الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة20%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56574 / تحميل: 7205
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

يؤكّد كون الرواية لم تنقل كاملة ـ بل سقطت منها الكلمة التي هي على خلاف أهداف وأهواء القوم ـ ما أخرجه القندوزي الحنفي عن جابر بن سمرة قال : ( كنت مع أبي عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول: ( بعدي أثنا عشر خليفة ) ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي ما الذي أخفى صوته ؟ قال : قال : ( كلهم من بني هاشم ) ، وعن سماك بن حرب مثله )(١) ، ومن ذلك يتضح أنّ كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) كانت موجودة في الحديث ، ولعلّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( كلّهم من قريش من بني هاشم ) ، وهذا ما استشعره بعض علماء السنّة كابن الجوزي ، حيث قال في ( كشف المشكل ) : ( قد أطلت البحث عن معني هذا الحديث ، وتطلّبت مظانه ، سألت عنه ، فلم أقع على المقصود به ؛ لأنّ ألفاظه مختلفه ، ولا أشك أنّ التخليط فيها من الرواة )(٢) ، ويدعم هذا القول ما ذهب إليه ابن العربي ، بعد عجزه عن تفسير حديث الاثني عشر ، تفسيراً واقعياً ، قال : ( ولعلّه بعض حديث )(٣) ، ممّا يؤكّد سقوط كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) من الحديث .

٧ – الاثنا عشر خليفة أمان لأهل الأرض ، إذا ذهبوا ماجت الأرض بأهلها ، وإذا مضوا لا يبقى الدين قائماً ، ويفقد المسلمون منعتهم وصلاحهم ، وهذه المعاني التي جاءت في حديث الاثني عشر تلتقي وتلائم تمام الملائمة مع الروايات التي نقلها الفريقان بحق أهل البيت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ٣١٥ ح ٩٠٨ .

(٢) نقلاً عن فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٣ .

(٣) شرح صحيح الترمذي : ج ٩ ص ٦٨ .

١٢١

أهل الأرض ) (١) .

٨ ـ قد افترضت نصوص الاثني عشر أنّ أولئك الخلفاء ( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) ، كما فهم هذا المعنى أيضاً ابن كثير في تفسيره عندما قال : ( ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ، ويعدل فيهم )(٢) ، ولا يجد المتتبّع تفسيراً واحداً من التفاسير لهذا الحديث ، يجمع فيه اثني عشر خليفة كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، خصوصاً مع ما ذكرناه من وجوب كون أولئك الخلفاء سلسلة متكاملة ، ومتناسقة ومتوالية زماناً ، وهذا ما يثبت لنا عدم مصداقية أي تطبيق واقعي للحديث ، سوى أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين جعلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هداة مهديين من بعده ، وأمر بالتمسّك بهديهم ، وجعلهم عِدلاً للقرآن الكريم لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض .

٩ ـ من الخصائص المهمّة التي تضمّنتها أحاديث الاثني عشر قيموميّة أولئك الخلفاء على الدين والأمة ( اثنا عشر قيماً ) ، ولا شك أنّ القيموميّة تستدعي الرقابة والوصاية على الدين ، وعلى الأمّة الإسلامية ، وهذا المعنى لم يُدّع لأحد ، ولا ادّعاه غير أهل البيتعليهم‌السلام ، وهذا هو مقتضى كونهم عِدلاً للقرآن الكريم ، وأيضاً مقتضى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( في كل خلوف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ ؛ انظر : المستدرك : الحاكم : ج ٢ ص ٤٤٨ ؛ قال فيه : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٠ ص ٢٠ ؛ النزاع والتخاصم : المقريزي : ص ١٣٢ ؛ وغيرها .

(٢) تفسير ابن كثير : ج ٢ ص ٣٤ .

١٢٢

توفدون ) (١) .

١٠ ـ إنّ الصخب ، واللغط ، والضجّة المفتعلة ، وقيام القوم وقعودهم ، وتصميتهم لجابر والحاضرين يثير الانتباه ، ويستدعي الريب ، ويكشف أنّ في الأمر شيئاً ، لا يريد القوم وصوله إلى مسامع الحاضرين ، ولم تكن هذه الحادثة فريدة نوعها ، بل فعل ذلك القوم أيضاً عندما ضجّوا ، وتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما قال :( ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً ) ، فوقعت حينها الضجّة المفتعلة ، حتى قال بعضهم : إنّ النبي ليهجر ، وليس ذلك إلاّ للحرص على الخلافة ، وطمعاً بالملك والسلطان والإمارة وهو الذي قد أخبر عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مخاطبته لأصحابه بقوله :( إنّكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ) (٢) .

١١ ـ حديث ابن مسعود المتقدّم ، يكشف عن أنّ الصحابة هم الذين سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخلفاء من بعده ، وهذا يلفت النظر إلى نقطتين :

الأُولى : أنّه ليس من المنطقي أن يسأل الصحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأُمراء الذين يتسلّطون على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، وهو ذلك الرسول العظيم الذي ختم الرسالات فلا نبي بعده .

إذن لابد أن يكون السؤال عن الخلفاء الذين نصّبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده ، وهم أهل بيتهعليهم‌السلام بنص حديث الغدير وحديث الثقلين وغيرهما ، وهذا ديدن وطريقة اعتادها الصحابة آنذلك ، فقد سألوا أبا بكر وعمر عن الذي يلي الأمر من بعدهما .

ـــــــــــــ

(١) الصواعق المحرقة : ٢٣١ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٤ ص ٣٥٥ ح ٧١٤٨ ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٠ ص ٣٣٤ ؛ وغيرهما من المصادر الكثيرة .

١٢٣

الثانية : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد من الإمرة والخلافة من يكون مؤهّلاً ومستحقّاً لها ، فلا معنى لحمل الحديث على أمثال معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم ، الذين عاثوا في الأرض فساداً ، ولعبوا بمقدّرات الأمة الإسلامية بما شاءوا ورغبوا ، فالمراد من الخليفة هو مَن يستمد سلطته من الشارع الأقدس ، ومن أجل ذلك ذكر شارح سنن أبي داود في شرحه ( عون المعبود ) أنّ : ( السبيل في هذا الحديث ، وما يتعقّبه في هذا المعنى أن يحمل على المقسطين منهم ، فإنّهم هم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة )(١) .

١٢ ـ بعد أن صدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع بذكر الخلفاء من بعده ، وأنّهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ومن بني هاشم ، وكلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، لم يكتف بذلك ـ ولعلّه لما حصل من الضجّة واللغط المفتعل ـ بل قام خطيباً ، بعد رجوعه من حجّة الوداع في طريقه إلى المدينة في غدير خم ، ونصّب عليّاً خليفة من بعده ، فعيّن أوّل خليفة من الخلفاء الاثني عشر ، وبادر بعد ذلك قائلاً : ( إنّي تارك فيكم الخليفتين من بعدي ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) (٢) ، حينها عرف الناس مَن هم الخلفاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتمّ بذلك الحجّة على الخلق ، لكي يسدّ بذلك منافذ الريب والتشكيك ، ولئلاّ يقول أحد : إنّي لم أسمع ، أو خفي علي ، أو صمّنيها ، أو صمّتنيها الناس !! .

ـــــــــــــ

(١) عون المعبود : ج ١١ ص ٢٤٥ .

(٢) المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٦ ص ٣٠٩ ، كتاب السنّة ، عمرو بن أبي عاصم: ص ٣٣٧ ح ٧٥٤ ص ٦٢٩ ح ١٥٤٩ ؛ مسند أحمد : ج ٥ ص ١٨٢ ؛ المعجم الكبير: ج ٥ ص ١٥٣ ح ٤٩٢١ ص ١٥٤ ح ٤٩٢٢ ؛ مجمع الزوائد : ج ١ ص ١٧٠ قال الهيثمي : ( رواه الطبراني ورجاله ثقات ) ، وكذا في ج ٩ ص ١٦٢ ، وقال في ص ١٦٣ : ( رواه أحمد وإسناده جيّد ) ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ٤٠٢ ح ٢٦٣١ ؛ الدر المنثور : ج ٢ ص ٢٨٥ .

١٢٤

١٣ ـ ما ورد من الأحاديث المتضافرة التي نصّت على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، والتي تناولت الأئمّة الاثني عشر بذكر أسمائهم على نحو التفصيل ، وهي كثيرة جدّاً نكتفي بذكر بعضها :

١ ـ ما جاء في فرائد السمطين للحمويني المصري(١) : ( عن مجاهد عن ابن عباس قال : قدم يهودي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له : نعثل ، فقال : يا محمد إنّي أسألك عن أشياء ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن وصيّك مَن هو ؟ ، فما من نبي إلاّ وله وصي ، وإنّ نبيّنا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون ، فقال :نعم ، إنّ وصيي والخليفة من بعدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وبعده سبطاي : الحسن ثم الحسين ، يتلوه تسعة من صلب الحسين أئمّة أبرار ، قال : يا محمد فسمّهم لي ؟

قال :نعم ، إذا مضى الحسين فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، فإذا مضى محمد فابنه جعفر ، فإذا مضى جعفر فابنه موسى ، فإذا مضى موسى فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، ثم ابنه علي ، ثم ابنه الحسن ، ثم الحجّة ابن الحسن ، أئمّة عدد نقباء بني اسرائيل ، فهذه اثنا عشر )(٢) .

٢ ـ ونقل الحمويني أيضاً في فرائده : عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أيّها الناس

ـــــــــــــ

(١) أطرى عليه الذهبي ت / ٧٤٨ هـ في تذكرة الحفاظ قال : الإمام المحدث الأوحد الأكمل فخر الإسلام صدر الدين ، إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخراساني الجويني شيخ الصوفية كان شديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الاجزاء ، حسن القراءة مليح الشكل مهيباً ديّناً صالحاً مات سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة تذكرة الحفّاظ ، الذهبي : ج ٤ ص ١٥٠٦ .

(٢) فرائد السمطين ، الحمويني : ج ٢ ص ١٣٣ ص ١٣٤ ح ٤٣١ ، وبنفس الألفاظ ما جاء في ينابيع المودة للقندوزي ، ج ٣ ص ٢٨٢.

١٢٥

إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أنصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيي وخليفتي ولكن أوصيائي منهم : أوّلهم أخي ، ووزيري ، ووارثي ، وخليفتي في أُمّتي ، وولي كل مؤمن بعدي ، هو أوّلهم ثم ابني الحسن ، ثم ابني الحسين ، ثم التسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد حتى يردوا عليّ الحوض ) (١) ـ وهكذا ينقل الحمويني ذلك في مواطن عديدة ، وروايات عديدة وبطرق مختلفة ؛ فراجع .

٣ ـ الحافظ أبو محمد بن أبي الفوارس في كتابه ( الأربعين )(٢) .

كذلك أخرج ذكر الخلفاء من أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسمائهم .

٤ ـ العلاّمة أبو مؤيد موفق بن أحمد المتوفّى (سنة ٥٦٨) في كتابه ( مقتل الحسين ) : ذكر الخلفاء أيضاً بأسمائهم المتقدّمة(٣) .

٥ ـ العلاّمة فاضل الدين محمد بن محمد بن إسحاق الحمويني الخراساني في ( منهاج الفاضلين )(٤) .

٦ ـ كذلك الحمويني في ( درر السمطين )(٥) .

٧ ـ العلاّمة الشيخ إبراهيم بن سليمان في كتاب ( المحجّة على ما في

ـــــــــــــ

(١) فرائد السمطين ، الحمويني ، السمط الأول : ج ١ ص ٣١٥ ـ ٣١٨ ح ٢٥٠ .

(٢) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٥٩ ؛ نقلاً عن كتاب الأربعين ، ابن أبي الفوارس : ص ٣٨ .

(٣) مقتل الحسين ، الخوارزمي : ص ١٤٦ ـ ١٤٧ .

(٤) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٦٨ ؛ نقلاً عن كتاب منهاج الفاضلين ، الحمويني : ص ٢٣٩ .

(٥) شرح إحقاق الحق ، السيد المرعشي النجفي : ج ٤ ص ٩٣ ـ ٩٤ ؛ نقلاً عن كتاب درر السمطين ، الحمويني : ص ٧٢٢ .

١٢٦

ينابيع المودّة )(١) ، أيضاً ذكرهم بأسمائهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٨ ـ العلاّمة المولى محمد صالح الكشفي الحنفي الترمذي ، في كتابه ( المناقب الرضوية )(٢) .

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي تؤكّد هذا المعنى .

وعلى ضوء ما سلف ، يتحصّل أنّ العترة الطاهرة يمثّلون امتداداً طبيعياً لحركة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع أبعاد الحياة ، وقد فرضوا شخصيّتهم رغم أنف الأعداء ، وقد أجمعت الأمة على أعلميّتهم وأهليّتهم للخلافة ، وأنّهم الأسوة الحسنة ، ويعد ذلك من أفضل الأدلة لإثبات أحقيّتهم ، وأهليّتهم للإمامة والقيادة ، وعصمتهم ؛ لأنّهمعليهم‌السلام جسّدوا النظرية الإسلامية على الواقع العملي ، فعندما نرصد حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، وكيف كانوا إسلاماً متحركاً على الأرض ، وقرآناً ناطقاً يعيش بين الناس ؛ نستنتج مباشرة أن هذا المستوى الرفيع من الأسوة والقدوة لا يمكن أن تعكسه إلاّ شخصيات معصومة ، استجمعت فيها الصفات التي تؤهّلها لأن تكون منبع الهداية للبشرية ؛ لذا أجمعت الأمة على أنّ هؤلاء العترة لهم من الخصائص والمميزات ما لم تكن لغيرهم ، رغم ما عانوه من ظلم واضطهاد ، فهم الذين تنطبق عليهم خصوصيات الاثني عشر ، التي بيّنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث الأثني عشر المتقدمة ، ولكن أصحاب المطامع آلوا على أنفسهم إلاّ أن يُقصوا وينحّوا أهل البيتعليهم‌السلام عن مناصبهم ومراتبهم التي رتّبهم الله فيها ، ولم يكتفوا بذلك بل تمادوا في تعريض أهل البيتعليهم‌السلام لألوان الظلم والاضطهاد ، والمعاملة السيّئة الفظّة الغليظة ، التي يندى لها الجبين ، وتعتصر منها القلوب ألماً ومرارة ، ولم يكن لهم ذنب سوى أنّهم كانوا الامتداد الإلهي لخط الرسالة ، وكانوا أمناءها ، والرقباء عليها ، فهم الثقل الموازي للقرآن الكريم .

ـــــــــــــ

(١) المحجّة على ما في ينابيع المودّة ، الشيخ هاشم بن سليمان : ص ٤٢٧ .

(٢) المناقب المرتضوية ، محمد صالح الترمذي : ص ١٢٧ .

١٢٧

إذن ، ينبغي علينا كمسلمين أن نستنير بنور هؤلاء الهداة الميامين ، ونكون بذلك ممتثلين لأوامر الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وممّا تقدّم اتضحت الإجابة بخصوص ما قد يقال : من أنّ وصف عزّة الإسلام بأولئك الخلفاء الاثني عشر لا ينطبق على أئمّة الشيعة ، حيث الموقع السامي والريادي والمكانة العظيمة التي يمتلكها أهل البيتعليهم‌السلام في نفوس الأمة الإسلامية ، وهو ما أكّده علماء السنّة في أغلب كتبهم ، وبالإضافة إلى ذلك نقول :

إنّ عزة الإسلام وصلاحه وبقائه إلى قيام الساعة ، من المهام ، والوظائف الأساسية ، التي أناط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسؤوليتها ، وتحقيقها بأهل البيتعليهم‌السلام ، كما يكشف عن ذلك حديث الثقلين وحديث الغدير ، وأنّهم عِدل القرآن ، وأنّ النجاة والأمان والعزّة عند الله لا تنال إلاّ بالاعتصام والتمسّك بهم ، ومَن يتبعهم يكون عزيزاً بعزّة الله ، مرضيّاً عنده تعالى .

كما أخرج ذلك الحاكم في مستدركه ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ) (١) ، ثم علّق عليه قائلاً : هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٤٩ .

١٢٨

وبنفس المضمون ما ورد في عدّة كثيرة من المصادر عن عمر : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( في كل خلوف من أُمّتي عدول أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن توفدون ) (١) .

وعن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنّة عدن ، غرسها ربّي ، فليوال عليّاً ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً ، ويل للمكذبين بفضلهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ) (٢) .

وعن عمار بن ياسر ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أوصي مَن آمن بي وصدّقني بولاية علي بن أبي طالب ، مَن تولاّه فقد تولاّني ، ومَن تولاّني فقد تولّى الله عزّ وجلّ ، ومَن أحبّه فقد أحبّني ، ومَن أحبّني فقد أحبّ الله تعالى ، ومَن أبغضه فقد أبغضني ، ومَن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجلّ ) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : ( رواه الطبراني بإسنادين أحسب فيهما جماعة ضعفاء ، وقد وثقوا )(٣) .

وقد أخرجها ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق بطرق كثيرة(٤) .

وعن وهب بن حمزة قال : ( صحبت عليّاً إلى مكة فرأيت منه بعض ما أكره ، فقلت لأن رجعت لأشكونّك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قدمت لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــ

(١) ذخائر العقبى ، محي الدين الطبري : ص ١٧ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣٥٢ ؛ رشفة الصادي ، أبو بكر الحضرمي : ص ١٧ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ١١٤ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٢ ص ٢٤٠ ؛ حلية الأولياء ، الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : ج ١ ص ٨٦ .

(٣) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٨ ، ١٠٩ .

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٢ ص ٢٣٩ وما بعدها .

١٢٩

فقلت : رأيت من علي كذا وكذا ، فقال :لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي )(١) .

وعن زيد بن أرقم قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فإنّ ربّي عزّ وجلّ غرس قصباتها بيده ، فليتولّ علي بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هديي ولن يدخلكم في ضلالة ) (٢) ، قد أخرجه الحاكم في المستدرك وقال عنه : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة ، والروايات المتواترة معنىً ومضموناً ، مع صحّتها وصراحتها ، وأدنى ما نجيب عمّن أراد التشكيك بها : أنّها تفيد القطع واليقين ؛ لتعدّد ألفاظها ، وكثرة طرقها ، والمصادر التي نقلتها ، فهي أحاديث نبويّة يقوّي بعضها بعضاً لإثبات مضمونها بالقطع واليقين ، وهو وجوب التمسّك بولاية أهل البيتعليهم‌السلام واتّباع هديهم .

إذن بأهل البيتعليهم‌السلام وباتباعهم تتحقق عزّة الإسلام ، والحفاظ على وجوده الحقيقي وقيمه ومبادئه الأصيلة ، من التقوى والإخلاص والاستقامة والصلاح وغيرها من المعارف الروحية والقيم الأخلاقية ، وليست عزّة الإسلام بالتظاهر بالإسلام ، واتخاذه شعاراً للتسلّط على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، ومن هنا نجد أنّ الحكم الإسلامي على يد الظلمة تحوّل إلى ما كان عليه قبل الإسلام من كونه ملكاً عضوضاً لا يحمل من قيم الإسلام شيئاً .

إذن عزّة الإسلام لا تتحقق إلاّ في حفظ الإسلام الحقيقي ، الذي لا يتحقق إلاّ باتباع أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٢٢ ص ١٣٥ ؛ مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٠٩ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٤ ص ٤٧٠ ـ ٤٧١ .

(٢) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ١٩٤ .

(٣) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٣٠ .

١٣٠

الأُمّة لم تجتمع على أهل البيتعليهم‌السلام

وأمّا عبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) ، وأنّ أهل البيتعليهم‌السلام ما أجتمعت عليهم الأُمّة فجوابها :

١ ـ إنّ رواية الاثني عشر خليفة المتضمّنة لعبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) لم ترد في الكتب الحديثية ، والمصادر السنّية ، إلاّ في سنن أبي داود ومسند البزار ، ولم يخرجاها إلاّ بسند واحد ضعيف ، كما ذكر ذلك الألباني ، في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حيث قال : ( وأخرجه أبو داود ( ٢ / ٢٠٧) من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبيه ، عن جابر بلفظ : لا يزال هذا الدين قائماً ، حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ، كلهم تجتمع عليه الأمة ، كلّهم من قريش ، وأخرجه البزار (١٥٨٤ ـ كشف) عن أبي جحيفة نحوه ، وهذا سند ضعيف ، رجاله كلهم ثقات ، غير أبي خالد هذا ، وهو الأحمسي ، وقد تفرّد بهذه الجملة ( كلهم تجتمع عليه الأمة ) ، فهي منكرة )(١) ، والتضعيف ذاته ذكره أيضاً في تعليقته على سنن أبي داود ، حيث قال بعد أن أورد الحديث : ( صحيح : دون قوله ( تجتمع عليه الأمة ) )(٢) .

٢ ـ من الشواهد التي تؤكّد عدم صحّة صدور هذه العبارة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عدم انطباقها على الواقع أصلاً ، حيث لم نجد شخصاً اجتمعت عليه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل البعض ممّن ادعي كونه من الخلفاء الاثني عشر ، لم يجتمع عليه أغلب الأمة ، فضلاً عن جميعها .

ـــــــــــــ

(١) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، الألباني : مج ١ ، ق ٢ ، ص ٧٢٠ ح ٣٧٦ .

(٢) صحيح سنن أبي داود الألباني : ج ٣ ص ١٩ ح ٤٢٧٩ .

١٣١

ولذا قال ابن كثير في البداية والنهاية ( فإن قال : أنا لا اعتبر إلاّ مَن اجتمعت الأمة عليه ، لزمه على هذا القول أن لا يعد علي بن أبي طالبعليه‌السلام ولا ابنه ؛ لأنّ الناس لم يجتمعوا عليهما ؛ وذلك أنّ أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما ، ولم يقيّد بأيام مروان ، ولا ابن الزبير كأنّ الأمّة لم تجتمع على واحد منهما )(١) .

وهذا ما اعترف به ابن حجر العسقلاني أيضاً في فتح الباري(٢) .

٣ ـ إن أكثر مَن أدعي اجتماع الأمة عليه ، كيزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، والوليد ، و مروان الحمار ، وغيرهم لم يكن متوفّراً على خصائص الخلفاء الاثني عشر ، من كونهم يعملون بالهدى ودين الحق ، وأنّهم قيّمون على الدين ، والدين قائم بهم ، وغير ذلك من الصفات السامية ، التي تقدّم ذكر بعضها .

الخلاصة

١ ـ إنّ حديث الاثني عشر ، حقيقة صادرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تواترت الروايات من الفريقين بنقلها بألسن مختلفة ، كلّها تشير إلى مضمون واحد ، ومن هذه الروايات قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٦ ص ٢٨٠ .

(٢) فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٢ .

(٣) مسند أحمد : ج ٥ ص ٩٧ ص ١٠٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ٦١٨ ؛ انظر : مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٥ ص ١٩٠ وقد صحّحه .

١٣٢

٢ ـ إنّ أهل السنّة لم يتمكّنوا أن يقدّموا تفسيراً واقعيّاً لحقيقة الاثني عشر خليفة ، وإنّ تفسيراتهم المضطربة والمتناقضة فيما بينها خير شاهد على عجزهم عن فهمها وتفسيرها ، على الرغم ممّا ارتكبوه من تكلّف ظاهر على حدّ تعبير بعضهم ، لا سيّما وأنّ البعض(١) قد أوكل تفسير حديث الاثني عشر إلى الله تعالى بعد أن عجز عن تفسيره تفسيراً صحيحاً .

٣ ـ إنّ الخصائص والمميزات التي تحملها أحاديث الاثني عشر ، لا تنطبق في الواقع الخارجي إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام ، فمثل صفة ( صلاح أمر الأُمّة والناس بهم ) و( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) و( إذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) ، ونحوها ، لا تنسجم ولا تنطبق إلاّ على عترة أهل البيتعليهم‌السلام ، فضلاً عمّا يحمله أهل البيتعليهم‌السلام من خصائص ومميّزات استثنائية ، وما يحملونه من مؤهّلات علمية وعملية بإجماع أهل العلم ، وعلى جميع المستويات الفكرية والروحية ونحوها ، كل هذا يؤكّد ويدعم كون حديث الاثني عشر لا يمكن انطباقه إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) شرح صحيح مسلم ، النووي : ج ١٢ ص ٢٠٣ .

١٣٣

الفصل الثالث: غيبة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشّريف)

الشبهة :

١ ـ ما الفائدة من وجود إمام غائب ؟

٢ ـ إنّ الحجّة عند الشيعة لا تقوم إلاّ بإمام ، فكيف يترك الإمامة ويغيب ؟

الجواب :

قبل البدء ينبغي ذكر تمهيد مختصر له مدخليّة في الإجابة .

تمهيد :

إنّ الشريعة التي جاء بها الدين الإسلامي ما هي ـ في مجملها ، وحقيقتها ، وبكل جوانبها ـ إلاّ خطّة إلهيّة أُعدّت بإحكام ، ووُضعت من أجل ترشيد المجتمع البشري نحو الأصلح والأقوم ، وبلوغ السعادة في الدارين .

وقد وعد الله تعالى البشرية ـ التي عانت طوال حياتها من الظلم ، والجور ـ أن يسودها العدل والأمان في الأرض .

قال تعالى :( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ) (١) .

وقال تعالى أيضاً :( وَنُرِيدُ أَن نمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٢) .

إلاّ أنّ تحقق هذا الهدف على أرض الواقع يتوقّف على توفّر شرائطه ، التي شاء الله عزّ وجلّ بحكمته أن تكون من طرقها الطبيعية ، وضمن ما هو المألوف ، لا بشكل إعجازي وخارق لما هو المعتاد .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٣٣ .

(٢) القصص : ٥ .

١٣٤

وحيث إنّ الله تعالى ـ لحكمته ولطفه بعباده ـ قد نصّب أولياء هداة معصومين ، يمثّلون امتداداً طبيعياً للرسالة المحمّديّة ، فهم أُمناء الوحي والرسالة ، وحجّة الله على العباد ، وهم الأئمّة الاثنا عشرعليهم‌السلام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوّلهم الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وآخرهم الإمام المهديعليه‌السلام ، وقد ثبت ذلك مسبقاً ، بمقتضى عدد وافر من الآيات القرآنية ، كآية الولاية ، وآية أُولي الأمر ، وآية التطهير ، وآيات البلاغ في الغدير ، وآية المودّة في القربى(١) وغيرها ، مضافاً إلى عدد كبير جداً من الأحاديث النبويّة التي رواها أصحاب الصحاح من أهل السنّة ، كحديث الثقلين المتواتر الذي مفاده أنّ أهل البيتعليهم‌السلام لن يفترقوا عن القرآن حتى يردوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض(٢) ، فكما أنّ القرآن باقٍ إلى يوم القيامة كذلك أهل البيتعليهم‌السلام ، وكحديث الخلفاء الاثني عشر (كلّهم من قريش)(٣) ، وحديث السفينة(٤) ، وأهل بيتيعليهم‌السلام أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض(٥) وأتاهم ما يوعدون ، وغير ذلك من الأحاديث الدالّة على بقاء الإمامة الإلهية ، واستمرارها في الأرض .

ـــــــــــــ

(١) الآيات : المائدة : ٥٥ ، النساء : ٥٩ ، الأحزاب : ٣٣ ، المائدة : ٦٧ .

(٢) السنن الكبرى ، النسائي : ج ٥ ص ٤٥ ص ١٣٠ ؛ خصائص أمير المؤمنين : النسائي : ص ٩٣ ؛ المعجم الصغير ، الطبراني : ج ١ ص ١٣١ ص ١٣٥ .

(٣) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٥ ص ٨٧ ـ ٨٨ .

(٤) مجمع الزوائد : الهيثمي ، ج ٩ ص ١٦٨ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ج ٦ ص ٨٥ .

(٥) شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ، ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ .

١٣٥

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ خلفائي ، وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي ، الاثنا عشر ، أوّلهم عليّ ، وآخرهم ولدي المهدي ) (١) .

وشاءت الإرادة الإلهية أن يكون الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ـ الذي يمثّل الحلقة الأخيرة من سلسلة الأئمّة الهداة ـ مصلحاً للبشرية ، ومحققاً للهدف النهائي ، والثمرة الكبيرة والمرجوّة من رسالات السماء وبعث الأنبياء ، قال تعالى :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللهَ قَوِيّ عَزِيزٌ ) (٢) .

إذن فلابدّ ـ بحسب التخطيط الإلهي ـ من إقامة العدل ، والسلام في العالم ، بعد انتشار الظلم والجور والفساد في ربوع الأرض وأرجائها ، وهو ما نشاهده ونراه بالحس والعيان في كل حدب وصوب ، وهذا ما يتطابق مع ما تنبّأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( تملأ الأرض ظلماً وجوراً ، ثم يخرج رجل من عترتي ، يملك سبعاً أو تسعاً ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ) (٣) ، فكما أنّ الأرض مُلئت وستُملأ بالجور والفساد والظلم ، لابدّ لها من يوم تُملأ فيه عدلاً وقسطاً ، على يد الإمام المهديّ المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٢٩٥ .

(٢) الحديد : ٢٥ .

(٣) سنن أبي داود ، السجستاني : ج ٤ ص ٧١٢ ح ٤٢٧٦ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٣ ص ٢٨ ص ٣٦ ص ٧٠ ؛ المستدرك الحاكم : ج ٤ ص ٥٥٧ ؛ وانظر مجمع الزوائد : الهيثمي : ج ٧ ص ٣١٤ ، وقال فيه : ( رواه الترمذي وغيره باختصار ، رواه أحمد بأسانيد ، وأبو يعلى باختصار ، ورجالهما ثقات ) ؛ وانظر : المصنف : الصنعاني : ج ١١ ص ٣٧٢ ـ ٣٧٣ .

١٣٦

إلاّ أنّ النقطة الجديرة بالذكر هي أنّ تحقق هذا الهدف ، وهو إقامة العدل والقسط في الأرض ، يتوقّف على توفّر شرائطه التي أراد الله تعالى بحكمته أن تكون من الطريق الطبيعي لا الإعجازي ، وهذا ما جرت عليه السنن الإلهية في هذا العالم ، فقد قال تبارك وتعالى :( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ ) (١) ، وقال تعالى أيضاً :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإِنّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، وقال تعالى :( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ) (٣) ، وقال :( وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (٤) ، وغير ذلك من الآيات المباركة ، التي تكشف عن أنّ التخطيط الإلهي لجريان السنن في هذا العالم مبنيّ على السير الطبيعي للبشرية ، إلاّ في الظروف الخاصّة والاستثنائية ، التي تقتضي فيها الحكمة الإلهية إنجاز الهدف والوصول إليه عن طريق الإعجاز وخرق المعتاد ، وذلك كإثبات أصل نبوّة الأنبياء مثلاً .

وإقامة العدل على هذه الأرض جاء ضمن ذلك الإطار ، فلكي يتحقق على أرض الواقع ويحين أجله ، لابد من اكتمال جميع شرائطه ، وعلى ضوء ذلك كانت غيبة إمامنا المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) جزءاً من هذا التخطيط والحكمة الإلهية ، من أجل أن تكتمل باقي الشرائط لظهور الحق وإقامة العدل ، تلك الشرائط التي يتحقق معظمها في أحضان الغيبة ، وهذا ما أخبر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايات عديدة من كتب الفريقين :

ـــــــــــــ

(١) الأنفال : ٣٧ .

(٢) الأنفال : ٤٢ .

(٣) آل عمران : ١٥٤ .

(٤) آل عمران : ١٤٠ ـ ١٤٢ .

١٣٧

منها : ما أخرجه الإربلي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لمّا أنزل الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) ، قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله ، فمَن أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هم خلفائي من بعدي يا جابر ، وأئمة الهدى بعدي أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه عنّي السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم سميّي وكنيّي ، وحجّة الله في أرضه ، وبقيّته في عباده محمد بن الحسن بن عليّ ، ذلك الذي يفتح الله عزّ وجلّ على يده مشارق الأرض ومغاربها ، وذلك الذي يغيب عن شيعته ، وأوليائه ، غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان ) ، فقال جابر : فقلت : يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أي والذي بعثني بالحق ، إنّهم ليستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته ، كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سر الله ، ومخزون علم الله ، فاكتمه إلاّ عن أهله ) (٢) .

وعن علي بن علي الهلالي ، عن أبيه قال : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شكاته التي قبض فيها فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه قال : فبكت حتى ارتفع صوتها ، فرفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرفه إليها فقال :حبيبتي فاطمة ،

ـــــــــــــ

(١) النساء : ٥٩ .

(٢) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٣ ص ٣٩٩ .

١٣٨

ما الذي يبكيك ، فقالت :أخشى الضيعة بعدك ، فقال :يا حبيبتي ، أما علمت أن الله ـ عزّ وجلّ ـ اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته ، ثم أطلع إلى الأرض اطلاعه فاختار منها بعلك ، وأوحى إليّ أن أنكحك إيّاه ، يا فاطمة ، ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم تُعط لأحد قبلنا ولا تُعطى أحداً بعدنا : أنا خاتم النبيّين ، وأكرم النبيّين على الله ، وأحب المخلوقين إلى الله عزّ وجلّ وأنا أبوك ، ووصيي خير الأوصياء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو عمّك حمزة بن عبد المطلب ، وعمّ بعلك ، ومنّا مَن له جناحان أخضران يطير مع الملائكة في الجنّة حيث شاء ، وهو ابن عم أبيك ، وأخو بعلك ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة ، وهما ابناك الحسن والحسين ، وهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، وأبوهما ـ والذي بعثني بالحق ـ خير منهما يا فاطمة ـ والذي بعثني بالحق ـ إنّ منهما مهدي هذه الأُمّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن ، وتقطّعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ، فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقّر كبيراً ، فيبعث الله عزّ وجلّ عند ذلك منهما مَن يفتح حصون الضلالة ، وقلوباً غلفاً يقوم بالدين آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ، ويملأ الدنيا عدلاً كما مُلئت جوراً ، يا فاطمة لا تحزني ولا تبكي ، فإنّ الله عزّ وجلّ أرحم بك وأرأف عليك منّي ؛ وذلك لمكانك من قلبي ، وزوّجك الله زوجاً ، وهو أشرف أهل بيتك حسباً وأكرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعيّة ، وأعدلهم بالسوية ، وأبصرهم بالقضية ، وقد سألت ربّي عزّ وجلّ أن تكوني أوّل مَن يلحقني من أهل بيتي ، قال علي رضي الله عنه :فلمّا قُبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تبق فاطمة رضي الله عنهابعده إلاّ خمسة

١٣٩

وسبعين يوماً حتى ألحقها الله عزّوجلّ به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه : الهيثم بن حبيب ، قال أبو حاتم : منكر الحديث وهو متهم بهذا الحديث(١) .

أقول : ولم يجدوا في الهيثم بن حبيب مطعناً سوى روايته لهذا الحديث في فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، وله نظائر كثيرة !!

وعن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة :نبيّنا خير الأنبياء وهو أبوك ، وشهيدنا خير الشهداء وهو عمّ أبيك حمزة ، ومنّا مَن له جناحان يطير بهما في الجنّة حيث شاء وهو ابن عمّ أبيك جعفر ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة الحسن والحسين وهما ابناك ومنّا المهدي .

رواه الطبراني في الصغير وفيه قيس بن الربيع وهو ضعيف وقد وثق ، وبقيّة رجاله ثقات(٢) .

ومنها : ما جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضاً : قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً ، تكون له غيبة وحيرة ، تضل فيها الأُمم ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب ، فيملأها عدلاً كما مُلئت جوراً ) (٣)

وغير ذلك من الروايات ، الدالة على ضرورة الغيبة ، من أجل اكتمال شرائط الظهور ، وإقامة العدل والقسط ؛ وذلك من خلال تخطّي البشرية لمراحل عديدة من التمحيص والفتن والحيرة ، والابتلاء .

ـــــــــــــ

(١) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٦٥ ـ ١٦٦ .

(٢) المصدر نفسه : ج ٩ ص ١٦٦ .

(٣) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٣٨٦ .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وبالجملة : لكون عمدة نفيهم متوجّهة إلى ذلك ؛ خصّصنا بعض أدلّتها بالذِّكر ، والباقي محول إلى ما سيجيء إن شاء الله .

قال تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١) .

وقال :( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (٢) .

وقال :( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) (٣) .

وقال :( وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ) (٤) .

وقال :( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (٥) .

وقال :( أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة القيامة : الآيتان ٢٢ و ٢٣ .

(٢) سورة النجم : الآية ٤٢ .

(٣) سورة العنكبوت : الآية ٢١ .

(٤) سورة الخرف : الآية ١٤ .

(٥) سورة المائدة : الآية ١٨ .

(٦) سورة الشورى : الآية ٥٣ .

٢٠١

وقال :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١) .

وقال :( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ) (٢) .

وقال :( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) (٣) .

أقول : وهذان اللفظان ، أعني (اللقاء) و(الرجوع) كثير الدور في الكتاب والسُّنّة .

وقال سبحانه :( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) (٤) .

وسياق الآية الأُولى ، وهو قوله :( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ ) إلى :(حَتَّى يَتَبَيَّنَ ) ، يعطي أنّ المراد بالشهيد هو المشهود دون الشاهد .

وكذلك قوله :( أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ ) ، وهذا كالاعتراض ، وجوابه قوله سبحانه :( أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) .

وسياق هذه الآية الأخيرة ، وهو قوله : (أَلَا إِنَّهُ) ينافي ما يقولون : إنّ معنى اللقاء هو الموت ، أو القيامة مجازاً ؛ لبروز آياته وظهور حقّيّته سبحانه يومئذٍ ، فكأنّه تعالى مرئي مشاهد لا يراب فيه ؛ وذلك لأنّه سبحانه ردّ عليهم ريبهم في لقائه بإحاطته بكلِّ شيء ، وإحاطته في الدنيا ويوم الموت ويوم القيامة سواء ، فلا وجه لتعبيره عن الموت أو عن القيامة من جهة إحاطته باللقاء .

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ٢٤٥ .

(٢) سورة السجدة : الآية ٢٣ .

(٣) سورة العنكبوت : الآية ٥ .

(٤) سورة فصّلت : الآيتان ٥٣ و ٥٤ .

٢٠٢

على أنّ الآية حينئذٍ لا ترتبط بالآية السابقة ، بل معنى الآية ـ والله العالم ـ كفى في حقّيّته وثبوته سبحانه أنّه مشهود على كلّ شيء ، لكن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم لارتيابهم في شهوده ولقائه ، ولا يجوز لهم وكيف يجوز لهم الارتياب والامتراء وهو بكلّ شيء محيط ، فهو الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن عند كلّ شيء ،( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (١) ،( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ) (٢) ،( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (٣) .

والذي هذا شأنه ، لا يتأنّى الامتراء في شهوده ولقائه ، لكن يجوز الشكّ في أنّ آياته ستظهر ظهوراً لا ارتياب فيه من هذه الجهة ، فافهم .

وهذا الذي ذكرناه لا ينافي ما رواه في (التوحيد) عن عليّعليه‌السلام ، أنّ ما ورد في القرآن من كلمة اللقاء فُهم منه البعث ، الحديث [ توحيد الصدوق / ص ٢٦٧ ] فإنّ كلامنا في المفهوم المستعمل فيه ، كما هو ظاهر ، دون المصداق فمن المعلوم أنّ البعث من مصاديق اللقاء كما سيأتي جملة من الآيات والروايات في ذلك ، وكما هو ظاهر قوله سبحانه : ( وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا ) (٤) ، وقوله سبحانه :( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) (٥) .

ومن الروايات ما في (المحاسن) ، مسنداً عن زُرارة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قول الله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) (٦) ، قال :(كان ذلك معاينة الله ، فأنساهم المعاينة ، وأثبت الإقرار في صدورهم ولولا

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ١١٥ .

(٢) سورة المجادلة : الآية ٧ .

(٣) سورة الحديد : الآية ٤ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٣٠ .

(٥) سورة السجدة : الآية ١٠ .

(٦) سورة الأعراف : الآية ١٧٢ .

٢٠٣

ذلك ، ما عرف أحد خالقَه ولا رازقَه ، وهو قول الله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (١) ) (٢) .

ومنها : ما في (تفسير القمّي) مسنداً عن ابن مُسْكان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، في قوله تعالى :( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ) (٣) إ لى قوله : (بَلَى) ، قلت : معانية كان هذا ؟ قال :(نعم ، فثبتت المعرفة ، ونسوا الموقف ، وسيذكرونه ولولا ذلك ، لم يدرِ أحد مَن خالقُه ورازقه ، فمنهم مَن أقرَّ بلسانه في الذرّ ولم يؤمن بقلبه فقال : ( فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ) (٤) ) (٥) .

ومنها : ما في (تفسير العياشي) عن زرارة ، قال : سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله :( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) إلى : (أَنفُسِهِمْ) ، قال :(أخرج الله من ظهر آدم ذرّيته إلى يوم القيامة ، فخرجوا كالذرّ ، فعرّفهم نفسه ، واراهم نفسه ، ولولا ذلك ما عرف أحد ربّه ، وذلك قوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (٦) ) (٧) .

ومنها : ما في (التوحيد) مسنداً عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : قلت له : أخبرني عن الله عزّ وجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال :(نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة) ، فقلت : متى؟ قال :(حين قال لهم : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ) (٨) ) ، ثمّ سكت ساعة ، ثمّ قال :(وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم

ـــــــــــــ

(١) سورة الزخرف : الآية ٨٧ .

(٢) المحاسن : ١ / ٤٣٨ ، كتاب مصابيح الظلم ، ٤٣ ـ باب بدء الخلق ، الحديث ١٠١٥ / ٤١٧ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٧٢ .

(٤) سورة الأعراف : الآية ١٠١ .

(٥) تفسير القمّي : ١ / ٢٤٨ ، تفسير سورة الأعراف : الآية ٢٤٨ .

(٦) سورة لقمان : الآية ٢٥ .

(٧) تفسير العيّاشي : ٢ / ١٧٣ ، تفسير سورة الأعراف : الآية ١٠١ ، ت ١٦٥٤ / ١١٢ .

(٨) سورة الأعراف : الآية ١٧٢ .

٢٠٤

القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟ ) ، قال أبو بصير : فقلت له : جعلت فداك ، فأُحدِّث بهذا عنك ؟ فقال :(لا ، فإنّك إذا حدَّثت به فأنكره منكر ، جاهل بمعنى ما تقوله ، ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه كَفَر (١) وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون) (٢) .

ومنها : ما في (التوحيد) عن هشام ـ في حديث الزنديق ـ حين سأل الصادقعليه‌السلام عن حديث نزوله إلى سماء الدنيا ، فأجاب :(بأنّه ليس كنزول جسم عن جسم إلى جسم) ، إلى أن قال :(ولكنّه ينزل إلى سماء الدنيا بغير معاناة ولا حركة ، فيكون هو كما في السماء السابعة على العرش ، كذلك في سماء الدنيا ، إنّما يكشف عن عظمته ، ويُري أولياءه نفسه حيث شاء ، ويكشف ما شاء من قدرته ، ومنظره بالقرب والبعد سواء) (٣) .

ومنها : ما في (التوحيد) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في حديث :(وسأل موسى وجرى على لسانه من حمد الله عزّ وجلّ : ربِّ أرني أنظُرْ إليك فكانت مسألته تلك أمراً عظيماً ، وسأل أمراً جسيماً ، فعوقب ، فقال الله تبارك وتعالى : لن تراني في الدنيا حتّى تموت ، فتراني في الآخرة) (٤) ـ الحديث .

ومنها : ما في عدّة من أخبار الجنّة: (أنّ الله سبحانه يتجلّى فيها لوليّه ، ثمّ يقول له : ولك في كلّ جمعة زورة) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) كَفَرَ : فعل ماض جواب إذا .

(٢) التوحيد : ١١٣ ، باب ما جاء في الرؤية ، الحديث ٢٠ .

(٣) انظر هامش التوحيد : ٢٤٢ ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، الحديث ١ ، طبع ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي / جامعة المدرّسين بحار الأنوار : ٣ / ٣٣٠ ، كتاب التوحيد ، باب ١٤ ـ نفي الزمان والحركة والانتقال عنه تعالى ، الحديث ٣٥ .

(٤) التوحيد : ٢٥٦ ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، الحديث ٥ .

(٥) بحار الأنوار : ٨ / ٢١٥ ، باب ٢٣ ـ الجنّة ونعيمها ، الحديث ٢٠٥ .

٢٠٥

وفي (جوامع الجامع) ، الحديث :(سَتَرَون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر) (١) .

ومن الروايات ما ورد في خصوص رسول الله والأئمّةعليهم‌السلام ، ففي (التوحيد) مسنداً عن محمّد بن الفضيل ، قال : سألت أبا الحسنعليه‌السلام : هل رأى رسول الله ربّه عزّ وجلّ ؟ فقال :(نعم ، بقلبه رآه ، أمَا سمعت الله عزّ وجلّ يقول : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) (٢) ، أي لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد) (٣) .

ومنها : ما في (التوحيد) عن الرضاعليه‌السلام في حديث :(كان ( يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )إذا نظر إلى ربّه بقلبه ، جعله في نور مثل نور الحجب ، حتّى يستبين له ما في الحجب) (٤) .

ومنها : ما في (كامل الزيارة) لابن قولويه ، مسنداً عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال :(بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منزل فاطمة عليها‌السلام والحسين في حجره ؛ إذ بكى وخرّ ساجداً ، ثمّ قال : يا فاطمة ، يا بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ العليَّ الأعلى تراءى لي في بيتك هذان في ساعتي هذه ، في أحسن صورة وأهيَأ هيئة ، وقال لي : يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أتحبُّ الحسين عليه‌السلام ؟ فقلت : نعم ، قرّة عيني ، وريحانتي ، وثمرة فؤادي ، وجلدة ما بين عينيّ ، فقال لي : يا محمّد ، ووضع يده على رأس الحسين بورك من مولود عليه بركاتي وصلواتي ورحمتي ورضواني) (٥) ـ الحديث .

ومنها : قول أمير المؤمنينعليه‌السلام مستفيضاً :(لم أعبد ربّاً لم أره) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) تفسير جوامع الجوامع / الطبرسي : ١ / ٧٠٠ ، تفسير سورة الأعراف : ١٤٣ ـ ١٤٥ بحار الأنوار : ٩١ / ٢٥١ ، باب ٤٠ ـ أحراز مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الحديث ١١ .

(٢) سورة النجم : الآية ١١ .

(٣) التوحيد : ١١٢ ، باب ما جاء في الرؤية ، الحديث ١٧ .

(٤) المصدر المتقدّم : ١١٠ ، الحديث ١٣ .

(٥) كامل الزيارات : ١٤١ ، باب لعنُ الله تبارك وتعالى ولعن الأنبياء قاتلَ الحسين بن عليّعليه‌السلام ، الحديث ١٦٦ / ١ .

(٦) الكافي : ١ / ١١٩ ، باب في إبطال الرؤية ، الحديث ٢٦٠ / ٦ .

٢٠٦

ومنها : قولهعليه‌السلام :(ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله) (١) .

وبالجملة ، فالأخبار في هذا المعنى كثيرة جدّاً ، مستفيضة أو متواترة .

وليس المراد من الرؤية فيها هو قوّة العلم الحاصل بالدليل ؛ فإنّه علم فكري ، والأخبار الكثيرة الأُخرى تنفي كونه معرفة بالحقيقة ، فضلاً عن كونه رؤية وشهوداً ، فإذن المطلوب ثابت ، والحمد لله .

الفصل الرابع : في أنّ الطريق إلى هذا الكمال ـ بعد إمكانه ـ ما هو؟

نقول : حيث إنّ نسبة الحقائق إلى ما في هذه النشأة المادية والنفس البدنيّة نسبة الباطن إلى الظاهر ، وكلّ خصوصيّة وجوديّة متعلّقة بالظاهر ، متعلّقةٌ بباطنه بالحقيقة ، وبنفس الظاهر بعَرضه وتبعه ، فالإدراك الضروري الذي للنفس إلى نفسها متعلّقة بباطنها أوّلاً وبالحقيقة ، وبنفسها بعرضه وتبعه .

فالحقيقة التي في باطن النفس أقدم إدراكاً عند النفس من نفسها وأبده ، وما هي في باطن باطنها أقدم منها وأبده البديهيّات .

وحيث إنّ الوجود صرف عندها ، لا يتصوّر له ثانٍ ولا غير ، فلا يتصوّر بالنسبة إلى إدراكها دفع دافع ، ولا منع مانع ، وهذا برهان تامّ غير مدفوع البتّة .

ثمّ نقول : إنّ كلّ حقيقة موجودة ، فهي مقتضية لتمام نفسها في ذاتها وعوارضها وهذه مقدّمة ضروريّة في نفسها ، غير أنّها محتاجة إلى تصوّر تامّ : فإذا فرضنا حقيقة مثل (أ) مثلاً ، ذات عوارض مثل : (ب) (ج) (د) , فهذه الحقيقة في ذاتها تقتضي أن تكون (أ) , لا ناقصاً من (أ) والناقص من (أ) ليس هو (أ) , وقد فرضناها (أ) .

وأيضاً هي تقتضي عوارض مثل : (ب) (ج) (د) , وهي هي والناقص من (ب) (ج) (د) , ليس هو (ب) , ليس هو (ب) (ج) (د) , وقد فرضناها (ب) (ج) (د) لا غير ، وهو ظاهر .

وهذا الذي تقتضيه كلّ حقيقة في ذاتها وعوارضها ، هو الذي نسمّيه بالكمال والسعادة .

ـــــــــــــ

(١) شرح الأسماء الحسنى / الملاّ هادي السبزواري : ١ / ٤ نظرات في التصوّف والكرامات / محمّد جواد مغنية : ٧١ ، صدر المتألّهين ، ولكن ورد فيها : (ما رأيت شيئاً إلاّ رأيت الله معه) .

٢٠٧

ثمّ ِإنّ حقيقة كلّ كمال هي التي تتقيّد في ذاتها بقيد عدمي ، وهو النقص ، فإنّ كلّ كمال فهو في ذاته واجد لذاته ، فلا يفقد من ذاته شيئاً إلاّ من جهة قيد عدمي معه بالضرورة فحقيقة (أ) مثلاً واجدة لما فرض أنّه (أ) فانفصال وجود هذا الشخص من (أ) من ذلك الشخص من (أ) ، ليس إلاّ لوجود قيد عدمي عند كلّ واحد من الشخصين ؛ يوجب فقد حقيقة (أ) في كلّ منهما شيئاً من ذاتها لا من عوارضها ، وهو محال بالانقلاب أو الخلف ، بالنظر إلى ذات (أ) المفروض في ذاته ، بل الفاقد لخصوصيّة هذا الشخص هو ذلك الشخص من (أ) .

فلحقيقة (أ) مرتبتان : مرتبةٌ في ذاتها لا تفقد فيها شيئاً من ذاتها ، ومرتبةٌ عند هذا الشخص وعند ذلك الشخص ، فيها يصير شيء من كمالها مفقوداً .

وليس ذلك من التشكيك في شيء ؛ فإنّا إذا فرضنا هذا الشخص مرتبة منها ، فهو أيضاً (أ) وعاد المحال ، بل الشخص بحيث إذا فرض معه الحقيقة كان هذا الشخص ، وإذا قطع عنها النظر لم يكن شيئاً ؛ إذ لا يبقى معه إلاّ قيد عدمي ، فهو هو معها وليس هو دونها ، فليس في مورد الشخص إلاّ الحقيقة ، والشخص أمر عدمي وهمي اعتباري وهذا المعنى هو الذي نصطلح عليه بالظهور ، فافهم.

ويظهر من هنا أنّ حقيقة كلّ كمال هو المطلق المرسل الدائم منه ، وأنّ قرب كلّ كمال من حقيقته بمقدار ظهور حقيقته فيه ، أي اقترانها بالقيود والحدود فكلّ ما ازدادت القيود قلّ الظهور ، وبالعكس .

ويظهر من هنا أنّ الحقّ سبحانه هو الحقيقة الأخيرة لكلّ كمال ، حيث إنّ له صِرف كلّ كمال وجمال ، وأنّ قرب كلّ موجود منه على قدر قيوده العدميّة وحدوده .

٢٠٨

ويظهر من ذلك أنّ وصول كلِّ موجود إلى كماله الحقيقي مستلزم لفنائه ، حيث إنّه مستلزم لفناء قيوده وحدوده في ذاته ، أو في عوارضه فقط ، وبالعكس ، فناءُ كلِّ موجود مستلزم لبقاء حقيقته في مورده فقط ، قال تعالى :( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (١) .

فالكمال الحقيقي لكلّ موجودٍ ممكنٍ هو الذي يفنى عنده ، فالكمال الحقيقي للإنسان أيضاً هو الذي يصير عند كماله الإنساني مطلقاً مرسلاً ، ويفنى عنده الإنسان لا كمال له غير ذلك البتّة .

وقد مرّ في البرهان السابق أنّ شهود الإنسان لذاته الذي هو عين ذاته ، شهود منه لجميع حقائقه ولحقيقته الأخيرة ، وحيث أنّه فان ٍعند ذلك ؛ فالإنسان شاهد في عين فنائه .

وإن شئت قلت : إنّ حقيقته هي الشاهدة لنفسها ، والإنسان فانٍ .

هذا ، فالكمال الحقيقي للإنسان وصولُه إلى كماله الحقيقي ذاتاً وعوارض ؛ أي وصوله إلى كماله الأخير ذاتاً ووصفاً وفعلاً ، أي فنائه ذاتاً ووصفاً وفعلاً في الحقّ سبحانه ؛ وهو التوحيد الذاتي والاسمي والفعلي ، وهو تمكّنه من شهود أن لا ذات ولا وصف ولا فعل إلاّ لله سبحانه ، على الوجه اللائق بقُدس حضرته جلّت عظمته ، من غير حلول واتّحاد ـ تعالى عن ذلك .

وهذا البرهان من مواهب الله سبحانه المختصّة بهذه الرسالة والحمد لله .

ثمّ إنّ المتحصّل من البرهان المذكور في أوّل الفصل أنّ شهود هذه الحقائق ومعرفتها منطوية في شهود النفس ومعرفتها ، فأقرب طُرق الإنسان إليها طريق معرفة النفس وقد تحصّل أيضاً سابقاً أنّ ذلك بالإعراض عن غير الله ، والتوجّه إلى الله سبحانه .

ـــــــــــــ

(١) سورة الرحمن : الآيتان ٢٦ ـ ٢٧ .

٢٠٩

تتمّة :

إذا تتبّعنا الكتاب والسُّنّة ، وتأمّلنا فيها تأملاً وافياً ، وجدنا أنّ المدار في الثواب والعقاب ، هو الإطاعة والانقياد ، والتمرّد والعناد فمن المسلّم المحصّل منهما أنّ المعاصي ـ حتّى الكبائر الموبقة ـ لا توجب عقاباً إذا صدرت ممّن لا يشعر بها أو ممَّن يجري مجراه ، وأنّ الطاعات لا توجب ثواباً إذا صدرت من غير تقرّب وانقياد ، إلاّ إذا كانت ممّا الانقياد ملازم لذاته كبعض الأخلاق الفاضلة الشريفة .

وكذلك صدور المعصية ممّن لا يشعر بكونها معصية ، إذا قصد الإطاعة ، لا يخلو من حسن ، وصدور الطاعة بقصد العناد واللعب لا يخلو من قبح وكذلك مراتب الطاعة والعصية تختلف حسب اختلاف الانقياد والتمرّد اللذين تشتمل عليهما ؛ فقد ورد :(أفضل الأعمال أحمزها) (١) . وورد متواتراً في متفرّقات أبواب الطاعات والمعاصي اختلاف مراتبها فضلاً وخسّة ، وثواباً وعقاباً والعقل السليم ـ أيضاً ـ حاكم بذلك وأكثر الآيات القرآنيّة تحيل الناس إلى ما يحكم به العقل والميزان ـ بناءً على حكم العقل ـ هو الانقياد للحقّ والعناد لا غير ، وهذان أمران مختلفان بحسب المراتب بالضرورة .

وحيث إنّ السعادة والشقاوة تدوران مدارهما ، فلهما عرض عريض بحسب المراتب الموجودة من الانقياد والتمرّد .

ومن هنا يظهر أنّ المختصّ من السعادة بالمنتحل بدين الحقّ ، إنّما هو كمالها وأمّا مطلق السعادة ، فغير مختصّ بالمنتحل بدين الحقّ ، بل ربّما وجد في غير المنتحل أيضاً ، إذا وجد فيه شيء من الانقياد ، أو فقد شيء من العناد بحسب المرتبة .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٩ / ٢٢٨ ، كتاب الصلاة ، باب ١ ـ فضل الصلاة وعقاب تاركها ، الحديث ٥٥ مفتاح الفلاح : ٤٥ ، الباب الأوّل : فيما يعمل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فصل ، وقد ورد : (أفضل العبادة أحمزها) ـ انظر شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٥٠ ، حِكم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الحكمة رقم ٢٤٦ .

٢١٠

وهذا هو الذي يحكم به العقل ويظهر من الشرع ، فإنّما الشرع يعيّن حدود ما حكم به العقل ، كما في الحديث المشهور عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :(إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق) (١) .

وذلك كما ورد في كسرى وحاتم أنّهما غير معذّبين لوجود صفتي العدل والجود فيهما .

وفي (الخصال) عن الصادق ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّعليهم‌السلام ، قال :

(إنّ للجنّة ثمانية أبواب :

باب يدخل منه النبيُّون والصدّيقون .

وباب يدخل منه الشهداء والصالحون .

وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا فلا أزال واقفاً على الصراط أدعو وأقول : ربّ سلِّم شيعتي ومُحبّيَّ وأنصاريَ ومَن تولاّني في دار الدنيا ، فإذا النداء من بُطنان العرش : قد أُجيبت دعوتك ، وشُفّعت في شيعتك ويشفع كلُّ رجل من شيعتي ومَن تولاّني ونصرني وحارب مَن حاربني ، بفعل أو قول ، في سبعن ألف من جيرانه وأقربائه .

وباب يدخل منه سائر المسلمين ، ممّن يشهد أن لا إله إلاّ الله ، ولم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيت) (٢) .

وفي (تفسير القمّي) مسنداً عن ضُريس الكناسي ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال : قلت له : جُعلت فداك ، ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ، ولا يعرفون ولايتكم ؟ فقال :

(أمّا هؤلاء ، فإنّهم في حُفرهم لا يخرجون منها فمَن كان له عمل صالح ، ولم يظهر منه عداوة ، فإنّه يُخدُّ له خدّاً إلى الجنّة التي خلقها الله بالمغرب ، فيدخل عليه الروحُ في حفرته إلى يوم القيامة ، حتّى يلقى الله ، فيحاسبه بحسناته وسيّئاته ، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار ، فهؤلاء المُرجَون لأمر الله) .

ـــــــــــــ

(١) مستدرك الوسائل : ١١ / ١٨٧ ، باب استحباب التخلّق بمكارم الأخلاق ، الحديث ١٢٧٠١ / ١ .

(٢) الخصال : ٢ / ٤٠٧ ، باب الثمانية ـ للجنّة ثمانية أبواب ، الحديث ٦ .

٢١١

قال :(وكذلك يفعل بالمستضعفين والبُلّه والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحُلم وأمّا النصّاب من أهل القبلة ، فإنّه يخدُّ لهم خدّاً إلى النار التي خلقها الله في المشرق ، فيدخل عليهم اللهب والشَّرَر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ، ثمّ بعد ذلك مصيرهم إلى الجحيم) (١) .

وفي دعاء كميل المروي عن عليّعليه‌السلام :

(فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك ، وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النّار كلّها برداً وسلاماً ، وما كانت لأحد فيها مقرّاً ولا مقاماً ، لكنّك تقدَّست أسمائك ، أقسمت أن تملأها من الكافرين ، من الجنّة والنّاس أجمعين ، وأن تخلّد فيها المعاندين) (٢) ـ الدعاء .

وأكثر الآيات القرآنيّة إنّما توعد الذين قامت لهم البيّنة ، وتمّت عليهم الحجّة ، وتقيّد الكفر بالجحود والعناد ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) (٣) ، وقال تعالى : ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (٤) .

وبالجملة : فالميزان كلّ الميزان في السعادة والشقاوة ، والثواب والعقاب ،

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمّي : ٢ / ٢٦٠ ، تفسير سورة غافر : الآية ٧٥ .

(٢) المصباح / الكفعمي : ٥٥٩ ، دعاء أمير المؤمنينعليه‌السلام في ليلة نصف من شعبان .

(٣) سورة المائدة : الآية ١٠ و ٨٦ .

(٤) سورة الأنفال : الآية ٤٢ .

٢١٢

هو سلامة القلب وصفاء النفس ، قال سبحانه :( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) ، وقال سبحانه :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) (٢) .

وجميع الملل الإلهية تروم في تربية الناس هذا المرام وهذا مسلّم من سلائقها وما تندب إليها ، وهو الذي يراه الحكماء المتألّهون من السابقين .

وأمّا شريعة الإسلام ، فأمرها في ذلك أوضح ، غير أنّها ـ كما مرّ في أوار الفصل الثاني ـ تدعو إلى كلّ سعادة ممكنة إلاّ أنّ معرفة الربّ من طريق النفس حيث كانت أقرب طريقاً ، وأتمّ نتيجة ، فإتيانها لها أقوى وآكد ؛ ولذلك ترى الكتاب والسُّنّة يقصدان هذا المقصد ، ويدعوان إلى هذا المدّعى بأيّ لسان أمكن :

قال سبحانه :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (٣) ، وهذه الآية كعكس النقيض ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المشهور بين الفريقين :(مَن عرف نفسه عَرف ربّه) (٤) ، أو : (فقد عرف ربّه) (٥) .

قال سبحانه :( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الشعراء : الآيتان ٨٨ و ٨٩ .

(٢) سورة الطارق : الآية ٩ .

(٣) سورة الحشر : الآيتان ١٨ و ١٩ .

(٤) غرر الحكم : ٢٣٢ ، معرفة النفس وعلائمه ، الحديث ٤٦٣٧ .

(٥) بحار الأنوار : ٢ / ٣٢ ، باب ٩ ـ استعمال العلم والإخلاص في طلبه ، الحديث ٢٢ .

(٦) سورة المائدة : الآية ١٠٥ .

٢١٣

وقد روى الآمدي في كتاب (الغرر والدرر) من كلمات عليّعليه‌السلام القصار ، ما يبلغ نيفاً وعشرين حديثاً في معرفة النفس(١) ، منها : أنّهعليه‌السلام قال :(الكيّس مَن عرف نفسه وأخلص أعماله) .

وقالعليه‌السلام :(المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين)

وقالعليه‌السلام :( العرَّاف مَن عرف نفسه فأعتقها ، ونزّهها عن كلّ ما يبعّدها ويوبقها) .

وقالعليه‌السلام :(أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه) .

وقالعليه‌السلام : (أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربّه) .

وقالعليه‌السلام :(أفضل العقل معرفة الإنسان [المرء]نفسه ، فمَن عرف نفسه عقل ، ومَن جهلها ضلّ) .

وقالعليه‌السلام :(عجبت لمَن ينشد ضالّته ، وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها ؟! ) .

وقالعليه‌السلام :(عجبت لمَن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه ؟! ) .

وقالعليه‌السلام :(غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه) .

وقالعليه‌السلام :(كيف يعرف غيره مَن يجهل نفسه ؟! ) .

وقالعليه‌السلام :(كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه) .

وقالعليه‌السلام :(كفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه تجرّد) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه جاهدها) .

وقالعليه‌السلام :(مَن جهل نفسه أهملها) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه عرف ربّه) .

ـــــــــــــ

(١) غرر الحكم : ٢٣٢ ، معرفة النفس وعلائمه ـ جهل النفس ، الحديث ٤٦٢٩ وما بعده .

٢١٤

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه جلّ أمره) .

وقالعليه‌السلام :(مَن جهل نفسه كان بغيره أجهل) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه كان لغيره أعرف) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة وعلم) .

وقالعليه‌السلام :(مَن لم يعرف نفسه بَعُد عن سبيل النجاة ، وخبط في الضلال والجهالات) .

وقالعليه‌السلام :(معرفة النفس أنفع المعارف) .

وقالعليه‌السلام :(نال الفوز الأكبر مَن ظفر بمعرفة النفس) .

وقالعليه‌السلام : (لا تجهل نفسك ، فإنّ الجاهل معرفة نفسه جاهل بكلّ شيء) .

أقول : وهذه الأحاديث تدفع ـ كما ترى ـ تفسير مَن يُفسّر من العلماء (رحمه الله) قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(مَن عرف نفسه فقد عرف ربّه) (١) ـ الحديث ، بأنّ المراد : استحالة معرفة النفس لتعلُّيقها بمعرفة الربّ ، وهو مستحيل ويدفعه الروايات السابقة ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه) (٢) ـ الحديث النبوي .

مع أنّ معرفته سبحانه لو كانت مستحيلة ، فإنّما هي المعرفة الفكريّة من طريق الفكر ، لا من طريق الشهود ومع التسليم ، فإنّما المستحيل معرفته بمعنى الإحاطة التامّة .

وأمّا المعرفة بقدر الطاقة الإمكانيّة ، فغير مستحيلة .

هذا ، وبالجملة : فكون معرفة النفس أفضل الطرق وأقربها إلى الكمال ، ممّا لا ينبغي الريب فيه ، وإنّما الكلام في كيفيّة السير من هذا المسير .

ـــــــــــــ

(١) تقدّم ذكره في الصفحة ٢٣٧ ، الهامش رقم ٥ .

(٢) جامع الأخبار : ٤ ، الفصل الأوّل : في معرفة الله تعالى .

٢١٥

فقد زعم البعض أنّ كيفيّة السير من هذا الطريق غير مبيّنة شرعاً ، حتّى ذكر بعض المصنّفين أنّ هذا الطريق في الإسلام كطريق الرهبانيّة التي ابتدعتها النصارى من غير نزول حكم إلهي به ، فقبل الله سبحانه ذلك منهم ، فقال سبحانه : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) الآية(١) .

قال : فكذلك طريق معرفة النفس غير واردة في الشريعة ، إلاّ أنها طريقة إلى الكمال مرضيّة ، انتهى ملخّصاً .

ومن هنا ربّما يوجب عند بعض أهل هذا الطريق ، وجوه من الرياضات ومسالك مخصوصة ، لا تكاد توجد ـ أو لا توجد ـ في مطاوي الكتاب والسُّنّة ، ولم يشاهَد في سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام .

وذلك كلّه بالبناء على ما مرّ ذكره ، وأنّ المراد هو العبور والوصول بأيّ نحو أمكن بعد حفظ الغاية وكذلك الطُّرق المأثور عن غير المسلمين من متألّهي الحكماء وأهل الرياضة ، كما هو ظاهر لمَن راجع كتبهم ، أو الطُّرق المأثورة عنهم .

لكنّ الحقّ الذي عليه أهل الحقّ ، وهو الظاهر من الكتاب والسُّنّة ، أنّ شريعة الإسلام لا تجوّز التوجّه إلى غير الله سبحانه للسالك إليه تعالى بوجه من الوجوه ، ولا الاعتصام بغيره سبحانه إلاّ بطريق أمرَ بلزومه وأخْذِه .

وإنّ شريعة الإسلام لم تهمل مثقال ذرّة من السعادة والشقاوة إلاّ بيّنتها ، ولا شيئاً من لوازم السير إلى الله سبحانه ، يسيراً أو خطيراً ، إلاّ أوضحتها ، فلكلّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، قال سبحانه : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٢) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ٢٧ .

(٢) سورة النحل : الآية ٨٩ .

٢١٦

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (١) ، وقال سبحانه :( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (٢) ، وقال سبحانه :( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) إلى غير ذلك .

والأخبار في هذا المعنى من طريق أهل البيت مستفيضة ، بل متواترة .

وممّا يظهر أنّ حظّ كلّ امرئ من الكمال بمقدار متابعته للشرع ، وقد عرفت أنّ هذا الكمال أمر مشكّك ذو مراتب ونِعم ما قال بعض أهل الكمال : إنّ المَيل من متابعة الشرع إلى الرياضات الشاقّة ، فرار من الأشقّ إلى الأسهل ، فإنّ الشرع قتل مستمرّ للنفس ، دائمي ما دامت موجودة ، والرياضة الشاقّة قتل دفعي ، وهو أسهل إيثاراً .

وبالجملة : فالشرع لم يهمل بيان كيفيّة السير من طريق النفس .

بيان ذلك : أ نّ العبادة تتصّور على ثلاثة أقسام :

أحدها : العبادة طمعاً في الجنّة .

والثاني : العبادة خوفاً من النار .

والثالث : العبادة لوجه الله ، لا خوفاً ولا طمعاً .

وغير القسم الثالث ، حيث إنّ غايته الفوز بالراحة أو التخلّص من العذاب ، فغايته حصول مشتهى النفس فالتوجّه فيه إلى الله سبحانه إنّما هو لحصول مشتهى النفس ، ففيه جعل الحقّ سبحانه واسطة لحصول المشتهى .

والواسطة ، من حيث هي واسطة ، غير مقصودة إلاّ بالتبع والعَرض ، فهي بالحقيقة ليست إلاّ عبادة للشهوة .

ـــــــــــــ

(١) سورة الروم : الآية ٥٨ .

(٢) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

(٣) سورة الأحزاب : الآية ٢١ .

٢١٧

بقي القسم الثالث ، وهو العبادة بالحقيقة ، وقد وقع التعبير عنه مختلفاً ، ففي (الكافي) مسنداً عن هارون ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال :(إنّ العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً ، فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب ، فتلك عبادة الأُجراء وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً له ، فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة) (١) .

وفي (نهج البلاغة) :(أنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار ، وأنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وأنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار) (٢) .

وفي (العلل) ، و(المجالس) ، و(الخصال) : مسنداً عن يونس ، عن الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام : (أنّ النّاس يعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه : فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه ، فتلك عبادة الحرصاء ، وهو الطمع وآخرون يعبدونه خوفاً من النار ، فتلك عبادة العبيد ، وهي رهبة ولكنّي أعبده حبّاً له عزّ وجلّ ، فتلك عبادة الكرام ، وهو الأمن ؛ لقوله عزّ وجلّ : ( وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) (٣) ، ولقوله عزّ وجلّ : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (٤) . فمَن أحبّ الله عزّ وجلّ أحبّه اللهُ ، ومَن أحبّه الله كان من الآمنين وهذا مقام مكنون لا يمسُّه إلاّ المطهّرون) (٥) .

وعن (المناقب) :(كان ( يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )يبكي حتى يغشى عليه ، فقيل له :

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٢ / ١١١ ، باب العبادة ، الحدث ١٦٦٥ / ٥ .

(٢) نهج البلاغة : ٥١٠ ، حِكم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الحكمة ٢٣٧ .

(٣) سورة النمل : الآية ٨٩ .

(٤) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

(٥) العلل : ١ / ١٢ ، باب علّة خلق الخَلق واختلاف أحوالهم ، الباب ٨ أمالي الصدوق ـ المجلس العاشر : ٩١ ، الحديث ٦٥ / ٥ الخصال : ١ / ١٨٨ ، باب الثلاثة ـ الناس يعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه ، الحديث ٢٥٩ ، ولكن ورد فيها : (فَرَقاً من النار) بدل (خوفاً من النار) .

٢١٨

أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً ؟! ) (١) ـ الحديث .

أقول : والشكر والحبّ مرجعهما واحد ، فإن الشكر هو الثناء على الجميل من حيث هو جميل ، فتكون العبادة توجّهاً وتذلّلاً له سبحانه ؛ لأنّه جميل بالذات ، فهو سبحانه المقصود لنفسه لا لغيره ، كما قال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) .

فغاية خلقهم ، أي وجودهم ، أي كمال وجودهم ، هو عبادته سبحانه ، أي التوجّه إليه وحده والتوجّه وسط غير مقصود بالذات ، فهو سبحانه غاية وجودهم ؛ ولذا فسّر العبادة هاهنا في الأخبار بالمعرفة .

وقال سبحانه : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) (٣) .

وقال سبحانه :( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٤) .

وكذلك الحبّ انجذاب النفس إلى الجميل من حيث هو جميل ، وعنده سبحانه الجمال المطلق .

وقال سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ) (٥) .

وقال سبحانه :( وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ) (٦) ، وستأتي رواية الديلمي .

وفي دعاء كميل :(واجعل قلبي بحبّك متيّماً) .

وفي مناجاة عليعليه‌السلام :(إلهي أقمني في أهل ولايتك مقام [مَن]رجا الزيادة

ـــــــــــــ

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٤ / ١٦١ ، باب إمامة أبي محمّد علي بن الحسينعليه‌السلام / زهده .

(٢) سورة الذاريات : الآية ٥٦ .

(٣) سورة الإسراء : الآية ٢٣ .

(٤) سورة غافر : الآية ٦٥ .

(٥) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

(٦) سورة البقرة : الآية ١٦٥ .

٢١٩

من محبّتك) (١) .

وحديث الحبّ كثير الدور في الأدعية .

وإن تعجب فعجب قول مَن يقول : إنّ المحبّة لا تتعلّق به سبحانه حقيقة ، وما ورد من ذلك من خلال الشريعة مجاز يراد به امتثال الأمر والانتهاء من النهي !! وهذا دفع للضرورة ، ومكابرة مع البداهة .

ولعمري كم من الفرق بين مَن يقول : إنّ المحبّة لا تتعلّق بالله سبحانه ، ومَن يقول : إنّ المحبّة لا تتعلّق إلاّ بالله سبحانه .

ولنرجع إلى ما كنّا فيه ، ونقول : حيث إنّ العبادة ، وهي التوجّه إلى الله سبحانه ، لا تتحقّق من دون معرفة ما ، وإن كانت هي أيضاً مقدِّمة أو محصِّلة للمعرفة ، فإتيانها بحقيقتها المقدورة يحتاج إلى سير في المعرفة ، وإن كانتا كالمتلازمتين كما في خبر إسماعيل بن جابر ، عن الصادقعليه‌السلام :(العلم مقرون إلى العمل ، فمَن عَلِمَ عَمِلَ ، ومَن عَمِلَ عَلِمَ) (٢) ـ الحديث .

وبعبارة أُخرى : يلزم أن تقع العبادة عن معرفة حتى تنتج معرفة ، كما في النبوي ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(مَن عَمِلَ بما عَلِمَ أورثه الله علْمَ ما لم يعلم) (٣) الحديث وهو معنى قول

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٩١ / ٩٨ ، باب ٣٢ ـ أدعية المناجاة ، الحديث ١٣ .

(٢) بحار الأنوار : ٢ / ٤٠ ، باب ٩ ـ استعمال العلم والإخلاص في طلبه ، الحديث ٧١ الكافي : ١ / ٦٣ ، باب استعمال العلم ، الحديث ١٠٨ / ٢ ، وقد خلت بعض الأحاديث من : (ومن عمل علم) بحار الأنوار : ٢ / ٣٦ ، الباب المتقدّم ، الحديث ٤٣ .

(٣) كشف الخفاء / العجلوني : ٢ / ٢٨٧ ، الحديث ٣٤٦ و : ٣٤٧ ، الحديث ٢٥٤٢ ، ولكن ورد فيها : (علم ما لم يعمل) تفسير الصافي / الفيض الكاشاني : ٤ / ١٢٣ ، تفسير سورة العنكبوت : الآية ٦٩ ، وقد ورد : (كفي ما لم يعلم) ـ راجع : التوحيد : ٤٠٥ ، الحديث ١٧ ، باب التعريف والبيان والحجّة ، والوسائل : ٢٧ / ١٦٤ ، باب وجوب التوقّف والاحتياط في القضاء والفتوى ، الحديث ٣٣٤٩٨ / ٣٥ .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292