الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة20%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56547 / تحميل: 7201
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ويشير سبحانه أيضاً بذلك أنّ اكتساب المعاصي يزيل حكم اليقين ، كما قال : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ) (١) ، وقال :( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) (٢) ، بل لا بدّ مع اليقين من صالح العمل ، حتّى ينتج النتيجة ، ويسمح بالثمرة ، قال :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٣) .

هذا ، ولنعد إلى ما كنّا فيه ، ونقول :

ووعدهم سبحانه أنّه يبدّل حياتهم ، أي وجودهم ، فقال :( أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) (٤) ، فبيّن أنّ لهم حياة معها نور يمشون به في النّاس ، أي يعاشرونهم والمعاشرة إنّما هي بالقوى والحواسّ ، فلهم حياة نورانيّة وحواسّ وقوى ربّانيّة .

وقال أيضاً :( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ) (٥) ، فبيّن أنّ هذا النور روح عاقل فاهم من عالم الأمر ، كما قال :( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي

ـــــــــــــ

(١) سورة النمل : الآية ١٤ .

(٢) سورة الجاثية : الآية ٢٣ .

(٣) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٢٢ .

(٥) سورة الشورى : الآية ٥٢ .

٢٤١

قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) (١) .

ثمَّ أخبر سبحانه أنّه يهديهم لنوره جلّ وعزّ ، وهو النور على كلّ نور ، به يضيء السموات والأرض ، فقال سبحانه : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٢) .

ثمَّ مثّل بهذا النور الذي به يضيء السموات والأرض بقوله :( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ) (٣) ، فلنوره حجابان من نور يستضيئان به ، وتستضيء بهما السموات والأرض : أحدهما المشكاة ، وهي الأقلّ ضياءً ، يستضيء بما فيه ، وهي الزجاجة ، وهي تستضيء بالمصباح فالمصباح هو القيّم بنور الزجاجة والمشكاة والزجاجة قيّم بنور المشكاة ، وهي آخر ما يضيء ويُستضاء به منها .

ولعلّ نور الأرض بها ، وفوقها الزجاجة ، ولعلّ نور السماء بها كما قال سبحانه :( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ) الآية(٤) ولم يقع في الآية الشريفة لِمَا وراء السموات والأرض ذكر ، ولا للمصباح المذكور فيها بيان ، غير ما يلوح من قوله : ( يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ... ) ، فافهم .

ثمَّ ذكر سبحانه أنّ ما مثّل به من المشكاة مع ما فيه( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ

ـــــــــــــ

(١) سورة المجادلة : الآية ٢٢ .

(٢) و (٣) سورة النور : الآية ٣٥ .

(٤) سورة السجدة : الآية ٥ .

٢٤٢

وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ) (١) .

فعرّفهم سبحانه بأنّهم لا يغفلون عن الذكر والعمل الصالح ، فهؤلاء غير محجوبين عن ذكره تعالى ، ولا يلتفتون إلى غيره إلاّ به سبحانه ، فهم المخلصون له سبحانه وقد مرّ شمّةٌ من حال المخلَصين في الفصل السابق ، عند ذكر الآيات الواردة في حالهم ، قال تعالى :( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وقال تعالى :( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) (٣) .

وقال تعالى :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٤) .

وقال تعالى :( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٥) .

وقال تعالى :( وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٦) .

فبيّن أنّه منزّه عن كلّ ثناء إلاّ ثناؤهم ، وأنّه يصرف السوء والفحشاء عنهم ، وأنّ وسوسة إبليس تمسُّ كُلاً إلاّ إيّاهم ، وأنّ أهوال الساعة ، من الصعقة وفزع الصور وإحضار الجمع وإعطاء الكتاب والحساب والوزن ، غير شاملة لهم ، وهم مستثنون منها ، وأنّ جزاؤهم ليس في مقابل الأعمال ؛ إذ لا عمل لهم .

فهذه نبذة من مواهب الله سبحانه في حقّ أوليائه .

وقد تحصّل من الجميع أنّ من مواهب الله في حقّهم إفناؤهم في أفعالهم وأوصافهم وذواتهم

ـــــــــــــ

(١) سورة النور : الآيتان ٣٦ و ٣٧ .

(٢) سورة الصافّات : الآيتان ١٥٩ و ١٦٠ .

(٣) سورة يوسف الآية ٢٤ .

(٤) سورة ص : الآيتان ٨٢ و ٨٣ .

(٥) سورة الصافات : الآيتان ١٢٧ و ١٢٨ .

(٦) سورة الصافات : الآيتان ٣٩ و ٤٠ .

٢٤٣

فأوّل ما يفنى منهم الأفعال ، وأقلُّ ذلك ـ على ما ذكره بعض العلماء ـ ستّة : الموت والحياة ، والمرض والصحّة ، والفقر والغنى فيشاهدون ذلك من الحقّ سبحانه في مقام أفعالهم ، فكأنّ فعلهم فعله سبحانه ، كما يشير إليه ما في (الكاف) و(التوحيد) عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى :( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) (١) : (إنّ الله عزّ وجلّ لا يأسف كأسَفنا ، ولكنّه خَلَق أولياء لنفسه ، يأسفون ويرضون ، وهم مخلوقون مربوبون ، فجعل رضاهم رضا نفسه ، وسخطهم سخط نفسه ؛ لأنّه جعلهم الدُّعاة إليه ، والأدلاّء عليه ، فلذلك صاروا كذلك وليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه ، ولكن هذا معنى ما قال من ذلك .

وقد قال أيضاً : (مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ، ودعاني إليها) ، وقال أيضاً : ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) (٢) ، وقال أيضاً : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (٣) .

فكلّ هذا وشبهه على ما ذكرت لك ، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك) (٤) ـ الحديث .

يشير عليه السلام بقوله :( ممّا يشاكل ...) إلى الآيات الكثيرة ، والأخبار الواردة في المقام ، كقوله تعالى :( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (٥) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الزخرف : الآية ٥٥ .

(٢) سورة النساء : الآية ٨٠ .

(٣) سورة الفتح : الآية ١٠ .

(٤) الكافي : ١ / ١٦٤ ، باب النوادر ، الحديث ٣٥٦ / ٦ التوحيد : ١٦٤ ، باب معنى رضاه عزّ وجلّ وسخطه ، الحدث ٢ ، مع اختلاف يسير .

(٥) سورة الأنفال : الآية ١٧ .

٢٤٤

وقوله تعالى :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (١) ، والضمير إلى النطق .

وقوله سبحانه :( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) (٢) .

وكقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فاطمة بضعة منّي : مَن آذاها فقد آذاني ، ومَن آذاني فقد آذ الله) (٣) ـ الحديث ، وستأتي رواية الديلمي إن شاء الله .

ثمَّ تفنى منهم الأوصاف وأُصولها على ما يظهر من أخبار أهل البيتعليهم‌السلام ، [وهي] خمس : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر وقام الحقّ سبحانه في ذلك مقامهم .

ففي (الكافي) عن أبي جعفر ـ في حديث : (إنّ الله جلّ جلاله قال : ما تقرَّب إليَّ عبد من عبادي بشيء أحبّ عليّ ممّا افترضت عليه وإنّه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتى أُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يُبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته) (٤) ـ الحديث .

وهو من الأحاديث الدائرة بين الفريقين ، وتصديق ذلك من كتاب الله العزيز ، قوله :( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (٥) ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآيتان ٣ و ٤ .

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٢٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٣٠ / ٣٥٣ ، تتمّة كتاب الفتن والمحن ، [٢٠] باب ، الحديث ١٦٤ عوالي اللآلي : ٤ / ٩٣ أمّا الخاتمة ، فتشمل جملتين ، الجملة الثانية المتعلّقة بالعلم وأهله وحامليه ، الحديث ١٣١ .

(٤) الكافي : ٢ / ٣٦٢ ، باب مَن آذى المسلمين واحتقرهم ، الحديث ٢٧٣١ / ٨ .

(٥) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

٢٤٥

وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (١) ، وتطبيق الآيتين بسياقيهما وهما يأمران بإتّباع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإيمان به ، وهما واحد يفيدان محبة الله سبحانه لعبده ، هي رحمة على رحمة ، ويورث له نوراً يمشي به في الناس ، أي يعاشرهم ويعيش فيهم ، وقد كان يعاشر ويعيش بقوى نفسه وأسبابها من سمع وبصر ويد ولسان ، فتبدّل إلى نور من ربّه .

هذا ، وفي (إثبات الوصيّة) للمسعودي ، عن أمير المؤمنين ـ في خطبة : (سبحانك ، أيُّ عين تقوم نصب بهاء نورك ، وترقى إلى نور ضياء قدرتك ؟! وأيّ فهم يفهم ما دون ذلك إلاّ أبصار كشفت عنها الأغطية ، وهتكت عنها الحجب العميّة فرّقت أرواحها إلى أطراف أجنحة الأرواح ، فناجوك في أركانك ، ووَلَجُوا [ألحُّوا ]بين أنوار بهائك ، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك فسمّاهم أهل الملكوت زوّاراً ، ودعاهم أهل الجبروت عمّاراً) (٢) ـ الخطبة .

وقد مرّ حديث هشام في الفصل الثالث(٣) .

وهذه المعاني كثيرة الورود في الأدعية ، ففي مناجاة عليّعليه‌السلام في أيّام شعبان :(إلهي وألهمني ولهاً بذكرك إلى ذكرك ، واجعل همّتي في روح نجاح أسمائك ومحلّ قُدسك) .

إلى أن قال :

(إلهي هبْ لي كمال الانقطاع إليك ، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلّقة بعز قُدسك .

إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك ، ولاحظته فصعق لجلالك ، فناجيته سرّاً ، وعمل لك جهراً) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ٢٨ .

وهذا النور روحٌ حيّ ، يحيي بها الإنسان كما مرّت الإشارة إليه في قوله تعالى :( أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الآية ؛ إذ ظاهر السياق أنّ قوله :( وَجَعَلْنَا لَهُ ... ) بيان لأحييناه .

(٢) بحار الأنوار : ٢٥ / ٣٠ ، أبواب خلقهم وطينتهم وأرواحهم (صلوات الله لعيهم) ـ باب ١ ـ بدو أرواحهم وأنوارهم وطينتهمعليهم‌السلام ، الحديث ٤٦ إثبات الوصيّة / المسعودي : ١٢٩ ، خطبة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، مع اختلاف يسير.

(٣) تقدّم في : الصفحة ٢٢٨ من هذا الكتاب ، فراجع .

٢٤٦

إلى أن قال :

(إلهي وألحقني بنور عزّك الأبهج ، فأكون لك عارفاً ، وعن سواك منحرفاً) (١) ـ المناجاة وهي جامعة للمقدمة وذي المقدّمة جميعاً ، أعني السلوك والشهود .

وفي (عدّة الداعي) لابن فهد ، عن وهب بن منبّه ـ فيما أوحى الله إلى داود :(يا داود ، ذكري للذاكرين ، وجنّتي للمطيعين ، وحبّي للمشتاقين ، وأنا خاصّة للمحبّين) (٢) .

ثمَّ تفنى منهم الذات ، وينمحي الاسم والرسم ، ويقوم الحقّ سبحانه مقامهم وقد ذُكر في آخر" رسالة التوحيد " أنَّ هذا المقام أجلّ من أن يقع عليه لفظ ، وأن تمسّه إشارة ، وأنّ إطلاق المقام عليه مجاز ، وأنّه ممّا فتحه الله لنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولحقه الطاهرون من آله .

وأقول الآن : أنّه يلحقهم أولياءٌ من أُمّته ؛ للروايات الكثيرة الدالّة على أنّ الله سبحانه يلحق بهم شيعتهم بالدرجات العليا في الآخرة .

وفي رواية الديلمي الآتية :(وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن) ـ الحديث .

ومنه يظهر أنّ ما وعده الله سبحانه للأُمم من المقامات والكرامات في الآخرة ، مرزوق للأولياء في الدنيا ، وفيها اللحوق بإمامهم .

وهذا المقام الذي عرفت أنّه أجلّ من المقام ، قد عبّر عنه الأئمة في الأخبار المستفيضة النافية للصفات ، فللأولياء من الأُمّة اللحوق بهم بنحو الوراثة في ذلك ، فافهم .

ـــــــــــــ

(١) إقبال الأعمال / السيّد ابن طاووس الحلّي : ٦٨٧ ، فصل : فيما نذكره من الدعاء في شعبان مروي عن ابن خالويه .

(٢) عدّة الداعي : ٢٥٢ ، الباب الخامس : فيما أُلحق بالدعاء ، وهو الذكر ، الحديث ١٥ .

٢٤٧

ومن المواهب سيرهم في خلال العوالم المتوسّطة بينهم في الدنيا وبين ربّهم عزّ اسمه كما مرّ .

ففي (البحار) عن (إرشاد) الديلمي ، وذكر سندين لهذا الحديث ، وفيه :

(قال الله تعالى : يا أحمد ، هل تدري أيُّ عيش أهنأ ، وأي حياة أبقى ؟

قال : اللهمّ لا .

قال : أمّا العيش الهنيء ، فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ، ولا ينسى نعمتي ، ولا يجهل حقّي يطلب رضاي في ليله ونهاره .

أمّا الحياة الباقية ، فهي التي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا ، وتصغر في عينه [عينيه ]، وتعظُم الآخرة عنده ، ويؤثر هواي على هواه ، ويبتغي مرضاتي ، ويعظّم حقّ عظمتي ، ويذكر عملي به ، ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية ، وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره ، ويبغض الشيطان ووساوسه ، ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً وسبيلاً .

فإذا فعل ذلك ، أسكنتُ قلبه حبّاً ، حتى أجعل قلبه لي ، وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي وأفتح عين قلبه وسمعه ، حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي وأُضِيق عليه الدنيا ، وأُبغّض إليه ما فيها من اللّذات ، وأُحذّره من الدنيا وما فيها ، كما يحذر الراعي [على ]غنمه من مراتعَ الهلكة فإذا كان هكذا ، يفرُّ من الناس فراراً ، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن .

يا أحمد ، ولأزيّنّنه بالهيبة والعظمة .

فهذا هو العيش الهنيء ، والحياة الباقية ، وهذا مقام الراضين .

فمَن عمل برضاي ، أُلزمه ثلاث خصال : أُعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين فإذا أحبّني أحببته ، وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا أُخفي عليه خاصّة خَلقي ، وأُناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ، ومجالسته معهم ، وأُسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، وأُعرّفه السرّ الذي سترته عن خَلقي ، وأُلبسه الحياء ، حتّى يستحيي منه الخَلق كلُّهم ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا أُخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار ، واعرّفه ما يمرُّ على الناس في يوم القيامة من الهول والشدّة ، وما أُحاسب الأغنياء والفقراء ، والجهّال والعلماء ، وأُنوِّمه في قبره ، وأُنزل عليه منكراً ونكيراً حتّى يسألاه ، ولا يرى غمرة الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطّلع .

٢٤٨

ثمَّ أنصب له ميزانه ، وأنشر ديوانه .

ثمَّ أضع كتابه في يمينه ، فيقرؤه منشوراً .

ثمَّ لا أجعل بيني وبينه ترجماناً .

فهذه صفات المحبّين .

يا أحمد ، اجعلْ همّك همّاً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حيّاً لا تغفل عني مَن يغفل عنّي لا أُبالي بأيِّ واد هلك) (١) ـ الحديث .

وفي (البحار) ، عن (الكافي) و(المعاني) و(نوادر) الراوندي ، بأسانيد مختلفة ، عن الصادق والكاظمعليهما‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ واللفظ المنقول هاهنا كما عن (الكافي) ـ قال :

(استقبل رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري ، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟

فقال : يا رسول الله ، مؤمن حقّاً .

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكلّ شيء حقيقة ، فما حقيقة قولك ؟ فقال : يا رسول الله ، عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرتُ ليلي ، وأظمأت هواجري ، وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد وُضع للحساب ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنة ، وكأنّي أسمع عُواء أهل النار في النار .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٤ / ٢٨ ، أبواب المواعظ والحكم ـ باب ٢ : مواعظ الله عزّ وجلّ في سائر الكتب السماوية ، الحديث ٦ إرشاد القلوب : ١ / ٢٠٤ ، الباب الرابع والخمسون : فيما سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه ليلة المعراج .

٢٤٩

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عبدٌ نوّر الله قلبه ، أبصرت فاثبتْ) (١) ـ الحديث .

ولو تدبّرت جيّد التدبّر في هذه الآيات والأخبار التي نقلناها ، وما تركناها اختصاراً أكثر منها ، وأخذت بالإشارات من العبارات ، شاهدت من أنبائهم عجائب يضيق عنها التعبير ، ويقصر دونها باع التوصيف .

والله الهادي وهو المستعان

ولنقطع الكلام في هذا المقام

والحمد لله على الإتمام

وعلى سيّدنا محمّد وآله الصلاة والسلام

عليٌعليه‌السلام والفلسفة الإلهية

العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي (طاب ثراه)

تحقيق : الشيخ علي الأسدي

مكتبة فدك

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٢٢ / ١٢٦ ، باب ٣٧ ـ ما جرى بينه وبين أهل الكتاب والمشركين بعد الهجرة ، الحديث ٩٨ الكافي : ٢ / ٨٠ ، باب حقيقة الإيمان واليقين ، الحديث ١٥٤٦ / ٣ معاني الأخبار : ١٨٧ ، باب معنى الإسلام والإيمان ، الحديث ٥ النوادر / الراوندي : ٢٠ ، باختلاف يسير .

٢٥٠

تقديمٌ : ما معنى الفلسفة الإلهية ؟

الحمد لله ، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين .

كان الإنسان ، ولسوف يبقى ، محبّاً للوجود الخارجي ، بخارجيّته وواقعيّته ، لا يهمّه شيء سواه ، ولا يلتفت عنه إلى غيره ، ولا غير هناك .

ومن الواضح ـ بعد هذا ـ أنّ قضاء العقل وحكم الوجدان بالواقعية ، والإذعان بالوجود الخارجي (أن هناك موجوداً خارجاً) هو من العلوم الأوّليّة ، والمعارف الأصليّة ، تتطابق فيه جميع صفات البداهة ، وشرائطها .

فالوليد الحديث السنّ ، بشعوره الطريّ الموهوب له ، إذا تعمّقنا في حالاته ، نرى أنّه أوّل الأمر يتناول الثدي ليتغذّى باللبن المعدّ له فيه تارةً ، ويتناول غير الثدي ـ للغرض نفسه ـ تارةً أُخرى ولكنّه بعد تعدّد ذلك منه ، يقتصر على الثدي في ذلك ويعرض عن غيره ثمَّ بعد ذلك نراه يتناول المأكول ، من فاكهة أو خبزٍ أو نحوهما ، ويتناول غير المأكول كالحصاة والخشبة ونحوهما ، ويلتقم ويمضغ هذا ، كما يلتقم ويمضغ ذاك ثمَّ ـ وبعد تعدّد ذلك منه ـ لا يتناول إلاّ ما يصح أكله ، ويجتنب غيره .

وليس ذلك منه إلاّ لأنّ تصديقه الأوّلي بالواقعيّة الخارجية والوجود الحقّ ، يضطرّه إلى تمييز الحقّ من الباطل ، والصواب من الخطأ وبالجملة : تمييز كلّ واقعيّة من غيرها ، ثمَّ التزام الواقعيّة ، والإعراض عن غيرها .

وإذا توسّعنا في الملاحظة والبحث ، وتصفّحنا أحوال أبناء نوعنا ، أينما كانوا ، وحيثما وجدوا ، وأيّاً كانت الحالة التي هم عليها ، وجدنا أنّهم يسلكون عين هذا المسلك ، ويسيرون في نفس هذا الطريق فلا يدّخرون وسعاً ، ولا يألون جهداً في التمييز بين الحقّ والباطل ، والصواب من الخطأ ، في جميع شئون حياتهم ، التي تنال عنايتهم وتحظى باهتمامهم فلا همّ للإنسان إلاّ أن يحفظ نفسه من الوقوع في الخطأ والغلط ، ومن أن يأخذ غير الواقع على أنّه الواقع ، أو العكس .

وهكذا كان أيضاً حال الأُمم والشعوب الخالية ، فرادى وجماعات ، فإنّهم كانوا يبحثون دائماً عن واقعيّة الأشياء بهدف تمييزها من غيرها ممّا يشتبه بها ، ثمَّ يأخذون بما يرونه حقّاً وصواباً ، بحسب طلبتهم ، وعلى وفق بغيتهم ، ويظهر ذلك بجلاء لكلّ مَن راجع ما يصفه التاريخ من سيرهم وسننهم ، ولاحظ آثارهم العمرانيّة ، وغيرها من أعمالهم .

٢٥١

هذا ، ولم يزل الإنسان محبّاً ، بل ومغرماً ، بهذا النوع من البحث ـ وهذا هو بالذات ما نسمّيه بحثا فلسفيّاً ـ في جميع ما يرتبط به وجوده ، ومختلف شئون حياته ، وإن لم يشعر هو بذلك تفصيلاً ، ويلتفت إليه بالفعل ، فإنّ ذلك الدافع النفسي نحو التمييز ـ والذي يرتبط في الحقيقة بإنسانية الإنسان ـ يقوم بعمله بانتظام ، ومن دون أي عيءٍ أو كلل ويسير الإنسان قُدماً في هذا الخطّ ، في جزئيات مقاصده ومبتغياته ، وما يرتبط بشئون حياته المحدودة لكنّه ربّما عمّم البحث بما جُبل عليه من قريحة التعميم ؛ ليبحث عن الوجود وأنواعه وخواصّه وأحكامه من جهة عامّة ، فيفكّر في العلّة والمعلول ، والإمكان والوجوب ، والقوّة والفعل ، والقِدم والحدوث .

وهذه الأبحاث والدراسات ، وإن كانت ليست بعيدة كلّ البعد عن شعور الإنسان ، حيث إنّه يحسّ ويشعر بها إجمالاً ، إلاّ أنّها هي التي نبّهت الإنسان إلى الانتقال في البحث من عالم الطبيعة إلى ما ورائها كما أنّها هي التي حملته على التوغّل في البحث عن أوائل الوجود ، عندما وجد أنّ العالم المادي في نفسه محتاج ، ومفتقر إلى غيره ، أي لا يقوم وجوده بنفسه من أن يعتمد على ما يدفع عنه حاجته وخلّته ، حيث كان استقلاله في وجوده دائماً محتاجاً ومنتهياً ، إلى ما لا يكون استقلاله في الوجود محتاجاً ومنتهياً إلى شيء آخر وهذه هي الفلسفة الباحثة عن الله عزّ اسمه ؛ لأنّه هو الذي لا يحتاج استقلاله في الوجود إلى أي شيء آخر ، وتحتاج جميع الأشياء إليه في وجودها المستقلّ .

وهذا وإن كان في نفسه واحداً من تلك الموضوعات الكثيرة ، التي تطرح للبحث في الفلسفة العامّة ، إلاّ أنّ الأهمّية التي له تفوق أهمّية أي بحث فلسفي آخر ؛ من حيث إنّه ترك أثراً ظاهراً وهامّاً جدّاً في كلّ الأبحاث والدراسات الفلسفيّة العامّة الأُخرى من دون استثناء ؛ إذ إنّ الحصول على النتيجة فيه ـ وهو التوحيد ـ يحوِّل الأبحاث الفلسفيّة من حال التفرّق والتشتّت إلى حال التوحّد والترابط والتآلف ، ويبرزها في حلّة أبهى ، وزينة أكثر جاذبيّة ، وجمال أشدّ سحراً عندما يربط جميع الموجودات على كثرتها بموجود واحد ، هو باريها ومبديها .

وهذه الحقيقة يجدها الباحث المتتبّع واضحة جليّة فيما ورثه من الأقوال الفلسفية ، من (الهند) و(مصر القديمة) و(بابل) و (الروم) و(اليونان) وأيضاً في المأثور من كلمات المحصّلين من فلاسفة الإسلام .

٢٥٢

هذه من جهة ...

ومن جهة ثانية فإنّ ما بأيدينا من الكتب السماوية المنسوبة إلى (موسى) و (عيسى) وغيرهماعليهم‌السلام ، ثمَّ ما حكاه الله في كتابه العزيز عن الأنبياءعليهم‌السلام على اختلاف طبقاتهم ، ثمَّ ما ختم به (عزّ وجلّ) ذلك ممّا أوحاه على خاتمهم ، كلّ ذلك إذا تأمّل الباحث فيه وتعمّق في درسه ، يرى أنّ البحث في اللاهوت ـ كان ولا يزال ـ ينمو ويتطوّر ويتكامل في الصفاء والجلاء ، ويتدرّج في درجات الكمال وكلّما زاد في الوضوح والصفاء ، كلّما اتّسع أُفقه ، وانحلّت به مبهمات ، واتّضحت به مجاهيل ، بل وتقوّمت به مطالب ساذجة ناقصة وسنزيد هذا المعنى إيضاحاً فيما يأتي إن شاء الله .

الدين والفلسفة

حقّاً لظلم عظيم أن يفرّق بين الدين الإلهي وبين الفلسفة الإلهية ، فهل الدين ـ على اختلاف الأديان سعةً وضيقاً ـ إلاّ مجموعة معارف اعتقادية إلهية يعبّر عنها بالأُصول ، وأُخرى فقهيّة وأخلاقيّة يعبّر عنها بالفروع ؟

هل الأنبياء إلاّ رجال يهدون ـ بأمر الله ـ المجتمع البشري إلى الحياة الفضلى والسعادة الحقيقية؟

وهل السعادة البشرية الحقيقية إلاّ أن ينال الإنسان حقائق المعارف ، بما منحه الله من جهاز دقيقٍ لفهمها وإدراكها ، جهاز مرتبط بأصل خلقة الإنسان وهو جزء من وجوده وأن يصير بعد نيله تلكم المعارف ـ في حياته العمليّة ـ على طريق العدل والاستقامة ؟ وهل له مناص في تحصيل تلك المعارف عن الالتجاء إلى الاستدلال وإقامة البرهان ؟

وإذا كان الحال على ما تقدّم ، فكيف يسوغ للأنبياء أن يدعوا الناس إلى السمع والقبول بلا بيّنة ، وأن يطلبوا منهم السير على غير طريق الاستدلال وإقامة البرهان ، مع أنّ ذلك مخالف لجبلّتهم ، ومنافٍ لما جُهِّزوا به في أصل خلقتهم وبُنية وجودهم .

٢٥٣

والأنبياء وإن كانوا قد استمدّوا معارفهم ومبادئ دعوتهم من المبدأ الغيبي ، وارتضعوا ذلك من ثدي الوحي ، إلاّ أنّ الحقيقة هي أنّه لا فرق بين مسلك الأنبياء في دعوتهم إلى صريح الحقّ وبين الحقّ ، سلوك الإنسان بشعوره الفطري إلى نيل المعارف الإلهيّة ، حيث إنّهم على رفعة مكانتهم ، وإشرافهم على الأُفق الأعلى ، قد تنزّلوا إلى مستوى الأفهام البشريّة ، وقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم) (١) .

وحاشا ساحة الأنبياءعليهم‌السلام أن يحملوا النّاس على أن يخبطوا خبط عشواء ، وأن يسوقوهم سوق البهيمة العمياء ، فإنّهمعليهم‌السلام كانوا على عكس ذلك تماماً إذا خاطبوهم خاطبوهم بما يفهمون ، وإذا أتوه بآية معجزة فإنّما يكون ذلك بعد أن تكون أُممهم (الأنبياء) قد اعتبرتها صالحة للدلالة على صدق الدعوى ، فيحتجّ بها الأنبياء على تلك الأُمم التي اعترفت ، بل وقرّرت وأثبتت دلالتها على صدق دعوتهم الحقّة .

وهو ذا القرآن أعدل شاهد على ذلك فيما يدعو إليه المجتمع الإنساني ، من معارف المبدأ والمعاد وكلّيات المعارف الإلهية ، فهو لا يأخذ إلاّ عن حجّة بيّنة ، ولا يدع إلاّ عن حجّة بيّنة ، ولا يمدح إلاّ العلم والاستقلال في الفهم ، ولا يذمّ إلاّ الجهل والتقليد ، قال تعالى :( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (٢) .

وخلاصة القول : إنّ الدين لا يدعو الإنسان إلاّ إلى نيل الحقائق الإلهية بشعوره الاستدلالي ، الذي جُهِّز به ، وهذا هو بالذات ما يعبّر عنه بـ : (الفلسفة الإلهية) ، فكيف صحّ ـ بعد هذا ـ الفصل بين الدين الإلهي وبين الفلسفة الإلهية ، مع أنّهما شيء واحد ، لا تعدُّد فيه ولا اختلاف ؟!

فلا قيمة إذن لِمَا أصرّ عليه جمع من الباحثين الأوربيّين ، واستحسنه آخرون من المسلمين ، من أنّ الدين يقابل الفلسفة ، وأنّهما معاً يقابلان العلم المعتمد على الحسّ والتجربة وأنّ النوع الإنساني قد مرّ في أربعة أطوار : طور الأساطير ، وطور الدين ، وطور الفلسفة ، وطور العلم .

ـــــــــــــ

(١) أُصول الكافي : ١ / ٣٨ ، الحديث ١٥ / ١٥ ، كتاب العقل والجهل بحار الأنوار ١ / ٨٥ ، باب ١ ـ فضل العقل وذمّ الجهل ، الحديث ٧ .

(٢) سورة يوسف : الآية ١٠٨ .

٢٥٤

لا قيمة لأقاويلهم ، فإنّهم أُناس قد استحوذت المادة على عقولهم ، واستأثرت الطبيعة بكلّ تفكيرهم ، فلم يرفعوا أنظارهم عن الأبحاث الماديّة ، ولم يخلعوا عن أنفسهم جلباب الطبيعة ، حتّى ولو سويعة واحدة ثمَّ حكموا من خلال المادة والطبيعة على ما ورائها ، ونفوا كلّ ما لم يتكرّر على حواسّهم ؛ فزعموا أنّ الدين تقليد في أمر منظوم ، وأنّ الفلسفة استدلال على أمر موهوم ، فلا في قضائهم عدلوا ولا في مزعمتهم أصابوا .

ودع عنك أيضاً ما نهج به جمع من الباحثين المسلمين من أنّ الدين يرفض الفلسفة ويبطلها ، ولا ينسجم معها ، وأنّ الموقف الديني هو غير الموقف الفلسفي ، وهدف هذا غير هدف ذاك ...

فهؤلاء يفسّرون الفلسفة على أنّها مجموعة منظّمة من أقاويل رجالٍ ، من يونانيّين وغير يونانيّين ، وفيهم الملحد والمتّقي ، والكافر والمؤمن ، ومنكر الصانع ومثبته ، والمخطئ والمصيب لا يراد من التعرّض بالبحث لهذه الأقاويل إلاّ التشبّه بهم ، ولا من التعلّق بها إلاّ تقليد الجمهور من مشاهيرهم .

ولو كانت الفلسفة هي التي فسّروا ، وحقيقتها هي التي ذكروا ، لكان الأجدر بها أن لا تكون ، ولكان الأحرى بكلّ مَن يحترم نفسه أن لا يتعرّض لها ، ولا يمارسها ، وأن ينكرها الدين ، ويتبرّأ منها ، براءة الذئب من دم يوسف .

ولكنّ الحقيقة هي ـ تماماً ـ خلاف ما زعموا وأمّا ما ذكروه ، فهو طريقة تتبع في بعض الصناعات ، التي طمئنّ فيها إلى إجماع الرجال وشهرتهم ، وتُستقرأ المذاهب فيها وتستقصى ليكون ذلك دليلاً على التلازم بين مسائل متشتّتة ، لا دليل لها إلاّ اتّفاق الباحثين عليها .

وأمّا الفلسفة ـ التي قدّمنا أنّها البحث الاستدلالي عن الحقائق ـ فإنّها لا تعتني بالرجال وأقاويلهم ، و بإجماع العلماء وشهرتهم ، ولا يجوز لها أبداً أن تعتني ؛ إذ كيف يصحّ الاكتفاء عن معرفة الحقّ الصريح وأعيان الأُمور ، بمعرفة ما قيل فيها وعنها ؟! وكيف يجدي في الحصول على سكون النفس واطمئنانها إلى الحقائق والواقعيات ، الالتجاء إلى آراء الناس ومذاهبهم فيها ؟َ

فدع عنك هذه الأقاويل ، وتيقّن أنّ الدين لا يدعو إلاّ إلى الفلسفة الإلهيّة ، وهي الحصول على المعارف الإلهية عن حجّة عقليّة .

٢٥٥

فلسفة الإسلام الإلهية ، أو كمال الفلسفة

استمرّت الفلسفة الإلهيّة في الاتّساع ، والقيام بعمليّة الجمع والربط بين مختلف المسائل والموضوعات التي تبحث عنها الفلسفة العامّة ـ على شدّة تفرّقها وتشتّتها ـ باللاهوت حتّى ظهر الإسلام ، وأخذ على عاتقه مهمّة تعليم وتثقيف البشريّة ، فسما بالفلسفة الإلهية إلى أوج كمالها ، وانتهى بها إلى غاية عظمتها .

ولعلّ البعض يحمل كلامنا هذا على نوع من المبالغة والغلوّ في حقّ هذا الدين القويم ، وأنّه إغراق لا مبرّر له في مدحه ، وأنّه إبراز له في حلّة مدلّسة لا قيمة لها إلاّ في سوق التخيّل الشعري ، الذي يبتعد كثيراً عن واقع القضية وحقيقة الأمر .

ولكنّنا بدورنا نقول لهؤلاء ـ بكلّ ثقة واعتزاز ـ : ما عليكم إلاّ أن تختبروا صحّة ما نقول ؛ وذلك بأن تقوموا بالدراسة والبحث والتمحيص لتعاليم الدين الإسلامي فإنّا لا نشكّ أنّ أي باحث منصف ، يحسن الورود والصدور ، لا يلبث أن يرى أنّ الدين الإسلامي في فلسفته الإلهية قد عمّم البحث ، إلى حدّ أنّه لا يشذّ عنه أي شيء في الوجود من الأشياء العينية ، سواء كان ذلك البحث في ذاتها أو صفاتها أو أفعالها ، (ومن تلك الأشياء الإنسان ، في جميع شئون وجوده) ويمضي الإسلام في طريقه هذا ، ولا يقف في بسط البحث اتّساعاً وشمولاً عند حدّ ، حتّى يربط كلّ شيء باللاهوت ، على نحو يليق بساحته تعالى ، ثمَّ يعود فينعطف إلى عالم الحياة الإنسانية ؛ ليعالج جميع شئونها الخُلقيّة والعمليّة فقد جعل المعارف الإلهية أساساً وقاعدة للأخلاق الفاضلة والصفات الجميلة ، ثمَّ جعل الأخلاق الفاضلة والصفات الجميلة أساساً للتشريع .

فمن تعاليم الإسلام [إذن] تنبثق الصفات الفاضلة ، وتتميّز بها عن الصفات الرذيلة ، فيدعو إلى تلك ، ويزجر عن هذه ثمَّ يجعل الصفات الفاضلة هذه أساساً لتشريع القوانين والأنظمة ، التي تنظّم أفعال الإنسان وسلوكه ، وتضمن له الحياة الفاضلة السعيدة بمعناها الشامل .

وبذلك يصير (التوحيد) وحده هو الأصل الحاكم في جميع شئون عالم الوجود بحسب تعاليم الإسلام ، حيث إنّ الإسلام يربط كلّ شيء ـ كما قلنا ـ باللاهوت ، ويُنهي كلّ شيء إليه في مختلف مجالات الحياة ، وجميع أحوالها وشئونها .

وهكذا يشاهد الباحث عن كثب ، أنّ كلّ قضيّة ـ علميّة كانت أو عمليّة ـ في الإسلام ، هي : (التوحيد) قد تلبّس بلباسها ، وظهر في زيّها ، وتنزّل في منزلها فبالتحليل ترجع كلّ مسألة وقضيّة إلى (التوحيد) ، وبالتركيب يصيران شيئاً واحداً ، لا مجال للتجزئة ولا للتفريق بينهما .

٢٥٦

وهذا معنى ما قدّمناه من أنّ الإسلام قد انتهى بالفلسفة الإلهية إلى أوج كمالها المتصوّر ؛ إذ إنّ ما أتى به من شأنه أن يُسري حكم اللاهوت إلى كلّ علم وعمل ، و(ليس وراء عبادان قرية) .

وهذا في الحقيقة قوّة هائلة جهّز الله بها دينه القويم ، فبها أقام صرحه ، وشيّد بنيانه فإنّ العلم لا يحفظ ، ولا يتربّى ، ولا يتكامل إلاّ مع العمل ، فما لم يرتبط العلم بالعمل ، فلا مناص لبقائه ، ولا كافل لنمائه على أنّه قد تقرّر في الأبحاث النفسية أنّ الإنسان ـ وهو موجود فعّال ، بقاؤه وكماله مرهونان بفعله ـ بحسب صنعه وتكوينه ، قد صُنع وكوِّن بحيث يهتدي إلى أفعاله عن طريق شعوره بها ، وحاجته إليها ، فيشتاق إلى شيء فيريده ، ويكره شيئاً فيمسك عنه هذا بالنسبة إلى الجزئيّات المحسوسة ، ومنها ينطلق إلى التعميم والتوسعة لكلّ شيء ، وفي كلّ شيء يناله فهمه ، ويقع عليه إدراكه .

فالإنسان يسير ـ بحسب تكوينه وصنعه ـ إلى نيل ما يحتاج إليه في حركاته الجسميّة والروحية من العلوم والمعارف ، فلا حاجة للإنسان إلى ما لا تعلّق له في عمله ، ولا يرتبط به ، ولا يدركه إدراكاً تامّاً ، ولا يصفوا له علم شيء إذا فارق العمل ، وإلى ذلك يشير قول عليّعليه‌السلام :(العلم مقرون بالعمل : فمَن عَلِمَ عمِلَ ؛ ومَن عمل علِمَ والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلاّ ارتحل عنه) (١) .

ويظهر ذلك بوضوح إذا قايسنا حال الفلسفة الإلهية ، التي ربّما يوجد شيء منها لدى الشعوب المتمدّنة اليوم ، بحالها في الإسلام حيث إنّ أُولئك ـ أعني الشعوب المتمدّنة ـ اليوم ، قد فصلوا بين الفلسفة الإلهيّة وبين الأعمال ، فاستقلّت القوانين العملية السائدة بينهم عن الدين استقلالاً تامّاً أمّا الإسلام ، فقد وضع قوانينه العملية على أساس الأخلاق المبنيّة على أصل التوحيد ومن هنا ، فإنّك ترى عياناً أنّ الفضلاء والمفكّرين من أُولئك ، لا يكادون يفقهون حتى المسائل البسيطة من الفلسفة الإلهيّة وأمّا المسلم الواعي المحترم لشئون دينه ، فإنّ لله عزّ اسمه نصيباً في قيامه وقعوده ، ونومه ويقظته ، وحياته وموته ، وظاهر شخصيّته وباطنها ، وهذه الإحاطة التامّة ، ومن أجل سراية التوحيد إلى جميع شئون الرجل الإلهي ، تسنّى له الوقوف في موقف التألّه ، وثبتت له قَدَم صدق في معرفة اللاهوت ، التي أحاط حكمها بكلّ

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ١ / ٦٣ ، الحديث ١٠٨ / ٢ ، باب استعمال العلم ، بحار الأنوار : ٢ / ٤٠ ، الحديث ٧١ ، باب ٩ ـ استعمال العلم والإخلاص في طلبه ومثله ما ورد في نهج البلاغة : ٥٣٩ ، الحكمة ٣٦٦ ، حِكَم أمير المؤمنينعليه‌السلام ومثله ما ورد في غرر الحِكم : ٤٥ ، الحديث ١٤٢ ـ ١٤٣ ، ثمرةَ العلم العمل به .

٢٥٧

شيء ؛ إذ لولا هذه الإحاطة ، ولولا سراية اللاهوت إلى جميع شئون الرجل الإلهي ، لم يتهيّأ له ذلك بديهة ؛ إذ كيف يتمّ الفصل والقضاء فيها مع عزل الأشياء عن حكمها ؟! وكيف عرف الله مَن أنكر أو أهمل سلطانه في شيء من مملكته ؟!

القضاء قضاءان : حقوقي وعلمي

ليس على القاضي في الحقوق إلاّ أن يعرف ماهيّة الموضوع الذي وقع فيه الشجار والخلاف ، وهي قضية جزئية حيّة ، من شأنها أن يتصوّرها كلّ مَن اطّلع على أطرافها وجوانبها ثمّ يقضي بما يتلائم مع القوانين الموضوعة والمتّبعة ، وليس عليه إلاّ أن يتّبع العدل في قضائه ، ولا يفرّق بين ما يراه وبين ما يقضي به وهو إنّما يقضي في أمر اعتباري وضعي ، ويتَّبع في قضائه جريان الأحداث في الخارج ..

وأمّا القاضي في مسألة علميّة ، فإنّه أشدّ محنة وأعظم بلاءً ، ولا سيّما إذا كانت تلك المسألة فلسفية ..

فمن جهة يجذبه الحسّ إلى المحسوسات الجزئيّة المتشخّصة في الخارج ، ولا يدعه يتوجّه إلى الكلّيات والأُمور الخارجة عن حومة المادة والطبيعة ، والتي لا تنفع فيها مقاييس المادة ، ولا تجدي معها الشواهد الطبيعية الجزئية ، بل وتعجز في التعبير عنها اللغات المبيِّنة للمقاصد ، والكاشفة عمّا في الضمائر ؛ حيث إنّ الألفاظ إنّما وضعت لتعبّر عن حوائج مادّية جزئية ، وليست إلاّ قوالب لها ، وإذا ما استعملت في الفلسفة ، فإنّما يكون ذلك بعد تجريدها عن غواشي المادة ، واستبعاد المشخّصات التي توجب جزئيّتها .

وعليه ، فكلّ مكان تستعمل فيه الألفاظ يكون معرضاً للخطأ والالتباس ، ومن ثمّ للزلل والخطل في المعارف التي تؤدّيها تلك الألفاظ وتُجعل قوالب لها .

ومن جهة ثانية تحرفه عواطفه الباطنة ، الداعية له إلى إتّباع الهوى ، فتصرفه عن الحقّ ، الذي هو بغيته ومنيته ، وتحوّل نظره عن هدفه الأسمى هذا إلى أغراض تافهة أُخرى ، تقرّبها منه وتزيّنها له ..

٢٥٨

ولهذا فإنّ من الطبيعي أن لا يصل إلى المعارف الحقيقيّة إلاّ أفراد قلائل قد تجرّدوا من جلباب المادة والطبيعة ، وأفلتوا من شراك الهوى ، وتخلّوا عن زبارج وبهارج هذا العرَض الأدنى وإن شئت فقُلْ : لا يصل إليها إلاّ مَن تبرّأ من سيّئات الأعمال ، وتنزّه عن رذائل المَلكات والأحوال ، ونذر نفسه ووجوده لله ، لا همّ له إلاّ الحقّ الصريح ، ولا ينشد إلاّ الواقع الأصيل والصحيح .

هذا وإنّ ثَمَّة مثالاً حيّاً تمثّلت به الفلسفة الإلهية ، التي نعنيها بالكلام المتقدّم ، هذا المثال هو الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الذي هو المثال الحقيقي البارز للفلسفة الإلهية ، والذي لا يخطئ المتمثِّل به ولا يضلّ ..

ومن أجل إدراك هذه الحقيقة ، فما على الباحث إلاّ أن يجيل نظره فيما يذكره التاريخ الصحيح ، ممّا يتعلّق بحياته الحافلة بالفضل والفخار ، وأيضاً الزاخرة بالمحن والبلاء في جنب الله عزّ اسمه ، ثمّ يقيس ـ لو جاز القياس ـ المأثور من كلامهعليه‌السلام في المعارف الإلهية ، بالمأثور من كلام غيره من صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغيرهم من علماء التابعين ، ومَن دونهم ثمّ يتعمّق في البحث ، في غرر كلامه في الفلسفة الإلهية ؛ فإنّه سوف يجد ـ دون أدنى شكّ وشبهة ـ صدق ما ذكرنا ، وحقيقة ما إليه أشرنا .

فقد ولدعليه‌السلام قبل البعثة ، وكان أبوه شيخ بني هاشم ، أبو طالب بن عبد المطّلب بن هاشم وأُمّه : فاطمة بنت أسد ثمّ تربّى في حجر النبوّة ولم يزل على ذلك حتّى بُعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فكان أوّل مَن آمن به ، وهو لم يبلغ الحلم ، وقَبِل النبي ذلك منه أحسن القبول .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد شرط لأوّل مَن آمن به الخلافةَ والوصاية في ملأ من قومه ثمّ لم يزلعليه‌السلام ملازماً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملازمة الظلّ لديه ، قبل الهجرة وبعدها ، إلى حين وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان هوعليه‌السلام آخر مَن فارق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فارقه حينما وضعه في ملحود قبره الشريف ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخصّه من خلوته وجلوته ، ومسارّته ومحاضرته ، بما لا يخصّ به أحداً سواه ..

٢٥٩

وكانعليه‌السلام أخطب العرب بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفصحهم ، كما أنّه كان أعلم الأُمّة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو القائل :(علّمني رسول الله ألف باب من العلم ، ينفتح من كلّ باب ألف باب) (١) .

وكان أورع الناس ، وأزهدهم في دنياه ، وأرأف الناس نفساً بالضعفاء والأرامل والأيتام ، وأرقّ الناس للفقراء والمساكين ، وكان لا يختلف عنهم في حياته وزيّه ، حتى في أيّام حكمه وتسلّمه لزمان الخلافة الإسلامية العامّة ..

وهو الشجاع ذو النجدة ، الذي لا يذكر التاريخ مَن يعدله ويدانيه ، وبه وبسيفه قام عمود الدين ، كما أنّه كان أشدّ الناس في جنب الله ، لم يترفّع عن حقّ قطّ ، ولم يهو إلى باطل قطّ ..

وليس غرضنا هنا الثناء عليه ، وبيان فضائله ، فهو لعمري المقياس الذي يقاس به الفضل ، والميزان الذي توزن به الأعمال فإنّ البحث الفلسفي يتجنّب التعرّض لمدح الرجال أو قدحهم ، والثناء عليهم أو الإزراء بهم ، كما أنّنا ليس لنا غرض آخر من ذلك ، كالاحتجاج لمذهب معيّن أو غيره ..

ـــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة / ابن جرير الطبري : ١٠٥ ، ذكر معجزاته [الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ] ، ومثله ما في بحار الأنوار : ٢٦ / ٢٩ ، الحديث ٣٦ ، أبواب علومهم ، باب ١ ـ جهات علومهم الاختصاص : ٢٨٣ ، حديث في زيارة المؤمن لله الأمالي / الصدوق : ٧٣٢ ، الحديث ١٠٠٤ / ٦ ، المجلس الثاني والتسعون ، ولكنّ الثلاث الأخيرة وردت فيها كلمة (يفتح) بدل (ينفتح) ، فلاحظ .

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢٤٥١ - وروي عن نصر الخادم قال: " نظر العبد الصالح أبوالحسن موسى بن جعفر عليهما السلام إلى سفرة عليها حلق صفر(١) فقال: انزعوا هذه واجعلوا مكانها حديدا فإنه لا يقرب شيئا مما فيها شئ من الهوام ".

باب السفر الذى يكره فيه اتخاذ السفرة

٢٤٥٢ - قال الصادق عليه السلام لبعض أصحابه: تأتون قبر أبي عبدالله صلوات الله عليه؟ فقال له: نعم، قال: تتخذون لذلك سفرة؟ قال: نعم، قال: أما لو أتيتم قبور آبائكم وامهاتكم لم تفعلوا ذلك، قال: قلت: فأي شئ نأكل؟ قال: الخبز باللبن(٢) ".

٢٤٥٣ - وفي خبر آخر قال الصادق عليه السلام: " بلغني أن قوما إذا زاروا الحسين عليه السلام حملوا معهم السفرة فيها الجداء والاخبصة(٣) وأشباهه، لو زاروا قبور أحبائهم ما حملوا معهم هذا ".

باب الزاد في السفر

٢٤٥٤ - قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من شرف الرجل أن يطيب زاده إذا خرج في سفر(٤) ".

___________________________________

(١) الحلق كعنب حلقة والحديد يدفع الهوام.

(٢) يدل على استحباب ترك المطاعم الجيدة في سفر زيادة أبى عبدالله الحسين عليه السلام واستشعار الحزن فيه، والخبر رواه ابن قولويه في كامل الزيارات ص ١٢٩ مسندا.

(٣) الجداء: الجدى المشوى، وفى الكامل " الحلاوة "، والخبيص حلواء من التمر.

(٤) رواه الكلينى ج ٨ ص ٣٠٣ تحت رقم ٤٦٧ عن على، عن أبيه، عن النوفلى، عن السكونى عن أبى عبدالله عليه السلام قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله الحديث " وشرف الرجل: مجده وأصالته.

٢٨١

٢٤٥٥ - و " كان علي بن الحسين عليهما السلام إذا سافر إلى مكة للحج أو العمرة تزود من أطيب الزاد من اللوز والسكر، والسويق المحمض والمحلى ".

٢٤٥٦ - وروي أنه " قام أبوذر - رحمة الله عليه - عند الكعبة فقال: أنا جندب ابن السكن، فاكتنفه الناس فقال: لو أن أحدكم أراد سفرا لاتخذ فيه من الزاد ما يصلحه لسفره، فتزودوا لسفر يوم القيامة، أما تريدون فيه ما يصلحكم؟ فاقم إليه رجل فقال: أرشدنا، فقال: صم يوما شديد الحر للنشور، وحج حجة لعظائم الامور وصل ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، وكلمة شر تسكت عنها، أو صدقة منك على مسكين لعلك تنجو بها يا مسكين من يوم عسير، اجعل الدنيا درهمين درهما قد أنفقته على عيالك ودرهما قدمته لآخرتك، والثالث يضر ولا ينفع لا ترده، اجعل الدنيا كلمتين كلمة في طلب الحلال وكلمة للآخرة، والثالثة تضر ولا تنفع لا تردها، ثم قال: قتلني هم يوم لا ادركه ".

٢٤٥٧ - وقال لقمان لابنه: " يا بني إت الدنيا بحر عميق، وقد هلك فيها عالم كثير، فإجعل سفينتك فيها الايمان بالله، واجعل شراعها التوكل على الله(١) واجعل زادك فيها تقوى الله عزوجل، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك ".

باب حمل الآلات والسلاح في السفر

٢٤٥٨ - روى سليمان بن داود المنقري، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: " في وصية لقمان لابنه: يا بني سافر بسيفك وخفك وعمامتك وحبالك(٢)

___________________________________

(١) رواه الكلينى ج ١ ص ١٦ في حديث طويل عن هشام بن الحكم، عن موسى بن جعفر عليهما السلام مع اختلاف وفيه " فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحوشها الايمان، وشراعها التوكل " والشراع ككتاب ما يقال له بالفارسية بادبان.

(٢) الحبال: الرسن.

ورواه الكلينى في الروضة ص ٣٠٣ تحت رقم ٤٦٦، وفيه " وخبائك " والخباء: الخيمة.

٢٨٢

وسقائك وخيوطك ومخرزك(١) وتزود معك من الادوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لاصحابك موافقا إلا في معصية الله عزوجل - وزاد فيه بعضهم: وفرسك -(٢) ".

باب الخيل وارتباطها وأول من ركبها

٢٤٥٩ - قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة(٣) والمنفق عليها في سبيل الله عزوجل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها "(٤) .

فإذا أعددت شيئا فأعده أقرح أرثم محجل الثلاثة، طلق اليمين، كميتا ثم أغر تسلم وتغنم(٥) .

___________________________________

(١) في الكافى " وسقائك وأبرتك وخيوطك " والمخرز ما يخرز به الخف والجراب والسقاء وما كان من الجلود.

(٢) في بعض النسخ " وقوسك " كما في المحاسن ص ٣٦٠. ولعله الاصوب.

(٣) إلى هنا رواه الكلينى ج ٥ ص ٤٨ في الصحيح وكذا البرقى في المحاسن ص ٦٣١ وفيهما " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " وهكذا رواه أحمد والبخارى ومسلم والنسائى وابن ماجة.

(٤) رواه أبوداود السجستانى باسناده عن سهل بن الربيع بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وآله، ورواه الطبرانى في الاوسط على ما في الجامع الصغير عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وآله هكذا " الخير معقود بنواصى الخيل إلى يوم القيامة، والمنفق على الخيل كالباسط كفه بالنفقة لا يقبضها ".

(٥) روى ابن حبان في صحيحة عن عقبة بن عامر وأبى قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله " خير الخيل الادهم الاقرح الارثم المحجل طلق اليد اليمنى، قال يزيد بن أبى حبيب: فان لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية " وروى الحاكم في المستدرك عن عقبة عن النبى صلى الله عليه وآله قال: " إذا أردت أن تغزو فاشتر فرسا أغر محجلا مطلق اليمنى فانك تغنم وتسلم " ونحوه في المحاسن ص ٤٣١.

والاقرح هو الفرس يكون في وسط جبهته قرحه بالضم وهى بياض يسير، والارثم بفتح الهمزة والثاء المثلثة المفتوحة هو الفرس الذى أنفه وشفته العليا أبيض، والمحجل هو الذى يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد ويجاوز الارساغ ولا يجاوز الركبتين لانهما مواضع الاحجال وهى الخلاخيل والقيود ولا يكون التحجيل باليد واليدين ما لم يكن معها رجل أو رجلان (النهاية) وطلق اليمين بفتح الطاء وسكون اللام وبضمها أيضا إذا لم يكن بها تحجيل.

والكميت بضم الكاف وفتح الميم هو الفرس الاحمر أو الذى ليس بالاشقر ولا الادهم بل يخالط حمرته سواد، والشية بكسر الشين المعجمة وفتح الياء مخففة هو كل لون في الحيوان يكون معظم لونها على خلافه.

وقوله " محجل الثلاثة " أى يكون يده اليسرى ورجلاه بيضاء أو يكون فيها بياض.

والاغر ما يكون في جبهته بياض.

٢٨٣

٢٤٦٠ - وروى بكر بن صالح، عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن عليه السلام قال: " سمعته يقول: الخيل على كل منخر منها شيطان، فإذا أراد أحدكم أن يلجمها فليسم "(١) .

٢٤٦١ - قال: وسمعته يقول: " من ربط فرسا عتيقا محيت عنه عشر سيئات(٢) وكتبت له إحدى عشرة حسنة في كل يوم، ومن ارتبط هجينا(٣) محيت عنه في كل يوم سيئتان وكتبت له تسع حسنات في كل يوم، ومن ارتبط بزذونا(٤) يريد به جمالا أو قضاء حاجة أو دفع عدو محيت عنه في كل يوم سيئة وكتبت له ست حسنات.(٥) ومن(٦) ارتبط فرسا

___________________________________

(١) رواه الكلينى ج ٦ ص ٥٣٩ من يعقوب بن جعفر عنه عليه السلام وفيه " فليسم الله عزوجل "، وهكذا في المحاسن.

(٢) في المحاسن والكافى ج ٥ ص ٤٨ " ثلاث سيئات ".

والعتيق هو الذى أبواه عربيان وفرس عتيق ككريم وزنا ومعنى.

(٣) الهجين هو الذى أبوه عربى وامه أمة غير محصنة، ومن الخيل: الذى ولدته برذونة من حصان عربى.

(٤) البرذون بالكسر ما لم يكن شئ من أبويه عربيا، والتركى من الخيل. (راجع الصحاح والنهاية)

(٥) إلى هنا في الكافى ج ٥ ص ٤٨ والمحاسن ص ٦٣١ وثواب الاعمال ص ٢٢٦ عن يعقوب بن جعفر بن ابراهيم الجعفرى عن أبى الحسن عليه السلام.

(٦) من هنا في المحاسن ص ٦٣١ وثواب الاعمال من حديث بكر بن صالح عن سليمان بن جعفر الجعفرى.

٢٨٤

أشقر أغر أو أقرح - فإن كان أغر سائل الغرة به وضح في قوائمه(١) فهو أحب إلي - لم يدخل بيته فقر ما دام ذاك الفرس فيه، وما دام في ملك صاحبه لا يدخل بيته حيف "(٢) .

٢٤٦٢ - قال(٣) : وسمعته يقول: " أهدى أمير المؤمنين عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله أربعة أفراس من اليمن فأتاه فقال: يا رسول الله أهديت لك أربعة أفراس، قال: صفها(٤) قال: هي ألوان مختلفة، قال: فيها وضح؟ قال: نعم، قال: فيها شقر به وضح؟ قال: نعم، قال: فأمسكه لي، وقال: فيها كميتان أو ضحان، قال: أعطهما ابنيك، قال: والرابع أدهم بهيم(٥) قال: بعه واستخلف قيمته لعيالك، إنما يمن الهيل في ذوات الاوضاح ".

٢٤٦٣ - قال(٣) : وسمعته يقول: " من خرج من منزله أو منزل غير منزله في أول الغداة فلقي فرسا أشقر به أوضاح بورك له في يومه، وإن كانت به غرة سائلة فهو العيش، ولم يلق في يومه ذلك إلا سرورا، وقضي الله عزوجل حاجته(٦) ".

___________________________________

(١) الشقرة: حمرة صافية في الخيل وهى لون يأخذ من الاحمر والاصفر وهو أشقر وقد قيل: الاشقر: شديدة الحمرة، والغرة: بياض في جبهة الفرس وهو أغر، وتقدم بيان الاقرح من أنه الذى يكون في جبهته قرحة وهى بياض بقدر الدرهم أو دونه، والوضح: الضوء والبياض، يقال: بالفرس وضح إذا كان في قوائمه كلها بياض، وقد يكون به البرص.

(٢) كذا في المحاسن وفى بعض النسخ " حيق " والحيق ما يشمل الانسان من المكروه لكن في ثواب الاعمال " لا يدخل في بيته حنق ".

والظاهر أن كل ما ذكره من فضائل ارتباط الفرس العتيق والهجين والبرذون والاشقر وجده في كتاب سليمان بن جعفر الجعفرى أو غيره متفرقا فذكره هنا مجتمعا أو كان فيه مجتمعا ونقله البرقى والكلينى متفرقا في تضاعيف الابواب.

(٣) يعنى سليمان قال: سمعت موسى بن جعفر عليهما السلام.

(٤) في الكافى ج ٦ ص ٥٣٨ والمحاسن " فقال: سمها لى ".

(٥) البهيم من الدواب المصمت منها وهو الذى لا يخالط لونه لون غيره والجمع بهم.

(٦) رواه هكذا البرقى في المحاسن والمؤلف نحوه في ثواب الاعمال عن سليمان عن أبى جعفر الباقر عليه السلام والظاهر أنه تصحيف لان سليمان لم يدرك الباقر عليه السلام.

ويحتمل التعدد، أو رواه سليمان مرسلا ويؤيده اختلاف الالفاظ.

٢٨٥

٢٤٦٤ - وقال الصادق عليه السلام: " كانت الخيل وحوشا في بلاد العرب، وصعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام على أبي قبيس فناديا: ألا هلا ألا هلم، فما بقي فرس إلا أعطى بقياده وأمكن من ناصيته(١) ".

باب حق الدابة على صاحبها

٢٤٦٥ - روى إسماعيل بن أبي زياد(٢) باسناده قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله: للدابة على صاحبها خصال: يبدا بعلفها إذا نزل، ويعرض عليها الماء إذا مر به، ولا يضرب وجهها فانها تسبح بحمد ربها، ولا يقف على ظهرها الا في سبيل الله عزوجل، ولا يحملها فوق طاقتها، ولا يكلفها من المشي إلا ما تطيق ".

٢٤٦٦ - وسأل رجل أبا عبدالله عليه السلام " متى أضرب دابتي تحتي؟ قال: إذا لم تمش تحتك كمشيها إلى مذودها(٣) ".

٢٤٦٧ - وروي أنه قال: " اضربوها على العثار، ولا تضربوها على النفار فانها ترى ما لا ترون(٤) ".

٢٤٦٨ - وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إذا عثرت الدابة تحت الرجل فقال لها:

___________________________________

(١) رواه البرقى في المحاسن ص ٦٣٠ بسند مرفوع عن أبى عبدالله عليه السلام

(٢) يعنى السكونى، ورواه الكلينى ج ٦ ص ٥٢٧ بتقديم وتأخير.

(٣) المذود بالذال أخت الدال كمنبر: معتلف الدابة.

(٤) في الكافى ج ٦ ص ٥٣٨ باسناده عن مسمع بن عبدالملك عن أبى عبدالله عليه السلام قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اضربوها على النفار ولا تضربوها على العثار " و رواه أيضا مرسلا في خبر آخر أيضا، وقال العلامة المجلسى رحمه الله: " لعل ما في الكافى أوفق وأظهر " والتعليل لا يلائمه.

وفى المحاسن كما في الكافى.

٢٨٦

تعست، تقول: تعس أعصانا للرب(١) ".

٢٤٦٩ - وقال علي عليه السلام " في الدواب: لا تضربوا الوجوه ولا تلعنوها فإن الله عزوجل لعن لاعنها(٢) " وفي خبر آخر: " لا تقبحوا الوجوه ".

٢٤٧٠ - وقال النبي صلى الله عليه وآله: " إن الدواب إذا لعنت لزمتها اللعنة(٣) ".

٢٤٧١ - وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لا تتوركوا على الدواب ولا تتخذوا ظهورها مجالس(٤) ".

___________________________________

(١) تعس يتعس إذا عثر وانكب بوجهه وقد يفتح العين وهو دعاء عليه بالهلاك (النهاية) وقال العلامة المجلسى في المرآة: لعل المراد بالرب المالك.

في الكافى ج ٦ ص ٥٣٨ رواه عن العدة عن سهل عن جعفر بن محمد بن يسار عن الدهقان عن درست عن أبى عبدالله عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله.

(٢) روى البرقى ص ٦٣٣ باسناده عن محمد بن مسلم عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: " لا ضربوا الدواب على وجوهها فانها تسبح بحمد ربها ".

وفى حديث آخر " لا تسموها في وجوهها " وهكذا مروى في الكافى ج ٦ ص ٥٣٨.

ويحتمل التعدد، ويؤيده الخبر الآتى.

وقال المولى المجلسى قوله " ولا تقبحوا الوجوه " أى الدواب أو وجوهها بالكى ونحوه.

وقال الفاضل التفرشى: الوجوه في " لا تضربوا الوجوه " بدل الضمير بدل البعض، ويمكن أن يراد بتقبيح الوجه ضربه فان الضرب قد تقبحه، وقال سلطان العلماء: لا تقبحوا الوجوه بالاحراق بالكى وغيره، ويحتمل أن يكون المراد لا تقولوا: قبح الله وجهك.

ويحتمل أن يكون المراد لا تضربوا وجوهها ضربا مؤثرا.

(٣) لعل المراد انه يلزم عليها أن تلعن لاعنيها، أو تصير ملعونا، أو تصير سبب هلاكها وتضروا.

(٤) رواه الكلينى ج ٦ ص ٥٣٥ باسناده عن عمرو بن جميع عن أبى عبدالله عليه السلام عن النبى صلى الله عليه وآله.

والمراد الجلوس عليها على أحد الوركين فانه يضربها ويصير سببا لدبرها، أو المراد رفع احدى الرجلين ووضعها فوق السرج للاستراحة، قال الفيروزآبادي تورك على الدابة ثنى رجليه لينزل أو ليستريح، وقال الجوهرى: تورك على الدابة أى ثنى رجله ووضع احدى وركيه في السرج (المرآة) وفى بعض نسخ الكافى " لا تتوكؤوا ".

و قوله " لا تتخذوا ظهورها مجالس " أى بان تقفوا عليها للصحبة بل انزلوا وتكلموا الا ان يكون يسيرا. (م ت)

٢٨٧

٢٤٧٢ - وقال الباقر عليه السلام: " لكل شئ حرمة وحرمة البهائم في وجوهها(١) ".

باب ما لم تبهم عنه البهائم

٢٤٧٣ - روى علي بن رئاب، عن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليهما السلام أنه كان يقول: " ما بهمت البهائم عنه فلم تبهم عن أربعة: معرفتها بالرب تبارك وتعالى، و معرفتها بالموت(٢) ، ومعرفتها بالاثني من الذكر، ومعرفتها بالمرعى الخصب ".

٢٤٧٤ - وأما الخبر الذي روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: " لو عرفت البهائم من الموت ما تعرفون ما أكلتم منها سمينا قط " فليس بخلاف هذا الخبر لانها تعرف الموت لكنها لا تعرف منه ما تعرفون.

باب ثواب النفقة على الخيل

٢٤٧٥ - قال رسول الله صلى الله عليه وآله " في قول الله عزوجل: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " قال: نزلت في النفقة على الخيل ".

قال مصنف هذا الكتاب - رضي الله عنه -: هذه الآية روي أنها نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام وكان سبب نزولها أنه كان معه أربعة دراهم فتصدق بدهم منها بالليل وبدرهم منها بالنهار، ودرهم في السر، وبدرهم في العلانية فنزلت فيه هذه الآية(٣) .

والآية إذا نزلت في شئ فهي منزلة في كل ما يجري فيه، فالاعتقاد في تفسيرها أنها نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام وجرت في النفقة على الخيل وأشباه ذلك(٤) .

__________________________________

(١) الخبر في الكافى والمحاسن عن أبى عبدالله عليه السلام مسندا.

(٢) الظاهر أنها تعرف الموت ولا تعرف ما بعدها لانه ليس لها عذاب كما كان لبنى آدم.

(٣) رواه ابن المغازلى وموفق بن أحمد والمفيد في الاختصاص والعياشى.

(٤) لعموم الاية وخصوص السبب لا يخصص العموم كما في كثير من الايات، ويمكن أن يكون صدقته عليه السلام على الخيل المربوطة للجهاد. (م ت)

٢٨٨

باب علة الرقعتين في باطن يدى الدابة

٢٤٧٦ - روى حماد بن عثمان، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قلت له: " جعلت فداك نرى الدواب في بطون أيديها مثل الرقعتين(١) في باطن يديها مثل الكي(٢) فأي شئ هو؟ قال: ذلك موضع منخريه في بطن امه ".

باب حسن القيام على الدواب

٢٤٧٧ - روي عن أبي ذر - رحمة الله عليه - أنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الدابة تقول: اللهم ارزقني مليك صدق يشبعني ويسقيني ولا يحملني مالا اطيق(٣) ".

٢٤٧٨ - وقال الصادق عليه السلام: " ما اشترى أحد دابة إلا قالت: اللهم اجعله بي رحيما "(٤) .

٢٤٧٩ - وروى عنه عبدالله بن سنان أنه قال: " اتخذوا الدابة فإنها زين وتقضى عليها الحوائج، ورزقها على الله عزوجل ".

٢٤٨٠ - وروى السكوني باسناده(٥) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن الله تبارك

___________________________________

(١) الرقعة بالضم مأخوذ من الرقعة التى ترقع به الثوب.(مراد)

(٢) الكى احراق قطعة من الجلد بحديدة محماة ويقال له بالفارسية " داغ ".

(٣) مروى نحوه في المحاسن ورواه الكلينى بلفظ آخر مسندا عن الصادق عليه السلام في ج ٦ ص ٥٣٧.

(٤) في المحاسن ص ٦٢٦ مسندا عن على بن جعفر عن أبى ابراهيم عليه السلام قال: " ما من دابة يريد صاحبها أن يركبها الا قالت: " اللهم اجعله بى رحيما ".

(٥) يعنى عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عنه صلى الله عليه وآله.

٢٨٩

وتعالى يحب الرفق ويعين عليه، فإذا ركبتم الدواب العجاف(١) فأنزلوها منازلها فإن كانت الارض مجدبة فانجوا(٢) عليها، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها ".

٢٤٨١ - وقال علي صلوات الله عليه(٣) : " من سافر منكم بدابة فيبدأ حين ينزل بعلفها وسقيها ".

٢٤٢٨ - وقال أبوجعفر عليه السلام: " إذا سرت في أرض خصبة فارفق بالسير، وإذا سرت في أرض مجدبة فعجل بالسير ".

باب ما جاء في الابل

٢٤٨٣ - قال الصادق عليه السلام: " إياكم والابل الحمر، فإنها أقصر الابل أعمارا(٤) ".

٢٤٨٤ - وقال عليه السلام: " إن على ذروة كل بعير شيطان فأشبعه وامتهنه(٥) ".

٢٤٨٥ - وقال أبوعبدالله عليه السلام: " اشتروا السود القباح فإنها أطول الابل أعمارا(٦) ".

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " الابل عز لاهلها(٧) ".

___________________________________

(١) العجف بالتحريك: الهزال، والاعجف المهزول، والعجفاء الانثى والجمع عجاف على غير قياس لان فعلاء لا يجمع على فعال. (الصحاح)

(٢) أى أسرعوا، ونجوت أى أسرعت وسبقت.

(٣) مروى في المحاسن ص ٣٦١ مسندا.

(٤) مروى في الكافى ج ٦ ص ٥٤٣ عن ابن أبى يعفور عن أبى جعفر عليه السلام.

(٥) أى استعمله وذلله واستفد منه.

(٦) مروى في الكافى ج ٦ ص ٥٤٣ في ذيل حديث رواه عن صفوان الجمال عن أبى عبدالله عليه السلام وقال فيه: " اشتر لى جملا وخذه أشوه الخ ".

وفى المحاسن في حديث رواه أيضا عن أبى عبدالله عليه السلام.

(٧) رواه البرقى ص ٦٣٥ باسناده عن عمر بن أبان عن أبى عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله.

٢٩٠

٢٤٨٧ - و " نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يتخطى القطار(١) قيل: يا رسول الله ولم؟ قال: لانه ليس من قطار إلا وما بين البعير إلى البعير شيطان ".

٢٤٨٨ - و " سئل النبي صلى الله عليه وآله أي المال خير؟ قال: زرع زرعه صاحبه وأصلحه وأدى حقه يوم حصاده، قيل: يا رسول الله فأي المال بعد الزرع خير؟ قال: رجل في غنمه قد تبع بها مواضع القطر يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، قيل: يا رسول الله فأي المال بعد الغنم خير؟ قال: البقر تغدو بخير وتروح بخير(٢) قيل: يا رسول الله فأي المال بعد البقر خير؟ فقال: الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل(٣) نعم الشئ النخل من باعه فإنما ثمنه بمنزلة رماد على رأس شاهقة(٤) اشتدت به الريح في يوم عاصف إلا أن يخلف مكانها، قيل: يا رسول الله فأي المال بعد النخل خير؟ فسكت فقال له رجل: فأين الابل؟ قال: فيها الشقاء والجفاء والعناء وبعد الدار، تغدو مدبرة وتروح مدبرة(٥) لا يأتي خيرها إلا من جانبها الاشام، أما إنها لا تعدم الاشقياء الفجرة(٦) ".

قال مصنف هذا الكتاب - رضي الله عنه -: معنى قوله صلى الله عليه وآله: " لا يأتي خيرها إلا من جانبها الاشأم " هو أنها لا تحلب ولا تركب إلا من الجانب الايسر(٧) .

___________________________________

(١) أى التجاوز من بينهم. الخبر رواه البرقى بسند فيه ارسال.

(٢) أى تحلب منها اللبن في الغداة أى أول اليوم والرواح أى آخره. (م ت)

(٣) أى الثابتات أرجلها في الطين والمطعمات في أيام الجدب والقحط فانها صابرة العطش، والمراد النخل كما صرح به.

(٤) الشاهقة: الجبل الراسخ والعالى.

(٥) أى أن الادبار والنحوسة لا ينفك عنها في وقت من الاوقات.(مراد)

(٦) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: إذا كان كذلك فمن مربيها قال عليه السلام أما انها لا تعدم الاشقياء الفجرة وهم الجمالون كما هو المسموع والمشهود، وفى الخصال " انهم الظلمة ".

(٧) يحتمل أن يكون جانبها الايسر كناية عن عدم اليمن وقلة الخير والبركة. (سلطان)

٢٩١

٢٤٨٩ - وقال عليه السلام: " في الغنم إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أقبلت(١) ، والبقر إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أدبرت، والابل، إذا أقبلت أدبرت وأذا أدبرت أدبرت ".

باب ما يجب من العدل على الجمل وترك ضربه واجتناب ظلمه

٢٤٩٠ - روى السكوني باسناده " أن النبي صلى الله عليه وآله أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها، فقال: أين صاحبها، مروه فليستعد غدا للخصومة "(٢) .

٢٤٩١ - وفي خبر آخر قال النبي صلى الله عليه وآله: " أخروا الاحمال فإن اليدين معلقة، والرجلين موثقة ".

٢٤٩٢ - وروى ابن فضال، عن حماد اللحام قال: " مر قطار لابي عبدالله عليه السلام فرأى زاملة(٣) قد مالت، فقال: يا غلام اعدل على هذا الحمل، فإن الله تعالى يحب العدل ".

٢٤٩٣ - وروى أيوب بن أعين قال: " سمعت الوليد بن صبيح يقول لابي عبدالله عليه السلام: إن أبا حنيفة(٤) رأى هلال ذي الحجة بالقادسية وشهد معنا عرفة،

___________________________________

(١) أى إذا أقبلت بالنتاج فهو وإذا أدبرت يعنى بالموت يذبحها صاحبها وينتفع من لحمها وجلدها، أما البقر فوسط، وأما الابل فاقبالها ادبارها لانه إذا حصل له بعض النتاج أو النفع أنفق لها صاحبها أزيد من نتاجها.

(٢) يعنى يوم القيامة لان عقال الناقة وعليها حملها ظلم عليها فاذا كان يوم القيامة تخاصم صاحبه بين يدى الجبار وتقول: ما ذنبى حتى ظلمتنى فينتصف الله سبحانه منك لها.

(٣) الزاملة المحمل وبعير يحمل الطعام والمتاع، وميل الحمل إلى جانب سبب لدبر الدابة.

(٤) هو سعيد بن بيان سابق الحاج الهمدانى ومع أنه ثقة يذم فعله، وقيل انه كان يذهب بجماعة إلى الحج في نهاية السرعة وذهب بهم في هذا الخبر من القادسية التى كانت قريبة من النجف إلى عرفات في ثمانية أيام وشئ.

وروى العياشى عن أبى عبدالله عليه السلام قال:

" أتى قنبر أمير المؤمنين عليه السلام فقال: هذا سابق الحاج، فقال: لا قرب الله داره هذا خاسر الحاج يتعب البهيمة، وينقر الصلاة، اخرج اليه فاطرده ".

٢٩٢