الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة20%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56558 / تحميل: 7201
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

س: ما هي التغيّرات الإيجابية التي لمستها في حياتك منذ اعتناقك الإِسلام؟

ج: لقد وجدتُ السلام الداخلي.. لقد عشتُ السلام في قلبي وروحي وفي علاقاتي بالآخرين، حتى باتت حياتي مستقرة، وانعكس ذلك على حياة ابنتيّ أيضاً، واندفعت إلى الحياة بقوة وإرادة أكبر، فعدت لمتابعة دراستي في الجامعة.

س: يعني أنك تشعرين الآن براحة أكبر من ذي قبل؟

ج: طبعاً، والحمد لله، أشعر بلذة كبرى أثناء الصلاة وصوم شهر رمضان المبارك، وأعلم أن عليّ أن أتعلم الكثير الكثير عن الإِسلام، فكلما وقعت على معرفة معينة تبيّن لي أن الذي أعرفه لا يوازي ذرة في كتاب هذا الوجود، فعليّ البحث أكثر، علماً أن حياة الفرد قصيرة، قياساً بما يجب أن يتعلّمه الإنسان في هذه الحياة.

س: على ضوء تجربتك، هل تقترحين أساليب معينة لدعوة غير المسلمين للإِسلام؟

ج: أتمنى أن تطابق أقوالنا أفعالنا، فنمارس قولاً وعملاً ما تدعو إليه العقيدة الإِسلامية، وأن نستحضر الله تعالى في كل ما نقوم به، ونسير على هدي النبي محمد (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، وأن نحدّث الناس عن الإِسلام باللين والكلمة الحسنى، وألا تزعزع الأزمات والمصاعب إيماننا بالله تعالى.

س: ما هو الدور الذي تقومين به أو تنوين القيام به لخدمة الدعوة الإِسلامية؟

ج: أبذل قصارى جهدي لأتمتع بصفات المرأة المسلمة المتديّنة، وهذا بحد ذاته دعوة إلى الله من خلال أفعالي وسلوكي، وأسأل الله أن أكون عند حسن ظنه تعالى.

س: ما مدى إمكانية الدعوة إلى الدين الحنيف في بلادك؟

ج: يحتاج الإِسلام في بلادي إلى القدوة الحسنة، فبقدر ما يلتزم المسلمون بتعاليم الإِسلام هنا، يسهل تغلغل الإِسلام إلى القلوب والعقول، فالإِسلام يحمل بداخله مقومات قادرة على إنقاذ الناس من التيه والضياع ولجوئهم إلى المخدرات، وبإمكان هذا الدين إنقاذنا من الغرائز المنحطة التي سجن الإنسان نفسه خلف قضبانها.

لقد وضع الإِسلام في أيدينا المفتاح إلى الجنة، وكل ما علينا هو إدارة هذا المفتاح للولوج إلى عالم الآخرة، ولا يكون ذلك إلا باتباع أوامر الله تعالى وسُنَّة نبيه (ص) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) برضىً وطمأنينة.

١٤١

س: كيف ترين أوضاع المسلمين الحالية؟

ج: في الواقع أجد الكثيرين منهم منغمسين في أمور دنياهم دون الالتفات إلى أمر الآخرة، وهؤلاء كسالى عن الدعوة إلى الله، وعن تطبيق الإِسلام في حياتهم الفردية والاجتماعية، همّهم الاستمتاع بهذه الدنيا الفانية التي تعمي بصائرهم عن سعادة الإيمان والتقوى والعمل بما أنزله الله تعالى.

س: كيف ترين أوضاع المرأة المسلمة؟

ج: أعلّم ابنتيّ أنهما غاليتان، وعليهما ألا تفرطا بنفسيهما بثمن بخس، فالفتاة أم المستقبل وعلى الجميع من حولها احترامها. وعلى جميع الرجال المسلمين حماية النساء، وعلى هؤلاء أيضاً حماية أنفسهن.

لقد وُهبنا والحمد لله هذا الإيمان، ولكن هذا الإيمان يجب أن يتسع ويقوى، ويتغلب على جميع الشرور التي تتجه إلى تشويه دور المرأة كواهبة للحياة، ومنارة للحب والراحة والسرور.

١٤٢

الأخت المسلمة السويدية

الدكتورة سمية «بارنيللا» تقول لـ «نور الإِسلام»

· العناية الإلهية شملتني بألطافها ووضعتني على طريق الهداية إلى دين الله تعالى.

· الإِسلام دين المنطق والعدل، يقبل النقاش العقلي الحر. ويضفي التوازن على كل جوانب الحياة الإنسانية.

· أدعو المرأة المسلمة وخاصة في البلاد الإِسلامية. لتعتبر أن حصنها هو حجابها، وأن التزامها بدينها هو طريق تقدّمها ومستقبلها. لا تقليد الحضارة الغربية الزائفة.

السويد كغيرها من الدول الغربية التي نجح الإِسلام، بما يمتلكه من قوة الإقناع، أن يستقطب إلى صفوفه أعداداً متزايدة من أبنائها الذين أتيح لهم أن يطلعوا على أفكاره ونظمه.. فلا أسوار التعصب والجهل التاريخية، ولا حواجز الحضارة المادية بكل بهارجها ومغرياتها، ولا الدعايات المضادة للإِسلام بكل لؤمها وخبثها.. ليس كل هذا بقادر على أن يمنع أنوار الهداية الإلهية، من أن تضيء العقول والنفوس التي تهفو إلى الحق وتبحث عن الحقيقة.

هذه الحقيقة تؤكدّها وتبيّنها بوضوح حكاية الأخت المسلمة السويدية الدكتورة سمية - بارنيللا سابقاً - مع الإِسلام الذي شدّها إليه وضوح عقيدته وعقلانيته وشمولية رسالته، فاستنقذها كما تقول مما كانت تعانيه من فراغ عقائدي وروحي، ومنحها الطمأنينة والدافع لكي تنخرط في نشاطات فكرية واجتماعية عديدة من أجل رعاية المسلمين في منطقتها، وحمل مهمة تبليغ الإِسلام في أنحاء دولة السويد كافة.

في منزلها الزوجي في بلدة «شاملينغ» التابعة لمدينة لوند السويدية، التقتها «نور الإِسلام» بحضور زوجها الأخ جميل الجزائري الجنسية، وأطفالها الأربعة، ومنهم ابنتها التي ذكرت لنا أنها الوحيدة المحجبة في صفها، وهي معتزة بذلك.. وبعد الترحيب كان السؤال الأول:

س: كيف تصفين لنا رحلتك نحو اعتناق الإِسلام؟

ج: في الحقيقة أنا أعتبر أن العناية الإلهية هي التي شملتني بألطافها ووضعتني على طريق الهداية لدين الله تعالى، الذي اختاره وارتضاه ليقود خطى البشرية نحو شاطىء الأمان، وهو الدين الصالح لكل زمان ومكان.

١٤٣

وكانت رحلتي نحو الإِسلام قد بدأت منذ أوائل الثمانينيات، وهي لم تكن سهلة أو سريعة، حيث أخذتُ متسعاً من الوقت للاطلاع والتأمل، قبل أن أتخذ القرار السعيد باعتناق الإِسلام والالتزام بتعاليمه والجهر بذلك، بعدما حصل لديّ الاقتناع واليقين بصحة هذه الخطوة المصيرية بالنسبة إليّ.. وإذا شئتم ذكر بعض التفاصيل حول الكيفية التي تعرّفت فيها إلى الإِسلام والتي قادتني إليه، فإن الفضل في ذلك بعد التوفيق الإلهي يعود إلى أختي مريم، التي نشأتُ معها في قريتنا «سفل - Siffle »، وكانت قد اختارت الدراسة الجامعية في إحدى الجامعات الصينية، وهناك رغبت في الاطلاع على البوذية بحكم الفراغ العقائدي الذي كانت تعيشه، ولكن بحمد الله، فإن الطريق بدلاً من أن يقودها إلى البوذية أوصلها إلى الإِسلام، حيث تعرّفت هناك إلى مجموعة من الطلاب المسلمين الذين كانوا يدرسون في الجامعة نفسها، وبواسطتهم اطلعت على الإِسلام فاقتنعت به وأعلنت إسلامها، وتزوّجت من أحد الطلبة المصريين. وعندما عادت إلى السويد جرى بيني وبينها نقاشات مطوّلة حول الإِسلام، جعلت صدري ينشرح لهذا الدين، وأعادتني إلى التفكير بالحياة الدينية والروحية بعد أن كنت غير مبالية، وهذا ما دفعني إلى مزيد من الاطلاع على الإِسلام، فكان لي لقاءات مع بعض الطلبة المسلمين المثقفين الذين أجلوا لي بعض الغوامض وزودوني بالعديد من الكتب التي استفدت منها كثيراً، حيث بدأتُ أحصل على أجوبة مقنعة على الأسئلة التي كان تحيّرني وتبعث في نفسي الشك، وهكذا وجدت الإِسلام دين العقل والمنطق والعدل، ووجدته يؤمّن التوازن بين العقل والعاطفة، وفي كل جوانب الحياة الإنسانية، ويضع للإنسان منهجاً يؤمّن له السعادة في الحياتين.. الدنيا والآخرة، كما يطرح حلولاً متميزة لكل المشاكل التي تعترض حياة الإنسان، وهذا ما دفعني للتحول نحوه.

س: كيف كان صدى التزامك بالإِسلام بين أهلك وفي محيطك؟

ج: قبل ارتدائي الحجاب والالتزام باللباس الشرعي، اقتصر رد فعل أهلي وأصدقائي على بعض التعجّب والتساؤل عمّا إذا كنت سأثبت على قناعاتي الجديدة، وعمّا إذا كنت سأتعدّى مجرد القناعة إلى الالتزام الظاهري، ولكن بعد زواجي ذهبتُ مع زوجي جميل إلى الجزائر، وهناك التزمتُ بالحجاب واللباس الشرعي، وبعد عودتي إلى السويد واجهتُ الكثير من الاستغراب والأسئلة المعترضة على وضعي الجديد سواءً من الأهل أو الأصدقاء حيث لم يكن أحد يتصوّر أنني سألتزم إلى هذا الحد، وقد عرفوني سابقاً غير مبالية بالدين، ولم يدر في خلدهم أن الإِسلام أمر مختلف وأنه ليس مجرد ديانة تعنى بباطن الفرد فقط، بل هو أسلوب للحياة والتعامل.

١٤٤

وبارتدائي الحجاب في ذلك الوقت، أصبحت في نظرهم أنتمي إلى الأقليات المسلمة التي يتجنبها الإنسان السويدي، الذي هو بطبيعته يعيش العزلة والخوف من الجديد والمختلف، غير أن هذا لم يمنعني من أن أشق طريقي بكل ثقة وصبر، وأن أفرض احترامي واحترام ما التزمت به على الكثيرين ممن تبرموا في البداية.

س: كيف ترين أهمية الحجاب بالنسبة إلى المرأة المسلمة وخصوصاً في الغرب؟

ج: الحجاب بنظري هو حصن تعيش المرأة في داخله بكل طمأنينة، واثقة بالنفس، وهو يفسح المجال أمام المرأة للتفكير بما هو أهم من الملابس والزينة، ويعطيها الفرصة لتصبّ جهودها أكثر على ما يدفعها ويدفع محيطها للتقدّم، لأنها تحرّر نفسها من الاستغلال الرخيص لأنوثتها فتتحرّر من سطوة جشع تجار الأزياء وتفاهاتهم، ومن عبث وفساد وسائل الإعلام والإعلان التي تسيّر النساء الفارغات في عالمنا المعاصر.

س: هل يمكن أن تعطينا صورة عن المستوى العلمي الذي توصّلت إليه وعن مجال عملك؟

ج: لقد تابعتُ دراستي بعد إسلامي حتى نلتُ شهادة الدكتوراه من جامعة لوند، وذلك في قسم البيئة البشرية، وكان موضوع أطروحتي هو «المسلمون في الشرق الأوسط»، الذي هو محل اهتمامي الشخصي، وهذا ما اقتضي مني زيارة عدة دول إسلامية في الشرق الأوسط لاستكمال المعلومات حول هذا الموضوع، وأنا الآن أعمل باحثة في جامعة لوند نفسها.

س: علمنا أن لديك نشاطات إسلامية متعددة، فما هي؟

ج: لقد انتخبتُ عضواً في الأكاديمية الإِسلامية، وهي جمعية تضم الجامعيين المسلمين في جميع أنحاء السويد، وتهتم بالتعريف بالإِسلام، وإجلاء صورته في المجتمع السويدي، والدعوة إليه عن طريق المحاضرات والندوات والكتب والمنشورات، وأنا أساهم قدر طاقتي في نشاطات هذه الجمعية.

١٤٥

أمّا نشاطي الإِسلامي الأساسي فيتم من خلال النادي النسائي في مدينة لوند وجمعية الإرشاد الإِسلامية الخاصة بالنساء المسلمات السويديات والمهاجرات، وتهتم الجمعية بالتوعية الثقافية الإِسلامية عن طريق تدريس التربية الدينية والعلوم الإِسلامية واللغة العربية. وتقيم الجمعية الندوات واللقاءات العامة، كما تنظم زيارات للمدارس والجامعات بهدف التبليغ الإِسلامي. إلى جانب ذلك، لدينا اهتمام خاص بالأطفال لتنشئتهم نشأة إسلامية سليمة، وإبعادهم عن المحيط المنحرف.

س: ما رأيك بمستقبل النشء المسلم الجديد في السويد والمجتمعات الغربية؟

ج: برأيي أن الأطفال المسلمين سيواجهون صعوبة أقل لدى انخراطهم بالمجتمعات الغربية، لأنه من الأسهل عليهم فهم تركيبة المجتمع الذي نشأوا فيه والتكيّف معه بمرونة أكثر من كبار السن المهاجرين، سواء في السويد أم في غيرها.

س: ما هي المشكلات التي يعاني منها المسلمون في السويد؟

ج: يعاني المسلمون في السويد من مشاكل عدة، تنعكس سلباً على تحسين أوضاعهم، منها:

- انخفاض المستوى التعليمي، حيث أن الأكثرية منهم جاءوا إلى السويد للاستفادة من الرفاهية المادية الموجودة هنا، وهذا ما يعيقهم عن الحصول على وظائف عالية.

- المشاكل القائمة بين المجموعات المسلمة ذاتها، حيث يختلف بعضهم على المرجعية التي تبتّ في القضايا المهمة التي تهم جميع المسلمين.

س: كيف ينظر السويديون والغربيون عامة إلى المسلمين الموجودين بينهم؟

ج: يصنّف المسلمون في الغرب عادة إلى قسمين: قسم يسمّونهم متطرفين، وهم الذين يتمسّكون بدينهم ويطبقون شعائره ولا يجاملون في ذلك. وقسم آخر يسمّونهم معتدلين، وهم عادة الذين لا يبالون بأمور الدين ويهملون واجباتهم الشرعية، لأنهم متأثرين بالحياة الغربية المادية. ولكن على العموم فإن نظرة الغربيين إلى الإِسلام والمسلمين هي عموماً سلبية، وهي ناشئة عن رؤيتهم الحضارية والدينية المختلفة والاحتكاكات التاريخية، كما أن الإعلام المعادي الموجّه يغذي هذه النظرة السلبية، ويعمل على تضخيم وهم الخطر الإِسلامي على الغرب. كما لا ننسى هنا أخطاء المهاجرين المسلمين وأفعال الكثيرين منهم التي تعطي صورة سيئة عنهم، وعمّا يمثلون.

١٤٦

ولا يعني هذا أن ليس هناك تفهّم للإِسلام وتعاطف مع المسلمين وقضاياهم لدى جهات وأشخاص كثيرين في الغرب، وهنا تأتي مسؤولية المسلمين لكي يبذلوا الجهود المضاعفة كي تتسع هذه النظرة الإيجابية للإِسلام في الغرب.

س: هل من كلمة أخيرة؟

ج: أريد أن أوجّه عبر مجلتكم الموقرة نداءً مختصراً إلى المرأة المسلمة عموماً وإلى النساء في البلاد الإِسلامية بشكل مباشر لأدعوهن إلى مزيد من الوعي والتعقل والتمسك بالإِسلام، هذه الرسالة العظيمة، كي يساهمن بشكل أفضل في تماسك وتطوير وسلامة مجتمعاتهن لإبعادها عن الموبقات والمفاسد التي تعصف بالمجتمعات الغربية، والتي تحطّ من قدر الإنسان، وألا ينخدعن بمظاهر الحياة الغربية ومغرياتها وحرياتها الزائفة، التي تزيّنها لهن وسائل الإعلام المفسدة، فهذه لا تؤدي إلّا إلى سقوطهن وتدمير كل مقومات القوة التي يوفرها لهن الإِسلام في أنفسهن ومجتمعاتهن، وأني آمل من كل اللواتي انبهرن بهذه القشور وتخلين عن مزايا شخصيتهن الإِسلامية الكريمة أن يراجعن أنفسهن ويواجهن الحقيقة بإرادة وصدق.

١٤٧

الأخ المسلم البريطاني جان هانز (محمد علي)

يقول:

· السلوك النظيف والقويم لبعض العمّال المسلمين الملتزمين جعلني أُكبِر الإِسلام وأرغب في اعتناقه.

· في الغرب نحلم بالسعادة ولا نجدها، بل نعيش الحسرة والأسف عند انقضاء كل متعة ننالها.

· تفرّغت لطلب العلوم الدينية الإِسلامية من أجل خلاص نفسي وهداية أهلي ومجتمعي.

· النبي الأعظم (ص) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) هم معلمو البشر وقادتهم، ويجب أن نتخذهم قدوة لنا.

في الوقت الذي تنتشر فيه الفلسفات المادية والتيارات الإلحادية وهي تغزو وسائل الإعلام في كل قطر وبلد، مدعومة بأحدث وسائل الاتصال والنشر. تجد ثلّة من الناس طريقها الواضح المستقيم، وسط الغبار والزحام المتراكم من الأيديولوجيات والأفكار، مهتدية بنور الإِسلام الذي يجذب إلى ساحته كثيراً ممن أنعم الله عليهم بنعمة الدين الحنيف، ومن قلب الغرب الذي أدار ظهره للدين منذ أن أعرض عن النهج الإلهي، في مطلع النهضة العلمية التي حققت له رفاهية مادية ولكنها فشلت في أن توصله إلى رحاب الطمأنينة وواحة السعادة في هذه الدنيا فضلاً عن الآخرة. من بين هؤلاء النخبة المهتدية، نبدأ حديثنا عن إسلام الشاب البريطاني جان هانز «محمد علي» بهذه اللمحة الدالة التي توجز حوار مجلة «نور الإِسلام» مع هذا الشاب المهتدي.

التقيناه في رحاب المقام الشريف للسيدة زينب (عليها السلام) في ضاحية دمشق الشام، هناك ذات مساء، بعد أداء شعائر الزيارة المباركة، وبعد الفراغ من الصلاة، من بين تلك الوجوه الطيبة التي أمّت المقام الشريف، طالعنا بوجهه المشرق وثغره المبتسم، والطريف في هذا الأمر، أن هذا الشاب كان يرتدي الزي الخاص بطلاب العلم الديني، وكان مظهره يحمل أكثر من دلالة.. بعد أن رحبنا به دار بيننا الحوار التالي:

١٤٨

س: هل لك أن تعطينا لمحة عن نشأتك؟

ج: نعم بكل ترحيب، وُلدت في بريطانيا، وعشتُ طفولتي كأي فرد مسيحي، يذهب مع عائلته إلى الكنيسة أيام الآحاد والأعياد، ولم أكن أشعر بأن شيئاً يمكن أن يطرأ على حياتي فيبدلها، ولكني كنت أشعر كأكثر الناس بأن الحياة تمضي بنا حثيثية دون أن تحمل إلينا معنى أو هدفاً نبيلاً، فالناس تعيش دون مُثُل أو قيم، مكتفية بالاستغراق في الحياة المادية العابثة التي تجعل منّا أناساً أشبه بالأنعام التي تعيش ليومها ولا تفكر بغد.

كانت حياتنا رتيبة، نحلم بالسعادة ولا نجدها، فتشنا عنها كثيراً فلم نجدها في حدود متع الدنيا ولذاتها، بل كنا نصاب بالحسرة والأسف عند انقضاء كل متعة ننال منها نصيباً، لهذا كنا نعيش حياة ينتهي وجودنا بانتهائها؛ ولهذا كان الكثير من الشباب يفكرون بالتخلص من هذه الحياة الفارغة، إما بالهروب إلى المخدرات، هروباً آنياً وإمّا بالانتحار. وقد حصل أن أقدم شبان كثر على قتل أنفسهم عندما قرأوا كتاب «آلام فرتر» للكاتب الألماني «غوته» في الحقبة الماضية. في تلك الفترة لم أكن أختلف بشيءٍ عن أقراني، لقد درستُ وتعلمتُ في إنكلترا وتخرجت من الجامعة مهندساً، ثم سافرت للعمل في الخارج.

س: هل لك أن تحدثنا عن تجربتك الجديدة في ظل الإِسلام؟

ج: كانت بداية التحوّل في حياتي الشخصية حينما سافرت إلى الباكستان للعمل هناك، وبعد انقضاء فترة على وجودي في تلك البلاد، كنت خلالها أراقب العمّال البسطاء الذين كانوا يشتغلون تحت إشرافي. وقد لفت نظري إخلاصهم في العمل فضلاً عن صدقهم في المعاملة، وتفانيهم في أداء ما يُطلب منهم بكل أدب واحترام، ولاحظتُ أن السبب في ذلك يعود إلى روح النظام وجو الطهارة الذي اكتسبوه من عادة حسنة، فقد كانوا يقفون بانتظام صفاً للصلاة بضع مرات في اليوم، بعد أن يقوموا بتنظيف أجسامهم في أحواض الماء، ويغسلون بعض أعضائهم أو يمسحونها، وهي دلالة ظاهرة على طهارة الأبدان، ودلالة باطنة على نظافة الروح وتطهير النفس، وقد تعلمت منهم قول الرسول (ص) :

١٤٩

«أفضل الطيب الماء» .. أما عندنا فما نفع العطور التي يضعها الإنسان على جسم تتنازعه الأقذار والنجاسات، من الخمرة إلى الميتة ولحم الخنزير وما أشبه ذلك. ثم تعلمتُ من هؤلاء العمّال، كيف أملأ وقتي بما يفيد، وكيف أنظِّم ساعات يومي، بعد أن أقف مثلهم لحظات بخشوع وأتلفظ بالكلمات ذاتها، التي تشيع الأمن والطمأنينة في نفسي.

وعرفتُ من هنا أن الفرد المسلم يمثّل الطهارة المادية المتجسّدة في نظافة جسمه من الأدران ونظافة روحه من الآثام.

س: هل من سبب آخر دفعك إلى اعتناق الإِسلام؟

ج: لقد كان في حياتنا نحن الغربيين، كما أشرتُ إليك، فراغ هائل، نابع من انتفاء القِيم في واقع الإنسان الغربي، وهذا ما يبعث على القلق المؤدي إلى عذاب الروح، فعندنا كلمة شائعة يتداولها الناس تدلّ على اللامبالاة وعدم الاكتراث مثل «لا يهمني» أو أن يقول قائلنا لكل أمر جديد أو مدهش «حسناً».

والجدة عندنا معيار وقيمة توزن بها الأشياء، فكل شيء إذا مضى عليه وقت يفقد قيمته ويتطلع الإنسان إلى الجديد الذي يبهر ثم سرعان ما يفقد هذا الجديد سحره وتأثيره، وهكذا يظل الإنسان يلهث وراء كل جديد، حتى يتبلد إحساسه فلا يشعر بقيمة الأشياء، فتفقد الأشياء معناها وجوهرها، فيصبح الإنسان عديم الإحساس، من هنا يفكر في الخلاص بأي طريق كان.

بينما يعطي الإِسلام منهجاً وسطاً في المنع والعطاء، في التمنع والحرمان، هذا المنهج الوسط يبقي للأشياء معناها، لأن الحرية المطلقة التي تبلغ الإباحية والإسراف، تستهلك جوهر الأشياء وتبطل معناها، وهنا تكمن الكارثة في الحياة الغربية القائمة على البراغماتية والمتعة الآنيّة.

لقد وهبني الإِسلام منهجاً في الحياة قرّت به عيني واطمأنت إليه نفسي، بعد سنوات من الضياع والقلق الذي يغرق فيه مجتمعنا المتردي في دوامة الانحلال على الصعيدين المادي والروحي.

ولم أصدق أن هناك عقيدة تحمل إلى الإنسان السكينة والاستقرار إلّا بعد أن رأت عيناي وسمعت أذناي ولمستُ الحقيقة التي لا ريب فيها أن الإِسلام بصفاته وسماحته هو المنتجع الآمن والواحة التي تستظل بها النفوس التواقة إلى رحاب السعادة. كان ذلك التحوّل الكبير في حياتي حين تعرفت إلى خاتم الديانات وجوهر الرسالات، الإِسلام الحنيف، وكان ذلك بفضل العناية الإلهية.

١٥٠

س: ما هي الأسباب التي دفعتك لتكون طالباً في مدرسة العلوم الدينية؟

ج: عندما اهتديتُ إلى الإِسلام، فكرت بأهلي ومجتمعي، وعرفت أني سأواجه اعتراضاتهم، لذلك شئت أن أتسلح بالحجة والبرهان، وسبيلها العلم والمعرفة، لذا عقدتُ العزم على تلقي العلوم والمعارف الإِسلامية.

س: ألا يسبب لك حرجاً ارتداؤك الزي الخاص برجال الدين؟

ج: في الأساس لم أفكر في خلاص نفسي فحسب، بل فكرت في خلاص الآخرين من أهل وطني، لهذا وطّنت النفس على تجاوز الصعاب، إنني فخور بارتداء العمامة والزي الديني، وهذا يمنحني الحرية في الحركة، بهذه الثياب الفضفاضة، كي يحررني من الزي الغربي الملاصق للجسد، فذاك يضغط عليّ ويرهقني، وهذا يتيح لي التحرك بسهولة، وهو رمز للتجرد عن زيف الحضارة في الزينة والتجمل.

ثم إن المجتمع الغربي يدّعي الحرية والديمقراطية، فأنا من هذا المنطلق يحق لي أن أرتدي ما أشاء.

س: ماذا تنوي أن تفعل عندما تعود إلى وطنك؟

ج: انطلاقاً من قول الإمام علي (ع) : «أحب لغيرك ما تحب لنفسك»، لهذا فإنني أبغي الخير لإخواني في الإنسانية من أبناء وطني كما قال الإمام (ع) : «واعلم أن الناس إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». فسوف أقوم بواجبي في التبليغ الإِسلامي، وإنني آمل منهم أن يستجيبوا.

س: ما هو مدى اطلاعك على الثقافة الإِسلامية؟

ج: إني سعيت للاطلاع على المعارف والعلوم الإِسلامية بشغف ومحبة، وإنني ملم بحياة النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام) ، ومطّلع على الكثير مما قالوه وفعلوه، وإنني أؤمن بعصمتهم وأنهم معلمو البشر وقادتهم، وأتخذهم قدوة وأجعل من أقوالهم شعاراً ومن أفعالهم أمثولة في الحياة.

١٥١

س: هل من كلمة أخيرة تتوجه بها إلى القرّاء؟

ج: إنني أؤكد إنني وجدتُ للحياة قيمة بعد اعتناقي الإِسلام، فنحن لم نخلق عبثاً، بل لغاية سامية، والجدة التي هي معيار كاذب وزائف لم تعد تعني لي شيئاً.

وإنني أردد ما قاله المرجع الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء «بلّغوا الإِسلام إلى الغرب، فإذا نجحتم في رسالتكم هناك، حققتم أهدافكم في التبليغ هنا»، لأن الشرق مولع بتقليد الغرب، وهو مرض العصر، ولقد كان الغرب الإسباني في عصر الإِسلام، يتوجه بأنظاره قِبَل المشرق، وإنني أدعو جميع الناس إلى قراءة الإِسلام ومعرفته عن كثب ليتسنى لهم الاهتداء ثم هداية الآخرين، لأن الناس أعداء ما جهلوا، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

١٥٢

الأخت الروسية المهتدية، يلينا كوشيليوفا

تقول «لنور الإِسلام»:

- على الرغم من الدعاية الإلحادية التي كان يفرضها النظام التعليمي الشيوعي السابق، كان ينتابني إحساس بوجود إله واحد.

- من خلال كتاب «حياة محمد» لأحد الكتّاب الروس، أعجبت بشخصية الرسول (ص) ثم صرت أبحث عن الكتب الإِسلامية.

- الأسف يعتصر قلبي، كيف لم تهتدِ النسوة السافرات إلى نعمة الحجاب، وما يمثّله من قيم النقاء والطهر.

- إنني أنصح أختي المسلمة أن لا تسير بخطى عشواء على طريق المدنية القادمة من الغرب.

يلينا يورينيفا كوشيليوفا

لم تكن تدري يلينا وهي الفتاة الروسية التي تعيش في مجتمع شيوعي يؤمن بالقيم الماركسية، أنها على موعد مثير، مع صدفة رائعة حملها إليها عيد الأضحى، حينما التقت بمن هيَّأته العناية الإلهية لينقلها من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى الدين الحنيف، لقد وُلدت من جديد، كما تقول يلينا، وكنت أشعر بإرهاصات تنبئ عن استعداد وتوجه في عمق وجداني. كالظافر بالماء وسط الصحراء، لأجد الحوض الطاهر النقي، الذي ألقيت بنفسي في لجته، لأتطهر من أدران هذا العالم الذي أضاع قيم الروح والإنسانية.

تجربتي مع الإِسلام مثيرة وغنية بالعبر إذا ولجتم إلى أعماقي ستجدون أنني جد سعيدة بهذه المصادفة الرائعة. وكأن القطار الذي كان ينقلني من إحدى المدارس في ضواحي «لاتيا» كان يحملني إلى شاطئ السعادة والأمان وواحة الهداية واليقين.

في مسكنها الزوجي في بيروت وبين عائلتها السعيدة التقت نور الإِسلام السيدة يلينا وكان لنا معها هذه المقابلة:

١٥٣

س: هل لك أن تعطينا لمحة موجزة عن نشأتك وتربيتك الأولى:

ج: وُلدت سنة 1973 في طاجكستان التي كانت واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، من أصل روسي، وكان والدي ضابطاً برتبة كولونيل، إلى جانب كونه محامياً، وكانت أمي طبيبة، وقد تعرضت عائلتي للتنقل إلى أكثر من بلد، إذ هاجر أهلي إلى سيبيريا، إلا أنني بقيتُ أعيش مع جدتي في طاجكستان حيث دخلت إلى المدرسة، وعندما سافر أهلي إلى جمهورية لاتيا اصطحبوني معهم إلى مدينة ريفا ثم استقرت بنا السكنى أخيراً في أوكرانيا.

لقد فرضت علينا ظروف عمل والديَّ أن نتنقل بين بلدان الاتحاد السوفياتي سابقاً، مما أتاح لي فرص التعرف إلى هذه البلدان المختلفة، والخروج إلى العالم الأوسع؛ ما أكسبني مرونة في التصرف، ومزيداً من الوعي، وهذا ما أدى إلى أن لا تترسخ في نفسي عادات بلد معين، بل كنت أبحث دائماً عن الأفضل في العادات والسلوك. لقد ترعرعت وسط عائلة مثقفة. فالبيئة التي عرفتها في لاتيا تشبه البيئة الأوروبية من حيث توفر الحرية والمناخ الثقافي والفكري، قياساً على بقية البلدان الروسية.

كانت طفولتي موزعة بين البيت والمدرسة، فلم أكن أهتم بما يوليه أترابي من اهتمام.

ولست أعلم بالتأكيد لماذا كان ينتابني إحساس بوجود إله واحد مع أن التعاليم الإلحادية التي يفرضها النظام التعليمي، كانت لا تعترف بذلك، وربما كان لجدتي أثر في هذا الاستعداد لديَّ.

وكان والدي يشتري لي كتباً علمية حول نشوء العالم، حسب ما يقرره الإنجيل، وكنت أميل كثيراً إلى التأمل. وعندما بلغت السادسة أو السابعة عشرة جربتُ أن أصوم على الطريقة الأرثوذكسية، حيث كنت أمتنع عن تناول اللحوم والمشتقات الحيوانية لمدة أربعين يوماً.

١٥٤

س: هل لك أن توضحي لنا الأسباب التي حملتك على اعتناق الإِسلام:

ج: أجل. حينما كنت في الرابعة عشرة من عمري، كنت أتعلم في مدرسة تضم أولاداً من الطاجيك الذين يعتنقون الإِسلام، ولاحظتُ كيف أن العائلة المسلمة تضم عدداً كبيراً من الأولاد، وفي أثناء ذلك كان يسترعي انتباهي منظر الأولاد المؤثر، وهم يصومون طوال النهار عن الطعام والشراب، وكان بعضهم يصاب بالإعياء آخر النهار، حيث كان شهر حزيران القائظ بنهاره الطويل. وكان ذلك يحملني على التساؤل، لماذا يتحمل هؤلاء هذا العناء كله ومن أجل أي شيء يضحون بالتمتع بما يشتهون من الطعام. كان ذلك بداية التجربة مع الإِسلام بالنسبة إليّ.

وعندما بلغتُ الثامنة عشرة، كنت أدرس الكيمياء في إحدى الكليات، التي تبعد عن منزلنا ثلاثة أرباع الساعة تقريباً، وكان عليّ أن أتنقل بالقطار، وهنا حدثت الصدفة الرائعة، حيث تعرّفت إلى زوجي المهندس اللبناني فهد سويدان، وتجدَّد اللقاء وعرّفني أنه مسلم ملتزم وكان آنذاك لا يحسن اللغة تماماً.

وشاءت الصدف أن ننتقل جميعاً إلى كييف في أوكرانيا للدراسة، فتوثقت علاقتنا، من ذلك الحين بدأ اهتمامي بالإِسلام يتزايد وأخذتُ أتردد على المكتبة، وكان أن اطلّعتُ على كتاب «حياة محمد» وهو لأحد الكتّاب الروس المستشرقين فأعجبتُ بشخصية الرسول (ص) ، ثم صرتُ أبحث عن الكتب الإِسلامية لأطالعها، وتلقيتُ كثيراً من العون. وفي الوسط الطلابي في كييف لمست أن هناك إسلاماً حقيقياً حيث الصفاء الروحي والصدق الذي يتحلى به الطلاب المسلمون القادمون من بلدان المختلفة.

س: ما هو موقف أُسرتك وأصحابك من هذا التحول:

ج: بالنسبة إلى والدتي لم يشكل هذا التحول حرجاً، وأما والدي فقال لي: إنك ستبقين مسيحية، ولو حاولت أن تكوني غير ذلك، أما أنا فقد أصبحتُ مسلمة، في الواقع، ولكنني لن أتنكر للقيم الصحيحة في المسيحية.

والذي سهَّل عليّ هذا التحول هو ما كانت تشهده بلادنا من تحول كبير في بنية النظام في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. فكل شيء كان من حولنا يتغير ويتبدل.

١٥٥

س: ما هي التغيرات الإيجابية التي تمَّت بعد اعتناقك الإِسلام؟

ج: شعرتُ بأنني بلغتُ هدفي، وأنني أدركتُ ما كنت أصبو إليه، من يقين وطمأنينة! فقد كنت متعطشة للوصول إلى الحقيقة، التي كانت ترد بشكل تساؤلات حول العقيدة والسلوك في الحياة، تبحث عن جواب شافٍ.

وما يجدر ذكره أنني لم أجرِّب المحرمات قبل زواجي واعتناقي الإِسلام. إذ كان كلٌّ من روحي وجسدي طاهرين، وبقيا طاهرين، وبكلمة أقول: «كأنني وقعْت في حوض الماء الذي كنت أتوق للسباحة فيه»، كرمز للطهارة التي يمنحها الإِسلام لأتباعه. ولقد استفدتُ في لبنان كثيراً من إحدى المدرِّسات، وأنا مدينة لها بتعلم بعض العربية وقراءة القرآن الكريم وتفسير بعض الأدعية.

س: كيف تنظرين إلى ظاهرة السفور المنتشرة في المجتمع الإِسلامي؛ كونك فتاة روسية قادمة من خارج البلاد الإِسلامية؟

ج: إن هؤلاء النسوة يعانين من ضياع، وإنني لأشعر بالأسف يعتصر قلبي كيف لم يهتدين إلى نعمة الحجاب وما يمثِّله من قيم النقاء والطهر. ولكن المرأة المسلمة، وهي ترتدي الحجاب لا بدّ لها من أن تراعي مستلزمات هذا الحجاب، في حديثها وتصرفاتها ومعاملاتها.

وإني أنظر إلى ظاهرة السفور في مجتمعاتنا الحديثة، كظاهرة غير طبيعية، طرأت على المجتمع الإِسلامي والمسيحيي في الشرق والغرب، وكان من أهم الدواعي إليها، نزول المرأة إلى ميدان العمل وما أحدثته الثورة الصناعية من تبدل في القيم الاجتماعية والخلقية.

إذ العودة إلى الحجاب، هي بنظري رجوع إلى الفطرة والأصل.

س: ما هي رؤيتك لواقع المرأة المسلمة اليوم؟

ج: على المرأة المسلمة المحجبة أن تثبت للآخرين أنها ليست متقوقعة في حياتها ومنعزلة عن المجتمع، بل إنها تختزن طاقة يمكن أن تستثمرها في هداية الفتيات الأخريات، مع المحافظة على واجباتها البيتية التي هي أهم من أي نشاط اجتماعي خارج المنزل، وطبعاً مع المحافظة على طبيعتها الأنثوية.

١٥٦

س: ماذا تقترحين لهداية الجيل المعاصر:

ج: في نظري إن الجيل من الأحداث والشباب منجذب بشكلٍ ملفتٍ للنظر، إلى مشاهدة وسائل الإعلام المضرة وخاصة التلفاز، وهذا ما يشكل ظاهرة ذات آثار سلبية كبيرة بالنسبة إلى الأطفال بشكل خاص، فعلى الآباء أن ينتبهوا لتربية أولادهم، فلا يتركوهم فريسة للمسلسلات العبثية الفارغة.

س: هل من كلمة أخيرة توجهينها إلى القرّاء؟

ج: إني أنصح أختي المسلمة أن لا تسير بخطى عشواء على خطى المدنية القادمة من الشرق والغرب، بل تعود إلى أصالتها وأن لا تستورد إلا ما هو الأحسن والأفضل،، ولتستفد من تجربة الغرب الذي نظر في حضارتنا فأخذ بأحسنها، بينما نرى العكس في بلاد المسلمين، حيث ينبهرون بالأمور الخدّاعة والبرَّاقة التي تعبر عن أسوأ ما عند مجتمعات الغرب من خلاعة وسفور وابتعاد عن الدين والفضيلة.

١٥٧

الأخت المهتدية كارمن سركسيان «هدى»

هكذا تعرفت إلى الإِسلام وهكذا اهتديت

تلك الفتاة الأرمنية التي اهتدت إلى نور الإِسلام واعتنقت الدين الضيف بعد رحلة مثيرة، وتجربة غنية في البحث والاستكشاف، هذه الهداية التي كان مفتاحها التعرف على شريك لها في الحياة، ولكن الرحلة الإيمانية لم تقف عند حد، بل إن الفتاة المهتدية سارت يحفِّزها حب المعرفة، إلى أن تنهل من معين الثقافة الإِسلامية لتغترف من المكتبات ما جعلها جديرة بأن تكتب تجربتها في كتاب يمتع القارئ ويفيد في آنٍ معاً، بعنوان «قصة إسلامي» وإليك أيها القارئ مقتطفات مما أوردته في هذا الكتاب.

عن ولادتها ونشأتها تقول:

وُلدت في الكويت عام 1965، نشأتُ وترعرعتُ وقضيتُ أجمل أيام عمري في رحابها، ولا أزال أحلم بالعودة لأعيش على أرضها الطيبة مرة أخرى، حيث ولادتي ونشأتي ودراستي وعملي وزواجي وإنجابي طفلي علي، والأهم من ذلك كله، أن الله هداني للإِسلام على أرضها، فكيف أنساها، إنها نبضة في القلب، وبدون نبضات القلب لا يحيا الإنسان.

كيف تعرفت إلى الإِسلام؟

في صيف «سبتمبر/أيلول» 1985، كنت أعمل كموظفة في شركة كويتية للمشاريع الهندسية، وكنت أنظم الملفات وأقوم بأعمال أمانة السر لذلك الإنسان الذي أصبح زوجي فيما بعد. ومع أنني وافقت على الزواج منه، إلّا أن تلك الموافقة كانت مصحوبة بشيء من الخوف لأنني مسيحية وأرمنية وهو مسلم.

ولا بدّ أن أوضح معنى كلمة أرمنية، إن الكثير من الناس حين يسمع كلمة أرمني أو أرمنية، تتبادر إلى أذهانهم كلمة مرادفة هي مسيحي، وفي الحقيقة هذا خطأ، فكلمة أرمني تعني أن جذور الشخص تعود إلى أرمينيا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، وهي الآن جمهورية مستقلة، ثم إن أرمينيا فيها عدد كبير من المسلمين الأرمن، لذا إن كلمة أرمني هي مثل سوري ولبناني ومصري.

١٥٨

أما سبب مخاوفي فهو أني أعرف بعض المسيحيات اللواتي اقترنَّ بمسلمين، وكان الفشل حليف هذا الزواج فطُلِّقن فيما بعد، أما أنا فكنت واثقة من نجاح زواجنا، فقد تيقنت من صدق زوجي، كما أنه استطاع أن يجذبني إلى اعتناق الإِسلام، إذ كان يمثل لي القدوة الصالحة والأسوة الحسنة في سلوكه وتصرفه معي. وبعد أن أصبحت مسلمة، اخترت لنفسي اسم هدى بدلاً من اسمي السابق «كارمن».

كيف كان تأثير إسلامها وزواجها من مسلم على أقربائها؟

كان زواجنا في البداية غير مُعْلَن، تحاشياً لردود الفعل من قِبَل الأهل والأصحاب، ولكن فوجئت بأن أختي تتصل بي عبر الهاتف وتخبرني بمعرفتها بهذا الزواج وكان ذلك مفاجأة لي، وتذكرت الآية الكريمة﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا یَحِلُّ لَکُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ کَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَیْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ یَأْتِینَ بِفَاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ کَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئًا وَیَجْعَلَ اللَّهُ فِیهِ خَیْرًا کَثِیرًا ﴿19﴾ ﴾ [النساء: 19]، فأخبرتها الحقيقة، وكان أهلي يسكنون في المدينة نفسها، فطلبوا من زوجي الحضور لمناقشة الموضوع.

وتمَّ الاتفاق أن أغادر منزل أهلي لأعيش مع زوجي بعد أن يئس الأهل من التأثير عليّ، وكانت دموع والدتي تنطق بأبلغ الكلام. قاطعني أهلي مدة أسبوعين فقط، بعدها قاموا بزيارتي دون أن يسمحوا لي بأن أزورهم.

ولم تعلم والدة زوجي بأمر زواجنا إلّا حين أُدخل زوجي إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، وكان قد أخبر أهله حفاظاً عليّ وعلى حصتي في الميراث، إذا حصل القضاء. وقد اصطحبتني والدة زوجي إلى منزلهم للمرة الأولى، فإذا بي أرى مكتبة كبيرة تضم كتباً في مختلف العلوم والآداب والتاريخ الإِسلامي، ومع أننا تأخرنا في السهر ليلاً فقد استيقظ الجميع في ساعة مبكرة من الصباح لأداء صلاة الصبح.

١٥٩

ولكن كيف اعتنقت الإِسلام؟

كانت لقاءاتي بأهله تثير عندي تساؤلات عن الصلاة، وعن الحجاب، وعن الفصل بين مجلس الرجال ومجلس النساء، وهنا بدأت رحلة المعرفة، والاستكشاف حين بدأت بالانصراف إلى مطالعة الكتب، وكانت والدته تدفعني إلى ذلك. قبل ذلك كنت أعيش في صراع، والآن بدأت رحلتي السعيدة مع الدين الحنيف. لم يكن زوجي يحدِّثني كثيراً عن الإِسلام، لأنه لا يريد أن يرغمني على اعتناقه، كما هو الشرط بيننا سابقاً، فكان يجيب باختصار على كل سؤال أطرحه عليه، ويصمت إذا لم أوجه إليه سؤالاً، كان يتألم لكوني غير مسلمة، لا أصلي، ولا أرتدي الحجاب.

كنت غير راغبة في ذلك، كنت أعلم مدى الحرج الذي أسببه لزوجي، بالرغم من ذلك كان له الدور غير المباشر في تقريبي إلى الإِسلام، ومن أجل ذلك كان يكثر من الاستماع إلى برامج القرآن الكريم، والإذاعات التي تبث برامج ثقافية حول الدين الحنيف.

انطباعاتها وشهادتها على أسلوب الحوار

إنني أعترف وأشهد بأن الطريقة التي كان يتم فيها النقاش لم تكن تؤذي مشاعري حول المسيحية - ديني السابق - فلم أتذكر أن المسلمين الذين تحاورت معهم أساءوا إلى المسيح (ع) وأمه أبدأ، بل إنهم يكنون من المحبة والتقديس لهما ما يثير الإعجاب ويؤمنون برسالته، وعندهم أن مَن لا يؤمن برسالة عيسى (ع) فليس بمسلم، وإن آمن برسالة محمد (ص) ، والغريب أنهم يستشهدون لعظمة النبي محمد (ص) بآراء كتّاب ومفكرين مسيحيين أمثال برنارد شو وغوته وكارلايل ولامارتين وجرداق وجبران ونعيمة، وحتى من غير أهل الكتاب أمثال نهرو، كنت ألتزم الصمت خلال مناقشاتهم، لأنهم يعرفون عن المسيحية أكثر مما أعرف.

كيف تم التزامها بالدين الحنيف فكرةً وسلوكاً؟

ولما كنت أتابع القراءة والمطالعة كان زوجي يقوم بشرح ما يصعب عليّ فهمه، واستمر الحال هكذا حتى أواخر عام 1987، وكنت أستمع إلى إحدى الإذاعات التي تنشر رسائل دكتوراه وماجستير يتقدم بها طلاب يرغبون بالتخصص في العلوم الإِسلامية، وقد كانت مناقشات تلك الرسائل ذات فائدة عظيمة بالنسبة إليّ.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ويشير سبحانه أيضاً بذلك أنّ اكتساب المعاصي يزيل حكم اليقين ، كما قال : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ) (١) ، وقال :( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) (٢) ، بل لا بدّ مع اليقين من صالح العمل ، حتّى ينتج النتيجة ، ويسمح بالثمرة ، قال :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٣) .

هذا ، ولنعد إلى ما كنّا فيه ، ونقول :

ووعدهم سبحانه أنّه يبدّل حياتهم ، أي وجودهم ، فقال :( أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) (٤) ، فبيّن أنّ لهم حياة معها نور يمشون به في النّاس ، أي يعاشرونهم والمعاشرة إنّما هي بالقوى والحواسّ ، فلهم حياة نورانيّة وحواسّ وقوى ربّانيّة .

وقال أيضاً :( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ) (٥) ، فبيّن أنّ هذا النور روح عاقل فاهم من عالم الأمر ، كما قال :( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي

ـــــــــــــ

(١) سورة النمل : الآية ١٤ .

(٢) سورة الجاثية : الآية ٢٣ .

(٣) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٢٢ .

(٥) سورة الشورى : الآية ٥٢ .

٢٤١

قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) (١) .

ثمَّ أخبر سبحانه أنّه يهديهم لنوره جلّ وعزّ ، وهو النور على كلّ نور ، به يضيء السموات والأرض ، فقال سبحانه : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٢) .

ثمَّ مثّل بهذا النور الذي به يضيء السموات والأرض بقوله :( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ) (٣) ، فلنوره حجابان من نور يستضيئان به ، وتستضيء بهما السموات والأرض : أحدهما المشكاة ، وهي الأقلّ ضياءً ، يستضيء بما فيه ، وهي الزجاجة ، وهي تستضيء بالمصباح فالمصباح هو القيّم بنور الزجاجة والمشكاة والزجاجة قيّم بنور المشكاة ، وهي آخر ما يضيء ويُستضاء به منها .

ولعلّ نور الأرض بها ، وفوقها الزجاجة ، ولعلّ نور السماء بها كما قال سبحانه :( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ) الآية(٤) ولم يقع في الآية الشريفة لِمَا وراء السموات والأرض ذكر ، ولا للمصباح المذكور فيها بيان ، غير ما يلوح من قوله : ( يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ... ) ، فافهم .

ثمَّ ذكر سبحانه أنّ ما مثّل به من المشكاة مع ما فيه( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ

ـــــــــــــ

(١) سورة المجادلة : الآية ٢٢ .

(٢) و (٣) سورة النور : الآية ٣٥ .

(٤) سورة السجدة : الآية ٥ .

٢٤٢

وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ) (١) .

فعرّفهم سبحانه بأنّهم لا يغفلون عن الذكر والعمل الصالح ، فهؤلاء غير محجوبين عن ذكره تعالى ، ولا يلتفتون إلى غيره إلاّ به سبحانه ، فهم المخلصون له سبحانه وقد مرّ شمّةٌ من حال المخلَصين في الفصل السابق ، عند ذكر الآيات الواردة في حالهم ، قال تعالى :( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وقال تعالى :( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) (٣) .

وقال تعالى :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٤) .

وقال تعالى :( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٥) .

وقال تعالى :( وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٦) .

فبيّن أنّه منزّه عن كلّ ثناء إلاّ ثناؤهم ، وأنّه يصرف السوء والفحشاء عنهم ، وأنّ وسوسة إبليس تمسُّ كُلاً إلاّ إيّاهم ، وأنّ أهوال الساعة ، من الصعقة وفزع الصور وإحضار الجمع وإعطاء الكتاب والحساب والوزن ، غير شاملة لهم ، وهم مستثنون منها ، وأنّ جزاؤهم ليس في مقابل الأعمال ؛ إذ لا عمل لهم .

فهذه نبذة من مواهب الله سبحانه في حقّ أوليائه .

وقد تحصّل من الجميع أنّ من مواهب الله في حقّهم إفناؤهم في أفعالهم وأوصافهم وذواتهم

ـــــــــــــ

(١) سورة النور : الآيتان ٣٦ و ٣٧ .

(٢) سورة الصافّات : الآيتان ١٥٩ و ١٦٠ .

(٣) سورة يوسف الآية ٢٤ .

(٤) سورة ص : الآيتان ٨٢ و ٨٣ .

(٥) سورة الصافات : الآيتان ١٢٧ و ١٢٨ .

(٦) سورة الصافات : الآيتان ٣٩ و ٤٠ .

٢٤٣

فأوّل ما يفنى منهم الأفعال ، وأقلُّ ذلك ـ على ما ذكره بعض العلماء ـ ستّة : الموت والحياة ، والمرض والصحّة ، والفقر والغنى فيشاهدون ذلك من الحقّ سبحانه في مقام أفعالهم ، فكأنّ فعلهم فعله سبحانه ، كما يشير إليه ما في (الكاف) و(التوحيد) عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى :( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) (١) : (إنّ الله عزّ وجلّ لا يأسف كأسَفنا ، ولكنّه خَلَق أولياء لنفسه ، يأسفون ويرضون ، وهم مخلوقون مربوبون ، فجعل رضاهم رضا نفسه ، وسخطهم سخط نفسه ؛ لأنّه جعلهم الدُّعاة إليه ، والأدلاّء عليه ، فلذلك صاروا كذلك وليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه ، ولكن هذا معنى ما قال من ذلك .

وقد قال أيضاً : (مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ، ودعاني إليها) ، وقال أيضاً : ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) (٢) ، وقال أيضاً : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (٣) .

فكلّ هذا وشبهه على ما ذكرت لك ، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك) (٤) ـ الحديث .

يشير عليه السلام بقوله :( ممّا يشاكل ...) إلى الآيات الكثيرة ، والأخبار الواردة في المقام ، كقوله تعالى :( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (٥) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الزخرف : الآية ٥٥ .

(٢) سورة النساء : الآية ٨٠ .

(٣) سورة الفتح : الآية ١٠ .

(٤) الكافي : ١ / ١٦٤ ، باب النوادر ، الحديث ٣٥٦ / ٦ التوحيد : ١٦٤ ، باب معنى رضاه عزّ وجلّ وسخطه ، الحدث ٢ ، مع اختلاف يسير .

(٥) سورة الأنفال : الآية ١٧ .

٢٤٤

وقوله تعالى :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (١) ، والضمير إلى النطق .

وقوله سبحانه :( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) (٢) .

وكقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فاطمة بضعة منّي : مَن آذاها فقد آذاني ، ومَن آذاني فقد آذ الله) (٣) ـ الحديث ، وستأتي رواية الديلمي إن شاء الله .

ثمَّ تفنى منهم الأوصاف وأُصولها على ما يظهر من أخبار أهل البيتعليهم‌السلام ، [وهي] خمس : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر وقام الحقّ سبحانه في ذلك مقامهم .

ففي (الكافي) عن أبي جعفر ـ في حديث : (إنّ الله جلّ جلاله قال : ما تقرَّب إليَّ عبد من عبادي بشيء أحبّ عليّ ممّا افترضت عليه وإنّه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتى أُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يُبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته) (٤) ـ الحديث .

وهو من الأحاديث الدائرة بين الفريقين ، وتصديق ذلك من كتاب الله العزيز ، قوله :( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (٥) ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآيتان ٣ و ٤ .

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٢٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٣٠ / ٣٥٣ ، تتمّة كتاب الفتن والمحن ، [٢٠] باب ، الحديث ١٦٤ عوالي اللآلي : ٤ / ٩٣ أمّا الخاتمة ، فتشمل جملتين ، الجملة الثانية المتعلّقة بالعلم وأهله وحامليه ، الحديث ١٣١ .

(٤) الكافي : ٢ / ٣٦٢ ، باب مَن آذى المسلمين واحتقرهم ، الحديث ٢٧٣١ / ٨ .

(٥) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

٢٤٥

وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (١) ، وتطبيق الآيتين بسياقيهما وهما يأمران بإتّباع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإيمان به ، وهما واحد يفيدان محبة الله سبحانه لعبده ، هي رحمة على رحمة ، ويورث له نوراً يمشي به في الناس ، أي يعاشرهم ويعيش فيهم ، وقد كان يعاشر ويعيش بقوى نفسه وأسبابها من سمع وبصر ويد ولسان ، فتبدّل إلى نور من ربّه .

هذا ، وفي (إثبات الوصيّة) للمسعودي ، عن أمير المؤمنين ـ في خطبة : (سبحانك ، أيُّ عين تقوم نصب بهاء نورك ، وترقى إلى نور ضياء قدرتك ؟! وأيّ فهم يفهم ما دون ذلك إلاّ أبصار كشفت عنها الأغطية ، وهتكت عنها الحجب العميّة فرّقت أرواحها إلى أطراف أجنحة الأرواح ، فناجوك في أركانك ، ووَلَجُوا [ألحُّوا ]بين أنوار بهائك ، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك فسمّاهم أهل الملكوت زوّاراً ، ودعاهم أهل الجبروت عمّاراً) (٢) ـ الخطبة .

وقد مرّ حديث هشام في الفصل الثالث(٣) .

وهذه المعاني كثيرة الورود في الأدعية ، ففي مناجاة عليّعليه‌السلام في أيّام شعبان :(إلهي وألهمني ولهاً بذكرك إلى ذكرك ، واجعل همّتي في روح نجاح أسمائك ومحلّ قُدسك) .

إلى أن قال :

(إلهي هبْ لي كمال الانقطاع إليك ، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلّقة بعز قُدسك .

إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك ، ولاحظته فصعق لجلالك ، فناجيته سرّاً ، وعمل لك جهراً) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ٢٨ .

وهذا النور روحٌ حيّ ، يحيي بها الإنسان كما مرّت الإشارة إليه في قوله تعالى :( أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الآية ؛ إذ ظاهر السياق أنّ قوله :( وَجَعَلْنَا لَهُ ... ) بيان لأحييناه .

(٢) بحار الأنوار : ٢٥ / ٣٠ ، أبواب خلقهم وطينتهم وأرواحهم (صلوات الله لعيهم) ـ باب ١ ـ بدو أرواحهم وأنوارهم وطينتهمعليهم‌السلام ، الحديث ٤٦ إثبات الوصيّة / المسعودي : ١٢٩ ، خطبة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، مع اختلاف يسير.

(٣) تقدّم في : الصفحة ٢٢٨ من هذا الكتاب ، فراجع .

٢٤٦

إلى أن قال :

(إلهي وألحقني بنور عزّك الأبهج ، فأكون لك عارفاً ، وعن سواك منحرفاً) (١) ـ المناجاة وهي جامعة للمقدمة وذي المقدّمة جميعاً ، أعني السلوك والشهود .

وفي (عدّة الداعي) لابن فهد ، عن وهب بن منبّه ـ فيما أوحى الله إلى داود :(يا داود ، ذكري للذاكرين ، وجنّتي للمطيعين ، وحبّي للمشتاقين ، وأنا خاصّة للمحبّين) (٢) .

ثمَّ تفنى منهم الذات ، وينمحي الاسم والرسم ، ويقوم الحقّ سبحانه مقامهم وقد ذُكر في آخر" رسالة التوحيد " أنَّ هذا المقام أجلّ من أن يقع عليه لفظ ، وأن تمسّه إشارة ، وأنّ إطلاق المقام عليه مجاز ، وأنّه ممّا فتحه الله لنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولحقه الطاهرون من آله .

وأقول الآن : أنّه يلحقهم أولياءٌ من أُمّته ؛ للروايات الكثيرة الدالّة على أنّ الله سبحانه يلحق بهم شيعتهم بالدرجات العليا في الآخرة .

وفي رواية الديلمي الآتية :(وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن) ـ الحديث .

ومنه يظهر أنّ ما وعده الله سبحانه للأُمم من المقامات والكرامات في الآخرة ، مرزوق للأولياء في الدنيا ، وفيها اللحوق بإمامهم .

وهذا المقام الذي عرفت أنّه أجلّ من المقام ، قد عبّر عنه الأئمة في الأخبار المستفيضة النافية للصفات ، فللأولياء من الأُمّة اللحوق بهم بنحو الوراثة في ذلك ، فافهم .

ـــــــــــــ

(١) إقبال الأعمال / السيّد ابن طاووس الحلّي : ٦٨٧ ، فصل : فيما نذكره من الدعاء في شعبان مروي عن ابن خالويه .

(٢) عدّة الداعي : ٢٥٢ ، الباب الخامس : فيما أُلحق بالدعاء ، وهو الذكر ، الحديث ١٥ .

٢٤٧

ومن المواهب سيرهم في خلال العوالم المتوسّطة بينهم في الدنيا وبين ربّهم عزّ اسمه كما مرّ .

ففي (البحار) عن (إرشاد) الديلمي ، وذكر سندين لهذا الحديث ، وفيه :

(قال الله تعالى : يا أحمد ، هل تدري أيُّ عيش أهنأ ، وأي حياة أبقى ؟

قال : اللهمّ لا .

قال : أمّا العيش الهنيء ، فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ، ولا ينسى نعمتي ، ولا يجهل حقّي يطلب رضاي في ليله ونهاره .

أمّا الحياة الباقية ، فهي التي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا ، وتصغر في عينه [عينيه ]، وتعظُم الآخرة عنده ، ويؤثر هواي على هواه ، ويبتغي مرضاتي ، ويعظّم حقّ عظمتي ، ويذكر عملي به ، ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية ، وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره ، ويبغض الشيطان ووساوسه ، ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً وسبيلاً .

فإذا فعل ذلك ، أسكنتُ قلبه حبّاً ، حتى أجعل قلبه لي ، وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي وأفتح عين قلبه وسمعه ، حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي وأُضِيق عليه الدنيا ، وأُبغّض إليه ما فيها من اللّذات ، وأُحذّره من الدنيا وما فيها ، كما يحذر الراعي [على ]غنمه من مراتعَ الهلكة فإذا كان هكذا ، يفرُّ من الناس فراراً ، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن .

يا أحمد ، ولأزيّنّنه بالهيبة والعظمة .

فهذا هو العيش الهنيء ، والحياة الباقية ، وهذا مقام الراضين .

فمَن عمل برضاي ، أُلزمه ثلاث خصال : أُعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين فإذا أحبّني أحببته ، وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا أُخفي عليه خاصّة خَلقي ، وأُناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ، ومجالسته معهم ، وأُسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، وأُعرّفه السرّ الذي سترته عن خَلقي ، وأُلبسه الحياء ، حتّى يستحيي منه الخَلق كلُّهم ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا أُخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار ، واعرّفه ما يمرُّ على الناس في يوم القيامة من الهول والشدّة ، وما أُحاسب الأغنياء والفقراء ، والجهّال والعلماء ، وأُنوِّمه في قبره ، وأُنزل عليه منكراً ونكيراً حتّى يسألاه ، ولا يرى غمرة الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطّلع .

٢٤٨

ثمَّ أنصب له ميزانه ، وأنشر ديوانه .

ثمَّ أضع كتابه في يمينه ، فيقرؤه منشوراً .

ثمَّ لا أجعل بيني وبينه ترجماناً .

فهذه صفات المحبّين .

يا أحمد ، اجعلْ همّك همّاً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حيّاً لا تغفل عني مَن يغفل عنّي لا أُبالي بأيِّ واد هلك) (١) ـ الحديث .

وفي (البحار) ، عن (الكافي) و(المعاني) و(نوادر) الراوندي ، بأسانيد مختلفة ، عن الصادق والكاظمعليهما‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ واللفظ المنقول هاهنا كما عن (الكافي) ـ قال :

(استقبل رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري ، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟

فقال : يا رسول الله ، مؤمن حقّاً .

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكلّ شيء حقيقة ، فما حقيقة قولك ؟ فقال : يا رسول الله ، عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرتُ ليلي ، وأظمأت هواجري ، وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد وُضع للحساب ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنة ، وكأنّي أسمع عُواء أهل النار في النار .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٤ / ٢٨ ، أبواب المواعظ والحكم ـ باب ٢ : مواعظ الله عزّ وجلّ في سائر الكتب السماوية ، الحديث ٦ إرشاد القلوب : ١ / ٢٠٤ ، الباب الرابع والخمسون : فيما سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه ليلة المعراج .

٢٤٩

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عبدٌ نوّر الله قلبه ، أبصرت فاثبتْ) (١) ـ الحديث .

ولو تدبّرت جيّد التدبّر في هذه الآيات والأخبار التي نقلناها ، وما تركناها اختصاراً أكثر منها ، وأخذت بالإشارات من العبارات ، شاهدت من أنبائهم عجائب يضيق عنها التعبير ، ويقصر دونها باع التوصيف .

والله الهادي وهو المستعان

ولنقطع الكلام في هذا المقام

والحمد لله على الإتمام

وعلى سيّدنا محمّد وآله الصلاة والسلام

عليٌعليه‌السلام والفلسفة الإلهية

العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي (طاب ثراه)

تحقيق : الشيخ علي الأسدي

مكتبة فدك

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٢٢ / ١٢٦ ، باب ٣٧ ـ ما جرى بينه وبين أهل الكتاب والمشركين بعد الهجرة ، الحديث ٩٨ الكافي : ٢ / ٨٠ ، باب حقيقة الإيمان واليقين ، الحديث ١٥٤٦ / ٣ معاني الأخبار : ١٨٧ ، باب معنى الإسلام والإيمان ، الحديث ٥ النوادر / الراوندي : ٢٠ ، باختلاف يسير .

٢٥٠

تقديمٌ : ما معنى الفلسفة الإلهية ؟

الحمد لله ، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين .

كان الإنسان ، ولسوف يبقى ، محبّاً للوجود الخارجي ، بخارجيّته وواقعيّته ، لا يهمّه شيء سواه ، ولا يلتفت عنه إلى غيره ، ولا غير هناك .

ومن الواضح ـ بعد هذا ـ أنّ قضاء العقل وحكم الوجدان بالواقعية ، والإذعان بالوجود الخارجي (أن هناك موجوداً خارجاً) هو من العلوم الأوّليّة ، والمعارف الأصليّة ، تتطابق فيه جميع صفات البداهة ، وشرائطها .

فالوليد الحديث السنّ ، بشعوره الطريّ الموهوب له ، إذا تعمّقنا في حالاته ، نرى أنّه أوّل الأمر يتناول الثدي ليتغذّى باللبن المعدّ له فيه تارةً ، ويتناول غير الثدي ـ للغرض نفسه ـ تارةً أُخرى ولكنّه بعد تعدّد ذلك منه ، يقتصر على الثدي في ذلك ويعرض عن غيره ثمَّ بعد ذلك نراه يتناول المأكول ، من فاكهة أو خبزٍ أو نحوهما ، ويتناول غير المأكول كالحصاة والخشبة ونحوهما ، ويلتقم ويمضغ هذا ، كما يلتقم ويمضغ ذاك ثمَّ ـ وبعد تعدّد ذلك منه ـ لا يتناول إلاّ ما يصح أكله ، ويجتنب غيره .

وليس ذلك منه إلاّ لأنّ تصديقه الأوّلي بالواقعيّة الخارجية والوجود الحقّ ، يضطرّه إلى تمييز الحقّ من الباطل ، والصواب من الخطأ وبالجملة : تمييز كلّ واقعيّة من غيرها ، ثمَّ التزام الواقعيّة ، والإعراض عن غيرها .

وإذا توسّعنا في الملاحظة والبحث ، وتصفّحنا أحوال أبناء نوعنا ، أينما كانوا ، وحيثما وجدوا ، وأيّاً كانت الحالة التي هم عليها ، وجدنا أنّهم يسلكون عين هذا المسلك ، ويسيرون في نفس هذا الطريق فلا يدّخرون وسعاً ، ولا يألون جهداً في التمييز بين الحقّ والباطل ، والصواب من الخطأ ، في جميع شئون حياتهم ، التي تنال عنايتهم وتحظى باهتمامهم فلا همّ للإنسان إلاّ أن يحفظ نفسه من الوقوع في الخطأ والغلط ، ومن أن يأخذ غير الواقع على أنّه الواقع ، أو العكس .

وهكذا كان أيضاً حال الأُمم والشعوب الخالية ، فرادى وجماعات ، فإنّهم كانوا يبحثون دائماً عن واقعيّة الأشياء بهدف تمييزها من غيرها ممّا يشتبه بها ، ثمَّ يأخذون بما يرونه حقّاً وصواباً ، بحسب طلبتهم ، وعلى وفق بغيتهم ، ويظهر ذلك بجلاء لكلّ مَن راجع ما يصفه التاريخ من سيرهم وسننهم ، ولاحظ آثارهم العمرانيّة ، وغيرها من أعمالهم .

٢٥١

هذا ، ولم يزل الإنسان محبّاً ، بل ومغرماً ، بهذا النوع من البحث ـ وهذا هو بالذات ما نسمّيه بحثا فلسفيّاً ـ في جميع ما يرتبط به وجوده ، ومختلف شئون حياته ، وإن لم يشعر هو بذلك تفصيلاً ، ويلتفت إليه بالفعل ، فإنّ ذلك الدافع النفسي نحو التمييز ـ والذي يرتبط في الحقيقة بإنسانية الإنسان ـ يقوم بعمله بانتظام ، ومن دون أي عيءٍ أو كلل ويسير الإنسان قُدماً في هذا الخطّ ، في جزئيات مقاصده ومبتغياته ، وما يرتبط بشئون حياته المحدودة لكنّه ربّما عمّم البحث بما جُبل عليه من قريحة التعميم ؛ ليبحث عن الوجود وأنواعه وخواصّه وأحكامه من جهة عامّة ، فيفكّر في العلّة والمعلول ، والإمكان والوجوب ، والقوّة والفعل ، والقِدم والحدوث .

وهذه الأبحاث والدراسات ، وإن كانت ليست بعيدة كلّ البعد عن شعور الإنسان ، حيث إنّه يحسّ ويشعر بها إجمالاً ، إلاّ أنّها هي التي نبّهت الإنسان إلى الانتقال في البحث من عالم الطبيعة إلى ما ورائها كما أنّها هي التي حملته على التوغّل في البحث عن أوائل الوجود ، عندما وجد أنّ العالم المادي في نفسه محتاج ، ومفتقر إلى غيره ، أي لا يقوم وجوده بنفسه من أن يعتمد على ما يدفع عنه حاجته وخلّته ، حيث كان استقلاله في وجوده دائماً محتاجاً ومنتهياً ، إلى ما لا يكون استقلاله في الوجود محتاجاً ومنتهياً إلى شيء آخر وهذه هي الفلسفة الباحثة عن الله عزّ اسمه ؛ لأنّه هو الذي لا يحتاج استقلاله في الوجود إلى أي شيء آخر ، وتحتاج جميع الأشياء إليه في وجودها المستقلّ .

وهذا وإن كان في نفسه واحداً من تلك الموضوعات الكثيرة ، التي تطرح للبحث في الفلسفة العامّة ، إلاّ أنّ الأهمّية التي له تفوق أهمّية أي بحث فلسفي آخر ؛ من حيث إنّه ترك أثراً ظاهراً وهامّاً جدّاً في كلّ الأبحاث والدراسات الفلسفيّة العامّة الأُخرى من دون استثناء ؛ إذ إنّ الحصول على النتيجة فيه ـ وهو التوحيد ـ يحوِّل الأبحاث الفلسفيّة من حال التفرّق والتشتّت إلى حال التوحّد والترابط والتآلف ، ويبرزها في حلّة أبهى ، وزينة أكثر جاذبيّة ، وجمال أشدّ سحراً عندما يربط جميع الموجودات على كثرتها بموجود واحد ، هو باريها ومبديها .

وهذه الحقيقة يجدها الباحث المتتبّع واضحة جليّة فيما ورثه من الأقوال الفلسفية ، من (الهند) و(مصر القديمة) و(بابل) و (الروم) و(اليونان) وأيضاً في المأثور من كلمات المحصّلين من فلاسفة الإسلام .

٢٥٢

هذه من جهة ...

ومن جهة ثانية فإنّ ما بأيدينا من الكتب السماوية المنسوبة إلى (موسى) و (عيسى) وغيرهماعليهم‌السلام ، ثمَّ ما حكاه الله في كتابه العزيز عن الأنبياءعليهم‌السلام على اختلاف طبقاتهم ، ثمَّ ما ختم به (عزّ وجلّ) ذلك ممّا أوحاه على خاتمهم ، كلّ ذلك إذا تأمّل الباحث فيه وتعمّق في درسه ، يرى أنّ البحث في اللاهوت ـ كان ولا يزال ـ ينمو ويتطوّر ويتكامل في الصفاء والجلاء ، ويتدرّج في درجات الكمال وكلّما زاد في الوضوح والصفاء ، كلّما اتّسع أُفقه ، وانحلّت به مبهمات ، واتّضحت به مجاهيل ، بل وتقوّمت به مطالب ساذجة ناقصة وسنزيد هذا المعنى إيضاحاً فيما يأتي إن شاء الله .

الدين والفلسفة

حقّاً لظلم عظيم أن يفرّق بين الدين الإلهي وبين الفلسفة الإلهية ، فهل الدين ـ على اختلاف الأديان سعةً وضيقاً ـ إلاّ مجموعة معارف اعتقادية إلهية يعبّر عنها بالأُصول ، وأُخرى فقهيّة وأخلاقيّة يعبّر عنها بالفروع ؟

هل الأنبياء إلاّ رجال يهدون ـ بأمر الله ـ المجتمع البشري إلى الحياة الفضلى والسعادة الحقيقية؟

وهل السعادة البشرية الحقيقية إلاّ أن ينال الإنسان حقائق المعارف ، بما منحه الله من جهاز دقيقٍ لفهمها وإدراكها ، جهاز مرتبط بأصل خلقة الإنسان وهو جزء من وجوده وأن يصير بعد نيله تلكم المعارف ـ في حياته العمليّة ـ على طريق العدل والاستقامة ؟ وهل له مناص في تحصيل تلك المعارف عن الالتجاء إلى الاستدلال وإقامة البرهان ؟

وإذا كان الحال على ما تقدّم ، فكيف يسوغ للأنبياء أن يدعوا الناس إلى السمع والقبول بلا بيّنة ، وأن يطلبوا منهم السير على غير طريق الاستدلال وإقامة البرهان ، مع أنّ ذلك مخالف لجبلّتهم ، ومنافٍ لما جُهِّزوا به في أصل خلقتهم وبُنية وجودهم .

٢٥٣

والأنبياء وإن كانوا قد استمدّوا معارفهم ومبادئ دعوتهم من المبدأ الغيبي ، وارتضعوا ذلك من ثدي الوحي ، إلاّ أنّ الحقيقة هي أنّه لا فرق بين مسلك الأنبياء في دعوتهم إلى صريح الحقّ وبين الحقّ ، سلوك الإنسان بشعوره الفطري إلى نيل المعارف الإلهيّة ، حيث إنّهم على رفعة مكانتهم ، وإشرافهم على الأُفق الأعلى ، قد تنزّلوا إلى مستوى الأفهام البشريّة ، وقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم) (١) .

وحاشا ساحة الأنبياءعليهم‌السلام أن يحملوا النّاس على أن يخبطوا خبط عشواء ، وأن يسوقوهم سوق البهيمة العمياء ، فإنّهمعليهم‌السلام كانوا على عكس ذلك تماماً إذا خاطبوهم خاطبوهم بما يفهمون ، وإذا أتوه بآية معجزة فإنّما يكون ذلك بعد أن تكون أُممهم (الأنبياء) قد اعتبرتها صالحة للدلالة على صدق الدعوى ، فيحتجّ بها الأنبياء على تلك الأُمم التي اعترفت ، بل وقرّرت وأثبتت دلالتها على صدق دعوتهم الحقّة .

وهو ذا القرآن أعدل شاهد على ذلك فيما يدعو إليه المجتمع الإنساني ، من معارف المبدأ والمعاد وكلّيات المعارف الإلهية ، فهو لا يأخذ إلاّ عن حجّة بيّنة ، ولا يدع إلاّ عن حجّة بيّنة ، ولا يمدح إلاّ العلم والاستقلال في الفهم ، ولا يذمّ إلاّ الجهل والتقليد ، قال تعالى :( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (٢) .

وخلاصة القول : إنّ الدين لا يدعو الإنسان إلاّ إلى نيل الحقائق الإلهية بشعوره الاستدلالي ، الذي جُهِّز به ، وهذا هو بالذات ما يعبّر عنه بـ : (الفلسفة الإلهية) ، فكيف صحّ ـ بعد هذا ـ الفصل بين الدين الإلهي وبين الفلسفة الإلهية ، مع أنّهما شيء واحد ، لا تعدُّد فيه ولا اختلاف ؟!

فلا قيمة إذن لِمَا أصرّ عليه جمع من الباحثين الأوربيّين ، واستحسنه آخرون من المسلمين ، من أنّ الدين يقابل الفلسفة ، وأنّهما معاً يقابلان العلم المعتمد على الحسّ والتجربة وأنّ النوع الإنساني قد مرّ في أربعة أطوار : طور الأساطير ، وطور الدين ، وطور الفلسفة ، وطور العلم .

ـــــــــــــ

(١) أُصول الكافي : ١ / ٣٨ ، الحديث ١٥ / ١٥ ، كتاب العقل والجهل بحار الأنوار ١ / ٨٥ ، باب ١ ـ فضل العقل وذمّ الجهل ، الحديث ٧ .

(٢) سورة يوسف : الآية ١٠٨ .

٢٥٤

لا قيمة لأقاويلهم ، فإنّهم أُناس قد استحوذت المادة على عقولهم ، واستأثرت الطبيعة بكلّ تفكيرهم ، فلم يرفعوا أنظارهم عن الأبحاث الماديّة ، ولم يخلعوا عن أنفسهم جلباب الطبيعة ، حتّى ولو سويعة واحدة ثمَّ حكموا من خلال المادة والطبيعة على ما ورائها ، ونفوا كلّ ما لم يتكرّر على حواسّهم ؛ فزعموا أنّ الدين تقليد في أمر منظوم ، وأنّ الفلسفة استدلال على أمر موهوم ، فلا في قضائهم عدلوا ولا في مزعمتهم أصابوا .

ودع عنك أيضاً ما نهج به جمع من الباحثين المسلمين من أنّ الدين يرفض الفلسفة ويبطلها ، ولا ينسجم معها ، وأنّ الموقف الديني هو غير الموقف الفلسفي ، وهدف هذا غير هدف ذاك ...

فهؤلاء يفسّرون الفلسفة على أنّها مجموعة منظّمة من أقاويل رجالٍ ، من يونانيّين وغير يونانيّين ، وفيهم الملحد والمتّقي ، والكافر والمؤمن ، ومنكر الصانع ومثبته ، والمخطئ والمصيب لا يراد من التعرّض بالبحث لهذه الأقاويل إلاّ التشبّه بهم ، ولا من التعلّق بها إلاّ تقليد الجمهور من مشاهيرهم .

ولو كانت الفلسفة هي التي فسّروا ، وحقيقتها هي التي ذكروا ، لكان الأجدر بها أن لا تكون ، ولكان الأحرى بكلّ مَن يحترم نفسه أن لا يتعرّض لها ، ولا يمارسها ، وأن ينكرها الدين ، ويتبرّأ منها ، براءة الذئب من دم يوسف .

ولكنّ الحقيقة هي ـ تماماً ـ خلاف ما زعموا وأمّا ما ذكروه ، فهو طريقة تتبع في بعض الصناعات ، التي طمئنّ فيها إلى إجماع الرجال وشهرتهم ، وتُستقرأ المذاهب فيها وتستقصى ليكون ذلك دليلاً على التلازم بين مسائل متشتّتة ، لا دليل لها إلاّ اتّفاق الباحثين عليها .

وأمّا الفلسفة ـ التي قدّمنا أنّها البحث الاستدلالي عن الحقائق ـ فإنّها لا تعتني بالرجال وأقاويلهم ، و بإجماع العلماء وشهرتهم ، ولا يجوز لها أبداً أن تعتني ؛ إذ كيف يصحّ الاكتفاء عن معرفة الحقّ الصريح وأعيان الأُمور ، بمعرفة ما قيل فيها وعنها ؟! وكيف يجدي في الحصول على سكون النفس واطمئنانها إلى الحقائق والواقعيات ، الالتجاء إلى آراء الناس ومذاهبهم فيها ؟َ

فدع عنك هذه الأقاويل ، وتيقّن أنّ الدين لا يدعو إلاّ إلى الفلسفة الإلهيّة ، وهي الحصول على المعارف الإلهية عن حجّة عقليّة .

٢٥٥

فلسفة الإسلام الإلهية ، أو كمال الفلسفة

استمرّت الفلسفة الإلهيّة في الاتّساع ، والقيام بعمليّة الجمع والربط بين مختلف المسائل والموضوعات التي تبحث عنها الفلسفة العامّة ـ على شدّة تفرّقها وتشتّتها ـ باللاهوت حتّى ظهر الإسلام ، وأخذ على عاتقه مهمّة تعليم وتثقيف البشريّة ، فسما بالفلسفة الإلهية إلى أوج كمالها ، وانتهى بها إلى غاية عظمتها .

ولعلّ البعض يحمل كلامنا هذا على نوع من المبالغة والغلوّ في حقّ هذا الدين القويم ، وأنّه إغراق لا مبرّر له في مدحه ، وأنّه إبراز له في حلّة مدلّسة لا قيمة لها إلاّ في سوق التخيّل الشعري ، الذي يبتعد كثيراً عن واقع القضية وحقيقة الأمر .

ولكنّنا بدورنا نقول لهؤلاء ـ بكلّ ثقة واعتزاز ـ : ما عليكم إلاّ أن تختبروا صحّة ما نقول ؛ وذلك بأن تقوموا بالدراسة والبحث والتمحيص لتعاليم الدين الإسلامي فإنّا لا نشكّ أنّ أي باحث منصف ، يحسن الورود والصدور ، لا يلبث أن يرى أنّ الدين الإسلامي في فلسفته الإلهية قد عمّم البحث ، إلى حدّ أنّه لا يشذّ عنه أي شيء في الوجود من الأشياء العينية ، سواء كان ذلك البحث في ذاتها أو صفاتها أو أفعالها ، (ومن تلك الأشياء الإنسان ، في جميع شئون وجوده) ويمضي الإسلام في طريقه هذا ، ولا يقف في بسط البحث اتّساعاً وشمولاً عند حدّ ، حتّى يربط كلّ شيء باللاهوت ، على نحو يليق بساحته تعالى ، ثمَّ يعود فينعطف إلى عالم الحياة الإنسانية ؛ ليعالج جميع شئونها الخُلقيّة والعمليّة فقد جعل المعارف الإلهية أساساً وقاعدة للأخلاق الفاضلة والصفات الجميلة ، ثمَّ جعل الأخلاق الفاضلة والصفات الجميلة أساساً للتشريع .

فمن تعاليم الإسلام [إذن] تنبثق الصفات الفاضلة ، وتتميّز بها عن الصفات الرذيلة ، فيدعو إلى تلك ، ويزجر عن هذه ثمَّ يجعل الصفات الفاضلة هذه أساساً لتشريع القوانين والأنظمة ، التي تنظّم أفعال الإنسان وسلوكه ، وتضمن له الحياة الفاضلة السعيدة بمعناها الشامل .

وبذلك يصير (التوحيد) وحده هو الأصل الحاكم في جميع شئون عالم الوجود بحسب تعاليم الإسلام ، حيث إنّ الإسلام يربط كلّ شيء ـ كما قلنا ـ باللاهوت ، ويُنهي كلّ شيء إليه في مختلف مجالات الحياة ، وجميع أحوالها وشئونها .

وهكذا يشاهد الباحث عن كثب ، أنّ كلّ قضيّة ـ علميّة كانت أو عمليّة ـ في الإسلام ، هي : (التوحيد) قد تلبّس بلباسها ، وظهر في زيّها ، وتنزّل في منزلها فبالتحليل ترجع كلّ مسألة وقضيّة إلى (التوحيد) ، وبالتركيب يصيران شيئاً واحداً ، لا مجال للتجزئة ولا للتفريق بينهما .

٢٥٦

وهذا معنى ما قدّمناه من أنّ الإسلام قد انتهى بالفلسفة الإلهية إلى أوج كمالها المتصوّر ؛ إذ إنّ ما أتى به من شأنه أن يُسري حكم اللاهوت إلى كلّ علم وعمل ، و(ليس وراء عبادان قرية) .

وهذا في الحقيقة قوّة هائلة جهّز الله بها دينه القويم ، فبها أقام صرحه ، وشيّد بنيانه فإنّ العلم لا يحفظ ، ولا يتربّى ، ولا يتكامل إلاّ مع العمل ، فما لم يرتبط العلم بالعمل ، فلا مناص لبقائه ، ولا كافل لنمائه على أنّه قد تقرّر في الأبحاث النفسية أنّ الإنسان ـ وهو موجود فعّال ، بقاؤه وكماله مرهونان بفعله ـ بحسب صنعه وتكوينه ، قد صُنع وكوِّن بحيث يهتدي إلى أفعاله عن طريق شعوره بها ، وحاجته إليها ، فيشتاق إلى شيء فيريده ، ويكره شيئاً فيمسك عنه هذا بالنسبة إلى الجزئيّات المحسوسة ، ومنها ينطلق إلى التعميم والتوسعة لكلّ شيء ، وفي كلّ شيء يناله فهمه ، ويقع عليه إدراكه .

فالإنسان يسير ـ بحسب تكوينه وصنعه ـ إلى نيل ما يحتاج إليه في حركاته الجسميّة والروحية من العلوم والمعارف ، فلا حاجة للإنسان إلى ما لا تعلّق له في عمله ، ولا يرتبط به ، ولا يدركه إدراكاً تامّاً ، ولا يصفوا له علم شيء إذا فارق العمل ، وإلى ذلك يشير قول عليّعليه‌السلام :(العلم مقرون بالعمل : فمَن عَلِمَ عمِلَ ؛ ومَن عمل علِمَ والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلاّ ارتحل عنه) (١) .

ويظهر ذلك بوضوح إذا قايسنا حال الفلسفة الإلهية ، التي ربّما يوجد شيء منها لدى الشعوب المتمدّنة اليوم ، بحالها في الإسلام حيث إنّ أُولئك ـ أعني الشعوب المتمدّنة ـ اليوم ، قد فصلوا بين الفلسفة الإلهيّة وبين الأعمال ، فاستقلّت القوانين العملية السائدة بينهم عن الدين استقلالاً تامّاً أمّا الإسلام ، فقد وضع قوانينه العملية على أساس الأخلاق المبنيّة على أصل التوحيد ومن هنا ، فإنّك ترى عياناً أنّ الفضلاء والمفكّرين من أُولئك ، لا يكادون يفقهون حتى المسائل البسيطة من الفلسفة الإلهيّة وأمّا المسلم الواعي المحترم لشئون دينه ، فإنّ لله عزّ اسمه نصيباً في قيامه وقعوده ، ونومه ويقظته ، وحياته وموته ، وظاهر شخصيّته وباطنها ، وهذه الإحاطة التامّة ، ومن أجل سراية التوحيد إلى جميع شئون الرجل الإلهي ، تسنّى له الوقوف في موقف التألّه ، وثبتت له قَدَم صدق في معرفة اللاهوت ، التي أحاط حكمها بكلّ

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ١ / ٦٣ ، الحديث ١٠٨ / ٢ ، باب استعمال العلم ، بحار الأنوار : ٢ / ٤٠ ، الحديث ٧١ ، باب ٩ ـ استعمال العلم والإخلاص في طلبه ومثله ما ورد في نهج البلاغة : ٥٣٩ ، الحكمة ٣٦٦ ، حِكَم أمير المؤمنينعليه‌السلام ومثله ما ورد في غرر الحِكم : ٤٥ ، الحديث ١٤٢ ـ ١٤٣ ، ثمرةَ العلم العمل به .

٢٥٧

شيء ؛ إذ لولا هذه الإحاطة ، ولولا سراية اللاهوت إلى جميع شئون الرجل الإلهي ، لم يتهيّأ له ذلك بديهة ؛ إذ كيف يتمّ الفصل والقضاء فيها مع عزل الأشياء عن حكمها ؟! وكيف عرف الله مَن أنكر أو أهمل سلطانه في شيء من مملكته ؟!

القضاء قضاءان : حقوقي وعلمي

ليس على القاضي في الحقوق إلاّ أن يعرف ماهيّة الموضوع الذي وقع فيه الشجار والخلاف ، وهي قضية جزئية حيّة ، من شأنها أن يتصوّرها كلّ مَن اطّلع على أطرافها وجوانبها ثمّ يقضي بما يتلائم مع القوانين الموضوعة والمتّبعة ، وليس عليه إلاّ أن يتّبع العدل في قضائه ، ولا يفرّق بين ما يراه وبين ما يقضي به وهو إنّما يقضي في أمر اعتباري وضعي ، ويتَّبع في قضائه جريان الأحداث في الخارج ..

وأمّا القاضي في مسألة علميّة ، فإنّه أشدّ محنة وأعظم بلاءً ، ولا سيّما إذا كانت تلك المسألة فلسفية ..

فمن جهة يجذبه الحسّ إلى المحسوسات الجزئيّة المتشخّصة في الخارج ، ولا يدعه يتوجّه إلى الكلّيات والأُمور الخارجة عن حومة المادة والطبيعة ، والتي لا تنفع فيها مقاييس المادة ، ولا تجدي معها الشواهد الطبيعية الجزئية ، بل وتعجز في التعبير عنها اللغات المبيِّنة للمقاصد ، والكاشفة عمّا في الضمائر ؛ حيث إنّ الألفاظ إنّما وضعت لتعبّر عن حوائج مادّية جزئية ، وليست إلاّ قوالب لها ، وإذا ما استعملت في الفلسفة ، فإنّما يكون ذلك بعد تجريدها عن غواشي المادة ، واستبعاد المشخّصات التي توجب جزئيّتها .

وعليه ، فكلّ مكان تستعمل فيه الألفاظ يكون معرضاً للخطأ والالتباس ، ومن ثمّ للزلل والخطل في المعارف التي تؤدّيها تلك الألفاظ وتُجعل قوالب لها .

ومن جهة ثانية تحرفه عواطفه الباطنة ، الداعية له إلى إتّباع الهوى ، فتصرفه عن الحقّ ، الذي هو بغيته ومنيته ، وتحوّل نظره عن هدفه الأسمى هذا إلى أغراض تافهة أُخرى ، تقرّبها منه وتزيّنها له ..

٢٥٨

ولهذا فإنّ من الطبيعي أن لا يصل إلى المعارف الحقيقيّة إلاّ أفراد قلائل قد تجرّدوا من جلباب المادة والطبيعة ، وأفلتوا من شراك الهوى ، وتخلّوا عن زبارج وبهارج هذا العرَض الأدنى وإن شئت فقُلْ : لا يصل إليها إلاّ مَن تبرّأ من سيّئات الأعمال ، وتنزّه عن رذائل المَلكات والأحوال ، ونذر نفسه ووجوده لله ، لا همّ له إلاّ الحقّ الصريح ، ولا ينشد إلاّ الواقع الأصيل والصحيح .

هذا وإنّ ثَمَّة مثالاً حيّاً تمثّلت به الفلسفة الإلهية ، التي نعنيها بالكلام المتقدّم ، هذا المثال هو الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الذي هو المثال الحقيقي البارز للفلسفة الإلهية ، والذي لا يخطئ المتمثِّل به ولا يضلّ ..

ومن أجل إدراك هذه الحقيقة ، فما على الباحث إلاّ أن يجيل نظره فيما يذكره التاريخ الصحيح ، ممّا يتعلّق بحياته الحافلة بالفضل والفخار ، وأيضاً الزاخرة بالمحن والبلاء في جنب الله عزّ اسمه ، ثمّ يقيس ـ لو جاز القياس ـ المأثور من كلامهعليه‌السلام في المعارف الإلهية ، بالمأثور من كلام غيره من صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغيرهم من علماء التابعين ، ومَن دونهم ثمّ يتعمّق في البحث ، في غرر كلامه في الفلسفة الإلهية ؛ فإنّه سوف يجد ـ دون أدنى شكّ وشبهة ـ صدق ما ذكرنا ، وحقيقة ما إليه أشرنا .

فقد ولدعليه‌السلام قبل البعثة ، وكان أبوه شيخ بني هاشم ، أبو طالب بن عبد المطّلب بن هاشم وأُمّه : فاطمة بنت أسد ثمّ تربّى في حجر النبوّة ولم يزل على ذلك حتّى بُعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فكان أوّل مَن آمن به ، وهو لم يبلغ الحلم ، وقَبِل النبي ذلك منه أحسن القبول .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد شرط لأوّل مَن آمن به الخلافةَ والوصاية في ملأ من قومه ثمّ لم يزلعليه‌السلام ملازماً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملازمة الظلّ لديه ، قبل الهجرة وبعدها ، إلى حين وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان هوعليه‌السلام آخر مَن فارق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فارقه حينما وضعه في ملحود قبره الشريف ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخصّه من خلوته وجلوته ، ومسارّته ومحاضرته ، بما لا يخصّ به أحداً سواه ..

٢٥٩

وكانعليه‌السلام أخطب العرب بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفصحهم ، كما أنّه كان أعلم الأُمّة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو القائل :(علّمني رسول الله ألف باب من العلم ، ينفتح من كلّ باب ألف باب) (١) .

وكان أورع الناس ، وأزهدهم في دنياه ، وأرأف الناس نفساً بالضعفاء والأرامل والأيتام ، وأرقّ الناس للفقراء والمساكين ، وكان لا يختلف عنهم في حياته وزيّه ، حتى في أيّام حكمه وتسلّمه لزمان الخلافة الإسلامية العامّة ..

وهو الشجاع ذو النجدة ، الذي لا يذكر التاريخ مَن يعدله ويدانيه ، وبه وبسيفه قام عمود الدين ، كما أنّه كان أشدّ الناس في جنب الله ، لم يترفّع عن حقّ قطّ ، ولم يهو إلى باطل قطّ ..

وليس غرضنا هنا الثناء عليه ، وبيان فضائله ، فهو لعمري المقياس الذي يقاس به الفضل ، والميزان الذي توزن به الأعمال فإنّ البحث الفلسفي يتجنّب التعرّض لمدح الرجال أو قدحهم ، والثناء عليهم أو الإزراء بهم ، كما أنّنا ليس لنا غرض آخر من ذلك ، كالاحتجاج لمذهب معيّن أو غيره ..

ـــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة / ابن جرير الطبري : ١٠٥ ، ذكر معجزاته [الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ] ، ومثله ما في بحار الأنوار : ٢٦ / ٢٩ ، الحديث ٣٦ ، أبواب علومهم ، باب ١ ـ جهات علومهم الاختصاص : ٢٨٣ ، حديث في زيارة المؤمن لله الأمالي / الصدوق : ٧٣٢ ، الحديث ١٠٠٤ / ٦ ، المجلس الثاني والتسعون ، ولكنّ الثلاث الأخيرة وردت فيها كلمة (يفتح) بدل (ينفتح) ، فلاحظ .

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292