الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة13%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56572 / تحميل: 7205
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

يؤكّد كون الرواية لم تنقل كاملة ـ بل سقطت منها الكلمة التي هي على خلاف أهداف وأهواء القوم ـ ما أخرجه القندوزي الحنفي عن جابر بن سمرة قال : ( كنت مع أبي عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول: ( بعدي أثنا عشر خليفة ) ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي ما الذي أخفى صوته ؟ قال : قال : ( كلهم من بني هاشم ) ، وعن سماك بن حرب مثله )(١) ، ومن ذلك يتضح أنّ كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) كانت موجودة في الحديث ، ولعلّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( كلّهم من قريش من بني هاشم ) ، وهذا ما استشعره بعض علماء السنّة كابن الجوزي ، حيث قال في ( كشف المشكل ) : ( قد أطلت البحث عن معني هذا الحديث ، وتطلّبت مظانه ، سألت عنه ، فلم أقع على المقصود به ؛ لأنّ ألفاظه مختلفه ، ولا أشك أنّ التخليط فيها من الرواة )(٢) ، ويدعم هذا القول ما ذهب إليه ابن العربي ، بعد عجزه عن تفسير حديث الاثني عشر ، تفسيراً واقعياً ، قال : ( ولعلّه بعض حديث )(٣) ، ممّا يؤكّد سقوط كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) من الحديث .

٧ – الاثنا عشر خليفة أمان لأهل الأرض ، إذا ذهبوا ماجت الأرض بأهلها ، وإذا مضوا لا يبقى الدين قائماً ، ويفقد المسلمون منعتهم وصلاحهم ، وهذه المعاني التي جاءت في حديث الاثني عشر تلتقي وتلائم تمام الملائمة مع الروايات التي نقلها الفريقان بحق أهل البيت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ٣١٥ ح ٩٠٨ .

(٢) نقلاً عن فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٣ .

(٣) شرح صحيح الترمذي : ج ٩ ص ٦٨ .

١٢١

أهل الأرض ) (١) .

٨ ـ قد افترضت نصوص الاثني عشر أنّ أولئك الخلفاء ( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) ، كما فهم هذا المعنى أيضاً ابن كثير في تفسيره عندما قال : ( ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ، ويعدل فيهم )(٢) ، ولا يجد المتتبّع تفسيراً واحداً من التفاسير لهذا الحديث ، يجمع فيه اثني عشر خليفة كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، خصوصاً مع ما ذكرناه من وجوب كون أولئك الخلفاء سلسلة متكاملة ، ومتناسقة ومتوالية زماناً ، وهذا ما يثبت لنا عدم مصداقية أي تطبيق واقعي للحديث ، سوى أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين جعلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هداة مهديين من بعده ، وأمر بالتمسّك بهديهم ، وجعلهم عِدلاً للقرآن الكريم لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض .

٩ ـ من الخصائص المهمّة التي تضمّنتها أحاديث الاثني عشر قيموميّة أولئك الخلفاء على الدين والأمة ( اثنا عشر قيماً ) ، ولا شك أنّ القيموميّة تستدعي الرقابة والوصاية على الدين ، وعلى الأمّة الإسلامية ، وهذا المعنى لم يُدّع لأحد ، ولا ادّعاه غير أهل البيتعليهم‌السلام ، وهذا هو مقتضى كونهم عِدلاً للقرآن الكريم ، وأيضاً مقتضى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( في كل خلوف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ ؛ انظر : المستدرك : الحاكم : ج ٢ ص ٤٤٨ ؛ قال فيه : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٠ ص ٢٠ ؛ النزاع والتخاصم : المقريزي : ص ١٣٢ ؛ وغيرها .

(٢) تفسير ابن كثير : ج ٢ ص ٣٤ .

١٢٢

توفدون ) (١) .

١٠ ـ إنّ الصخب ، واللغط ، والضجّة المفتعلة ، وقيام القوم وقعودهم ، وتصميتهم لجابر والحاضرين يثير الانتباه ، ويستدعي الريب ، ويكشف أنّ في الأمر شيئاً ، لا يريد القوم وصوله إلى مسامع الحاضرين ، ولم تكن هذه الحادثة فريدة نوعها ، بل فعل ذلك القوم أيضاً عندما ضجّوا ، وتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما قال :( ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً ) ، فوقعت حينها الضجّة المفتعلة ، حتى قال بعضهم : إنّ النبي ليهجر ، وليس ذلك إلاّ للحرص على الخلافة ، وطمعاً بالملك والسلطان والإمارة وهو الذي قد أخبر عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مخاطبته لأصحابه بقوله :( إنّكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ) (٢) .

١١ ـ حديث ابن مسعود المتقدّم ، يكشف عن أنّ الصحابة هم الذين سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخلفاء من بعده ، وهذا يلفت النظر إلى نقطتين :

الأُولى : أنّه ليس من المنطقي أن يسأل الصحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأُمراء الذين يتسلّطون على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، وهو ذلك الرسول العظيم الذي ختم الرسالات فلا نبي بعده .

إذن لابد أن يكون السؤال عن الخلفاء الذين نصّبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده ، وهم أهل بيتهعليهم‌السلام بنص حديث الغدير وحديث الثقلين وغيرهما ، وهذا ديدن وطريقة اعتادها الصحابة آنذلك ، فقد سألوا أبا بكر وعمر عن الذي يلي الأمر من بعدهما .

ـــــــــــــ

(١) الصواعق المحرقة : ٢٣١ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٤ ص ٣٥٥ ح ٧١٤٨ ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٠ ص ٣٣٤ ؛ وغيرهما من المصادر الكثيرة .

١٢٣

الثانية : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد من الإمرة والخلافة من يكون مؤهّلاً ومستحقّاً لها ، فلا معنى لحمل الحديث على أمثال معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم ، الذين عاثوا في الأرض فساداً ، ولعبوا بمقدّرات الأمة الإسلامية بما شاءوا ورغبوا ، فالمراد من الخليفة هو مَن يستمد سلطته من الشارع الأقدس ، ومن أجل ذلك ذكر شارح سنن أبي داود في شرحه ( عون المعبود ) أنّ : ( السبيل في هذا الحديث ، وما يتعقّبه في هذا المعنى أن يحمل على المقسطين منهم ، فإنّهم هم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة )(١) .

١٢ ـ بعد أن صدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع بذكر الخلفاء من بعده ، وأنّهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ومن بني هاشم ، وكلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، لم يكتف بذلك ـ ولعلّه لما حصل من الضجّة واللغط المفتعل ـ بل قام خطيباً ، بعد رجوعه من حجّة الوداع في طريقه إلى المدينة في غدير خم ، ونصّب عليّاً خليفة من بعده ، فعيّن أوّل خليفة من الخلفاء الاثني عشر ، وبادر بعد ذلك قائلاً : ( إنّي تارك فيكم الخليفتين من بعدي ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) (٢) ، حينها عرف الناس مَن هم الخلفاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتمّ بذلك الحجّة على الخلق ، لكي يسدّ بذلك منافذ الريب والتشكيك ، ولئلاّ يقول أحد : إنّي لم أسمع ، أو خفي علي ، أو صمّنيها ، أو صمّتنيها الناس !! .

ـــــــــــــ

(١) عون المعبود : ج ١١ ص ٢٤٥ .

(٢) المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٦ ص ٣٠٩ ، كتاب السنّة ، عمرو بن أبي عاصم: ص ٣٣٧ ح ٧٥٤ ص ٦٢٩ ح ١٥٤٩ ؛ مسند أحمد : ج ٥ ص ١٨٢ ؛ المعجم الكبير: ج ٥ ص ١٥٣ ح ٤٩٢١ ص ١٥٤ ح ٤٩٢٢ ؛ مجمع الزوائد : ج ١ ص ١٧٠ قال الهيثمي : ( رواه الطبراني ورجاله ثقات ) ، وكذا في ج ٩ ص ١٦٢ ، وقال في ص ١٦٣ : ( رواه أحمد وإسناده جيّد ) ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ٤٠٢ ح ٢٦٣١ ؛ الدر المنثور : ج ٢ ص ٢٨٥ .

١٢٤

١٣ ـ ما ورد من الأحاديث المتضافرة التي نصّت على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، والتي تناولت الأئمّة الاثني عشر بذكر أسمائهم على نحو التفصيل ، وهي كثيرة جدّاً نكتفي بذكر بعضها :

١ ـ ما جاء في فرائد السمطين للحمويني المصري(١) : ( عن مجاهد عن ابن عباس قال : قدم يهودي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له : نعثل ، فقال : يا محمد إنّي أسألك عن أشياء ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن وصيّك مَن هو ؟ ، فما من نبي إلاّ وله وصي ، وإنّ نبيّنا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون ، فقال :نعم ، إنّ وصيي والخليفة من بعدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وبعده سبطاي : الحسن ثم الحسين ، يتلوه تسعة من صلب الحسين أئمّة أبرار ، قال : يا محمد فسمّهم لي ؟

قال :نعم ، إذا مضى الحسين فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، فإذا مضى محمد فابنه جعفر ، فإذا مضى جعفر فابنه موسى ، فإذا مضى موسى فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، ثم ابنه علي ، ثم ابنه الحسن ، ثم الحجّة ابن الحسن ، أئمّة عدد نقباء بني اسرائيل ، فهذه اثنا عشر )(٢) .

٢ ـ ونقل الحمويني أيضاً في فرائده : عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أيّها الناس

ـــــــــــــ

(١) أطرى عليه الذهبي ت / ٧٤٨ هـ في تذكرة الحفاظ قال : الإمام المحدث الأوحد الأكمل فخر الإسلام صدر الدين ، إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخراساني الجويني شيخ الصوفية كان شديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الاجزاء ، حسن القراءة مليح الشكل مهيباً ديّناً صالحاً مات سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة تذكرة الحفّاظ ، الذهبي : ج ٤ ص ١٥٠٦ .

(٢) فرائد السمطين ، الحمويني : ج ٢ ص ١٣٣ ص ١٣٤ ح ٤٣١ ، وبنفس الألفاظ ما جاء في ينابيع المودة للقندوزي ، ج ٣ ص ٢٨٢.

١٢٥

إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أنصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيي وخليفتي ولكن أوصيائي منهم : أوّلهم أخي ، ووزيري ، ووارثي ، وخليفتي في أُمّتي ، وولي كل مؤمن بعدي ، هو أوّلهم ثم ابني الحسن ، ثم ابني الحسين ، ثم التسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد حتى يردوا عليّ الحوض ) (١) ـ وهكذا ينقل الحمويني ذلك في مواطن عديدة ، وروايات عديدة وبطرق مختلفة ؛ فراجع .

٣ ـ الحافظ أبو محمد بن أبي الفوارس في كتابه ( الأربعين )(٢) .

كذلك أخرج ذكر الخلفاء من أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسمائهم .

٤ ـ العلاّمة أبو مؤيد موفق بن أحمد المتوفّى (سنة ٥٦٨) في كتابه ( مقتل الحسين ) : ذكر الخلفاء أيضاً بأسمائهم المتقدّمة(٣) .

٥ ـ العلاّمة فاضل الدين محمد بن محمد بن إسحاق الحمويني الخراساني في ( منهاج الفاضلين )(٤) .

٦ ـ كذلك الحمويني في ( درر السمطين )(٥) .

٧ ـ العلاّمة الشيخ إبراهيم بن سليمان في كتاب ( المحجّة على ما في

ـــــــــــــ

(١) فرائد السمطين ، الحمويني ، السمط الأول : ج ١ ص ٣١٥ ـ ٣١٨ ح ٢٥٠ .

(٢) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٥٩ ؛ نقلاً عن كتاب الأربعين ، ابن أبي الفوارس : ص ٣٨ .

(٣) مقتل الحسين ، الخوارزمي : ص ١٤٦ ـ ١٤٧ .

(٤) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٦٨ ؛ نقلاً عن كتاب منهاج الفاضلين ، الحمويني : ص ٢٣٩ .

(٥) شرح إحقاق الحق ، السيد المرعشي النجفي : ج ٤ ص ٩٣ ـ ٩٤ ؛ نقلاً عن كتاب درر السمطين ، الحمويني : ص ٧٢٢ .

١٢٦

ينابيع المودّة )(١) ، أيضاً ذكرهم بأسمائهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٨ ـ العلاّمة المولى محمد صالح الكشفي الحنفي الترمذي ، في كتابه ( المناقب الرضوية )(٢) .

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي تؤكّد هذا المعنى .

وعلى ضوء ما سلف ، يتحصّل أنّ العترة الطاهرة يمثّلون امتداداً طبيعياً لحركة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع أبعاد الحياة ، وقد فرضوا شخصيّتهم رغم أنف الأعداء ، وقد أجمعت الأمة على أعلميّتهم وأهليّتهم للخلافة ، وأنّهم الأسوة الحسنة ، ويعد ذلك من أفضل الأدلة لإثبات أحقيّتهم ، وأهليّتهم للإمامة والقيادة ، وعصمتهم ؛ لأنّهمعليهم‌السلام جسّدوا النظرية الإسلامية على الواقع العملي ، فعندما نرصد حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، وكيف كانوا إسلاماً متحركاً على الأرض ، وقرآناً ناطقاً يعيش بين الناس ؛ نستنتج مباشرة أن هذا المستوى الرفيع من الأسوة والقدوة لا يمكن أن تعكسه إلاّ شخصيات معصومة ، استجمعت فيها الصفات التي تؤهّلها لأن تكون منبع الهداية للبشرية ؛ لذا أجمعت الأمة على أنّ هؤلاء العترة لهم من الخصائص والمميزات ما لم تكن لغيرهم ، رغم ما عانوه من ظلم واضطهاد ، فهم الذين تنطبق عليهم خصوصيات الاثني عشر ، التي بيّنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث الأثني عشر المتقدمة ، ولكن أصحاب المطامع آلوا على أنفسهم إلاّ أن يُقصوا وينحّوا أهل البيتعليهم‌السلام عن مناصبهم ومراتبهم التي رتّبهم الله فيها ، ولم يكتفوا بذلك بل تمادوا في تعريض أهل البيتعليهم‌السلام لألوان الظلم والاضطهاد ، والمعاملة السيّئة الفظّة الغليظة ، التي يندى لها الجبين ، وتعتصر منها القلوب ألماً ومرارة ، ولم يكن لهم ذنب سوى أنّهم كانوا الامتداد الإلهي لخط الرسالة ، وكانوا أمناءها ، والرقباء عليها ، فهم الثقل الموازي للقرآن الكريم .

ـــــــــــــ

(١) المحجّة على ما في ينابيع المودّة ، الشيخ هاشم بن سليمان : ص ٤٢٧ .

(٢) المناقب المرتضوية ، محمد صالح الترمذي : ص ١٢٧ .

١٢٧

إذن ، ينبغي علينا كمسلمين أن نستنير بنور هؤلاء الهداة الميامين ، ونكون بذلك ممتثلين لأوامر الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وممّا تقدّم اتضحت الإجابة بخصوص ما قد يقال : من أنّ وصف عزّة الإسلام بأولئك الخلفاء الاثني عشر لا ينطبق على أئمّة الشيعة ، حيث الموقع السامي والريادي والمكانة العظيمة التي يمتلكها أهل البيتعليهم‌السلام في نفوس الأمة الإسلامية ، وهو ما أكّده علماء السنّة في أغلب كتبهم ، وبالإضافة إلى ذلك نقول :

إنّ عزة الإسلام وصلاحه وبقائه إلى قيام الساعة ، من المهام ، والوظائف الأساسية ، التي أناط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسؤوليتها ، وتحقيقها بأهل البيتعليهم‌السلام ، كما يكشف عن ذلك حديث الثقلين وحديث الغدير ، وأنّهم عِدل القرآن ، وأنّ النجاة والأمان والعزّة عند الله لا تنال إلاّ بالاعتصام والتمسّك بهم ، ومَن يتبعهم يكون عزيزاً بعزّة الله ، مرضيّاً عنده تعالى .

كما أخرج ذلك الحاكم في مستدركه ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ) (١) ، ثم علّق عليه قائلاً : هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٤٩ .

١٢٨

وبنفس المضمون ما ورد في عدّة كثيرة من المصادر عن عمر : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( في كل خلوف من أُمّتي عدول أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن توفدون ) (١) .

وعن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنّة عدن ، غرسها ربّي ، فليوال عليّاً ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً ، ويل للمكذبين بفضلهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ) (٢) .

وعن عمار بن ياسر ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أوصي مَن آمن بي وصدّقني بولاية علي بن أبي طالب ، مَن تولاّه فقد تولاّني ، ومَن تولاّني فقد تولّى الله عزّ وجلّ ، ومَن أحبّه فقد أحبّني ، ومَن أحبّني فقد أحبّ الله تعالى ، ومَن أبغضه فقد أبغضني ، ومَن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجلّ ) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : ( رواه الطبراني بإسنادين أحسب فيهما جماعة ضعفاء ، وقد وثقوا )(٣) .

وقد أخرجها ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق بطرق كثيرة(٤) .

وعن وهب بن حمزة قال : ( صحبت عليّاً إلى مكة فرأيت منه بعض ما أكره ، فقلت لأن رجعت لأشكونّك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قدمت لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــ

(١) ذخائر العقبى ، محي الدين الطبري : ص ١٧ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣٥٢ ؛ رشفة الصادي ، أبو بكر الحضرمي : ص ١٧ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ١١٤ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٢ ص ٢٤٠ ؛ حلية الأولياء ، الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : ج ١ ص ٨٦ .

(٣) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٨ ، ١٠٩ .

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٢ ص ٢٣٩ وما بعدها .

١٢٩

فقلت : رأيت من علي كذا وكذا ، فقال :لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي )(١) .

وعن زيد بن أرقم قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فإنّ ربّي عزّ وجلّ غرس قصباتها بيده ، فليتولّ علي بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هديي ولن يدخلكم في ضلالة ) (٢) ، قد أخرجه الحاكم في المستدرك وقال عنه : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة ، والروايات المتواترة معنىً ومضموناً ، مع صحّتها وصراحتها ، وأدنى ما نجيب عمّن أراد التشكيك بها : أنّها تفيد القطع واليقين ؛ لتعدّد ألفاظها ، وكثرة طرقها ، والمصادر التي نقلتها ، فهي أحاديث نبويّة يقوّي بعضها بعضاً لإثبات مضمونها بالقطع واليقين ، وهو وجوب التمسّك بولاية أهل البيتعليهم‌السلام واتّباع هديهم .

إذن بأهل البيتعليهم‌السلام وباتباعهم تتحقق عزّة الإسلام ، والحفاظ على وجوده الحقيقي وقيمه ومبادئه الأصيلة ، من التقوى والإخلاص والاستقامة والصلاح وغيرها من المعارف الروحية والقيم الأخلاقية ، وليست عزّة الإسلام بالتظاهر بالإسلام ، واتخاذه شعاراً للتسلّط على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، ومن هنا نجد أنّ الحكم الإسلامي على يد الظلمة تحوّل إلى ما كان عليه قبل الإسلام من كونه ملكاً عضوضاً لا يحمل من قيم الإسلام شيئاً .

إذن عزّة الإسلام لا تتحقق إلاّ في حفظ الإسلام الحقيقي ، الذي لا يتحقق إلاّ باتباع أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٢٢ ص ١٣٥ ؛ مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٠٩ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٤ ص ٤٧٠ ـ ٤٧١ .

(٢) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ١٩٤ .

(٣) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٣٠ .

١٣٠

الأُمّة لم تجتمع على أهل البيتعليهم‌السلام

وأمّا عبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) ، وأنّ أهل البيتعليهم‌السلام ما أجتمعت عليهم الأُمّة فجوابها :

١ ـ إنّ رواية الاثني عشر خليفة المتضمّنة لعبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) لم ترد في الكتب الحديثية ، والمصادر السنّية ، إلاّ في سنن أبي داود ومسند البزار ، ولم يخرجاها إلاّ بسند واحد ضعيف ، كما ذكر ذلك الألباني ، في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حيث قال : ( وأخرجه أبو داود ( ٢ / ٢٠٧) من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبيه ، عن جابر بلفظ : لا يزال هذا الدين قائماً ، حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ، كلهم تجتمع عليه الأمة ، كلّهم من قريش ، وأخرجه البزار (١٥٨٤ ـ كشف) عن أبي جحيفة نحوه ، وهذا سند ضعيف ، رجاله كلهم ثقات ، غير أبي خالد هذا ، وهو الأحمسي ، وقد تفرّد بهذه الجملة ( كلهم تجتمع عليه الأمة ) ، فهي منكرة )(١) ، والتضعيف ذاته ذكره أيضاً في تعليقته على سنن أبي داود ، حيث قال بعد أن أورد الحديث : ( صحيح : دون قوله ( تجتمع عليه الأمة ) )(٢) .

٢ ـ من الشواهد التي تؤكّد عدم صحّة صدور هذه العبارة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عدم انطباقها على الواقع أصلاً ، حيث لم نجد شخصاً اجتمعت عليه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل البعض ممّن ادعي كونه من الخلفاء الاثني عشر ، لم يجتمع عليه أغلب الأمة ، فضلاً عن جميعها .

ـــــــــــــ

(١) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، الألباني : مج ١ ، ق ٢ ، ص ٧٢٠ ح ٣٧٦ .

(٢) صحيح سنن أبي داود الألباني : ج ٣ ص ١٩ ح ٤٢٧٩ .

١٣١

ولذا قال ابن كثير في البداية والنهاية ( فإن قال : أنا لا اعتبر إلاّ مَن اجتمعت الأمة عليه ، لزمه على هذا القول أن لا يعد علي بن أبي طالبعليه‌السلام ولا ابنه ؛ لأنّ الناس لم يجتمعوا عليهما ؛ وذلك أنّ أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما ، ولم يقيّد بأيام مروان ، ولا ابن الزبير كأنّ الأمّة لم تجتمع على واحد منهما )(١) .

وهذا ما اعترف به ابن حجر العسقلاني أيضاً في فتح الباري(٢) .

٣ ـ إن أكثر مَن أدعي اجتماع الأمة عليه ، كيزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، والوليد ، و مروان الحمار ، وغيرهم لم يكن متوفّراً على خصائص الخلفاء الاثني عشر ، من كونهم يعملون بالهدى ودين الحق ، وأنّهم قيّمون على الدين ، والدين قائم بهم ، وغير ذلك من الصفات السامية ، التي تقدّم ذكر بعضها .

الخلاصة

١ ـ إنّ حديث الاثني عشر ، حقيقة صادرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تواترت الروايات من الفريقين بنقلها بألسن مختلفة ، كلّها تشير إلى مضمون واحد ، ومن هذه الروايات قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٦ ص ٢٨٠ .

(٢) فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٢ .

(٣) مسند أحمد : ج ٥ ص ٩٧ ص ١٠٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ٦١٨ ؛ انظر : مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٥ ص ١٩٠ وقد صحّحه .

١٣٢

٢ ـ إنّ أهل السنّة لم يتمكّنوا أن يقدّموا تفسيراً واقعيّاً لحقيقة الاثني عشر خليفة ، وإنّ تفسيراتهم المضطربة والمتناقضة فيما بينها خير شاهد على عجزهم عن فهمها وتفسيرها ، على الرغم ممّا ارتكبوه من تكلّف ظاهر على حدّ تعبير بعضهم ، لا سيّما وأنّ البعض(١) قد أوكل تفسير حديث الاثني عشر إلى الله تعالى بعد أن عجز عن تفسيره تفسيراً صحيحاً .

٣ ـ إنّ الخصائص والمميزات التي تحملها أحاديث الاثني عشر ، لا تنطبق في الواقع الخارجي إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام ، فمثل صفة ( صلاح أمر الأُمّة والناس بهم ) و( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) و( إذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) ، ونحوها ، لا تنسجم ولا تنطبق إلاّ على عترة أهل البيتعليهم‌السلام ، فضلاً عمّا يحمله أهل البيتعليهم‌السلام من خصائص ومميّزات استثنائية ، وما يحملونه من مؤهّلات علمية وعملية بإجماع أهل العلم ، وعلى جميع المستويات الفكرية والروحية ونحوها ، كل هذا يؤكّد ويدعم كون حديث الاثني عشر لا يمكن انطباقه إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) شرح صحيح مسلم ، النووي : ج ١٢ ص ٢٠٣ .

١٣٣

الفصل الثالث: غيبة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشّريف)

الشبهة :

١ ـ ما الفائدة من وجود إمام غائب ؟

٢ ـ إنّ الحجّة عند الشيعة لا تقوم إلاّ بإمام ، فكيف يترك الإمامة ويغيب ؟

الجواب :

قبل البدء ينبغي ذكر تمهيد مختصر له مدخليّة في الإجابة .

تمهيد :

إنّ الشريعة التي جاء بها الدين الإسلامي ما هي ـ في مجملها ، وحقيقتها ، وبكل جوانبها ـ إلاّ خطّة إلهيّة أُعدّت بإحكام ، ووُضعت من أجل ترشيد المجتمع البشري نحو الأصلح والأقوم ، وبلوغ السعادة في الدارين .

وقد وعد الله تعالى البشرية ـ التي عانت طوال حياتها من الظلم ، والجور ـ أن يسودها العدل والأمان في الأرض .

قال تعالى :( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ) (١) .

وقال تعالى أيضاً :( وَنُرِيدُ أَن نمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٢) .

إلاّ أنّ تحقق هذا الهدف على أرض الواقع يتوقّف على توفّر شرائطه ، التي شاء الله عزّ وجلّ بحكمته أن تكون من طرقها الطبيعية ، وضمن ما هو المألوف ، لا بشكل إعجازي وخارق لما هو المعتاد .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٣٣ .

(٢) القصص : ٥ .

١٣٤

وحيث إنّ الله تعالى ـ لحكمته ولطفه بعباده ـ قد نصّب أولياء هداة معصومين ، يمثّلون امتداداً طبيعياً للرسالة المحمّديّة ، فهم أُمناء الوحي والرسالة ، وحجّة الله على العباد ، وهم الأئمّة الاثنا عشرعليهم‌السلام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوّلهم الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وآخرهم الإمام المهديعليه‌السلام ، وقد ثبت ذلك مسبقاً ، بمقتضى عدد وافر من الآيات القرآنية ، كآية الولاية ، وآية أُولي الأمر ، وآية التطهير ، وآيات البلاغ في الغدير ، وآية المودّة في القربى(١) وغيرها ، مضافاً إلى عدد كبير جداً من الأحاديث النبويّة التي رواها أصحاب الصحاح من أهل السنّة ، كحديث الثقلين المتواتر الذي مفاده أنّ أهل البيتعليهم‌السلام لن يفترقوا عن القرآن حتى يردوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض(٢) ، فكما أنّ القرآن باقٍ إلى يوم القيامة كذلك أهل البيتعليهم‌السلام ، وكحديث الخلفاء الاثني عشر (كلّهم من قريش)(٣) ، وحديث السفينة(٤) ، وأهل بيتيعليهم‌السلام أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض(٥) وأتاهم ما يوعدون ، وغير ذلك من الأحاديث الدالّة على بقاء الإمامة الإلهية ، واستمرارها في الأرض .

ـــــــــــــ

(١) الآيات : المائدة : ٥٥ ، النساء : ٥٩ ، الأحزاب : ٣٣ ، المائدة : ٦٧ .

(٢) السنن الكبرى ، النسائي : ج ٥ ص ٤٥ ص ١٣٠ ؛ خصائص أمير المؤمنين : النسائي : ص ٩٣ ؛ المعجم الصغير ، الطبراني : ج ١ ص ١٣١ ص ١٣٥ .

(٣) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٥ ص ٨٧ ـ ٨٨ .

(٤) مجمع الزوائد : الهيثمي ، ج ٩ ص ١٦٨ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ج ٦ ص ٨٥ .

(٥) شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ، ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ .

١٣٥

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ خلفائي ، وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي ، الاثنا عشر ، أوّلهم عليّ ، وآخرهم ولدي المهدي ) (١) .

وشاءت الإرادة الإلهية أن يكون الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ـ الذي يمثّل الحلقة الأخيرة من سلسلة الأئمّة الهداة ـ مصلحاً للبشرية ، ومحققاً للهدف النهائي ، والثمرة الكبيرة والمرجوّة من رسالات السماء وبعث الأنبياء ، قال تعالى :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللهَ قَوِيّ عَزِيزٌ ) (٢) .

إذن فلابدّ ـ بحسب التخطيط الإلهي ـ من إقامة العدل ، والسلام في العالم ، بعد انتشار الظلم والجور والفساد في ربوع الأرض وأرجائها ، وهو ما نشاهده ونراه بالحس والعيان في كل حدب وصوب ، وهذا ما يتطابق مع ما تنبّأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( تملأ الأرض ظلماً وجوراً ، ثم يخرج رجل من عترتي ، يملك سبعاً أو تسعاً ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ) (٣) ، فكما أنّ الأرض مُلئت وستُملأ بالجور والفساد والظلم ، لابدّ لها من يوم تُملأ فيه عدلاً وقسطاً ، على يد الإمام المهديّ المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٢٩٥ .

(٢) الحديد : ٢٥ .

(٣) سنن أبي داود ، السجستاني : ج ٤ ص ٧١٢ ح ٤٢٧٦ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٣ ص ٢٨ ص ٣٦ ص ٧٠ ؛ المستدرك الحاكم : ج ٤ ص ٥٥٧ ؛ وانظر مجمع الزوائد : الهيثمي : ج ٧ ص ٣١٤ ، وقال فيه : ( رواه الترمذي وغيره باختصار ، رواه أحمد بأسانيد ، وأبو يعلى باختصار ، ورجالهما ثقات ) ؛ وانظر : المصنف : الصنعاني : ج ١١ ص ٣٧٢ ـ ٣٧٣ .

١٣٦

إلاّ أنّ النقطة الجديرة بالذكر هي أنّ تحقق هذا الهدف ، وهو إقامة العدل والقسط في الأرض ، يتوقّف على توفّر شرائطه التي أراد الله تعالى بحكمته أن تكون من الطريق الطبيعي لا الإعجازي ، وهذا ما جرت عليه السنن الإلهية في هذا العالم ، فقد قال تبارك وتعالى :( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ ) (١) ، وقال تعالى أيضاً :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإِنّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، وقال تعالى :( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ) (٣) ، وقال :( وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (٤) ، وغير ذلك من الآيات المباركة ، التي تكشف عن أنّ التخطيط الإلهي لجريان السنن في هذا العالم مبنيّ على السير الطبيعي للبشرية ، إلاّ في الظروف الخاصّة والاستثنائية ، التي تقتضي فيها الحكمة الإلهية إنجاز الهدف والوصول إليه عن طريق الإعجاز وخرق المعتاد ، وذلك كإثبات أصل نبوّة الأنبياء مثلاً .

وإقامة العدل على هذه الأرض جاء ضمن ذلك الإطار ، فلكي يتحقق على أرض الواقع ويحين أجله ، لابد من اكتمال جميع شرائطه ، وعلى ضوء ذلك كانت غيبة إمامنا المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) جزءاً من هذا التخطيط والحكمة الإلهية ، من أجل أن تكتمل باقي الشرائط لظهور الحق وإقامة العدل ، تلك الشرائط التي يتحقق معظمها في أحضان الغيبة ، وهذا ما أخبر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايات عديدة من كتب الفريقين :

ـــــــــــــ

(١) الأنفال : ٣٧ .

(٢) الأنفال : ٤٢ .

(٣) آل عمران : ١٥٤ .

(٤) آل عمران : ١٤٠ ـ ١٤٢ .

١٣٧

منها : ما أخرجه الإربلي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لمّا أنزل الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) ، قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله ، فمَن أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هم خلفائي من بعدي يا جابر ، وأئمة الهدى بعدي أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه عنّي السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم سميّي وكنيّي ، وحجّة الله في أرضه ، وبقيّته في عباده محمد بن الحسن بن عليّ ، ذلك الذي يفتح الله عزّ وجلّ على يده مشارق الأرض ومغاربها ، وذلك الذي يغيب عن شيعته ، وأوليائه ، غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان ) ، فقال جابر : فقلت : يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أي والذي بعثني بالحق ، إنّهم ليستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته ، كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سر الله ، ومخزون علم الله ، فاكتمه إلاّ عن أهله ) (٢) .

وعن علي بن علي الهلالي ، عن أبيه قال : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شكاته التي قبض فيها فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه قال : فبكت حتى ارتفع صوتها ، فرفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرفه إليها فقال :حبيبتي فاطمة ،

ـــــــــــــ

(١) النساء : ٥٩ .

(٢) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٣ ص ٣٩٩ .

١٣٨

ما الذي يبكيك ، فقالت :أخشى الضيعة بعدك ، فقال :يا حبيبتي ، أما علمت أن الله ـ عزّ وجلّ ـ اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته ، ثم أطلع إلى الأرض اطلاعه فاختار منها بعلك ، وأوحى إليّ أن أنكحك إيّاه ، يا فاطمة ، ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم تُعط لأحد قبلنا ولا تُعطى أحداً بعدنا : أنا خاتم النبيّين ، وأكرم النبيّين على الله ، وأحب المخلوقين إلى الله عزّ وجلّ وأنا أبوك ، ووصيي خير الأوصياء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو عمّك حمزة بن عبد المطلب ، وعمّ بعلك ، ومنّا مَن له جناحان أخضران يطير مع الملائكة في الجنّة حيث شاء ، وهو ابن عم أبيك ، وأخو بعلك ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة ، وهما ابناك الحسن والحسين ، وهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، وأبوهما ـ والذي بعثني بالحق ـ خير منهما يا فاطمة ـ والذي بعثني بالحق ـ إنّ منهما مهدي هذه الأُمّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن ، وتقطّعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ، فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقّر كبيراً ، فيبعث الله عزّ وجلّ عند ذلك منهما مَن يفتح حصون الضلالة ، وقلوباً غلفاً يقوم بالدين آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ، ويملأ الدنيا عدلاً كما مُلئت جوراً ، يا فاطمة لا تحزني ولا تبكي ، فإنّ الله عزّ وجلّ أرحم بك وأرأف عليك منّي ؛ وذلك لمكانك من قلبي ، وزوّجك الله زوجاً ، وهو أشرف أهل بيتك حسباً وأكرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعيّة ، وأعدلهم بالسوية ، وأبصرهم بالقضية ، وقد سألت ربّي عزّ وجلّ أن تكوني أوّل مَن يلحقني من أهل بيتي ، قال علي رضي الله عنه :فلمّا قُبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تبق فاطمة رضي الله عنهابعده إلاّ خمسة

١٣٩

وسبعين يوماً حتى ألحقها الله عزّوجلّ به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه : الهيثم بن حبيب ، قال أبو حاتم : منكر الحديث وهو متهم بهذا الحديث(١) .

أقول : ولم يجدوا في الهيثم بن حبيب مطعناً سوى روايته لهذا الحديث في فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، وله نظائر كثيرة !!

وعن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة :نبيّنا خير الأنبياء وهو أبوك ، وشهيدنا خير الشهداء وهو عمّ أبيك حمزة ، ومنّا مَن له جناحان يطير بهما في الجنّة حيث شاء وهو ابن عمّ أبيك جعفر ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة الحسن والحسين وهما ابناك ومنّا المهدي .

رواه الطبراني في الصغير وفيه قيس بن الربيع وهو ضعيف وقد وثق ، وبقيّة رجاله ثقات(٢) .

ومنها : ما جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضاً : قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً ، تكون له غيبة وحيرة ، تضل فيها الأُمم ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب ، فيملأها عدلاً كما مُلئت جوراً ) (٣)

وغير ذلك من الروايات ، الدالة على ضرورة الغيبة ، من أجل اكتمال شرائط الظهور ، وإقامة العدل والقسط ؛ وذلك من خلال تخطّي البشرية لمراحل عديدة من التمحيص والفتن والحيرة ، والابتلاء .

ـــــــــــــ

(١) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٦٥ ـ ١٦٦ .

(٢) المصدر نفسه : ج ٩ ص ١٦٦ .

(٣) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٣٨٦ .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ومنها : أنّ الواجب (تعالى) لا تُنال ذاته المقدّسة بالمعرفة ، وإنّما الذي تَناله المعرفة شيء من صفاته ، وقد تقدّمت الإشارة منهعليه‌السلام إلى ذلك بقوله :(دليله آياته) ، وقوله :(ليس بإله مَن عرف بنفسه) .

ومنها : أن الواجب (تعالى) مستغنٍ عن الإثبات ، بل يمتنع ذلك فيه ؛ إذ إنّه تعالى له الوجود الحقّ الذي لا يحدّه شيء ، ومَن كان هذا شأنه يمتنع أن تناله الأذهان ، ويحيط به العقل ، فيكون وجوده الخارجي وإثباته شيئاً واحداً ، ويتّحد فيه الثبوت والإثبات ، فهو متعال عن العلم والجهل الذهنيّين فإمّا أن يكون معلوماً بالذات لا يجهل بحالٍ ، ولا يغيب عن شيء ولا يفقده شيء وإمّا أن يكون مجهول الذات ، جهلاً تامّاً لكنهه تعالى ، لا يغيب عن شيء ، ولا يفقده شيء ، فهو معلوم غير مجهول وقد بيّنعليه‌السلام هذه الحقيقة في كلام آخر له ، فقال :

(المعروف بغير كيفيّة ، ولا يُدرك بالحواسّ ، ولا يُقاس بالناس ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأفكار ، ولا تقدّره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام فكلّ ما قدّره عقل ، أو عرّف له مثل ، فهو محدود) (١) .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ٧٦ ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، الحديث ٣٤ .

٢٨١

وممّا ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المعنى قوله :

(التوحيد : ظاهره في باطنه وباطنه في ظاهره ظاهره موصوف لا يُرى ، وباطنه موجود لا يخفى يُطلب بكلّ مكان ، ولا يخلو منه مكان طرفة عين حاضر غير محدود وغائب غير مفقود)(١) .

وهذا هو السرّ في أنّنا لا نجده (تعالى) يقيم في كتابه المجيد برهاناً على أصل الذات ، وإنّما يبرهن على الصفات ، فيبرهن مثلاً على أنّ للعالم صانعاً وربّاً وخالقاً ومرجعاً ونحو ذلك .

ومنها : أنّ البرهان على وجود الواجب تعالى برهان على توحيده ، فإنّ الذي يدلّ عليه صريح البرهان على وجوده ، هو أنّ الواجب تعالى هو الوجود الحقّ ، غير المحدود بأي حدٍّ على الإطلاق ، وهذا هو بعينه التوحيد فإنّ مَن كان هذا شأنه ، لا يتصوّر له العقل ثانياً ؛ فإنّ حرف الشيء لا يحتمل التعدّد ، وإليه الإشارة بقولهعليه‌السلام :(وعرفته توحيده) .

ومنها : أنّ وحدة الواجب تعالى ليست عددية ، حتّى يتميّز في الوجود عن غيره ، وينفصل عنه بحدٍّ يؤدّي التعدّد بل إنّ وحدته بمعنى : أنّه تعالى لا يشاركه شيء في معنى من المعاني ، فهو ربّ خالق ، منه كلّ شيء ، وبه كلّ شيء ، وإليه كلّ شيء ، وغيره مربوب مخلوق ، منه وبه وإليه وجوده .

وهذه المسألة وأمثالها هي من المسائل التي بقيت مجهولة ، لم تحل منذ دُوّنت في الفلسفة الإلهيّة ، حتّى وُفِّق إلى حلِّها بعض فلاسفة المسلمين المتأخّرين ، مستفيداً من كلامهعليه‌السلام ومهتدياً بنور علمه.

ـــــــــــــ

(١) معاني الأخبار : ١٠ ، باب معنى التوحيد والعدل ، الحديث ١ .

٢٨٢

في علمه تعالى بغيره ، وعلم الغير به ، وتقدّمه على الأشياء

ومن كلامهعليه‌السلام :

(الحمد لله الذي أعجز الأوهام عن أن تنال إلاّ وجوده ، وحجب العقول عن أن تتخيّل ذاته ، في امتناعها عن الشبه والشكل ، بل هو الذي لم يتفاوت في ذاته ، ولم يتبعّض بتجزئة العدد في كماله فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ، وتمكّن منها لا على الممازجة ، وعلمها لا بأداة لا يكون العلم إلاّ بها ، وليس بينه وبين معلومه علم غيره إن قيل : كان ، فعلى تأويل أزليّة الوجود ، وإن قيل : لم يزل ، فعلى تأويل نفي العدم ، فسبحانه وتعالى عن قول مَن عَبَدَ سواه ، واتّخذ إلهاً غيره علوّاً كبيراً) (١) .

يشيرعليه‌السلام في هذا الكلام إلى مسألة : أنّه تعالى معلوم لغيره علماً حضوريّاً لا حصوليّاً ؛ وإلاّ لو كان العلم به حصوليّاً ، فإنّ ذاته تتبعّض إذا عرض له الحصول في الذهن والخارج ، هذا ينافي وحدته ، وتميّزه عن غيره .

ويشير أيضاًعليه‌السلام إلى مسألة أنّه تعالى عالم بغيره علماً حضوريّاً ، من غير توسّط صورة علميّة بينه وبين معلومه ؛ وإلاّ لاحتاج في علمه إلى الصورة ، التي هي الأداة .

ويشيرعليه‌السلام كذلك إلى مسألة تقدّمه على الأشياء بإطلاق وجوده ، المنزّه عن التقييد ، بأي حدٍّ عدلي ، وهو تفسير لأزليّته تعالى .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ٧١ ، باب التوحيد ، ونفي التشبيه ، الحديث ٢٧ روضة الكافي : ٢٠ ، الحديث ٤ ، خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهي خطبة الوسيلة ، باختلاف يسير .

٢٨٣

في بيان معنى صفاته (تعالى) العليا

فمن كلام لهعليه‌السلام في الباب قوله :

(مستشهد بكليّة الأجناس على ربوبيّته ، وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قِدمته ، وبزوالها على بقائه ، فلا لها محيصٌ عن إدراكه إيّاها ، ولا خروجٌ من إحاطته بها ، ولا احتجابٌ عن إحصائه لها ، و امتناعٌ من قدرته عليها كفى بإتقان الصنع لها آية ، وبمركّب الطبع عليها دلالة ، وبحدوث الفِطْر عليها قِدْمَة ، وبإحكام الصَّنعَة لها عِبرة فلا إليه حدّ منسوب ، ولا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه محجوب ، تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوّاً كبيراً) (١) .

توضيح صفاته الثبوتيّة والسلبيّة

فمن كلامهعليه‌السلام في هذا الخصوص قوله :

(مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ ، ولا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ ، ولا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ ولا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وتَوَهَّمَهُ كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ ، وكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ فَاعِلٌ لا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ ، مُقَدِّرٌ لا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ ، غَنِيٌّ لا بِاسْتِفَادَةٍ لا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ ، ولا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ ، والْعَدَمَ وُجُودُهُ ، والِابْتِدَاءَ أَزَلُهُ .

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لا مَشْعَرَ لَهُ ، وبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ ، وبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ ، والْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ ، والْجُمُودَ بِالْبَلَلِ ، والْحرُورَ بِالصَّرَدِ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا ، مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا ، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا ، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ ، ولا يُحْسَبُ بِعَدٍّ ، وإِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا ، وتُشِيرُ الْآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا ، مَنَعَتْهَا (مُنْذُ) الْقِدْمَةَ ، وحَمَتْهَا (قَدُ) الْأَزَلِيَّةَ ، وجَنَّبَتْهَا (لَوْلَا) التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ ، وبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ ولا يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ والْحَرَكَةُ ، وكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ ، ويَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ ، ويَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ ؛ إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ ولَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ ، ولَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ ، ولَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ ، ولَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ ، وإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ ولَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ ، وخَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ ، الَّذِي لَا يَحُولُ ولا يَزُولُ ولا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ) .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ٦٩ ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، الحديث ٢٦ بحار الأنوار : ٤ / ٢٢١ ، الحديث ٢ ، تتمّة كتاب التوحيد ، أبواب أسمائه تعالى وصفاته ، باب ٤ ـ جوامع التوحيد ، باختلاف يسير جدّاً .

٢٨٤

إلى أن قال :

(وإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لا شَيْءَ مَعَهُ ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا ، بِلَا وَقْتٍ ولا مَكَانٍ ، ولا حِينٍ ولا زَمَانٍ عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْآجَالُ والْأَوْقَاتُ ، وزَالَتِ السِّنُونَ والسَّاعَاتُ ، فَلا شَيْءَ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ) (١) .

لقد بيّنعليه‌السلام في كلماته تلك جمل الصفات الثبوتية والسلبيّة كما وأوضحعليه‌السلام أنَّ قبليّته وبعديّته تعالى إنّما هي بالنسبة إلى الخِلقة ، وليس قبليّته وبعديّته تعالى من سنخ القبليّة والبعديّة الزمانيّين وقد أشار إلى هذا في كلامه السابق بقوله :

(وإن قيل : لم يزل ، فعلى تأويل نفي العدم) (٢) .

في رؤيته تعالى

ومن كلام لهعليه‌السلام وقد خاطب به رجلاً يقال له : ذعلب ؛ إذ كان قد قال له : يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربّك ؟ فقالعليه‌السلام :

(ويلك !! لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ويلك يا ذعلب ! إنّ ربّي... لطيف اللّطافة فلا يوصف باللطف ، عظيم العظمة فلا يوصف بالعِظَم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكِبَر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغِلَظ قبل كلّ شيء ، فلا يقال : شيء قبله ، وبعد كل شيء ، فلا يقال : شيء بعده شائي الأشياء لا بهمّة ، درّاك لا بخديعة هو في الأشياء كلّها غير متمازج بها ، ولا بائن عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجلٍّ لا باستهلال رؤية بائن لا بمسافة ، قريب لا بمداناة طيف لا بتجسُّم ، موجود لا بعد عدم فاعل لا باضطرار ، مقدّر لا بحركة ، مريد لا بهمامة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة لا تحويه الأماكن ، ولا تصحبه الأوقات ، ولا تحدّه الصفات ، ولا تأخذه السِّنات سبق الأوقات كونُه ، والعدم وجودُه ، والابتداء أزله .

ـــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٢٧٢ ، الخطبة ١٨٦ ، في التوحيد بحار الأنوار : ٧٤ / ٣١٢ ، باب ١٤ ـ خطبه (صلوات الله عليه) المعروفة ، الحديث ١٤ .

(٢) تقدّم في الصفحة ٣١٨ ، في علمه تعالى بغيره وعلم الغير به .

٢٨٥

بتشعيره المشاعر عُرف أن لا مَشْعَر له ، وبتجهيزه الجواهر عُرف أن لا جوهر له ، ، ضادّ النور بالظلمة ، والجَسْوَ بالليل ، والصرد بالحَرُور مؤلّف بين متعادياتها ، مفرِّق بين متدانياتها ، دالّة بتفريقها على مفرّقها ، وبتأليفها على مؤلِّفها ، وقوله عزّ وجلّ : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) ، ففرّق بها بين قبل وبعد ؛ ليعلم أن لا قبل له ولا بعد شاهدة بغرائزها ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها حجب بعضها عن بعض ؛ ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلْقه غير خلْقه كان ربّاً إذْ لا مربوب ، وإلهاً إذ لا مألوه ، وعالماً إذ لا معلوم ، وسميعاً إذ لا مسموع ) .

ثمَّ أنشأعليه‌السلام يقول :

(ولم يزل سيّدي بالحمدِ معروفاً

ولم يزل سيّدي بالجودِ موصوفاً) (٢)

فقد رأينا أنّهعليه‌السلام في كلماته هذه ، قد شرح معنى التشبيه والتنزيه في صفاته تعالى وبيَّنهما أروع شرح ، وأوفى بيان كما وفسّر معنى تعلّق الرؤية به تعالى ، وأنّها ليست بمباشرة الحمم ، ولا باستهلاك نظرة من العين ، ولا بإدراك توصيف من العقل ، بل يُرى بحقيقة الإيمان ويتّضح معنى قوله :(حقيقة الإيمان) من قوله :(حجب بعضها عن بعض ؛ ليُعلم أن لا حجاب بينه وبين خلْقه غير خلْقه) ؛ حيث دلّ كلامه هذا على أنّ الخلْق تحجبهم أنفسهم عنه تعالى أمّا إذا أخلص المؤمن إيمانه لربّه ، ثمّ أكمل الإخلاص له بنفي الصفات عنه (راجع قوله في الفصل الثاني :

(وكال توحيده الإخلاص له) ، ولم يعد قلبُه متعلّقاً بشيء سوى ربّه ، فحينئذٍ لا يبقى شيء يحجب ربَّه عنه ، ويراه بحقيقة الإيمان .

وقولهعليه‌السلام :(حجب بعضها عن بعض ؛ ليُعلم أن لا حجاب بينه وبين خلْقه غير خلْقه) من روائع الكلام الذي لا يسبقه إليه أحد وقد بنى كلامه فيه على ما قدَّمه من كلامه في نفي الحدود التي للمخلوقات ـ نفيها ـ عن خالقها عزّ اسمه .

ـــــــــــــ

(١) سورة الذاريات : الآية ٤٩ .

(٢) توحيد الصدوق : ٣٠١ ، باب حديث ذِعلِب ، الحديث ٢ الكافي : ٢ / ١٥٩ ، باب جوامع التوحيد ، الحديث ٣٤٧ / ٤ ، باختلاف يسير .

٢٨٦

ويوجد نظير هذا البيان في كلام سابع أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام قالعليه‌السلام :

(إنّ الله تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمانٍ ولا مكانٍ ، وهو الآن كما كان ..) .

إلى أن قال :

(ليس بينه وبين خلْقه حجاب غير خلْقه احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور) (١) .

وقد بيّنعليه‌السلام في قوله :(كان ربّاً إذ لا مربوب ، وإلهاً إذ لا مألوه) أنّ لصفات الواجب الإضافيّة تحقّقاً في الذات قبل تحقّق المضاف إليه ، وهذا من غوامض المسائل الفلسفيّة ومعضلاتها .

وفي قوله :(ولم يزل سيّدي بالحمدِ معروفاً) دلالة على أنّ الخِلقة غير منقطعة من جهة أوّلها ، كما أنّها غير منقطعة من جهة آخرها وفيما ورد عنه وعن أبنائه من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، أخبارٌ دالّة على أنّ هذا العالم الموجود مسبوق وملحوق بعوالم أُخر لا يحصيها إلاّ الله سبحانه .

في بيان جُمل من الحقائق

ومن كلام لهعليه‌السلام في بيان جملة من الحقائق المذكورة سابقاً :

(خَلَقَ الله الخلْق فعلّق حجاباً بينه وبينهم ، فبمباينته إيّاهم مفارقته إنيّتهم ، وإبداؤه إيّاهم شاهدٌ على ألاّ أداة فيه ؛ لشهادة الأدوات بفاقة المؤدِّين وابتداؤه إيّاهم دليل على ألاّ ابتداء له ؛ لعجز كلِّ مبتدأٍ عن إبداء غيره.

أسماؤه تعبير ، وأفعاله تفهيم ، وذاته حقيقة ، وكُنهه تفرقةٌ بينه وبين خلْقه ، قد جهل اللهَ مَن استوصفه ، وتعدّاه مَن مثّله ، وأخطأه مَن اكتنهه .

فمَن قال : أين ؟ فقد بوّأه ، ومَن قال : فيمَ ؟ فقد ضمّنه ، ومَن قال : إلى مَ ؟ فقد نهاه ، ومَن قال : لِمَ ؟ فقد علّله ، ومَن قال : كيف ؟ فقد شبّهه ، ومَن قال : إذ ، فقد وقّته ، ومَن قال : حتّى ، فقد غيّاه) .

ـــــــــــــ

(١) توحيد الصدوق : ١٧٤ ، باب نفي المكان والزمان والسكون والحركة ، الحديث ١٢ بحار الأنوار : ٣ / ٣٢٧ ، كتاب التوحيد ، باب ١٤ ـ نفي الزمان والمكان والحركة والانتقال عنه تعالى ، الحديث ٢٧ .

٢٨٧

إلى أن قال :

(لا يتغيّر الله بتغيير المخلوق ، كما لا يتحدّد بتحديد المحدود أحدٌ

لا بتأويل عدد ، صمدٌ لا بتبعيض بَدَد باطنٌ لا بمداخلة ، ظاهر لا بمزايلة ، متجلٍّ لا باشتمال رؤية) (١) .

في معنى الخِلْقَة

ومن كلامهعليه‌السلام في معنى الخِلْقَة :

(لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة ، ولا من أوائل أبدية ، بل خَلَق ما خَلَق فأقام حدَّه ، وصوّر ما صوّر فأحسن صورَته ليس لشيء منه امتناعٌ ، ولا له بطاعة شيء انتفاعٌ) (٢) .

ينفيعليه‌السلام في كلامه هذا أنّ الخِلْقَة إنّما هي عمليّة تركيب وتفريق ، يقعان من الواجب تعالى على المادة القديمة الثابتة المستغنية في وجودها عن الواجب ؛ وبنى بيان ذلك على لزوم إطاعتها للفعل ، فأخر كلامه برهان على أوّله .

ـــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٦٢ ، باب ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ـ خطبتهعليه‌السلام في إخلاص التوحيد التوحيد : ٣٧ ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، الحديث ٢ ، باختلاف يسير .

(٢) نهج البلاغة : ٢٣٣ ، الخطبة ١٦٣ ، ابتداع المخلوقين بحار الأنوار : ٤ / ٣٠٦ ، أبواب أسمائه تعالى وحقائقها وصفاتها ـ باب ٤ : جوامع التوحيد ، الحديث ٣٥ .

٢٨٨

حول ما وراء الطبيعة

ومن كلامهعليه‌السلام ـ وقد سُئل عن العالم العلوي ـ :(صور عارية عن المواد ، خالية عن القوّة والاستعداد ، تجلّى لها فأشرقت ، وطالعها فتلألأت) (١) .

تكاد تجمع الأبحاث والدراسات العقليّة في الفلسفة الإلهيّة ، على إثبات موجودات متوسّطة بين الواجب تعالى وعالم المادة ، تكون نسبتها إلى الماديّات ـ من جهة ـ نسبة الكمال إلى المستكمِل ؛ إذ إنّ الأوّل الكمال فيه فعلي ، والكمال في الثاني تدريجي غير مجتمع فيه .

ومن جهة ثانية نسبتها إلى الماديات نسبة الجسم الصيقلي إلى الجسم غير الصيقلي (الخشن) ، حيث نرى أنّ الصيقلي يرد أشعة الشمس الساطعة عليه ويعكسها دون الخشن .

وهذه الموجودات المتوسّطة تتقبّل الفيوضات من الواجب تعالى ، ثمّ تعكسها وتردّها إلى ما دونها ؛ وذلك لفعليّة الكمال فيها وتدريجيّته فيما دونها .

وهذا البحث متشّعب وطويل ، مذكور في محلّه من الكتب الفلسفيّة ، وكلامهعليه‌السلام أوجز كلام ، يتضمّن الحقائق التي أثبتتها البراهين والأدلّة في هذا الباب .

ـــــــــــــ

(١) تقدّم في الصفحة ٣٠٠ ، الهامش رقم ٣ ، فراجع .

٢٨٩

الفهرست

مقدِّمة التحقيق. ٢

الميزة الأُولى : موضوعه ٣

الميزة الثانية : مؤلّفه ٥

الإنسان قبل الدنيا ٨

الفصل الأوّل : العِلَّة والمعلول. ٩

الفصل الثاني : بين الخلْق والأمر ١٠

خاتمة تناسب ما مرّ من الكلام ٢٧

الإنسان في الدنيا ٣٦

الفصل الأوّل : صُوَر علومنا الذهنيّة ٣٦

الفصل الثاني : حياة الإنسان ظرف نفسه ٤١

الإنسان بعد الدُّنيا ٤٧

الفصل الأوّل : في الموت والأجل. ٤٨

الفصل الثاني : في البرزخ. ٦٣

الفصل الثالث: في نفخ الصُّورِ ٧٤

الفصل الرابع: في صفات يوم القيامة ٨٥

الفصل الخامس: في قيام الإنسان إلى فصل القضاء ٩٧

الفصل السادس: في الصراط. ١٠١

الفصل السابع: في الميزان. ١٠٥

الفصل الثامن: في الكتب.. ١٠٨

الفصل التاسع: في الشهداء يوم القيامة ١١٨

الفصل العاشر : في الحساب.. ١٣١

الفصل الحادي عشر : في الجزاء ١٣٨

٢٩٠

الفصل الثاني عشر: في الشفاعة ١٤٤

القول في أقسام الشافعين. ١٥٣

الفصل الثالث عشر: في الأعراف.. ١٥٨

الفصل الرابع عشر: في الجنّة ١٦٦

الفصل الخامس عشر: في النار ١٧٣

الفصل السادس عشر: في عموم المعاد ١٧٧

خاتمة : ١٨٣

رسالة الولاية ١٨٣

تمهيد : ١٨٤

الفصل الأوّل : في أنّ لظاهر هذا الدين باطناً ، ولصورته الحقّة حقائق. ١٨٤

الفصل الثاني : في أنّه حيث لم يكن النظام نظام الاعتبار ، فكيف يجب أن يكون الأمر في نفسه ؟ ١٩٢

الفصل الثالث : [وسائل الاتّصال بالعالم الغيبي وطرق معرفته] ١٩٩

الفصل الرابع : في أنّ الطريق إلى هذا الكمال ـ بعد إمكانه ـ ما هو؟ ٢٠٧

الفصل الخامس : فيما ناله الإنسان بكماله ٢٣٥

تتمّة : ٢٣٦

عليٌ عليه‌السلام والفلسفة الإلهية ٢٥٠

تقديمٌ : ما معنى الفلسفة الإلهية ؟ ٢٥١

الدين والفلسفة ٢٥٣

فلسفة الإسلام الإلهية ، أو كمال الفلسفة ٢٥٦

القضاء قضاءان : حقوقي وعلمي. ٢٥٨

قياس المأثور من كلامه عليه‌السلام بكلام غيره ٢٦٦

نماذج من كلامه عليه‌السلام في الفلسفة الإلهيّة ٢٧٠

٢٩١

أُسلوب التحقيق العلمي ، وطريق السير إلى الحقيقة ٢٧١

المراحل الخمس لمعرفة الله تعالى. ٢٧٣

في تحقيق معنى التوحيد. ٢٧٨

عدّة مسائل : فلسفية غامضة في كلام له عليه‌السلام في التوحيد. ٢٨٠

في علمه تعالى بغيره ، وعلم الغير به ، وتقدّمه على الأشياء ٢٨٣

في بيان معنى صفاته (تعالى) العليا ٢٨٤

توضيح صفاته الثبوتيّة والسلبيّة ٢٨٤

في رؤيته تعالى. ٢٨٥

في بيان جُمل من الحقائق. ٢٨٧

في معنى الخِلْقَة ٢٨٨

حول ما وراء الطبيعة ٢٨٩

٢٩٢