الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة13%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56569 / تحميل: 7204
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وإنّما غرضنا من الإيماء إلى بعض صفاته ، وبعض شئون حياته ، هو أن نلفت نظر الباحث الحصيف إلى أن يقوم ببحث نفسي وأخلاقي في جوامع صفاتهعليه‌السلام ، ثمّ يقيس بعضها إلى بعض ، ويقارن بينها ؛ ليستنتج أنّه كانعليه‌السلام قد أُوتي الكمال الحقيقي في قواه الجسميّة والروحيّة ، كما أنّه أيضاً منح كلّ الكمال لنفسه ، القيِّمة على إدراك الحقائق والتحصيل المعارف فإنّ هذا في الحقيقة هو غاية ما تشترطه الفلسفة ، وبشكل خاصّ الفلسفة الإلهية فمَن يحاول أن يتناولها بالبحث والتمحيص ، ويتعرّف فيها على الحقائق ، وينال المعارف فإنّها لا تنشد إلاّ إنساناً يبلغها نظره ، ويَسَعُها صدره ، وتحرسها تقواه ، وينثرها بيانه فيما ينثر من تعاليم ..

وإنّ العجيب في أمر الإمام عليعليه‌السلام أنّه بلغ الغاية في مختلف جهات الفضائل الإنسانية ، فهو بحقّ الإمام في كلّ باب ، والمثال الحقّ في كلّ غاية كريمة على خلاف ما نجده من حال النوابغ ، وشخصيات الأفذاذ من رجال التاريخ .

إنّنا نجد الرجل إذا كان شجاعاً باسلاً ، شديد البأس ، رابط الجأش ، لا تزعزعه الأهوال ، ولا تروّعه مقارعة الأبطال ، نجده ـ عادة ـ قصير الباع في التدبير والتفكير ، قليل الحظّ من الرأفة والرقّة .

ونجد الرجل العابد المتزهّد المتورّع ، مغرقاً في الزهد والعبادة ، وعارفاً بسبل رياضة بدنه ، ومجاهدة نفسه ، ولكنّه قاصر في سياسة الدولة وإدارة الأُمّة ، لا يقوى على تمييز النصيحة من الخديعة ، ولا يلتفت إلى المكائد ولطائف الحيل وهكذا في مختلف الموارد وسائر الأفراد ، فإنّك لا تكاد تجد مَن يجمع أكثر الصفات والخصال الحميدة ، فضلاً عن كلّها وليس ذلك إلاّ لأنّ النفس الإنسانيّة تمتلك قدراً محدوداً من الهمّة ، فإذا اجتمعت الهمّة على أمر ، ضعفت بطبيعة الحال في سائر

٢٦١

الأُمور الأخرى ، وإذا وزّعها على مقاصد شتّى ، وقسّمتها بينها ، ضعف الجميع ، ولم يكن الوصول في الكلّ إلى درجة الكمال المطلوب ؛ إذ( مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (١) .

أمّا الإمامعليه‌السلام ، فلم تكن فضائله النفسيّة ناشئة عن تهذيب سبقه تروٍّ وتأمّل فكريّان ، ولم يسلّم أمره إلى هوى نفسه ، لتختار له الجهة التي عليه أن يصرف همّته فيها وإنّما أخذته جذبة إلهيّة ، أنْسَته غيره سبحانه ، وأزالت من نفسه كلّ المآرب البشريّة التي تشدّه إلى نفسه ، وتقرّبه منها ، ولم تُبق منها شيئاً ، وانتُزعت كلّ الشهوات الغريزيّة ، التي توجّهه نحو الملذّات الآنيّة ؛ فلا شيء بعد شدّه نحو نفسه ، ولا شيء أيضاً يزيّن له الشهوات والملذّات الدنيويّة ، بل كلّ همّه هو الحقّ ، والحقّ فقط ، فهو الغاية وإليه سوف تكون النهاية ..

ـــــــــــــ

(١) سورة الأحزاب : الآية ٤ .

٢٦٢

وهذا هو الذي جعلهعليه‌السلام يعطي كلّ موقف حقّه ، وهداه إلى الحقّ فالتزمه وكان معه ، حتّى عند اختلاف الدواعي والبواعث(١) ..

ـــــــــــــ

(١) قد ذكرنا في بحث قرآني في كتابنا : تفسير الميزان : ١/ ٣٥١ ـ ٣٥٧ ، تفسير الآية ١٥٥ و١٥٦ سورة البقرة ، بتصرّف أنّ طرق الأخلاق المشروعة ثلاث :

الأوّل : طريق الحكماء الباحثين في الأخلاق ، ويتلخّص هذا الطريق : بتشخيص الأخلاق الفاضلة وتمييزها عن غيرها ، بواسطة ما هو شائع عند العقلاء تحسيناً وتقبيحاً أي أنّهم يستدلّون على الأخلاق الفاضلة بمدح العقلاء وثنائهم على المتخلّق بها ، وعلى الأخلاق الذميمة بذمّهم وزرايتهم عليه فإذا عرف الإنسان الأخلاق الفاضلة من غيرها بواسطة ذلك الميزان ـ وهو تحسين العقلاء وتقبيحهم ـ فما عليه إلاّ أن يتخلّق بالفاضلة منها ؛ إيثاراً للحسن العامّ الشائع والثناء الجليل ..

فالحكيم الباحث في الأخلاق يقول : الشجاعة والعفّة والصدق ـ مثلاً ـ أُمور يستحسنها العقل ، ويمدحها النّاس ، فعلى الإنسان العاقل ـ إذن ـ أن يتخلّق بها إيثاراً للحسن والكذب والنميمة والخيانة ـ مثلاً ـ يقبّحها العقل ، ويذمّها النّاس ، فعلى العاقل ـ إذن ـ أن يتجنّبها ويبتعد عنها .

الثاني : طريق الأنبياء : وهو الاستدلال على الأخلاق الفاضلة برضى الله سبحانه ، وعلى الأخلاق الرذيلة بسخطه وعقابه فرضى الله وسخطه هي المقياس للأخلاق الفاضلة والرذيلة فعلى الإنسان أن يؤثر منها ما يهدي إلى الجنّة ، ويحترز ممّا يؤدّي منها به إلى النار .

الثالث : الطريق الذي اختصّ به الإسلام ، وهو الاستدلال على الأخلاق الفاضلة بنور التوحيد الخالص ، فإنّ الإنسان إذا علم أنّ الوجود الحقّ هو الله سبحانه ، علم أنّه هو الربّ المالك لِمَا عند غيره من الوجود وآثار الوجود ، من دون أن يملك غيرُه شيئاً ، من ضرٍّ أو نفع ، أو موت أو حياة أو نشور وإذا علم ذلك وتيقّنه ، فلسوف لا يريد حينئذٍ إلاّ ما أراده الله ، ولا يكره إلاّ ما كره الله ؛ حيث إنّه يرى أنّ نفسه لا تملك شيئاً ، حتّى يشغل نفسه بعجب أو مرح أو حزن ، أو غير ذلك من مشتهيات النفوس ولا يرى أيضاً لغيره تعالى أثراً أو خطراً في هذا الوجود ، فلا أحد يملك له نفعاً ليرجوه ويطمع فيما عنده ، أو يدفعه لأن يذلّ له بغير حقّ ، أو أن يبغي عليه بغير الحقّ كما أنّه لا أحد يملك له ضراً لِيَخافه على نفسه فيذلّ له ، أو يبطل حقّاً ويحقّ باطلاً من أجله وعلى هذا القياس ..

فالتوحيد الخالص يعالج الداء ، وبه ومنه يكون الشفاء ، من غير حاجة إلى ما تقدّم في الطريقين السابقين من وسائط ووسائل .

والفرق بين الطريقين المتقدّمين يدفعان الداء ، بمعنى أنّهما يعالجانه بضدّه ، نظير العلاج الجسماني أمّا طريق الإسلام ، فإنّه يرتفع معه موضوع الرذيلة من أصله ، لا أنّها تكون موجودة ثمّ تدفع عن هذا الفرد أو ذاك (منه قُدِّس سِرُّه) .

٢٦٣

وهذا يتّضح لنا تماماً إذا راجعنا ما بأيدنا من سيرته وحياته ، كما أنّه يلوح ، بل يتّضح ، من أطراف ما بين أيدينا من كلامهعليه‌السلام ، فهو القائل : (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله) (١) ، والقائل :(لو كشفت الغطاء ما ازددت يقيناً) (٢) وهاتان الكلمتان من حيث

ـــــــــــــ

(١) شرح الأسماء الحسنى / الملاّ هادي السبزواري : ١ / ٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٠ / ١٥٣ ، باب ٩٣ ـ علمه ، وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّمه ألف باب ، وأنّه كان محدّثاً ، الحديث ٥٤ غرر الحكم : ١١٩ ، الباب الخامس في الإمامة ، الفصل الثاني في عليعليه‌السلام ، فضائله ، الحديث ٢٠٨٦ .

٢٦٤

معناهما الفلسفي من أروع الكلام وأجمعه ، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تلوموا عليّاً فإنّه ممسوح في الله) (١) ، وقال أيضاً :(عَليٌّ مع الحقِّ ، والحقُّ مع عليٍّ) (٢) ، ونحن في غنى عن بيان أنّ هذا الوصف ـ أعني كون إنسان مع الحقّ والحقّ معه ـ إذا حصل عليه الإنسان ، كان خير وسيلة وأجّاها في وصوله إلى المعارف الحقيقيّة ، وحصوله على الفلسفة الإلهيّة .

ـــــــــــــ

(١) ورد الحديث : (لا تسبّوا عليّاً ؛ فإنّه كان ممسوحاً في ذات الله) انظر : ينابيع المودّة / القندوزي : ٢ / ٨٤ ، الحديث ١٤٥ .

وورد : (إنّه ممسوس) كما في كنز العمّال / المتّقي الهندي : ١١ / ٦٢١ ، الحديث ٣٣٠١٧ المعجم الأوسط / الطبراني : ٩ / ١٤٢ المعجم الكبير أيضاً : ٩ / ١٤٨ المناقب / ابن شهرآشوب : ٣ / ٢١ ، فصل في ظالميه ومقاتليه ، في سبّهم إيّاه (صلوات الله عليه) .

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب : ٣ / ٢٥٦ ، باب النكت واللطائف ، فصل في مساواته مع داود وطالوت وسليمانعليهم‌السلام . الفصول المختارة / المفيد : ٢ / ٣٣٩ .

٢٦٥

قياس المأثور من كلامهعليه‌السلام بكلام غيره

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصر سمّاه القرآن : ( عصر الجاهليّة) ، وما أحراه بهذا الاسم ! وكان عامّة العرب آنذاك أُميّيّن ، لا يقرءون ولا يكتبون ، ولم يكن فيهم أثر للعلم والثقافة ، وليس لديهم شيء من سنن المدنيّة ، بل كانت حياتهم حياة فوضى وهمجيّة ، يرتزقون من قطع الطرق ، وشنّ الغارات ، وينشدون الأشعار في المباهاة بسفك الدماء ، وهتك الحرمات ، والمفاخرة بآبائهم وأسلافهم وقد أثبتت البحوث والدراسات في (الأخلاق الإنسانية وأسبابها) ، أنّ الأُمّة التي هذه حالها ، وعلى ذلك جرت سنّتها ، تكون مرتعاً خصباً للعصبيّة الجاهليّة العمياء ، التي هي السمّ الناقع للفلسفة الإلهية ؛ فإنّ العصبية تذهب باستعداد النفس الإنسانيّة لتقبّل الحقّ ، ولا تبقي من ذلك الاستعداد شيئاً. ومن الصعب جدّاً أن يتهيّأ لأُمّة هذا حالها ظرف صالح ، يخرج تلك الأُمّة من ظلم الجهالة ، وينفي عنها رذائل الأعمال المهلكة ، ويعوّضها عنها :

أوّلاً : بالأعمال الصالحة ، ويلهمها .

ثانياً : الحكمة والموعظة الحسنة ، ثمّ ينتهي الأمر بها .

ثالثاً : إلى الفلسفة الإلهية ، وعند ذلك يتمّ الكمال الإنساني ، وتلتقي سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وإلى ربّك المنتهى ..

وإذا تتبّع الباحث الناقد ما وصل إلينا من أخبار ، تفصّل لنا أحوال صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحكي أقوالهم يرى هذه الحقيقة التي أشرنا إليها رأي العين ، فإنّ أغلب هذا الأخبار قد تضمّنت عرضاً لأعمالهم الصالحة ، التي يلوح منها اتّباعهم للسنّة النبويّة ، أو متضمّن أحداثاً ترتبط بالدعوة الدينيّة وشؤونها ، وقليل من هذا الأخبار ما يشتمل على الحكمة والموعظة الحسنة وتعاليم الدين وأمّا الذي يشير منها إلى معارف حقيقيّة ، ويرمز إلى فلسفة إلهيّة ، تأخذ الألباب ، وتشدّ القلوب ، وتربطها بسرادق العزّة والكبرياء ، وساحة العزّة والبهاء ، أمّا هذا النمط منها ، فهو أشدّ وأندر ، بل لعلّ الحديث الذي يتعرّض لذلك ـ رغم أنّه غريب في محتواه ومضمونه ـ لا يتجاوز عدد أصابع اليدين ، أو حتّى لا يبلغه وليس فيما ورثناه منهم من الكلام في المعارف ، إلاّ أخبار التجسيم والتشبيه أو التنزيه ، وبعض الأخبار المشتملة على معارف ساذجة وبسيطة ، ومعانٍ عادية ومبتذلة مع أنّ عدد مَن تُرجم له من الصحابة يبلغ الاثني عشر ألف نسمة ولم تأل الأُمّة جهداً في النقل عنهم ، وإحصاء أقوالهم ورواياتهم ..

٢٦٦

لكنّنا نجد كلام الإمام علي بن أبي طالب (عليه أفضل السلام) الذي كان يفيض بالمعارف الحقيقية ، وتحار فيه النفس الوالهة الخائضة في الفلسفة الإلهية ، نجد كلامهعليه‌السلام يلتقي معه الفكر الإنساني ، ويرتقي معه إلى أن يصل الفكر إلى أوج مرتقاه ، حتّى إذا كلَّ ووقف كان كلامهعليه‌السلام السائر وحده في مراقي الحقائق ، لا يشقّ له غبار ، ولا تناله الأوهام ولا الأفكار ..

ولسنا نعني بذلك توحّد كلامه في بلاغته ، أو تفرّده في حلاوته ، أو غير ذلك ، فإنّ ذلك وإن كان حقّاً إلاّ أنّه خارج عمّا نحن بصدده وإنّما نعني كلامه الذي يزخر بالمعارف الحقيقية ، والفلسفة الإلهية نلفت نظر الباحث المتعمّق في الفلسفة الإلهية ، الخائض في معرفة اللاهوت (ونوجّه الكلام إليه) إلى نظير قولهعليه‌السلام في بعض كلامه ـ وكم له في كلامه من نظير ـ :

(فَمَنْ وَصَفَ الهَ سُبْحانَهُ فَقَدْ قَرَنَه ، ومَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ ، وَمَنْ جَزَّأُهُ فَقَدْ جَهِلَهُ ، ومَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ ، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ) (١)

وقولهعليه‌السلام :(كُلُّ مُسمّىً بِالوَحْدَةِ غَيْرَهُ ، قَلِيلٌ ، وَكُلُّ عَزيز غَيْرَهُ ذَلِيلٌ ، وَكُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ ، وَكُلٌّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ ، وكُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ) .

إلى أن قال :(وَكُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ بَاطِنٌ ، وَكُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ) (٢) .

وقوله في صفة العالم العلوي :(صور عارية عن المراد ، خالية عن القوّة والاستعداد) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٣٩ ، الخطبة الأُولى : يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض ، وخلق آدم بحار الأنوار: ٤ / ٢٤٧ ، الحديث ٥ ، باب ٤ ـ جوامع التوحيد .

(٢) نهج البلاغة : ٩٦ ، الخطبة ٦٥ ـ وفيها مباحث لطيفة من العلم الإلهي بحار الأنوار : ٧٤ / ٣٠٦ ، باب ١٤ ـ خطبه (صلوات الله عليه) المعروفة ، الحديث ٩ .

(٣) ورد الحديث : (صور عارية عن المواد ، عالية عن القوّة والاستعداد) ، كما في غرر الحكم : ٢٣١ ، الحديث ٤٦٢٢ ، الفصل الأوّل في النفس ، شرافة النفس المناقب / ابن شهرآشوب : ٢ / ٤٩ ، باب درجات أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فصل في المسابقة بالعلم .

ورد أيضاً : (صور عارية من المواد ، عالية عن القوّة والاستعداد) . انظر : بحار الأنوار : ٤ / ١٦٥ ، تتمّة كتاب تاريخ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أبواب كرائم خصاله ومحاسن أخلاقه ، الباب ٩٣ ـ علمهعليه‌السلام ، وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّمه ألف باب ، وأنّه كان محدّثاً .

٢٦٧

فليتأمّل الباحث في الفلسفة الإلهيّة في سلوكه الفنّي ، وهو ينضّد مسائل التوحيد ، ويرتّب بعضها على بعض . وليتأمّل أيضاً في سيره على طريق البرهان الساطع ، وهو يأخذ بمجامع المواد في كلّ برهان يقيمه ، وحجّة يحتجّ بها ثمّ في دقّة ما كشف عنه من غوامض مسائل اللاهوت ، وبعد مرماه فيها ..

وتفرُّدُ كلامه في هذا المضمار ، وسموّه إلى المنزلة التي يقصر عن الاطّلاع عليها كثير من الأفهام ، دعا بعض المتعصّبين إلى إنكار صدوره كلّه ، أو أكثره منهعليه‌السلام أو دعا بعض المحدِّثين إلى أن يتمجمج في بعض كلامهعليه‌السلام قائلاً : إنّه لا يشبه كلامه ..

مع أنّ المنقول من كلامهعليه‌السلام ذو سياق واحد ، منسجم كلّ الانسجام ، مترابط كلّ الترابط ، يلتوي بعض أطرافه على البعض الآخر ، ويصدِّق بعض أجزائه البعض الآخر كما أنّ أكثر كلامهعليه‌السلام مرويّ مسند ، مودع في كتب التاريخ وجوامع الحديث .

يضاف إلى ذلك أنّ كلامهعليه‌السلام لا يشبهه شيء من كلام غيره ، فها نحن بين أيدينا الشيء الكثير من كلام غيره ، من مختلف الطبقات الفاضلة في هذه الأُمّة ، كالصحابة وكبار التابعين والمتكلّمين والحكماء والعرفاء والأُدباء والعادة قاضية بأنّ مَن يقدر أن يضع مثل هذا الكلام الزاخر بالعلم والحكمة والثقافة ، المهيمن على سائر الكلام ، وينسبه إلى رجل ليرفع به قدره ، ويشهر أمره ـ العادة قاضية ـ بأن يصدر منه في مختلف أحواله ، وجاري أيّامه ، ما يماثل ذلك الكلام الذي صنعه ونسبه إلى غيره مع أنّ مثل هذا الكلام لم يُنسب ، ولا أُثر عن أحد من هذه الأُمّة على الإطلاق على أنّ مَن يستطيع أن يصنع مثل هذا الكلام ، والذي له هذه القَدَم الثابتة في العلم بالله وآياته ، كيف تطاوعه نفسه أن يحلّى بمثل هذا الكلام غيره ويعطّل نفسه ، بحيث يبقى هو مهملاً ، وفي زوايا الخمول ، إلاّ أن يكون مصاباً في عقله ، والمصاب في عقله عن صنع مثل هذا الكلام ووضعه أعجز ، وعن الورود في شرعة هذه الفلسفة المتعالية أبعد .

٢٦٨

على أنّ في كلامهعليه‌السلام جملاً وفصولاً لم تكن العلوم الاستدلاليّة التي كانت دائرة بين السلف من علماء المسلمين ، من متكلّميهم وفلاسفتهم وغيرهم ، قادرة على تفسيرها وتوجيهها ، إلاّ بضروب من التأويل واللفّ والدوران ، إلى أن تمكّن العلماء في العصور الأخيرة من حلّ عُقَد عدّة من المسائل الحقيقيّة وكشف القناع عن كثير منها وذلك ككلامهعليه‌السلام في أنّ كمال التوحيد نفي الصفات(١) ، وأنّ الله لا يحيط به عقل ، وأنّ الله ليس بواحد بالعدد ، وأنّ الله هو الدليل على نفسه ، لا يُعرف بغيره ، وكلّ ما سواه معروف به وغير ذلك .

وإذا كان الأمر كذلك ، فمَن هو الذي يُتوقّع منه ، أو يؤمَّل فيه ، من قدّماء الباحثين أو الرواة في صدر الإسلام ، أن يكون محيطاً بعامّة الحقائق ، ومدركاً لها بهذا العمق ، يودّعها في أوجز كلام ، ثمّ ينسبها إليهعليه‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) راجع ما تقدّم في : الصفحة ٣٠٠ ، الهامش ١ .

٢٦٩

نماذج من كلامهعليه‌السلام في الفلسفة الإلهيّة

إنّ الباحثين في الفلسفة العامّة ، والفلسفة الإلهيّة بالخصوص ـ وأُوجّه كلامي إليهم ـ يعلمون أكثر من أي شخص آخر أنّ البحث الفلسفي لا يتيسّر إلاّ بالاستنتاج من البراهين المحضة وهذه البراهين عبارة عن تأليف خاصّ بين مقدّمات بديهيّة وقضايا ضروريّة ، يضطرّ الإنسان إلى التصديق بها اضطراراً مطلقاً ، أو مقدّمات نظريّة مستنتجة من البديهيّة ومنتهية إليها .

فالباحثون ـ على هذا ـ يعلمون أنّ البحث الصحيح عن مواد المسائل في هذا الفن ، إنّما يؤتي ثماره عندما يتجرّد الإنسان عن جميع معلوماته التي اكتسبها عن طريق التقليد ، وسائر الأبواب الاتّفاقية والتي تترك بها آثاراً في الإنسان ، وينفعل معها بما يلائمها من أنواع الانفعالات ، من عادةٍ أو تخيّل أو أي عاطفة من سائر عواطفه الكامنة فيه .

نعم ، إنّ على الإنسان أن يتجرّد من ذلك كلّه ويلقيه جانباً ، بمحض توجّهه نحو البديهيّات والتصديقات التي لا يمكن لأيّ شيء آخر أن يصرف نفسه عنها إذا توجّهت إليها ، وليستنتج منها ـ من ثَمّ ـ أوّل معلوم نظري مكتسب ، ثمّ ينتقل منه إلى الذي قبله ، ثمّ إلى الأقدام فالأقدم ، وهكذا حتّى يبلغ ما هو بالغه من حقائق المعارف .

هذا النوع من الدراسة والبحث لا يؤتي ثماره إلاّ بالتزام بالترتيب والتدرّج في السير العلمي ، من السابق رتبة إلى لاحقه ولا يستقيم البحث إلاّ على هذا النحو ، وإلاّ عاد البحث البرهاني بحثاً جدليّاً ، مبنيّاً على التسليم لأُمور مسلّمة من الفرضيّات والأُصول الموضوعة .

هذا ، ولا يسعنا في هذا المختصر أن نستوفي تفسير ما سوف نورده من نماذج كلامهعليه‌السلام ، ولا أن نعطيه حقّه من الدراسة والبحث الفلسفي ، الذي لا بدّ فيه من استفراغ الوسع ومزيد من الجهد ؛ فإنّ كلامهعليه‌السلام زاخر بالمقاصد الفلسفيّة الدقيقة وحقائق المعارف الإلهيّة السامية غير أنّنا سوف نشير بعض الإشارة ـ في ضمن ما يأتي ـ إلى مكانة المسألة التي يتعرّض لها في كلامهعليه‌السلام ، وموقعها من الأنظار الفلسفيّة(١) ، حتّى يراجعه المراجع إن شاء ، ثمّ يقيس مستوى كلامهعليه‌السلام بمستوى كلام غيره ..

ـــــــــــــ

(١) وهذا غاية ما يمكن القيام به في مجال تفسير كلا أحد رجالات العلم من خلال ترجمته .

٢٧٠

أُسلوب التحقيق العلمي ، وطريق السير إلى الحقيقة

من كلامهعليه‌السلام :(رأس الحكمة لزوم الحقّ) (١) .

وفي هذا المعنى قولهعليه‌السلام : (عليكم بموجبات الحقّ فالزموها ، وإيّاكم ومحالات الترَّهات) (٢) .

فيشيرعليه‌السلام بذلك إلى طريقة البحث العلمي عن الحقائق ، والطريق الذي من شأنه أن يوصل إليها فقرّرعليه‌السلام أنّ ذلك الطريق هو البرهان ، والدليل الذي لا يعبأ معه باتّفاق الرجال على قول ، أو كونه مسلّماً لدى العظماء منهم ، أو مشهوراً بينهم فالحقّ حقّ أنكره النّاس أو عرفوه ، والباطل باطل قبله النّاس أو رفضوه .

ومن لطيف البيان في هذا الباب ، قول السابع من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في وصيّة منه لهشام :

(يا هشام ، لو كان في يدك جوزة ، وقال الناس : لؤلؤة ، ما كان ينفعك وأنت تعلم

ـــــــــــــ

(١) غرر الحكم : ٥٩ ، الحديث ٦٣١ ، وكذلك الحديث ٦٣٢ ، ولكن بزيادة : (وطاعة المحقّ) ، الفصل السادس في الحكمة ، علائم الحكيم .

(٢) المصدر المتقدّم : ٦٩ ، الحديث ٩٦٨ ، الفصل الرابع عشر : في الحقّ والباطل / في العمل بالحقّ .

٢٧١

أنَّها جوزة ولو كان في يدك لؤلؤة ، وقال الناس : إنّها جوزة ، ما ضرّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة) (١) الحديث .

ومن كلامهعليه‌السلام الذي يرتبط بما نحن فيه ، ما شاع عنه مرسلاً : (لا تنظر إلى مَن قال ، وانظر إلى ما قيل) (٢) وقولهعليه‌السلام :(لا علم كالتفكير) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٨٣ ، وصيّتهعليه‌السلام [الإمام الكاظمعليه‌السلام ] لهشام ، وصفته للعقل .

(٢) غرر الحكم : ٤٣٨ ، الحديث ١٠٠٣٧ ، الباب الثالث : في المصاحبة والعاشرة ، الفصل السادس : مواعظ في المعاشرة ، ولكن ورد : (وانظر إلى ما قال) ، شرح مئة كلمة / ابن ميثم البحراني : ٦٨ ، الكلمة العاشرة ، وورد أيضاً : (وانظر إلى ما قال) .

(٣) نهج البلاغة : ٤٨٨ ، الحديث ١١٣ ، حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولكن ورد فيها : (كالتَّفكُّر) .

بحار الأنوار : ١ / ١٧٩ ، الحديث ٦٣ ، باب ١ ـ فرض العلم ووجوب طلبه ، وورد أيضاً : (كالتَّفكُّر) .

٢٧٢

المراحل الخمس لمعرفة الله تعالى

ومن كلامهعليه‌السلام :

(أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ ، وكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإخْلاصُ لَهُ ، وكَمَالُ الإخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ ؛ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ ، ومَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ ، ومَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ ، ومَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ ، ومَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ ، ومَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ ، ومَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ) (١) .

هذا بيان واف لمراتب معرفة الله وبالتعبير الاصطلاحي : شرح لمراتب التفكير الباحث في الفلسفة الإلهيّة ، من حيث سذاجته إلى أن ينتهي الأمر إلى عمقه ودقّته ، كما هو الحال في كلّ ما يتناوله الإنسان في دراساته العلميّة ، حيث بدأ بالسهل الساذج ثمّ يتدرّج في مراتب الدقة والإتقان ، في حدود طاقاته الفكريّة والعقليّة .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : شطر من الخطبة الأُولى : ٣٩ ، يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض ، وخلق آدمعليه‌السلام .

٢٧٣

ومراتب معرفة الله تعالى على ما بيّنه الإمامعليه‌السلام خمس :

الأُولى : معرفة الله والإقرار بإلوهيته ، وهي : الاعتقاد النظري بأنّ للعالم إلهاً والاعتقاد النظري هذا يشترك فيه المشرك والموحّد ، كالوثنيّة والثنوية وأهل الكتاب والمسلمين .

وكذلك يدخل مع هؤلاء كلّ مَن اعترف بالإله ، وأذعن بوجوده وصدّق به وخضع له ، أو اقتصر على مجرّد العلم النظري ، مع تكبّره واستنكافه عن عبادته تعالى فمرادهعليه‌السلام من (الدين) في قوله :(أوَّل الدين معرفته) ، مطلق الدين المقابل للزندقة والإلحاد .

الثانية : التصديق به ، والتصديق هذا هو الذي يوجب خضوع الإنسان له في عبوديّته ، وبهذا التصديق يرسخ الاعتقاد ويثبت ؛ ولذلك كان هذا التصديق كمال المعرفة .

ومن كلامهعليه‌السلام في هذا الباب أيضاً قوله :(لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكّاً إذا علمتم فاعملوا ، وإذا تيقّنتم فأقدموا) (١) .

وقوله : (العلم مقرون بالعمل) (٢) ، وبذلك ـ أي بالعمل ـ يمتاز الموحّد المتعبّد عن الملحد المتكبّر.

الثالثة : توحيده تعالى ، هو : إثبات أنّه تعالى واحد لا شريك له ؛ وبذلك يمتاز دين التوحيد عن أديان الشرك التي تثبت مع الله آلهة أُخرى (تعالى الله عن ذلك) والتوحيد هو كمال التصديق كما قالعليه‌السلام :(وكمال معرفته التصديق به) .

الرابعة : الإخلاص له تعالى بالإعراض عمّا سواه علماً وعملاً ، وقصر الوجود الحقّ وحصره فيه تعالى ، وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل .

وإذا كان ذلك ، انتفى عنه تعالى كلّ حدّ واقع أو متوهّم أو مفروض ، فيكون واحداً بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى ؛ إذ لا يمكن حتّى فرض شريك أو شركاء له ، فإنّ ذلك (فرض محال ، لا فرض المحال) وقد تكرّر في كلامهعليه‌السلام أنّه تعالى واحد لا بالوحدة العدديّة ، التي تقتضي أنّه لو فرض من نسخه آخر صار اثنين ، بل وحدته بحيث لو فرض معها ثانٍ ، لم يحصل التعدّد ، بل كان هذا المفروض الثاني عين ذلك المفروض الأوّل .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٥٢٤ ، الحكمة ٢٧٤ ، حِكم أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٢) قد أشرنا إلى مصدر هذا الحديث فيما سلف ، فراجع الصفحة ٢٨٩ من هذا الكتاب .

٢٧٤

توضيح ذلك : أنّ فرض الإله تعالى يستلزم ـ بحكم العقل ـ فرض وجوده على أي تقدير مفروض فلو فرض هو ولا شيء معه ، كان حقّاً متوحّداً ثابت الوجود ولو فرض ومعه شيء ، كان أيضاً ثابت الوجود ولو فرض غيره فقط ، ولا شيء مفروضاً معه ، كان تعالى أيضاً ثابت الوجود ، وهو ظاهر واضح .

الله تعالى حقّ ثابت على أي تقدير مفروض ، وما كان هذا شأنه لم يكن لوجوده الحقّ قيدٌ أو شرط كيفما فرض ؛ وإلاّ لم يكن ثابت الوجود مع زوال ذلك الحدّ ، وارتفاع ذلك القيد أو الشرط فوجوده تعالى محض الثبوت الحقّ الذي ليس معه حدّ من الحدود العقليّة والوهميّة والخارجيّة ، فهو حقّ غير محدود ، وكلّ ما سواه من الأشياء فهو محدود لا محالة ، وإلاّ لكان موجوداً على أي تقدير كان ، وهذا معناه أنّه واجب الوجود بالذات .

وإذا كان تعالى هو محض الحقّ الذي لا حدّ لوجوده ، ولا نهاية لذاته ، لم يكن للعقل أن يفرض من سنخه موجوداً آخر ، يكون هو الثاني لذلك الأوّل ؛ إذ إنّ (حرف الشيء) لا يتكرّر .

وهذا سنخ من الواحد غير الواحد العددي الذي للعقل أن يفرض معه آخر(١)

(وإن لم يكن في الخارج) فيصير اثنين وهكذا .

وهذا هو الذي يرمي إليهعليه‌السلام في قوله :(وكمال توحيده الإخلاص له) ، وقد بيّنهعليه‌السلام بياناً برهانيّاً في آخر كلامه .

ـــــــــــــ

(١) ونظير ذلك ما رواه المجلسيرحمه‌الله في بحار الأنوار (عن التوحيد) : ٣ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ، كتاب التوحيد ، باب ٦ ـ التوحيد ونفي الشريك ، ومعنى الواحد والأحد ، من أنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أتقول : إنّ الله واحد ؟ فحمل النّاس عليه ، وقالوا : يا أعرابي ، أمَا ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين : (دعوه ، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم) .

ثمَّ قال : (يا أعرابي ، إن القول في أنّ الله واحد ، على أربعة أقسام : فوجهان لا يجوزان على الله عزّ وجلّ ، ووجهان يثبتان فيه فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه :

فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أمَا ترى أنّه كفر مَن قال : إنّه ثالث ثلاثة .

وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجو عليه ؛ لأنّه تشبيه ، وجلّ ربُّنا عن ذلك وتعالى وأمّا الوجهان اللَّذان يثبتان فيه :

فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربُّنا .

وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديُّ المعنى ، يُعنى به : أنّه لا ينقسم في وجودٍ ولا عقلٍ ولا وهمٍ ، كذلك ربُّنا عزّ وجلّ) .

انظر التوحيد : ٨١ ، باب معنى الواحد والتوحيد والمُوحّد ، الحديث ٣ .

٢٧٥

وبعد هذا تأتيالمرتبة الخامسة : فإنّه تعالى إذا كان حقّاً على الإطلاق ، ووجوده غير محدود ، فلا يمكن للمفاهيم الذهنيّة أن تحيط به ، ولا أن تنطبق عليه تعالى حقّ الانطباق ؛ لأنّ المفاهيم محدودة في أنفسها ، ولذا ترى أنّ مفهوم العلم يمتاز عن مفهوم القدرة ، وليس في أحدهما أي شيء ، بل أي خبر ، عن الآخر ومفهوم القدرة لا ينطبق على مفهوم الحياة ، ومفهوم الحياة منفصل عن مفهوم العلم ، فكلّ مفهوم لا يسع إلاّ لنفسه ، وليس فيه من المفاهيم الأُخرى أي أثر أو خبر وكذلك ليس في المفاهيم الأُخرى عنه أي خبراً أو أثر (وإن كان ربّما تتّحد مصاديق هذا المفهوم وتتطابق مع مصاديق المفهوم الآخر ، لكنّ الكلام ليس في المصاديق) .

وإذا كان الإله سبحانه ـ على كلّ تقدير ـ غير محدود بحدّ موجود ، وهو حقّ على الإطلاق ، فإنّ المفاهيم الذهنيّة التي يصف العقل بها كل ما أراد أن يَعْرِفَه أو يعرِّفه ، لا تستطيع أن تتناوله فتحيط به ، وتنطبق عليه وهكذا نرى أنّ التعمّق في معنى الإخلاص قد أدّى إلى نفي الصفات عنه تعالى ، فيصحّ ـ إذن ـ أن يقال : إنّ نفي الصفات عنه تعالى هو كمال الإخلاص له وهي المرتبة الخامسة ـ كما قلنا ـ من معرفة الله تعالى ، وقد عناهاعليه‌السلام بقوله :(وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة) (١) .

فهو تعالى ـ كما ورد ـ له الأسماء الحسنى والأمثال العليا ولو لم يكن تعالى يملكها ، لم يمكن أن يجود بها على مَن سواه ، ولم يملكها غيره ، لكنّه أجلُّ من أن يناله إدراك غيره بوصف أو أن يحيط به نعت ، فكلّ مَن وصفه بوصف قد جهله فعند هذا الإخلاص يدرك العقل النظري قصوره وعجزه عن إدراكه تعالى والإحاطة به ؛ فإنّ وسيلة العقل الوحيدة إلى توصيف الأشياء هي المفاهيم والمعاني الذهنيّة ، وقد قدّمنا أنّها ـ أي المفاهيم ـ متمايزة بحسب ذواتها ، منفصل بعضها عن البعض الآخر ، ومن لوازمها المحدوديّة فالعقل عندما يسبغ عليه تعالى وصفاً ما ، فإنّه بنفس حكمه بالاتّحاد بينهما ، يحكم ـ من جهة التوصيف والإثبات ـ بنحو من المغايرة بينهما ، فإذا وصفه فقد قرنه بالوصف ، ولا يتمّ قرنه به إلاّ بالتثنية ، ولا تتمّ التثنية إلاّ بالتجزئة ، ولا تتمّ التجزئة إلاّ بإشارة عقليّة إلى هذا وذاك ، ولا تتمّ الإشارة إلاّ بضرب حدٍّ فاصلٍ بينهما ، يمتاز به أحدهما من الآخر ، ولا يتمّ التحديد إلاّ بعروض الوحدة العددية ، وانتفاء التوحيد الحقّ .

ـــــــــــــ

(١) فمرادهعليه‌السلام بيان أنّ مفاهيم الصفات لا تنطبق عليه تعالى على نحو الحقيقة وأمّا مصاديق المفاهيم ، فهي تشهد أنّها هي الموصوفات وبالعكس .

٢٧٦

وعند ذلك يتحيّر العقل في قضائه ، ولا يجد مناصاً من أنّ يجلّه تعالى عن التوصيف ، وينفي عنه ثانياً ما وصفه به أوّلاً ، بل وينفي حتماً هذا النفي ، الذي هو توصيف بنحوٍ .

وهذا هو الذي أشار إليهعليه‌السلام بقوله قبل هذا الكلام :(الذي لا يُدركه بُعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس لصفته حدٌّ محدودٌ ، ولا نعتٌ موجودٌ ، ولا وقتٌ معدودٌ ، ولا أجلٌ ممدودٌ) (١) .

ومن أجمل وألطف كلامه في هذا الباب قوله الآتي نقله :(لا يُشمل بحدٍّ ، ولا يُحسب بعدٍّ ، وإنّما تحدُّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلات إلى نظائرها) (٢) .

فمثل العقل بالنسبة إلى معرفة الله سبحانه ، كمثل الإنسان يغترف ماء البحر بكفّه ، فالكفّ في اغترافها لا تريد إلاّ الماء من غير أن تحدّه بحدّ ، لكنّها لا تنال إلاّ ماء بقدرٍ .

وقد عدّعليه‌السلام عجز العقل هذا معرفة ؛ إذ بدأ بالمعرفة ، وختم بهذه المرحلة .

ـــــــــــــ

(١) شطر من الخطبة الأُولى في نهج البلاغة : ٣٩ ، خطبة يذكر فيا ابتداء خلق السماء والأرض ، وخلق آدمعليه‌السلام ، وفي غرر الحكم : ٨١ ، الحديث ١٢٨٠ ، الفصل الأوّل في معرفة الله تعالى ، في حقيقته تعالى ، ولكن ورد : (لا يدركه ، وبُعد الهمم لا يبلغه) .

(٢) نهج البلاغة : ٢٧٢ ، الخطبة ١٨٦ ، في التوحيد .

٢٧٧

في تحقيق معنى التوحيد

ومن كلامهعليه‌السلام في مجال التوحيد أيضاً قوله :

(بَانَ من الأشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له ، والرجوع إليه من وصفه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله) (١) .

فنرى أنّهعليه‌السلام في كلامه هذا قد بنى نفيه للوحدة العدديّة عن الله تعالى على كونه تعالى أزليّاً ، بيان ذلك : أنّ الأزل هو الوجود غير المسبوق ، والوجود الذي هذا شأنه غير محدود بحدٍّ ، وليس معنى نفي الحدّ عنه أن يكون موجوداً في أزمنة غير متناهية سابقة ؛ إذ إنّ لازم وجوده في أزمنة سابقة غير متناهية هو انطباقه على الزمان ، ولازم الانطباق على الزمان كون الشيء حركة ، أو ذا حركة ، متغيّراً بتغيّرها ، متحوّلاً بتحوّلها ، تعالى الله عن ذلك لا ليس معناه ذلك ، وإنّما معنى نفي الحدّ عن الوجود غير المسبوق أنّ الشيء ذو حقّ من دون أي قيدٍ أو شرط ، أي ثابتاً على كلّ تقدير ، واقعٍ أو مفروضٍ ، لا يطرأ على ثبوته الحقّ تغيّر ولا تبدّل على الإطلاق والوجود الذي هذا شأنه لا يمكن أن يكون في عرض وجوده موجود حقّ آخر ؛ إذ لو كان ، لكان لا بدّ من امتيازه عنه بحدّ فاصلٍ مميّز بينهما ، وهذا يعني أنّ الوجود الحقّ المطلق يصير مقيّداً .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٢١٠ ، الرقم ١٥٢ ، في صفات الله جلّ جلاله ، وصفات أئمّة الدين .

٢٧٨

فتكون النتيجة أنّ وجوده الحقّ غير متناه ، وكلّ موجود سواه باطل في نفسه ، أي لا يقوم إلاّ بالله سبحانه ، متناهٍ في ذاته ، مفتقر إليه فكلّ شيء غير الله يُفرض وجوده متّصفاً بأحد صفات الكمال ، كالوجود والحياة والعلم والقدرة والإرادة ونحوها ، لا بدّ وأن يكون خاضعاً له تعالى ، مفتقراً إليه ذليلاً لديه ؛ بسبب قيامه به تعالى ومحدوديّته التي تكشف عنها حدوده ، والله سبحانه هو القاهر له ؛ لكونه الحقّ المطلق ..

وهذا ما يرمي إليهعليه‌السلام بقوله :(بان من الأشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له ، والرُّجوع إليه) .

ثمّ إنّه استنتج من ذلك ورتّب عليه نفي الصفات عنه تعالى ، فراجع عبارته المتقدّمة .

وقد قالعليه‌السلام في كلام آخر له في معنى الأزل :(واحد لا بعدد ، ودائم لا بأمدٍ ، وقائم لا بعَمَد) (١) ، فبيّنعليه‌السلام بهذا الكلام أنّ دوامه تعالى دوام غير زماني .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ٦٩ ، باب التوحيد وفي التشبيه ، الحديث ٢٦ ، ولكن ورد : (واحدٌ لا من عدد) ، وفي نهج البلاغة : ٢٦٩ ، الخطبة ١٨٥ ، حمد الله تعالى ، فراجع ، ورواه الصدوق في العيون أيضاً : ١ / ١٢١ ، الحديث ١٥ ، باب ما جاء عن الرضا عليّ بن موسىعليه‌السلام ، من الأخبار في التوحيد ، ولكن ورد : (لا من عدد) .

٢٧٩

عدّة مسائل : فلسفية غامضة في كلام لهعليه‌السلام في التوحيد

ومن كلام لهعليه‌السلام في التوحيد :

(دليله آياته ، ووجوده إثباته ، ومعرفته توحيده ، وتوحيده تميّزه من خلقه ، وحكم التمييز بينونة صفةٍ ، لا بينونة عزلةٍ إنّه ربّ خالق غير مربوب مخلوق ، كلّ ما تصوّر فهو بخلافه) .

ثمّ قال بعد ذلك :

(ليس بإله مَن عُرف بنفسه ، هو الدالّ بالدليل عليه ، والمؤدّي بالمعرفة إليه) (١) .

ولعمري إنّ هذا الكلام ليدهش اللُّب ، ويبهر العقل ، ويتضمّن عدّة مسائل من الفلسفة الإلهيّة ، بأوجز بيان ، وأقوم برهان ..

منها : أنّ الواجب (تعالى) يمتنع أن يُعرَف بغيره ، بل هو الدليل على نفسه ، وعلى كلّ شيء ؛ إذ إنّ من الضروري أن تكون دلالة الدليل وتأدية المعرفة مستندة إليه تعالى ، وإلاّ لكان الدليل في خصوص دلالته ، والمعرفة في خصوص تأديتها ، مستقلّين عنه تعالى ـ تعالى الله عمّا يقوله الجاهلون ـ وهذا هو الذي يشير إليهعليه‌السلام بقوله :(الدالّ بالدليل عليه) .

ـــــــــــــ

(١) رواه الطبرسي في الاحتجاج : ١ / ٢٠١ ، احتجاجهعليه‌السلام فيما يتعلّق بتوحيد الله وتنزيهه ممّا لا يليق به ، ولكن ورد : (تمييزه من خلقه) ، بحار الأنوار : ٤ / ٢٥٣ ، الحديث ٧ ، تتمّة كتاب التوحيد ، أبواب أسمائه تعالى وحقائقها ، باب ٤ ـ جوامع التوحيد .

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292