، وبأدنى تأمّل ، شريعة المجتمع .

فتوفّرتْ على نصوص قرآنيّة كثيرة ، وروايات عن النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) ، تبيّن فيها الغاية من خلق الإنسان ، وحقيقة الموت ، وعلاقة هذه الحياة بعالم الآخرة ، وحقائق عن البرزخ ، والقيامة ، والشفاعة ، والحساب ، وغيرها من المسائل .

وتجدر الإشارة إلى الدور الريادي الذي مارسه العلماء ، وما زالوا يمارسونه ، في الحفاظ على الشريعة الإسلاميّة ، باعتبارهم الثلّة العارفةَ بمفاصل الشريعة ، المكلّفةَ بتفعيل الفكر الإسلامي في المجتمعات وعلى جميع الأصعدة ، فقد أسهموا من خلال كتاباتهم وتوجُّهاتهم بتوسيع أُفق المعرفة الإسلاميّة ، ونشر المفاهيم والأُسس السامية التي نادى الدين الحنيف بها .

٢

فكتبوا في جميع المجالات التي تعدُّ محلّ اهتمام النّاس ، والتي منها القضيّة التي أشرنا لها ، وهي مسألة الإنسان من حيث بدايته ونهايته وكمالاته ومن هذه الكتب هذا الكتاب الماثل بين أيدينا ، وهو كتاب :" الإنسان والعقيدة " لمؤلّفه العلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائيقدس‌سره ، حيث امتاز هذا الكتاب بميزتين :

الميزة الأُولى : موضوعه .

فهذا الكتاب من خلال رسائله الخمس ، مثّل منظومة علميّة ومعرفية متكاملة للإجابة عن جميع الأسئلة التي يمكن أن تُطرح حول الإنسان في جميع مراحله : في مرحلة ما قبل عالمنا هذا ، وفي عالمنا هذا ، وبعد انتقاله ـ بموته ـ عن هذا العالم والكمالات التي يحصل عليها في النشأتين ، ومعرفة هذه المراحل محل اهتمام لعدد كبير من أبناء المجتمع كما أشرنا .

فالرسالة الأُولى :" رسالة الإنسان قبل الدنيا " تختصّ بمرحلة ما قبل عالم الدنيا ، حيث يشير المؤلّفقدس‌سره لِمَا تبنّاه من النظرية الفلسفيّة القائلة بوجود عالمَين قبل عالمنا هذا ، وهما : (عالم العقل) ، و(عالم المثال) .

فيذكرقدس‌سره أنّ الإنسان بجميع خصوصيّاته وصفاته وأفعاله كان موجوداً في (عالم المثال) ، لكن من غير تحقّق الأوصاف الرذيلة والأفعال السيّئة ، فهو كان في أهنأ عيش وأقرّ عين ، في زمرة الملائكة والطاهرين .

ولقد حاولقدس‌سره إثبات ذلك من خلال استدلاله بالآيات القرآنيّة الكريمة ، والروايات الشريفة ؛ ليثبت التطابق بين منهج العقل ومنهج الشرع .

وأمّاالرسالة الثانية ، فهي :" رسالة الإنسان في الدنيا " ، حيث جاءت متوفّرة على إبداع من إبداعات العلاّمةقدس‌سره ، وهي نظرية الإدراكات الاعتبارية التي في مقابل الإدراكات الحقيقيّة ، الأمر الذي دعاهقدس‌سره لأنّ يعقد بحثاً في عالم المعاني ؛ ليكون مقدّمة تتّضح من خلالها تلك النظرية ، حيث يذكر أنّ الإنسان بعد كمال خِلْقته في هذا العالم ، يسعى لسدّ نواقصه واحتياجاته ، فيعتبر أُموراً يظنّها كمالاً ، فيسعى ويتحرّك خلفها ، فلا يرتبط إلاّ بهذه المعاني الوهميّة السرابيّة ، ولا يتحرّك إلاّ من خلالها .

٣

وينبّهقدس‌سره على أنّ هذا الإنسان لا حياة له في هذه الدنيا إلاّ في ظرف نفسه ، فإذا نسي نفسه وابتعد عن طريق الحقّ والهداية ، فسوف يلاقي ربّه صفر اليدين ، وينكشف له وهميّة هذه الأُمور التي كان يعتقدها الأركان الموصلة لطريق النجاة ، من التفاخر ، والزينة ، والمال ، والبنون ، واللعب ، واللهو ، وغيرها .

وأمّاالرسالة الثالثة ، فهي :" رسالة الإنسان بعد الدنيا " ، فقد بيّن فيها العلاّمةقدس‌سره عالم ما بعد الدنيا ، ولقد أجاد في طرح الحقائق الإسلاميّة الأصيلة ، فتدرّج في ذكر مراحل ذلك العالم ، الذي يبدأ بموت الإنسان وخروجه من روحه بعد انتهاء أجله المحتوم في هذه الدنيا ، وينتهي بيوم الحساب : فإمّا الجنّة ، وإمّا النّار .

فطَرَحَقدس‌سره مفاهيم قرآنيّة وولائيّة حول : البرزخ ، والصور ، والصراط ، والميزان ، والأعراف ، والشهداء ، ومسائل أُخرى أفاض بها قلمه الشريف .

الرسالة الرابعة :" رسالة الولاية " ، فقد جعلهاقدس‌سره في فصول خمسة :

الأوّل : في بيان الدين ، وأنّ لظاهره باطن ، ولصورته الحقّة حقائق .

الثاني : فقد أشار فيه إلى الكمالات في النشأتين ، وتوضيح الخلقة في هذه النشأة .

الثالث : تناول فيه معنى الكمال الذي يمكن للإنسان أن يصل إليه ، وكيفيّة اتّصاله بالعالم العلوي.

الرابع : في توضيح الطريق الذي يمكن أن يوصل الإنسان إلى الكمال ، واستدلّ عليه بالمعقول والمنقول .

الخامس : تطرّق فيه إلى النتائج التي يحصل عليها الإنسان عند وصوله إلى الكمال .

الرسالة الخامسة :" عليّ والفلسفة الإلهية " ، فقد تناول الحديث عنها في محاور ثلاثة :

جعلالمحور الأوّل كمقدّمة للموضوع ، وابتدأها في بيان معنى الفلسفة بصورة عامّة ، ثمّ خاض في معنى الفلسفة الإلهية ، وعلاقة الفلسفة بالدين ، وهل يمكن التفريق بينهما ، ثمّ بيّن مراحل اتّساع الفلسفة وتكاملها ، وبعدها تطرّق للقضاء بقسميه الحقوقي والعلمي .

٤

المحور الثاني جعله في ذكر بعض صفات أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كالشجاعة والفصاحة ، وقارن بين كلامهعليه‌السلام الذي كان يفيض بالمعارف الحقيقيّة ، التي حارت فيه النفس الوالهة الخائضة في الفلسفة الإلهية ، وبين كلام غيره ، وذكر نماذجاً من كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفلسفة ، والتي أرشد فيها إلى الطريق للسير إلى الحقيقة .

وفيالمحور الثالث فقد تكلّم عن مراحل معرفة الله تعالى ، حتى تطرّق في بدايته إلى خطبة المولى أمير المؤمنينعليه‌السلام في التوحيد ، وبيان ما تحمله من معارف جليّة شاملة لمراتب التوحيد ، موضّحة لأُسسه ، ثمّ أردفها في بيان علمه تعالى بغيره وعلم الغير به ، وأشار بعدها إلى معنى صفاته تعالى ، والتفريق بين الصفات الثبوتيّة والسلبيّة ، ثمّ ذكر معنى رؤيته تعالى ، ومعنى الخلقة ، وكيف يمكن للإنسان أن يتّصل بالعالم العلوي المعبّر عنه بـ (ما وراء الطبيعة) ، ثمّ تطرّق إلى معنى قدرته تعالى ، وإلى استطاعة الإنسان ، وبعدها أردف البحث بخاتمة .

الميزة الثانية : مؤلّفه .

وهو العلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائيقدس‌سره ، تلك الشخصيّة التي تميّزت بخصائصها الفرديّة التي جعلت منها محطّ أنظار طلاّب العلم وعشّاق الحقيقة ، ولقد اشتملت حياته على جوانب مضيئة كثيرة ، بحيث إنّ كلّ جانب من جوانب حياته يستحقّ دراسة مستقلّة ، ففي جانب العلم وفضيلته العلميّة ، فقد كان جامعاً لعلوم المعقول والمنقول ، ومع كونه كان فيلسوفاً بارعاً ، كان فقيهاً وأُصوليّاً ومفسّراً كبيراً .

٥

ولقد تنبّه لغزارة علمه العام الغربي ، ولعلّه بصورة أفضل من العالم الشرقي والإسلامي ، بعدما اكتشف تضلّعه في الفلسفات الشرقيّة والثروة العقليّة التي يمثّلها وينقل تلميذه السيد محمّد حسين الطهراني أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة طلبت من شاه إيران في حينها (محمّد رضا بهلوي) ، أن يدعو السيّد الطباطبائي ليتولّى مهمّة تدريس فلسفة الشرق في جامعاتها ، وقد نقل الشاه الطلب إلى آية الله العظمى السيّد البروجرديقدس‌سره ، زعيم الحوزة العلميّة في قم المقدّسة ـ ربّما كان كنوع من الضغط المعنوي لحمل السيّد الطباطبائي على القبول من خلال المرجعيّة الدينيّة ـ لكنّه أجاب بالرفض(١) .

وأمّا عن جوانب عبادته وأخلاقه ، فكانقدس‌سره دائم التفكير في خلق الله ، كثير الصلاة ، مهتمّاً بالنوافل ، حتّى إنّ أولاده يروون إنّه كان يشرع بالصلاة النافلة حال خروجه من المنزل ، وينشغل بالصلاة حتّى يبلغ المكان الذي يقصده(٢) .

وتصفه لنا ابنته السيّدة نجمة السادات بقولها : ( كانت له أخلاق وسلوك محمّدي : لم يكن ينفعل ولا يغضب أبداً ، كما أنّي لم أسمعه يتحدّث بصوت عالٍ في أي وقت من الأوقات ولكن في الوقت الذي كان فيه ليّناً في طبعه وخلقه ، كان حاسماً وحازماً

ـــــــــــــ

(١) نظرية المعرفة عند العلاّمة : ٤٣ .

(٢) رسالة التشيّع في العالم المعاصر : ٥٢١ .

٦

أيضاً ، على سبيل المثال : كان مواظباً على أداء الصلاة في أوّل وقتها ، ولا يتهاون في ذلك ، كما كان يذكّر الآخرين وينهاهم عن التهاون بشكل صريح جدّاً )(١) .

ولقد تميّزقدس‌سره بعلاقته وعشقه لأهل البيتعليهم‌السلام ، حتّى إنّ الشهيد مرتضى المطهّري يقول بهذا الصدد : ( لقد رأيت الكثير من الفلاسفة والعرفاء ، بَيْد أنّ احترامي للعلاّمة الطباطبائي لم يكن بداعي كونه فيلسوفاً ، بل لأنّه عاشق لأهل البيت ، ولهٌ بهم )(٢) .

وقد سُئل العلاّمة وهو في إحدى زياراته للإمام الرضاعليه‌السلام في مدينة مشهد : هل تقبّل الضريح كعامّة النّاس ؟ فردّ عليهم قائلاً : ( ليس الضريح وحده ، بل ألثم الأرض والخشب في الحرم ، وكلّ ما يرتبط بالإمام )(٣) .

هذه إشارة بسيطة لسيرة العلاّمة ونقاط الإبداع فيها ؛ وما نروم الإشارة إليه هو كون العلاّمة ، مؤلّف لهذا الكتاب ، يضيف سمة خاصّة عليه ؛ وذلك للأُسلوب المتميّز الذي أسّسه العلاّمة ، وطريقته الرياديّة في التفسير ، وتعامله مع الآيات الكريمة والروايات الشريفة فمسلكه الذي عُرف به ، وهو تفسير القرآن بالقرآن ، ورفع ِإبهام آية بواسطة أُخرى ، هو الأسلوب الأمثل لمعرفة مرادات الشريعة ، وتطبيقاً لتوصيات أهل البيت ، حيث يقول أمير المؤمنين ومولى الموحّدينعليه‌السلام :( كتاب الله تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ) (٤) .

وإنّ مثل هذا الأُسلوب وهذا المسلك أتاح لهذا الكتاب ، ولكلّ كتب العلاّمة ، أن تكون معبّرة عن الأفكار الإسلاميّة الأصيلة والصحيحة ، بحيث لا تختلط فيها المفاهيم ، بل تكون مفاهيم ونظريات وتعاليم قرآنيّة غير متأثّرة بالفكر السائد ، والنظريات السائدة التي فيها الغثّ والسمين .

ـــــــــــــ

(١) رسالة التشيّع في العالم المعاصر : ٥٢٠ .

(٢) و(٣) المصدر المتقدّم : ٢٩١ .

(٤) نهج البلاغة : ١٩٢ ، الخطبة ١٣٣ .

٧

ويشير العلاّمةقدس‌سره في هذا الكتاب لهذا المسلك بقوله : ( إنّ المسلك الذي نستعمله في تفسير الآية بالآية والرواية بالرواية ، بعيد الغور ، منيع الحريم ، وسيع المنطقة ) .

إلى أن يقول : ( ومن الإنصاف أن نعترف أنّ سلفنا من المفسّرين وشُرّاح الأخبار ، أهملوا هذا المسلك في استنباط المعاني واستخراج المقاصد ، فلم يورثونا فيه ولا يسيراً من خطير ، فالهاجم إلى هذه الأهداف والغايات ـ على صعوبة منالها ودقّة مسلكها ـ كساعٍ إلى هيجاء بغير سلاح )(١) .

وأخيراً فلقد اقتصر دورنا في تحقيق هذا الكتاب على ما يلي :

١ ـ استخراج الآيات الروايات الواردة في المتن .

٢ ـ إرجاع الأقوال والنصوص إلى مصادرها ومنابعها .

٣ ـ تقويم النصّ والإخراج وفق الطريقة المتّبعة في التحقيق .

٤ ـ التعليق على بعض المصطلحات والفقرات الواردة في المتن .

ولا ننسى أن نتقدّم بالشكر للأخوة العاملين في" مكتبة فدك " لتصدّيهم لنشر الفكر الإسلامي الأصيل ، ونسأله تعالى أن يوفّقنا وجميع العاملين لما فيه الخير والصلاح .

والحمد لله ربّ العالمين

الإنسان قبل الدنيا

العلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائي (طاب ثراه)

تحقيق : الشيخ صباح الرُّبيعي

مكتبة فدك

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أوليائه المقرّبين ، سيّما محمّد وآله الطاهرين .

هذه رسالة" الإنسان قبل الدنيا " ، نشير منها إلى ما جرى على الإنسان قبل هبوطه ووقوعه في ظرف الحياة الدنيا على ما دبّره العليم القدير ، على ما ينتجه البرهان ، ويستفاد من ظواهر الكتاب والسُّنّة ، والله المعين .

ـــــــــــــ

(١) راجع الرسالة الثالثة : ٦٠ .

٨

الفصل الأوّل : العِلَّة والمعلول

قد تبيّن بالبرهان في الفلسفة الأُولى(١) أنّ العلِّية تقتضي قيام المعلول في وجوده وكمالاته الأوّليّة والثانوية بالعلّة ، وأنّ ذلك كلّه من تنزُّلات العلّة دون النواقص والجهات العدميّة .

وأيضاً أنّ عالم المادة مسبوق الوجود بعالمٍ آخر ، غير متعلّق بالمادّة ، فيه أحكام المادة ، وهو علّته ، وبعالمٍ آخر مجرّدٍ عن المادة وأحكامها ، هو علّة علّته ، ويسمّيان بعالمي المثال والعقل ، وعالميّ البرزخ والروح(٢) .

ـــــــــــــ

(١) وهي الإلهيّات بقسميها ، أي :

ـ (الإلهيّات بالمعنى الأعمّ) : التي يُبحث فيها عن مسائل تتعلّق بالموجود بما هو موجود ، مثل : الضرورة والإمكان ، والحدوث والقِدم .

ـ و(الإلهيّات بالمعنى الأخصّ) : التي يُبحث فيها عن مسائل تتعلّق بوجود الباري (عزّ وجلّ) وتوحيده وصفاته ، وما إلى ذلك من المسائل .

(٢) يشير المؤلّفقدس‌سره إلى النظريّة الفلسفيّة القائلة بتثليث نظام الخلق ، ووجود ثلاث عوالم بعضها فوق بعض ، وهذه العوالم هي :

١ ـ عالم العقل : ويسمّى بعالم الجبروت ، وهو أوّل عالم خلقه الله سبحانه وتعالى في نظام الخليقة ، وخَلَقَ فيه موجودات مجرّدة عن المادةّ وآثارها ، وتسمّى هذه الموجودات بالعقول .

ويعتقد الفلاسفة أنّ هذه العقول هي العلّة لِمَا بعدها من عوالم ؛ وقد صير إلى القول بوجود هكذا عالم للقاعدة الفلسفيّة المعروفة ، وهي : ( الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد ) وبما أنّ الله سبحانه وتعالى واحد ، فلا تصدر منه هذه الموجودات الكثيرة إلاّ بالواسطة ، فخَلَقَ هذه الموجودات ـ التي هي العقول ـ لكي تفيض الوجود على الموجودات الأُخرى وليس هذا عجز في قدرة الله سبحانه وتعالى ، بل هو عجز في نفس الموجودات الممكنة وبعبارة أُخرى : أنّه عجز في القابل وليس في الفاعل .

٢ ـ عالم المثال : ويسمّى بعالم البرزخ وعالم الملكوت ، وهو وسط بين عالم العقل وعالم الدنيا (الطبيعة) ، والوجودات في هذا العالم متحرّرة من قيود المادة ، فهي ليست ماديّة لكن شكل المادة وأبعاد المادة فيها ، فلا تغيّر ولا تبدّل في هذا العالم ؛ لأنّ التغيّر والتبدّل من خواصّ المادة .

٣ ـ عالم الطبيعة : ويسمّى بعالم المادة وعالم الناسوت ، وهو عالمنا الذي نعيش فيه ونلمس آثاره ونشاهده بالعيان .

ويشير الشهيد مرتضى المطهّري في تعليقته على كتاب أُصول الفلسفة (٣ / ٤٢٣) للعلاّمة الطباطبائيقدس‌سره ، إلى أساس الفكرة التي اعتمدت عليها هذه النظرية ، بقوله : (انطلق الاستدلال في هذه المقالة على وجود عالم العقل وعالم المثال من وجود الإنسان ، أي بحكم أنّ مرتبة من الإنسان طبيعة ، ومرتبة أُخرى منه مثال ، ومرتبة منه عقل ، وبحكم أنّ الطبيعة غير قادرة على إيجاد مرتبة أرفع منها ، أي المثال والعقل ؛ فلا بدّ أن تكون كلّ مرتبة من وجود الإنسان بعالم من سِنْخها ) .

٩

ويُستنتج من ذلك : أنّ الإنسان ، بجميع خصوصيّات ذاته وصفاته وأفعاله ، موجودٌ في عالم المثال من غير تحقّق أوصافه الرذيلة ، وأفعاله السيّئة ، ولوازمه الناقصة ، وجهاته العدميّة .

فهو كان موجوداً هناك في أهنأ عيش وأقرَّ عين ، في زمرة الطاهرين وصفِّ الملائكة المقدّسين ، مبتهجاً بما يشاهده من نور ربّه ونورانيّة ذاته وتشعشع أُفقه ، ملتذّاً بمرافقة الأبرار ومسامرة الأخيار ، لا يَمَسُّه فيها تعب ولا لغوب ، ولا يتكدّر بكدورات النواقص والعيوب ، لا حجاب بينه وبين ما يشتهيه ، ولا ألمَ ولا مَلالَ يعْتريه .

الفصل الثاني : بين الخلْق والأمر

وظواهر الكتاب والسُّنّة تدلّ على ما مرّ ، قال تعالى :( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (١) ، ففرّق سبحاه بين الخلق والأمر(٢) ؛ فعلمنا أنّ الخلقَ غيرُ الأمر بوجه .

وليس الأمر مختصّاً بآثار أعيان الموجودات ، حتّى تختصّ الأعيان بالخلق وآثار الأعيان بالأمر ؛ لقوله سبحانه :( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (٣) ، فنَسَبَ سبحانه الروح ـ وهو من الأعيان ـ إلى الأمر .

وقول تعالى :( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٤) ، أفادَ أنّ أمره هو إيجاده بكلمة : كُنْ ، سواء كان عيناً أو أثرَ عَيْنٍ وحيث ليس هناك إلاّ وجود الشيء ، الذي هو نفس الشيء ، تبيّن أنّ في كلِّ شيءٍ أمراً إلهيّاً .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : ٥٤ .

(٢) معنى الأمر والخلق ، والفرق بينهما ، كما جاء في بعض التفاسير ، مثل : تفسير مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) : أنّ الخلق بمعنى الإيجاد والاختراع ، والأمر بمعنى القوانين والسنن الحاكمة بأمر الله .

وللعلاّمةقدس‌سره مذهب آخر في تفسير الأمر والخلق الوارد في الآيات ، فقد فسّر عالم الخلق بـ (عالم المادة) ، والأمر بـ (عالم المثال) ؛ لأنّ لعالم الخلق جانباً تدريجيّاً ، وهذه هي خاصيّة المادة ، ولعالم الأمر جانباً دفعيّاً ، وهذه هي خاصيّة ما وراء المادة وعالم المثال .

(٣) سورة الإسراء : الآية ٨٥ .

(٤) سورة يس : الآية ٨٢ .

١٠

ثمَّ قال سبحانه :( إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لازِبٍ ) (١) ، وقال :( إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ) (٢) ، وغير ذلك من الآيات المفيدة أنّ الخلق بالتدريج .

وقد قال سبحانه :( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (٣) ، وقال :( مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) (٤) ، وقال :( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) (٥) ، فأفاد عدم التدريج في الأمر .

تبيّن بمجموع الآيات : أنّ الأمر أمرٌ غير تدريجيّ ، بخلاف الخلق ، وإنْ كان الخلق ربّما استُعمِلَ في مورد الأمر أيضاً(٦) .

وبالجملة ، ففيما يتكوّن بالتدريج ـ وهو مجموع الموجودات الجسمانيّة وآثارها ـ وجهان في الوجود الفائض من الحقّ سبحانه : وجه أمري غير تدريجيٍّ ، ووجهٌ خَلقي تدريجيّ ، وهو الذي يفيده لفظ " الخلق " من معنى الجمع بعد التفرقة .

وقد أفاد قوله سبحانه :( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) الآية(٧) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الصافات : الآية ١١ .

(٢) سورة الإنسان : الآية ٢ .

(٣) سورة القمر : الآية ٥٠ .

(٤) سورة لقمان : الآية ٢٨ .

(٥) سورة النحل : الآية ٧٧ .

(٦) كما في قوله تعالى :( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) سورة غافر : الآية ٦٢ .

(٧) سورة يس : الآية ٨٢

١١

أنَّ الأمر سابقٌ على الخَلق ، وأنّ الخَلق يتبعه ويتفرّع عليه ، وهو الذي يفيده قوله سبحانه :( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (١) ، فعمل الملائكة ـ وهم المتوسّطون في الحوادث ـ بواسطة الأمر .

فتحصّل من الجميع : أنّ فوق عالم الأجسام ، وفيه نظام التدريج ، عالماً آخرَ يشتمل على نظام موجوداتٍ غير تدريجيّة ، أي غير زمانيّة ، يتفرّع كلُّ موجود زمانيّ من مظروفات نظام التدريج ، على ما هنالك من الموجودات الأمريّة ، وهي محيطة بها ، موجودة معها ، قائمة عليها ، كما يفيده .

فالتدبير ـ وهو الإتيان بالأمر دبر الأمر وعقيبه ـ يصدر من العرش أوّلاً ، ثمّ يتنزّل الأمر من سماءٍ إلى السماء ، وقد أوحى إلى كلّ سماء ما يختصّ بها من الأمر ، فإنّ الأمر كلمته سبحانه ، فإلقاؤه إلى شيء وحي منه إليه ، ولا يزال يتنزّل سماءً سماءً حتّى ينتهي إلى الأرض ، ثمّ يأخذ في العروج ، فهذا هو المتحصّل من الآيات : قوله سبحانه :( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (٢) ، وقوله سبحانه :( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ ولا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) (٣) ، وقوله سبحانه : ( خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ) الآيات(٤) ، وقوله سبحانه :( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ) (٥) ، إلى أن قال تعالى : ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ

ـــــــــــــ

(١) سورة الأنبياء : الآيتان ٢٦ و ٢٧ .

(٢) سورة يونس : الآية ٣ .

(٣) سورة السجدة : الآيتان ٤ و ٥ .

(٤) سورة الطلاق : الآية ١٢ .

(٥) سورة البقرة : الآية ٢٩ .

١٢

سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ) (١) .

وهي مع ذلك تفيد أنّ الأمر في تنزّله ذو مراتب ، فإنّه سبحانه أخبر عن أنّ التنزّل بينهنّ فللتنزّل نسبة إلى كلّ واحدة منها ؛ لوقوعه من عالٍ إلى سافل ، حتّى ينته إلى آخرها فيتجاوزها إلى الأرض ، وهو قوله سبحانه :( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ) (٢) وهذا حال الأمر بعد تقديره بالقدر والمقادير ، ومحدوديّته بالحدود والنهايات ، كما قال سبحانه : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ) (٣) .

وهناك وجودٌ أمري غير محدود ولا مقدَّر ، ينبئ عنه قوله سبحانه :( وَإِنْ من شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ معْلُومٍ ) الآية(٤) ، حيث أفاد أنّ لكلّ شيء من الأشياء وجوداً مخزوناً عنده سبحانه ، وأنّ تنزّله إنّما هو بقدر معلوم والآية حيث تفيد أنّ التنزّل يلازم التقدير بالمقدار ، أفادت أنّ الخزائن ـ التي من كلّ شيء عنده سبحانه ـ وجوداتٌ غير محدودة ولا مقدّرة ، فهي من عالم الأمر قبل الخلق .

وحيث عبّر سبحانه بلفظ الجمع المشعر بالكثرة ؛ فلا بدّ أن يكون الامتياز بين أفرادها بشدّة الوجود وضعفه ، وهو المراتب ، دون الامتياز الفردي بالمشخّصات ، مثل الأفراد من نوع واحد ؛ وإلاّ وقع الحدُّ والقدر .

وقدر أنبأ سبحانه أن لا قدر قبل التنزّل ، ففي هذا القسم من الموجود الأمري غير المحدود أيضاً ، مراتبُ واقعة وليس التنزُّل عن هناك كيفما كان ، بالتجافي وتخلية المكان السابق بالنزول إلى

ـــــــــــــ

(١) سورة فصّلت : الآية ١٢ .

(٢) سورة السجدة : الآية ٥ .

(٣) سورة الأحزاب : الآية ٣٨ .

(٤) سورة الحجر : الآية ٢١ .

١٣

اللاحق ؛ لقوله سبحانه :( مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ ) الآية(١) .

وهذه الموجودات غير المحدودة ، حيث لا حدّ لها ولا بينها ، فهي موجودة جميعاً بوجود واحد على كثرتها ، ومشتملة على جمّ الكمالات التي في عالمها ، ولا خبر ولا أثر هناك عن الأعدام والنواقص التي تفيدها المادّة ، والإمكان أو الحدّ والفقدان .

ولا تزال تتنزّل عن مرتبةٍ إلى مرتبة ، حتى تُشرف على عالم الأجسام ، وهي في جميع مراحلها مشتملةً على جمل الكمالات ، مبرّأة عن النواقص غير أنّها في كلّ مرتبة ، بحسب ما يقتضيه حال المرتبة من قوّة الموجود وضعفه ولا حجاب ولا غيبوبة ، بل أشعة الكلّ واقعة من الكلّ على الكلّ ، فهي أنوار طاهرة ؛ ولذلك وصف سبحانه الروح ـ الذي هو من عالم الأمر ـ بالطهارة والقدس ، فقال :( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (٣) ، وحكى سبحانه ذلك عن الملائكة فقال سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) (٤) ، أي نُظهر قدسك وطهارتك عن النواقص بذواتنا وأفعالنا ؛ حيث إنّ ذواتنا بأمرك ، وأفعال ذواتنا بأمرك ، كما يومي إلى جمع المرحلتين قوله سبحانه :( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ* لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٥) ، فالآية الثانية فرع للأُولى ، فهو إكرام ذاتيّ لهم.

ـــــــــــــ

(١) سورة النحل : الآية ٩٦ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٨٧ .

(٣) سورة النحل : الآية ١٠٢ .

(٤) سورة البقرة : الآية ٣٠ .

(٥) سورة الأنبياء : الآيتان ٢٦ و ٢٧ .

١٤

هذا وليس في أعمالهم إلاّ حيثيّة الأمر ؛ إذ هو المصحّح للثناء عليهم وإكرامهم منه سبحانه ، وإلاّ ففي كلّ فعل من كلّ فاعل أمر منه سبحانه ، كما يستفاد من قوله سبحانه :( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (١) ، وقوله :( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) الآيات(٢) ، فتخصيصه سبحانه عملهم بالذكر بأنّه بأمره سبحانه ، ليس إلاّ لأنّ عملهم لا جهة فيه إلاّ جهة الأمر ، وكذلك ذواتهم ، ويشير إليه بآيات أُخر ، كقوله تعالى :( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) (٣) ، وقوله : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) (٤) ، وقوله :( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ) (٥) إلى غير ذلك من الآيات .

وأيضاً فإنّ الملائكة لم تقل : أتجعل فيها مَن يفسد إلخ ، ولم يستفد صدور هذه المعاصي إلاّ بالاستفادة من قوله :( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (٦) إنّ الخلافة ـ وهي قيام الشيء مقام آخر ونيابته عنه ـ تقتضي اتّصاف الخليفة بأوصاف الحقّ سبحانه ، وهي محمودة مقدّسة ، لا يصحّ في قباله دعواهم : ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ، فلم يبق للاستناد إلاّ الجعل في الأرض ؛ فمن هنا فهموا أنّه سيؤثّر في أفعاله ، وسيتلوّن بكدورة الأرض وظلمات الطين ذاته ، ولذلك عبّروا عن الخليفة بالموصول والصلة ، فقالوا :( مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ) ، وهو الاسم ، فيكون مقابلته بدعواهم :( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) مقابلة بالاسم ، فهم طاهرون مقدّسون في أسمائهم ، أي ذواتهم من حيث الوصف ، وهو المطلوب فافهم .

ـــــــــــــ

(١) سورة غافر : الآية ٦٢ .

(٢) سورة يس : الآيات ٨٢ .

(٣) سورة الإسراء : الآية ٨٤ .

(٤) سورة الأنبياء : الآية ١٠٤ .

(٥) سورة الأعراف : الآية ٥٨ .

(٦) سورة البقرة : الآية ٣٠ .

١٥

ولنرجع إلى ما كنّا فيه ، وبالجملة : فعالَمُ الأمر عالم القدس والطهارة ، وسُمّي بالأمر لكونه لا يحتاج في وجوده إلى أزيد من كلمة : كنْ ؛ ومن هنا ربّما يُعبّر سبحانه عنه بالكلمة ، كقوله :( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) (١) ، كما يُعبِّر عن القضاء المحتوم بالكلمة ، كقوله : ( وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) (٢) ، وقال :( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الآيات(٣) .

والقضاء من عالم الأمر عنه ، وقد أطلق عليه الأمر كثيراً ، كقوله سبحانه :( أَتَى أَمْرُ اللّهِ ) (٤) ، وقوله :( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ) (٥) ، وقوله :( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) (٦) . إلى غير ذلك .

ـــــــــــــ

(١) سورة النساء : الآية ١٧١ .

(٢) سورة غافر : الآية ٦ .

(٣) سورة الصافّات : الآيات ١٧١ ـ ١٧٣ .

(٤) سورة النحل : الآية ١ .

(٥) سورة النساء : الآية ٤٧ سورة الأحزاب : الآية ٣٧ .

(٦) سورة يوسف : الآية ٢١ .

١٦

وقال سبحانه :( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) الآية(١) ؛ إذ التبديل فرع قبول التغيّر الذي هو من لوازم المادة والقوّة ، وعالم الأمر ـ كما عرفت ـ مبرّأ منها .

وقال سبحانه :( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) (٢) ، وقال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) الآية(٣) .

فتبيّن من جميع ذلك : أنّ عالم الأمر مؤلّف من عوالم كثيرة مترتّبةٍ بعضها ، لا تحديد ولا تقدير لموجوداتها ، غير أنّها معلولة له سبحانه ، بل هي موجودات طاهرةٌ نوريّة متعالية دائمة غير نافذة ولا محدودة ، وبعضها يشتمل على موجودات نوريّة متعالية دائمة ، غير نافذة لكنّها محدودة ، ويشتمل الجميع على جميع كمالات هذه النشأة الجسمانيّة ولذائذها ومزاياها ، بنحو أعلى وأشرف ، غير مشوب بنواقص المادة وأعدامها وكدوراتها وآلامها ، ولا حجاب يحتجب الحقّ سبحانه به عنها ، كلّ ذلك بحسب وجودهم ومراتب ذواتهم .

ثمّ إنّ الحقّ سبحانه بيّن أنّ الروح من هذا العالم ، فقال تعالى :( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٤) .

وممّا مرّ من البيان تعرف أنّ قوله سبحانه :( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) يشتمل على بيان الحقيقة ، وليس استنكافاً عن الجواب والبيان فبيّن سبحانه أنّ الروح موجود أمري غير خَلقي ، كما يومي إليه قوله تعالى :( ثمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ

ـــــــــــــ

(١) سورة يونس : الآية ٦٤ .

(٢) سورة الكهف : الآية ١٠٩ .

(٣) سورة لقمان : الآية ٢٧ .

(٤) سورة الإسراء : الآية ٨٥ .

١٧

اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (١) ؛ فظهر بذلك أنّه مشارك مع سائر موجودات عالم الأمر ، في شئونهم وأوصافهم وأطوارهم .

ثمّ قال سبحانه : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) (٢) فبيّن أنّ الروح كان غير البدن ، وأنّه إنّما سكن هذه البنية بالنفخ الربّاني ، وهبط إليه من مقامه العلوي .

ثمّ قال سبحانه :( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) (٣) فبان بذلك أنّ هذا الطائر القدسي سيترك هذه البنية المظلمة بجذب ربّاني ، كما سكنها أوّلاً بنفخ ربّاني ، وقد قال سبحانه :( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٤) .

ثمّ قال سبحانه : ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (٥) زعماً منهم أنّهم هم الأبدان ، وهي تتلاشى وتضلّ في الأرض ، فقال سبحانه وتعالى :( بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثمّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) الآية(٦) ، فبيّن سبحانه أنّ الذي يلقى الله تعالى ويتوفّاه ملك الموت ، أي يأخذه ويقبضه ، وهو روحُهم ، وهو نفسهم المدلول عليها بلفظ (كُم) ، فما يحكى عنه الإنسان بلفظ (أنّا) هو روحه ، وهو الذي يقبضه الله ويأخذه بعد ما نفخه ، وهو غيرُ البدن .

ثمّ قال سبحانه : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) (٧) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة المؤمنون : الآية : ١٤ .

(٢) سورة الحجر : الآية ٢٩ .

(٣) سورة الأنبياء : الآية ١٠٤ .

(٤) سورة الأحقاف : الآية ٣ .

(٥) سورة السجدة : الآية ١٠ .

(٦) سورة السجدة : الآيتان ١٠ و ١١ .

(٧) سورة طه : الآية ٥٥ .

١٨

وقال سبحانه :( فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) (١) فبيّن أنّ للروح مع ذلك اتّحاداً ما مع البدن ، فبهذه الحياة الدنيا فهو هو .

ويشير إليه ما في (العلل) مسنداً عن عبد الرحمن ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : قلت : لأيّ علّة إذا خرج الروح من الجسد وجد له مساً ، وحيث ركبت لم يعلم به ؟ قال :(لأنّه نما عليها البدن) (٢) .

وقال سبحانه :( ثمّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ ) الآية(٤) ، فبيّن سبحانه أنّه ملك الروح بعد توحيده مع البدن ، وإعطائه جوارح البدن وأعضائه قوى سامعةً وباصرة ، ومتفكّرة عاقلة وتمّم له إذ ذاك جميع الأفعال الجسمانيّة التي ما كان يقدر على شيء منها لولا هذا الإعطاء والجعل ، وهيّأ سبحانه له جميع التصرّفات الجسمانيّة في عالم الاختيار ، وسخّر له ما في السموات والأرض ، وسخّر له الشمس والقمر دائبين ، وسخّر له الليل والنهار ؛ قال سبحانه :( مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) (٥) ، فالتسخير والتدبير للأمر وبالأمر دون الخلق ، وإنّما للخلق ، وهو مجموع عالم الأجسام الآليّة والأداتيّة ، قال تعالى : ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) الآية(٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : الآية ٢٥ .

(٢) علل الشرائع : ١ / ٣٥٩ ، الباب ٢٦١ ، الحديث ١ .

(٣) سورة السجدة : الآية ٩ .

(٤) سورة الملك : الآية ٢٣ .

(٥) سورة الأعراف : الآية ٥٤ .

(٦) سورة إبراهيم : الآية ٣٤ .

١٩

فهذاأوّل الفروق التي يفترق بها الروح عن الملائكة ، وهما جميعاً من عالم الأمر ، فالروح موجود مجرّد ، محلّى بحلل الكمالات الحقيقيّة ، مُبَرّأ عن القوة والاستعداد والمنقصة والعدميات ، منزّه عن الاحتجاب بحجب الزمان والمكان ، سائر في مراتب الأمر ومدارج النور ، وهو مع ذلك يقبل أن ينزل عن عالمه إلى هذا العالم ، فيتّحد بالأجسام ويتصرّف في جميع الأنحاء الجسميّة ، والجهات الاستعداديّة والإمكانيّة ، بالاتّحاد من غير واسطة ، بخلاف الملائكة فإنّهم محدودو الوجود بعالم الأمر ، لا يجاوزون أُفق المثال .

ثمّ إنّه سبحانه قال : ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) الآية(١) ، فبيّن أنّ هبوطهم إلى الأرض يوجب انشعاب الطريق إلى شعبتين : شعبة السعادة ، وشعبة الشقاوة ، وتفرّقهم فريقين : فريق في الجنّة ، وفريق في السعير .

ثمّ قال سبحانه :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) (٢) فبيّن أنّ طريق الشقاوة في الحقيقة هلاك وبوار ، فهناك منتهى سفرهم من عالم القدس وأمّا طريق السعادة ، فهو الحياة الجارية الدائمة ، قال تعالى :( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) (٣) ، وقال سبحانه :( مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ ) (٤) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآيتان ٣٨ ـ ٣٩ .

(٢) سورة إبراهيم : الآية ٢٨ .

(٣) سورة يونس : الآية ٢ .

(٤) سورة النحل : الآية ٩٦ .

٢٠