الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة0%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: باقيات
تصنيف: الصفحات: 292
المشاهدات: 53718
تحميل: 6700

توضيحات:

الإنسان والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53718 / تحميل: 6700
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومنها : أنّ الواجب (تعالى) لا تُنال ذاته المقدّسة بالمعرفة ، وإنّما الذي تَناله المعرفة شيء من صفاته ، وقد تقدّمت الإشارة منهعليه‌السلام إلى ذلك بقوله :(دليله آياته) ، وقوله :(ليس بإله مَن عرف بنفسه) .

ومنها : أن الواجب (تعالى) مستغنٍ عن الإثبات ، بل يمتنع ذلك فيه ؛ إذ إنّه تعالى له الوجود الحقّ الذي لا يحدّه شيء ، ومَن كان هذا شأنه يمتنع أن تناله الأذهان ، ويحيط به العقل ، فيكون وجوده الخارجي وإثباته شيئاً واحداً ، ويتّحد فيه الثبوت والإثبات ، فهو متعال عن العلم والجهل الذهنيّين فإمّا أن يكون معلوماً بالذات لا يجهل بحالٍ ، ولا يغيب عن شيء ولا يفقده شيء وإمّا أن يكون مجهول الذات ، جهلاً تامّاً لكنهه تعالى ، لا يغيب عن شيء ، ولا يفقده شيء ، فهو معلوم غير مجهول وقد بيّنعليه‌السلام هذه الحقيقة في كلام آخر له ، فقال :

(المعروف بغير كيفيّة ، ولا يُدرك بالحواسّ ، ولا يُقاس بالناس ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأفكار ، ولا تقدّره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام فكلّ ما قدّره عقل ، أو عرّف له مثل ، فهو محدود) (١) .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ٧٦ ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، الحديث ٣٤ .

٢٨١

وممّا ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المعنى قوله :

(التوحيد : ظاهره في باطنه وباطنه في ظاهره ظاهره موصوف لا يُرى ، وباطنه موجود لا يخفى يُطلب بكلّ مكان ، ولا يخلو منه مكان طرفة عين حاضر غير محدود وغائب غير مفقود)(١) .

وهذا هو السرّ في أنّنا لا نجده (تعالى) يقيم في كتابه المجيد برهاناً على أصل الذات ، وإنّما يبرهن على الصفات ، فيبرهن مثلاً على أنّ للعالم صانعاً وربّاً وخالقاً ومرجعاً ونحو ذلك .

ومنها : أنّ البرهان على وجود الواجب تعالى برهان على توحيده ، فإنّ الذي يدلّ عليه صريح البرهان على وجوده ، هو أنّ الواجب تعالى هو الوجود الحقّ ، غير المحدود بأي حدٍّ على الإطلاق ، وهذا هو بعينه التوحيد فإنّ مَن كان هذا شأنه ، لا يتصوّر له العقل ثانياً ؛ فإنّ حرف الشيء لا يحتمل التعدّد ، وإليه الإشارة بقولهعليه‌السلام :(وعرفته توحيده) .

ومنها : أنّ وحدة الواجب تعالى ليست عددية ، حتّى يتميّز في الوجود عن غيره ، وينفصل عنه بحدٍّ يؤدّي التعدّد بل إنّ وحدته بمعنى : أنّه تعالى لا يشاركه شيء في معنى من المعاني ، فهو ربّ خالق ، منه كلّ شيء ، وبه كلّ شيء ، وإليه كلّ شيء ، وغيره مربوب مخلوق ، منه وبه وإليه وجوده .

وهذه المسألة وأمثالها هي من المسائل التي بقيت مجهولة ، لم تحل منذ دُوّنت في الفلسفة الإلهيّة ، حتّى وُفِّق إلى حلِّها بعض فلاسفة المسلمين المتأخّرين ، مستفيداً من كلامهعليه‌السلام ومهتدياً بنور علمه.

ـــــــــــــ

(١) معاني الأخبار : ١٠ ، باب معنى التوحيد والعدل ، الحديث ١ .

٢٨٢

في علمه تعالى بغيره ، وعلم الغير به ، وتقدّمه على الأشياء

ومن كلامهعليه‌السلام :

(الحمد لله الذي أعجز الأوهام عن أن تنال إلاّ وجوده ، وحجب العقول عن أن تتخيّل ذاته ، في امتناعها عن الشبه والشكل ، بل هو الذي لم يتفاوت في ذاته ، ولم يتبعّض بتجزئة العدد في كماله فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ، وتمكّن منها لا على الممازجة ، وعلمها لا بأداة لا يكون العلم إلاّ بها ، وليس بينه وبين معلومه علم غيره إن قيل : كان ، فعلى تأويل أزليّة الوجود ، وإن قيل : لم يزل ، فعلى تأويل نفي العدم ، فسبحانه وتعالى عن قول مَن عَبَدَ سواه ، واتّخذ إلهاً غيره علوّاً كبيراً) (١) .

يشيرعليه‌السلام في هذا الكلام إلى مسألة : أنّه تعالى معلوم لغيره علماً حضوريّاً لا حصوليّاً ؛ وإلاّ لو كان العلم به حصوليّاً ، فإنّ ذاته تتبعّض إذا عرض له الحصول في الذهن والخارج ، هذا ينافي وحدته ، وتميّزه عن غيره .

ويشير أيضاًعليه‌السلام إلى مسألة أنّه تعالى عالم بغيره علماً حضوريّاً ، من غير توسّط صورة علميّة بينه وبين معلومه ؛ وإلاّ لاحتاج في علمه إلى الصورة ، التي هي الأداة .

ويشيرعليه‌السلام كذلك إلى مسألة تقدّمه على الأشياء بإطلاق وجوده ، المنزّه عن التقييد ، بأي حدٍّ عدلي ، وهو تفسير لأزليّته تعالى .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ٧١ ، باب التوحيد ، ونفي التشبيه ، الحديث ٢٧ روضة الكافي : ٢٠ ، الحديث ٤ ، خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهي خطبة الوسيلة ، باختلاف يسير .

٢٨٣

في بيان معنى صفاته (تعالى) العليا

فمن كلام لهعليه‌السلام في الباب قوله :

(مستشهد بكليّة الأجناس على ربوبيّته ، وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قِدمته ، وبزوالها على بقائه ، فلا لها محيصٌ عن إدراكه إيّاها ، ولا خروجٌ من إحاطته بها ، ولا احتجابٌ عن إحصائه لها ، و امتناعٌ من قدرته عليها كفى بإتقان الصنع لها آية ، وبمركّب الطبع عليها دلالة ، وبحدوث الفِطْر عليها قِدْمَة ، وبإحكام الصَّنعَة لها عِبرة فلا إليه حدّ منسوب ، ولا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه محجوب ، تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوّاً كبيراً) (١) .

توضيح صفاته الثبوتيّة والسلبيّة

فمن كلامهعليه‌السلام في هذا الخصوص قوله :

(مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ ، ولا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ ، ولا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ ولا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وتَوَهَّمَهُ كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ ، وكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ فَاعِلٌ لا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ ، مُقَدِّرٌ لا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ ، غَنِيٌّ لا بِاسْتِفَادَةٍ لا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ ، ولا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ ، والْعَدَمَ وُجُودُهُ ، والِابْتِدَاءَ أَزَلُهُ .

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لا مَشْعَرَ لَهُ ، وبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ ، وبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ ، والْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ ، والْجُمُودَ بِالْبَلَلِ ، والْحرُورَ بِالصَّرَدِ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا ، مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا ، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا ، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ ، ولا يُحْسَبُ بِعَدٍّ ، وإِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا ، وتُشِيرُ الْآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا ، مَنَعَتْهَا (مُنْذُ) الْقِدْمَةَ ، وحَمَتْهَا (قَدُ) الْأَزَلِيَّةَ ، وجَنَّبَتْهَا (لَوْلَا) التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ ، وبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ ولا يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ والْحَرَكَةُ ، وكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ ، ويَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ ، ويَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ ؛ إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ ولَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ ، ولَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ ، ولَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ ، ولَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ ، وإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ ولَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ ، وخَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ ، الَّذِي لَا يَحُولُ ولا يَزُولُ ولا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ) .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ٦٩ ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، الحديث ٢٦ بحار الأنوار : ٤ / ٢٢١ ، الحديث ٢ ، تتمّة كتاب التوحيد ، أبواب أسمائه تعالى وصفاته ، باب ٤ ـ جوامع التوحيد ، باختلاف يسير جدّاً .

٢٨٤

إلى أن قال :

(وإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لا شَيْءَ مَعَهُ ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا ، بِلَا وَقْتٍ ولا مَكَانٍ ، ولا حِينٍ ولا زَمَانٍ عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْآجَالُ والْأَوْقَاتُ ، وزَالَتِ السِّنُونَ والسَّاعَاتُ ، فَلا شَيْءَ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ) (١) .

لقد بيّنعليه‌السلام في كلماته تلك جمل الصفات الثبوتية والسلبيّة كما وأوضحعليه‌السلام أنَّ قبليّته وبعديّته تعالى إنّما هي بالنسبة إلى الخِلقة ، وليس قبليّته وبعديّته تعالى من سنخ القبليّة والبعديّة الزمانيّين وقد أشار إلى هذا في كلامه السابق بقوله :

(وإن قيل : لم يزل ، فعلى تأويل نفي العدم) (٢) .

في رؤيته تعالى

ومن كلام لهعليه‌السلام وقد خاطب به رجلاً يقال له : ذعلب ؛ إذ كان قد قال له : يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربّك ؟ فقالعليه‌السلام :

(ويلك !! لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ويلك يا ذعلب ! إنّ ربّي... لطيف اللّطافة فلا يوصف باللطف ، عظيم العظمة فلا يوصف بالعِظَم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكِبَر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغِلَظ قبل كلّ شيء ، فلا يقال : شيء قبله ، وبعد كل شيء ، فلا يقال : شيء بعده شائي الأشياء لا بهمّة ، درّاك لا بخديعة هو في الأشياء كلّها غير متمازج بها ، ولا بائن عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجلٍّ لا باستهلال رؤية بائن لا بمسافة ، قريب لا بمداناة طيف لا بتجسُّم ، موجود لا بعد عدم فاعل لا باضطرار ، مقدّر لا بحركة ، مريد لا بهمامة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة لا تحويه الأماكن ، ولا تصحبه الأوقات ، ولا تحدّه الصفات ، ولا تأخذه السِّنات سبق الأوقات كونُه ، والعدم وجودُه ، والابتداء أزله .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٢٧٢ ، الخطبة ١٨٦ ، في التوحيد بحار الأنوار : ٧٤ / ٣١٢ ، باب ١٤ ـ خطبه (صلوات الله عليه) المعروفة ، الحديث ١٤ .

(٢) تقدّم في الصفحة ٣١٨ ، في علمه تعالى بغيره وعلم الغير به .

٢٨٥

بتشعيره المشاعر عُرف أن لا مَشْعَر له ، وبتجهيزه الجواهر عُرف أن لا جوهر له ، ، ضادّ النور بالظلمة ، والجَسْوَ بالليل ، والصرد بالحَرُور مؤلّف بين متعادياتها ، مفرِّق بين متدانياتها ، دالّة بتفريقها على مفرّقها ، وبتأليفها على مؤلِّفها ، وقوله عزّ وجلّ : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) ، ففرّق بها بين قبل وبعد ؛ ليعلم أن لا قبل له ولا بعد شاهدة بغرائزها ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها حجب بعضها عن بعض ؛ ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلْقه غير خلْقه كان ربّاً إذْ لا مربوب ، وإلهاً إذ لا مألوه ، وعالماً إذ لا معلوم ، وسميعاً إذ لا مسموع ) .

ثمَّ أنشأعليه‌السلام يقول :

(ولم يزل سيّدي بالحمدِ معروفاً

ولم يزل سيّدي بالجودِ موصوفاً) (٢)

فقد رأينا أنّهعليه‌السلام في كلماته هذه ، قد شرح معنى التشبيه والتنزيه في صفاته تعالى وبيَّنهما أروع شرح ، وأوفى بيان كما وفسّر معنى تعلّق الرؤية به تعالى ، وأنّها ليست بمباشرة الحمم ، ولا باستهلاك نظرة من العين ، ولا بإدراك توصيف من العقل ، بل يُرى بحقيقة الإيمان ويتّضح معنى قوله :(حقيقة الإيمان) من قوله :(حجب بعضها عن بعض ؛ ليُعلم أن لا حجاب بينه وبين خلْقه غير خلْقه) ؛ حيث دلّ كلامه هذا على أنّ الخلْق تحجبهم أنفسهم عنه تعالى أمّا إذا أخلص المؤمن إيمانه لربّه ، ثمّ أكمل الإخلاص له بنفي الصفات عنه (راجع قوله في الفصل الثاني :

(وكال توحيده الإخلاص له) ، ولم يعد قلبُه متعلّقاً بشيء سوى ربّه ، فحينئذٍ لا يبقى شيء يحجب ربَّه عنه ، ويراه بحقيقة الإيمان .

وقولهعليه‌السلام :(حجب بعضها عن بعض ؛ ليُعلم أن لا حجاب بينه وبين خلْقه غير خلْقه) من روائع الكلام الذي لا يسبقه إليه أحد وقد بنى كلامه فيه على ما قدَّمه من كلامه في نفي الحدود التي للمخلوقات ـ نفيها ـ عن خالقها عزّ اسمه .

ـــــــــــــ

(١) سورة الذاريات : الآية ٤٩ .

(٢) توحيد الصدوق : ٣٠١ ، باب حديث ذِعلِب ، الحديث ٢ الكافي : ٢ / ١٥٩ ، باب جوامع التوحيد ، الحديث ٣٤٧ / ٤ ، باختلاف يسير .

٢٨٦

ويوجد نظير هذا البيان في كلام سابع أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام قالعليه‌السلام :

(إنّ الله تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمانٍ ولا مكانٍ ، وهو الآن كما كان ..) .

إلى أن قال :

(ليس بينه وبين خلْقه حجاب غير خلْقه احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور) (١) .

وقد بيّنعليه‌السلام في قوله :(كان ربّاً إذ لا مربوب ، وإلهاً إذ لا مألوه) أنّ لصفات الواجب الإضافيّة تحقّقاً في الذات قبل تحقّق المضاف إليه ، وهذا من غوامض المسائل الفلسفيّة ومعضلاتها .

وفي قوله :(ولم يزل سيّدي بالحمدِ معروفاً) دلالة على أنّ الخِلقة غير منقطعة من جهة أوّلها ، كما أنّها غير منقطعة من جهة آخرها وفيما ورد عنه وعن أبنائه من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، أخبارٌ دالّة على أنّ هذا العالم الموجود مسبوق وملحوق بعوالم أُخر لا يحصيها إلاّ الله سبحانه .

في بيان جُمل من الحقائق

ومن كلام لهعليه‌السلام في بيان جملة من الحقائق المذكورة سابقاً :

(خَلَقَ الله الخلْق فعلّق حجاباً بينه وبينهم ، فبمباينته إيّاهم مفارقته إنيّتهم ، وإبداؤه إيّاهم شاهدٌ على ألاّ أداة فيه ؛ لشهادة الأدوات بفاقة المؤدِّين وابتداؤه إيّاهم دليل على ألاّ ابتداء له ؛ لعجز كلِّ مبتدأٍ عن إبداء غيره.

أسماؤه تعبير ، وأفعاله تفهيم ، وذاته حقيقة ، وكُنهه تفرقةٌ بينه وبين خلْقه ، قد جهل اللهَ مَن استوصفه ، وتعدّاه مَن مثّله ، وأخطأه مَن اكتنهه .

فمَن قال : أين ؟ فقد بوّأه ، ومَن قال : فيمَ ؟ فقد ضمّنه ، ومَن قال : إلى مَ ؟ فقد نهاه ، ومَن قال : لِمَ ؟ فقد علّله ، ومَن قال : كيف ؟ فقد شبّهه ، ومَن قال : إذ ، فقد وقّته ، ومَن قال : حتّى ، فقد غيّاه) .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ١٧٤ ، باب نفي المكان والزمان والسكون والحركة ، الحديث ١٢ بحار الأنوار : ٣ / ٣٢٧ ، كتاب التوحيد ، باب ١٤ ـ نفي الزمان والمكان والحركة والانتقال عنه تعالى ، الحديث ٢٧ .

٢٨٧

إلى أن قال :

(لا يتغيّر الله بتغيير المخلوق ، كما لا يتحدّد بتحديد المحدود أحدٌ

لا بتأويل عدد ، صمدٌ لا بتبعيض بَدَد باطنٌ لا بمداخلة ، ظاهر لا بمزايلة ، متجلٍّ لا باشتمال رؤية) (١) .

في معنى الخِلْقَة

ومن كلامهعليه‌السلام في معنى الخِلْقَة :

(لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة ، ولا من أوائل أبدية ، بل خَلَق ما خَلَق فأقام حدَّه ، وصوّر ما صوّر فأحسن صورَته ليس لشيء منه امتناعٌ ، ولا له بطاعة شيء انتفاعٌ) (٢) .

ينفيعليه‌السلام في كلامه هذا أنّ الخِلْقَة إنّما هي عمليّة تركيب وتفريق ، يقعان من الواجب تعالى على المادة القديمة الثابتة المستغنية في وجودها عن الواجب ؛ وبنى بيان ذلك على لزوم إطاعتها للفعل ، فأخر كلامه برهان على أوّله .

ـــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٦٢ ، باب ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ـ خطبتهعليه‌السلام في إخلاص التوحيد التوحيد : ٣٧ ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، الحديث ٢ ، باختلاف يسير .

(٢) نهج البلاغة : ٢٣٣ ، الخطبة ١٦٣ ، ابتداع المخلوقين بحار الأنوار : ٤ / ٣٠٦ ، أبواب أسمائه تعالى وحقائقها وصفاتها ـ باب ٤ : جوامع التوحيد ، الحديث ٣٥ .

٢٨٨

حول ما وراء الطبيعة

ومن كلامهعليه‌السلام ـ وقد سُئل عن العالم العلوي ـ :(صور عارية عن المواد ، خالية عن القوّة والاستعداد ، تجلّى لها فأشرقت ، وطالعها فتلألأت) (١) .

تكاد تجمع الأبحاث والدراسات العقليّة في الفلسفة الإلهيّة ، على إثبات موجودات متوسّطة بين الواجب تعالى وعالم المادة ، تكون نسبتها إلى الماديّات ـ من جهة ـ نسبة الكمال إلى المستكمِل ؛ إذ إنّ الأوّل الكمال فيه فعلي ، والكمال في الثاني تدريجي غير مجتمع فيه .

ومن جهة ثانية نسبتها إلى الماديات نسبة الجسم الصيقلي إلى الجسم غير الصيقلي (الخشن) ، حيث نرى أنّ الصيقلي يرد أشعة الشمس الساطعة عليه ويعكسها دون الخشن .

وهذه الموجودات المتوسّطة تتقبّل الفيوضات من الواجب تعالى ، ثمّ تعكسها وتردّها إلى ما دونها ؛ وذلك لفعليّة الكمال فيها وتدريجيّته فيما دونها .

وهذا البحث متشّعب وطويل ، مذكور في محلّه من الكتب الفلسفيّة ، وكلامهعليه‌السلام أوجز كلام ، يتضمّن الحقائق التي أثبتتها البراهين والأدلّة في هذا الباب .

ـــــــــــــ

(١) تقدّم في الصفحة ٣٠٠ ، الهامش رقم ٣ ، فراجع .

٢٨٩

الفهرست

مقدِّمة التحقيق. ٢

الميزة الأُولى : موضوعه ٣

الميزة الثانية : مؤلّفه ٥

الإنسان قبل الدنيا ٨

الفصل الأوّل : العِلَّة والمعلول. ٩

الفصل الثاني : بين الخلْق والأمر ١٠

خاتمة تناسب ما مرّ من الكلام ٢٧

الإنسان في الدنيا ٣٦

الفصل الأوّل : صُوَر علومنا الذهنيّة ٣٦

الفصل الثاني : حياة الإنسان ظرف نفسه ٤١

الإنسان بعد الدُّنيا ٤٧

الفصل الأوّل : في الموت والأجل. ٤٨

الفصل الثاني : في البرزخ. ٦٣

الفصل الثالث: في نفخ الصُّورِ ٧٤

الفصل الرابع: في صفات يوم القيامة ٨٥

الفصل الخامس: في قيام الإنسان إلى فصل القضاء ٩٧

الفصل السادس: في الصراط. ١٠١

الفصل السابع: في الميزان. ١٠٥

الفصل الثامن: في الكتب.. ١٠٨

الفصل التاسع: في الشهداء يوم القيامة ١١٨

الفصل العاشر : في الحساب.. ١٣١

الفصل الحادي عشر : في الجزاء ١٣٨

٢٩٠

الفصل الثاني عشر: في الشفاعة ١٤٤

القول في أقسام الشافعين. ١٥٣

الفصل الثالث عشر: في الأعراف.. ١٥٨

الفصل الرابع عشر: في الجنّة ١٦٦

الفصل الخامس عشر: في النار ١٧٣

الفصل السادس عشر: في عموم المعاد ١٧٧

خاتمة : ١٨٣

رسالة الولاية ١٨٣

تمهيد : ١٨٤

الفصل الأوّل : في أنّ لظاهر هذا الدين باطناً ، ولصورته الحقّة حقائق. ١٨٤

الفصل الثاني : في أنّه حيث لم يكن النظام نظام الاعتبار ، فكيف يجب أن يكون الأمر في نفسه ؟ ١٩٢

الفصل الثالث : [وسائل الاتّصال بالعالم الغيبي وطرق معرفته] ١٩٩

الفصل الرابع : في أنّ الطريق إلى هذا الكمال ـ بعد إمكانه ـ ما هو؟ ٢٠٧

الفصل الخامس : فيما ناله الإنسان بكماله ٢٣٥

تتمّة : ٢٣٦

عليٌ عليه‌السلام والفلسفة الإلهية ٢٥٠

تقديمٌ : ما معنى الفلسفة الإلهية ؟ ٢٥١

الدين والفلسفة ٢٥٣

فلسفة الإسلام الإلهية ، أو كمال الفلسفة ٢٥٦

القضاء قضاءان : حقوقي وعلمي. ٢٥٨

قياس المأثور من كلامه عليه‌السلام بكلام غيره ٢٦٦

نماذج من كلامه عليه‌السلام في الفلسفة الإلهيّة ٢٧٠

٢٩١

أُسلوب التحقيق العلمي ، وطريق السير إلى الحقيقة ٢٧١

المراحل الخمس لمعرفة الله تعالى. ٢٧٣

في تحقيق معنى التوحيد. ٢٧٨

عدّة مسائل : فلسفية غامضة في كلام له عليه‌السلام في التوحيد. ٢٨٠

في علمه تعالى بغيره ، وعلم الغير به ، وتقدّمه على الأشياء ٢٨٣

في بيان معنى صفاته (تعالى) العليا ٢٨٤

توضيح صفاته الثبوتيّة والسلبيّة ٢٨٤

في رؤيته تعالى. ٢٨٥

في بيان جُمل من الحقائق. ٢٨٧

في معنى الخِلْقَة ٢٨٨

حول ما وراء الطبيعة ٢٨٩

٢٩٢