الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة26%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56545 / تحميل: 7201
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وروى المفيد في مجالسه عن الأصبغ بن نباتة ، حديث الحارث الهمداني مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفيه قالعليه‌السلام :(وأبشِّرك ـ يا حارث ـ لتعرفني عند الممات ، وعن الصراط ، وعند الحوض ، وعند المقاسمة) ، قال الحارث : وما المقاسمة ؟ قال :(مقاسمة النار ، أُقاسمها قسمة صحيحة ، أقول هذا وليّي فاتركيه ، وهذا عدوّ فخذيه) (١) ـ الحديث .

وهو من مشاهير الأخبار(٢) ، رواه جمع من الرواة ، وصدَّقه بعض الأئمّة بعدهعليهم‌السلام .

وفي غيبة النعماني عن أمير المؤمنين ـ في حديث :(أمَا أنّه لا يموت عبد يحبّني فتخرج نفسه حتّى يراني حيث يحبّ ، ولا يموت عبد يبغضني فتخرج نفسه حتّى يراني حيث يكره) (٣) ـ الحديث .

وفي (الكافي) عن الصادقعليه‌السلام ، قال :(ما من أحد يحضره الموت إلاّ وكلّ به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر ، ويشكّكه في دينه حتّى تخرج نفسه ، فمَن كان مؤمناً لم يقدر عليه فإذا حضرتم مَوْتَاكم ،فلقّنوهم شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، حتى يموت) (٤) ـ الحديث .

ومعناه مستفاد من قوله سبحانه :( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ ) (٥) ، وقوله سبحانه :( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ

ـــــــــــــ

(١) أمالي المفيد : ٦ .

(٢) وفي هذا المعنى بيت الشعر المنسوب لأمير المؤمنين مخاطباً الحارث الهمداني :

( يا جارَ هَمدانَ مَن يَمُت يَرَني

مِن مُؤمِنٍ أَو مُنافِقٍ قَبلا )

(٣) لم نعثر عليه في غيبة النعماني ، راجع بحار الأنوار : ٦ / ١٩١ ، كتاب العدل والمعاد ، الباب ٧ ، الحديث ٣٨ .

(٤) الكافي : ٣ / ١٢٤ ، الباب ٨٠ ، الحديث ٦ .

(٥) سورة إبراهيم : الآية ٢٧ .

٦١

إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (١) .

فظاهر الآية أنّ قوله :( اكْفُرْ ) ، وقوله :( إِنِّي بَرِيءٌ ) من جنس واحد ، ووقت واحد ، وليس من لسان الحال في شيء ، وهناك خطاب .

وفي تفسير العيّاشي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال :(إنّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن يساره ليصدّه عمّا هو عليه ، فيأبى الله ذلك ، وكذلك قال الله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ) (٢) .

أقول : والروايات عن أئمة الهدى في هذه المعاني متظافرة متكاثرة ، رواها جمّ غفير من الرواة ، هذا كلّه ما يفيده الكتاب والسنّة ، والبرهان يفيده أيضاً ، ممّا يدلّ على تجرّد النفس وعدم انعدامها وبطلانها بانقطاع علاقتها عن البدن ، وسيجيء إشارة إليه في الفصل التالي إن شاء الله .

ـــــــــــــ

(١) سورة الحشر : الآية ١٦ .

(٢) تفسير العياشي : ٢ / ٢٤٢ ، الحديث ١٦ .

٦٢

الفصل الثاني : في البرزخ

قد بُيّن في محلّه :

أنّ بين عالم الأجسام والجسمانيّات وبين أسمائه سبحانه عالمين :"عالم العقل" ، و"عالم المثال" .

وأنّ كلّ واحد من الموجودات يرجع بالضرورة إلى ما بدأ منه .

وأنّ [موجودات] العالم ـ آخذاً من الجسمانيّات إلى أن ينتهي إلى المبدأ الأوّل ومبدع الكلّ ـ مترتّبة في الكمال والنقص ، متطابقة في الوجود ، ومعنى ذلك تنزّل العالي إلى مرتبة السافل ، وظهوره كالمرآة تنعكس فيه صور ما يقابلها من الأضواء والألوان والمقادير ، فتظهر منها على قدر ما تقبله وتطيقه ، وتتكيّف بما في المرآة من الكيفيات تماماً ونقصاً .

وأنّ عالم المثال كالبرزخ بين العقل المجرّد والموجودات المادية ، فهو موجود مجرّد عن المادة ، غير مجرّد عن لوازمها ، من المقادير والأشكال والأعراض الفعليّة .

وبهذه المقدّمات يتبيّن تفصيل حال الإنسان في انتقاله من الدنيا إلى ما بعد الموت .

هذا ، وينبغي لك أن تثبت في تصوّر معنى المادة أنّها جوهر ، شأنُها قبول الآثار الجسميّة وتحقّقها في الأجسام ، مصحّحة الانفعالات التي ترد عليها ، وليست بجسم ولا محسوس وإيّاك أن تتصوّر أنّها الجسميّة التي في الموجودات الجسمانيّة ، فهذا هو الذي عزب عن جمع من علماء الظواهر ، فتلقّوا ما ذكر المتألّهون من أصحاب البرهان على غير وجهه ، وحسبوا أنّ قولنا : إنّ البرزخ لا مادة له مثلاً ، أو أنّ لذائذه خياليّة ، أو هناك لذّة عقليّة ، معناها أنّها وهمية سرابية غير موجودة في الخارج إلاّ في الوهم والتصوّر ، وذلك انحراف عن المقصود ، خاطئ من جهة المعنى .

وكيف كان ، فحال البرزخ ما عرفته ، والكتاب والسنة يدلاّن على ذلك ، لكن الأخبار حيث اشتملت على جُلِّ الآيات ، وضعنا الكلام فيها وتعرّضا للآيات التي تتحدّث عنها .

٦٣

ففي تفسير النعماني : بإسناده عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال :(وأمَّا الردّ على مَن أنكر الثواب والعقاب في الدنيا بعد الموت قبل القيامة ، بقول الله عزّ وجلّ : ( يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (١) ) (٢) ، يعني السماوات والأرض قبل القيامة ، فإذا كانت القيامة بدلت السماوات والأرض .

ومثل قوله تعالى :( مِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٣) ، وهو أمر بين أمرين : وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة .

ومثله قوله تعالى :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) (٤) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة هود : الآيات ١٠٥ ـ ١٠٨ .

(٢) راجع : تفسير القمّي : ١ / ٤٦ ، مقدّمة الكتاب .

(٣) سورة المؤمنون : الآية ١٠٠ .

(٤) سورة غافر : الآية ٤٦ .

٦٤

والغدو والعشي لا يكونان في القيامة التي هي دار الخلود ، وإنّما يكونان في الدنيا ، وقال الله تعالى في أهل الجنّة :( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (١) .

والبكرة والعشي إنّما يكونان من الليل والنهار في جنّة الحياة قبل يوم القيامة ، قال الله :( لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً ) (٢) .

ومثله قوله :( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ) (٣) الآية .

أقول : قوله سبحانه :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ) (٤) ، أُريد به نار الآخرة وأمّا المعرض عليها ، فهو في البرزخ ،؛ ودلّ على ذلك ذيل الآية ، وهو قوله سبحانه :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) (٥) .

وسيأتي نظير هذا التعبير في الروايات ، أنّه يفتح له إلى قبره باب من الحميم ، يدخل عليه منه اللهب والشرر ، فهناك نار مثال نار ، وعذاب مثال عذاب .

وقوله سبحانه :( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ ) (٦) ، أُريد به نار البرزخ .

وبما ذكر يتَّضح الجمع بين الكون في النار والمعرضون عليها .

ومثله قوله سبحانه :( إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) (٧) ، فالسحب في الحميم ، وهو الماء الحارّ مقدّمة للإسجار في النّار ، وهو في القيامة ، وهذه المعاني مروية في تفسير العياشي أيضاً .

ـــــــــــــ

(١) سورة مريم : الآية ٦٢ .

(٢) سورة الإنسان : الآية ١٣ .

(٣) سورة آل عمران : الآيتان ١٦٩ و ١٧٠ .

(٤) سورة غافر : الآية ٤٦ .

(٥) سورة غافر : الآية ٤٦ .

(٦) سورة هود : الآية ١٠٦ .

(٧) سورة غافر : الآيتان ٧١ و ٧٢ .

٦٥

وروى القمّي(١) والعيّاشي(٢) في تفسيريهما ، والكليني في (الكافي)(٣) ، والمفيد في (الأمالي) (٤) بأسانيدهم عن سويد بن غفلة ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال :(إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا ، وأوّل يوم من أيّام الآخرة ، مثُلَ له أهله وماله وولده وعمله ، فيلتفت إلى ماله فيقول : والله! إنِّي كنت عليك لحريصاً شحيحاً ، فما لي عندك ؟ فيقول : خذ منّي كفنك .

ثمَّ يلتفت إلى ولْده فيقول : والله! إنّي كنت لكم لمحبّاً ، وإنّي كنت عليكم لمحامياً ، فماذا لي عندكم ؟ فيقولون : نؤدّيك إلى حفرتك ونواريك فيها .

ثمَّ يلتفت إلى عمله فيقول : والله! إنّي كنت فيك لزاهداً ، وإنّك كنت عليّ لثقيلاً ، فماذا عندك ؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ويوم حشرك ، حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك ، فإن كان لله وليّاً أتاه أطيب الناس ريحاً ، وأحسنهم منظراً ، وأزينهم رياشاً ، فيقول : أبشر برَوح من الله وريحان ، وجنّة ونعيم ، قد قَدِمتَ خير مقدَم ، فيقول : مَن أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ارتحل من الدنيا إلى الجنّة .

وإنّه ليعرف غاسله ويناشد حامله أن يعجّله ، فإذا أُدخل قبره أتاه مَلكان ، وهما فتَّانا القبر ، يجرّان أشعارهما ، وينحتان الأرض بأنيابهما ، وأصواتهما كالرعد العاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، فيقولان له : من ربّك ، ومن نبيّك ، وما دينك ؟ فيقول : الله ربي ، ومحمد نبيِّي ، والإسلام ديني فيقولان له : ثبّتك الله فيما تحبّ وترضى ، وهو قول الله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٥) الآية، فيفسحان له في قبره

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمي : ١ / ٣٩٩ .

(٢) تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٤٤ ، الحديث ٢٠ .

(٣) (الكافي) : ٣ / ٢٢١ ، الباب ١٥٨ ، أنّ الميّت يمثّل له ، الحديث ١ .

(٤) لم نعثر عليه في أمالي المفيد ، راجع : أمالي الطوسي : ٣٤٧ المجلس الثاني عشر ، الحديث ٧١٩ وسائل الشيعة : ١٦ / ١٠٥ ، باب ١٠٠ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١ .

(٥) سورة إبراهيم : الآية ٢٧ .

٦٦

ومدّ بصره ، ويفتحان له باباً إلى الجنّة ويقولان : نم قرير العين نوم الشاب الناعم ، وهو قوله : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ) (١) ) .

قال :(وإن كان لربّه عدوّاً ، فإنّه يأتيه أقبح خلق الله رياشاً ، وأنتنه ريحاً ، فيقول له : ابشر بنُزِلٍ من حميم ، وتصلية جحيم وأنَّه ليعرف غاسله ، ويناشد حامله أن يحبسه فإذا دخل قبره ، أتياه ممتحنا القبر فألقيا عنه أكفانه ، ثمَّ قالا له : من ربّك ، ومن نبيّك ، وما دينك ؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان له : ما دريت ولا هديت ، فيضربانه بمرزبة ضربةً ما خلق الله دابةً إلاّ وتذعر بها ، ماخلا الثقلان ثمَّ يفتحان له باباً إلى النار ، ثمَّ يقولان له : نم بشرِّ حال .

فهو من الضيق مثل ما فيه القنا من الزجّ ، حتّى إنّ دماغه يخرج من بين ظفره ولحمه ، ويسلّط الله عليه حيّات الأرض وعقاربها وهوامها ، فتنتهشه حتى يبعثه الله من قبره وإنَّه ليتمنى قيام الساعة ممّا هو فيه من الشرّ) ـ الخبر .

أقول : قولهعليه‌السلام :(وهو قول الله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ ) ) ، يشير إلى قوله سبحانه :( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) (٢) .

فقد بيّن سبحانه أنّ من الكلمات ما هي ثابتة الأصل قارة ، تفيد آثارها في جميع الأحوال ، ووصفها بالطيِّب ، وقد ذكر في موضع آخر أنّها تصعد إليه ويرفعها العملُ الصالح حتى تصل إلى السماء ، فقال سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الفرقان : الآية ٢٤ .

(٢) سورة إبراهيم : الآيات ٢٤ ـ ٢٧ .

(٣) سورة فاطر : الآية ١٠ .

٦٧

ثمَّ بيّن الطريق إليها ، فقال : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (١) .

ثمَّ بيّن سبحانه أنّ هذه الكلمة الطيبة ، الثابتة الأصل ، تثبّت الذين آمنوا بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة والقول يتّصف بالثبات وإفادته ؛ باعتبار الاعتقاد والنيّة ، ففي الآخرة مورد يثبت فيه الإنسان أو يضلّ بالقول الثابت وعدمه وإذ ليس هناك اختيار واستواء لطرفي السعادة والشقاوة ، فثباته وتثبيته إنّما هو بالسؤال ، وهو واضح عند التدبّر وقد أخبر سبحانه أنّ هذا القول الثابت والشجرة الطيّبة تؤتي أُكلها ومنافعها كلّ حين بإذن ربّها ، فالآية تدلّ على وقوع الانتفاع به في جميع الأحوال وكلّ المواقف ، ففي الجميع سؤال ، وفي الآية الشريفة مزايا معان أُخر .

ويمكن أن يستشمّ من تمسّكهعليه‌السلام بالآية ، أنّه جعل البرزخ من تتمّة الحياة الدنيا ، وهو كذلك بوجه .

وقولهعليه‌السلام :(وهو قوله : ( أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ... ) ) ، يشير إلى قوله سبحانه :( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ) (٢) .

والآيات في البرزخ هي من أصرح الآيات فيه .

والمقيل هو النوم للقيلولة ومن المعلوم أن لا نوم في جنّة القيامة ، إلاّ أنّ البرزخ وإنْ لم يكن فيه شيء من منامات الدنيا ، لكنّه بالنسبة إلى القيامة نوم بالقياس إلى اليقظة ؛ ولذلك وصف سبحانه الناس بالقيام للساعة ، ولذلك وصفعليه‌السلام الحال بأنّه يفتح للميّت باب إلى الجنّة ويقال له :(نم قرير العين) ، أو باب إلى النّار ويقال له :(نم بشرّ حال) .

ـــــــــــــ

(١) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٢) سورة الفرقان : الآيات ٢١ ـ ٢٤ .

٦٨

وهذا المعنى كثير الورود في الأخبار ، فلم يصرّح خبر بوروده الجنّة ، بل الجميع ناطقة أنّه يفتح له باب إلى الجنّة ، ويرى منزله فيها ، ويدخل عليه منها الرَوح ، ويقال له : نم قرير العين ، نم نومة العروس ، وقد مرّ الحديث عن الباقرعليه‌السلام حيث سُئل : ما الموت ؟ فقال :(هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة ، إلاّ أنّه طويل مدّته ، لا يُتنبه منه إلاّ يوم القيامة) (١) .

فما البرزخ إلاّ مثال للقيامة ، وإليه التلميح اللطيف بقولهعليه‌السلام ـ كما في عدّة أخبار أُخر أيضاً ـ :(ثمَّ يُفسح له في قبره مدّ بصره ) .

فما المثال إلاّ القدر الذي يفهم من الممثَّل فما بعد مدّ البصر شيء ، وقوله سبحانه :( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى ... ) الآية ، يراد به أوّل يوم يرونهم ، هو بقرينة قولهم :( لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ ) الآية ، وهو البرزخ ، وفيه البشرى واللاَّبُشرى .

واعلم أنّ الذي تُشعر به الآية هو : السؤال عن المؤمنين والظالمين وأمّا المستضعفون والمتوسّطون ، فمسكوت عنهم ، وهو الذي يتحصَّل من الروايات ، ففي (الكافي) : عن أبي بكر الحضرمي ، قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(لا يُسأل في القبر إلاّ من محضَ الإيمان محضاً ، أو محض الكفر محضاً ، والآخرون يُلهَون عنهم) (٢) .

أقول : والأخبار عنهمعليهم‌السلام في هذا المعنى مستفيضة متكاثرة .

وفي تفسير القمّي مسنداً عن ضريس الكناسي ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمّد من المسلمين المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ، ولا يعرفون ولايتكم ؟ فقال :(أمّا هؤلاء ، فإنّهم في حُفَرهم لا يخرجون منها ، فمَن كان له عمل صالح ، ولم يظهر منه عداوة ، فإنّه يخدّ له

ـــــــــــــ

(١) راجع الصفحة : ٦٥ .

(٢) الكافي : ٣ / ٢٢٤ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ١ .

٦٩

خدّاً إلى الجنّة التي خلقها الله بالمغرب ، فيدخل عليه الرَوح في حُفرته إلى يوم القيامة ، حتّى يلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيّئاته ، فأمّا إلى الجنّة ، وأمّا إلى النار ، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله) ، قال :(وكذلك يُفعل بالمستضعفين ، والبُله ، والأطفال ، وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحِلْم) (١) الخبر .

أقول : يشرعليه‌السلام بقوله :(فهؤلاء الموقوفون) إلى قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (٢) .

وبالجملة : فغير المستضعفين ومن يلحق بهم مسئولون ، ثمَّ منعّمون أو معذّبون بأعمالهم .

روى المفيد في (الأمالي) عن الصادقعليه‌السلام ـ في حديث ـ قال :(فإذا قبضه الله إليه ، صيّر تلك الروح إلى الجنّة في صورة كصورته في الدُّنيا ، فيأكلون ويشربون فإذا قدِم عليهم القادم ، عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا) (٣) .

وفي (الكافي) عن أبي ولاّد الحنّاط ، عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ؟ فقال :(لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، لكن في أبدان كأبدانهم) (٤) .

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام :(أنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجر في الجنّة تعارف وتساؤل ، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول : دعوها فإنّها أقبلت من هول عظيم ، ثمَّ يسألونها : ما فعل فلان وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم : تركته حيّاً ، ارتجوه ،

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمي : ٢ / ٢٦٤ .

(٢) سورة التوبة : الآية ١٠٦ .

(٣) لم نعثر عليه في أمالي المفيد ، راجع : أمالي الطوسي : ٤١٨ ، المجلس ١٤ ، الحديث ٩٤٢ .

(٤) الكافي : ٣ / ٢٣١ ، الباب ١٦٢ ، الحديث ١ .

٧٠

وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا قد هوى ، هوى) (١) ـ الخبر .

وهذا المعنى وارد في أخبار كثيرة ، لكنّها بأجمعها في المؤمنين وأمّا حال الكافرين فسيأتي .

وفي (الكافي) عن الصادقعليه‌السلام ، قال :(إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ ، ويستر عنه ما يكره ، وإنَّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ، ويستر عنه ما يحب) (٢) .

وفيه أيضاً : عن الصادقعليه‌السلام ، قال :(ما من مؤمن ولا كافر إلاّ وهو يأتي أهله عند زوال الشمس ، فإذا رأى أهله يعملون بالصالحات حمد الله على ذلك ، وإذا رأى الكافر أهله يعملون بالصالحات كانت عليه حسرة) (٣) .

وفيه أيضاً : عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن الأوّلعليه‌السلام ، قال : سألته عن الميّت يزور أهله ؟ قال :(نعم) فقلت : في كم يزور ؟ قال : (في الجمعة ، وفي الشهر ، وفي السَّنة ، على قدر منزلته) ، فقلت : في أيّة صورة يأتيهم ؟ قال :(في صورة طائر لطيف ، يسقط على جُدُرهم ويشرف عليهم فإذا رآهم بخير فرح ، وإن رآهم بشرّ وحاجة حزن واغتمّ) (٤) .

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة مرويّة وأمّا تصوّره بصورة الطائر ، فهو تمثّل .

ويمكن أن يستشعر هذا المعنى بقوله سبحانه :( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٣ / ٢٣١ ، الباب ١٦٢ ، الحديث ٣ .

(٢) المصدر المتقدّم : ٢٢٠ ، الباب ١٥٧ ، الحديث ١ .

(٣) المصدر المتقدّم : الحديث ٢ .

(٤) المصدر المتقدّم : الحديث ٣ .

٧١

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

فالاستبشار تلقّي البشارة والفرح بها ، وقوله : ( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ ) الآية ، بيان لقوله :( وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ ) الآية .

فالآيات تفيد أنّهم يستبشرون ويفرحون بما يتلقُّون ممَّن خلفهم من النعمة والفضل ، وانتفاء الخوف والحزن عنهم ، وهو الولاية ، وأنّهم يعملون الصالحات ، واللهُ لا يضيع أجر المؤمنين ، فيحفظ حسناتهم ، ويعفو عنهم سيّئاتهم ، ويفيض عليهم بركاته ، فيرون منه ذلك كلّهن فافهم .

وقريب منه قوله سبحانه :( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

وفي (الكافي) عن أبي بصير ، عن الصادقعليه‌السلام ـ في حديث سؤال المَلكين ـ قال :(فإذا كان كافراً ، قالا : مَن هذا الرجل الذي خرج بين ظهرانيكم ؟ فيقول : لا أدري ، فيخليان بينه وبين الشيطان) (٣) ـ الخبر .

وروي هذا المعنى أيضاً في حديث آخر ، عن بشير الدهّان(٤) .

ورواه العيّاشي في تفسيره(٥) عن محمد بن مسلم ، عن الباقرعليه‌السلام ، وهو قوله سبحانه : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) إلى قوله تعالى:( حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآيات ١٦٩ ـ ١٧١,.

(٢) سورة التوبة : الآية ١٠٥ .

(٣) الكافي : ٣ / ٢٢٦ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ١٠ .

(٤) الكافي : ٣ / ٢٢٥ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ٧ .

(٥) تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٤٤ ، الحديث ١٩ .

(٦) سورة الزخرف : الآيات ٣٦ ـ ٣٨ .

٧٢

واعلم أنّ البرزخ عالم أوسع من عالم الدنيا ؛ لكون المثال أوسع وأوسط من الجسم المادي ، وقد عرفت معنى المادة ، فالوارد من تفصيله بلسان الكتاب والسنّة كلّيات واردة في سبيل الأُنموذج دون الاستيفاء .

واعلم أنّ تعيين الأرض في الأخبار محلّلاً لجنّة البرزخ وناره ، ومجيء الأموات لزيارة أهليهم ، وغير ذلك ، منزَل على عدم انقطاع العُلقة المادية بكمالها ، وهو كذلك كما مرّ .

وقد ورد في أخبارٍ : أنّ جنّة البرزخ في وادي السلام(١) ، وأنّا نار البرزخ في وادي برهوت(٢) ، وأنّ صخرة بيت المقدس مجتمع الأرواح(٣) . وفي روايات أُخر : مشاهدة الأئمّة للأرواح في أمكنة مختلفة ، وروي ذلك في كرامات الصالحين بما هو فوق حدّ الحصر ، وكلّ ذلك أُمور جائزة تكشف عن علقة (لشرافة) مكان أو زمان أو حال .

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٣/٢٣٠ ، باب ١٦١ في أرواح المؤمنين ، الحديث ١ تهذيب الأحكام : ١/٤٧١ ، الباب ٢٣ في تلقين المحتضرين ، الحديث ١٥٢٥ .

(٢) بحار الأنوار : ٦/٢٨٧ ، وانظر الكافي : ٣/٢٣٣ ، الباب ١٦٣ في أرواح الكفّار ، الحديث ٣ .

(٣) تحف العقول : ١٧٣ ، جواب الإمام الحسينعليه‌السلام عن مسائل سأله عنها مَلِك الروم الفصول المهمّة في أُصول الأئمة : ٣٣٦١ ، الحديث ٤١٣ .

٧٣

الفصل الثالث: في نفخ الصُّورِ

قال سبحانه :( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) (١) ، وقال سبحانه :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) (٢) .

وقد ورد في رواية عن السجّادعليه‌السلام :(أنّ النفخات ثلاث : نفخة الفزع ، ونفخة الصعقة ، ونفخة الإحياء) (٣) ، ويمكن تنزيل ذلك إلى ما سيأتي من معنى قوله سبحانه : ( مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) (٤) الآية ، والله أعلم .

فالنفخة نفختان : نفخة للإماتة ونفخة للإحياء ، ولم يرد في كلامه سبحانه ما يمكن أن يفسّر به معنى الصُّور من حيث اللفظ وهو في اللغة : القَرْن(٥) ، وربّما كان يثقب وينفخ فيه .

ـــــــــــــ

(١) سورة النمل : الآية ٨٧ .

(٢) سورة الزمر : الآية ٦٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٦/٣١٨ .

(٤) سورة يس : الآية ٤٩ .

(٥) لسان العرب : ٤ / ٤٧٥ ، مادة صور .

٧٤

ولا ورد في النفخة الأُولى إلاّ الآيتان في سورة النمل والزُّمر ، إلاّ أنّه سبحانه عبّر عن معناه في مواضع أُخر بالصيحة وبالزجرة ـ وهي الصيحة ـ ، وبالصاخّة ـ وهي الصيحة الشديدة ـ ، وبالنقر قال سبحانه :( إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) (١) ، وقال سبحانه :( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) (٢) ، وقال سبحانه : ( فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) (٣) الآيات ، وقال سبحانه :( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) (٤) ، وقال سبحانه : ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) (٥) .

فمن هنا يعلم أنّ مَثَل الصُّور مع نفختيه مثل ما يُصنع في العساكر المعدّة للحضور إلى غاية ، فينفخ في الصور مرّة : أن اسكتوا وتهيّؤا للحركة ، وينفخ ثانية : أن قوموا وارتحلوا واقصدوا غايتكم فالصور موجود حامل لصيحتين : صيحة مميتة وصيحة محيية ، (وهو ذان) لم نجد له تفسيراً وافياً من الكتاب ، إلاّ أنّه معبّر بلفظة فيه في اثني عشر مورداً أو أزيد ، فلا شكّ هو ذو معنى أصيل محفوظ.

وقد عبّر عنه بالنداء أيضاً ، ولا يكون النداء إلاّ ذا معنى مقصود ؛ ووصفهم سبحانه بسَمْع الصحية بالحقّ ، ولا يسمع إلاّ الموجود الحي ، وقد أخبر بصعقتهم ، فليس إلاّ أنّ اتّصافهم بالحياة .

ـــــــــــــ

(١) سورة يس : الآية ٥٣ .

(٢) سورة النازعات : الآيتان ١٣ و ١٤ .

(٣) سورة عبس : الآيتان ٣٣ و ٣٤ .

(٤) سورة المدّثر : الآيات ٨ ـ ١٠ .

(٥) سورة ق : الآيتان ٤١ و ٤٢ .

٧٥

والموجود عين استماعهم وسمعهم ؛ إذ إسماعهم للصيحة المحيية لهم بعد اتّصافهم بالحياة غير معقول ، فليس إلاّ كلمة إلهية يميتهم ويحييهم ، وقد قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) .

فالنفختان كلمتان إلهيّتان : كلمة مميتة وكلمة محيية ، لكنّه سبحانه لم يُعبّر بالموت ، وإنّما عبر بالصعقة ؛ ولعلّ ذلك لأنّ الموت يطلق على خروج الروح من البدن ، وقد شمل حكم النفخة من في السموات والأرض ، وفيها الملائكة والأرواح ، وفي قوله سبحانه في وصف أهل الجنّة :( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) (٢) تلميحٌ إلى ذلك .

نعم ، وقع في قوله سبحانه حكاية عن قول أهل النار :( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) (٣) ، لو لم تكن التثنية للتكرار أو لتغليب إطلاق الموت على صعقة النفخة ، ثمَّ إنّه سبحانه قال :( بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٤) .

فأفاد شمول حكم البرزخ على الجميع ، فالمراد بمَن في الأرض في آيتي الفزع والصعقة ، ليس مَن على ظهر الأرض ممّن هم في قيد الحياة الدنيا قبل البرزخ ، بل الذين قال فيهم سبحانه :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ* وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) سورة غافر : الآية ٦٨ .

(٢) سورة الدخان : الآية ٥٦ .

(٣) سورة غافر : الآية ١١ .

(٤) سورة المؤمنون : الآية ١٠٠ .

(٥) سورة الروم : الآيتان ٥٥ و ٥٦ .

٧٦

وقال سبحانه :( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١) .

وقال سبحانه :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ) (٢) ، إلى أن قال :( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) (٣) ، فهؤلاء أهل الأرض وإن حلّوا البرزخ وأمّا من في السموات ، فهم الملائكة وأرواح السعداء ، وقد قال سبحانه :( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (٤) ، وقال : ( لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ ) (٥) ، وقال :( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (٦) الآية، وقال :( أَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ) (٧) ، وقال : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (٨) ، وقال : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) (٩) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة المؤمنون : الآيات ١١٢ ـ ١١٤ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ٤٠ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ٤٦ .

(٤) سورة الذاريات : الآية ٢٢ .

(٥) سورة سبأ : الآية ٣٠ .

(٦) سورة المائدة : الآية ٩ .

(٧) سورة الأنعام : الآية ٢ .

(٨) سورة فاطر : الآية ١٠ .

(٩) سورة المجادلة : الآية ١١ .

٧٧

وقال :( تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) (١) ، إلى غير ذلك من الآيات .

وعلى هذا فالآيات الدالّة على وقوع الصيحة على أهل الأرض، وفناء الدنيا وخرابها، مُنزَلة على انطواء نشأة الدنيا وانقراضها وأهلها ، كقوله تعالى : ( مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) (٢) ، وقوله سبحانه : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ) (٣) ، وقال سبحانه :( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ) (٤) .

فهناك صيحة ينطوي بها بساط الدنيا وينقرض أهلها ، ونفخ يموت به أهل البرزخ ، ونفخ تقوم به القيامة ويبعث به الناس .

نعم ، قوله سبحانه :( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٥) ، وقوله : ( أَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ) (٦) ، قد جمع الجميع تحت الأجل ، فلا موت حتف أنفساً أو قتلاً ، ولا بصيحة ولا بنفخ صور إلاّ بأجل .

وأمّا قوله سبحانه في آيتي النفخ :( إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) ، فالاستثناء الذي في قوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) (٧)

ـــــــــــــ

(١) سورة المعارج : الآية ٤ .

(٢) سورة يس : الآيتان ٤٩ و ٥٠ .

(٣) سورة آل عمران : الآية ١٨٥ .

(٤) سورة الرحمن : الآية ٢٦ .

(٥) سورة الأحقاف : الآية ٣ .

(٦) سورة الأنعام : الآية ٢ .

(٧) سورة النمل : الآية ٨٧ .

٧٨

فيفسّره ما بعده من الآيات ، وهي :( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

لكنّ الحسنة أُريدت بها المطْلَقة ؛ لمكان الأمن ، وقرينة مقابلتها بالسيّئة والإيعاد عليها ، فالمختلط عمله منهما لا يأمن الفزع ؛ لمكان السيّئة ، فالأمن من الفزع طيب ذاته وطيّب عمله من السيّئات ، وقد عدّ سبحانه سيّئات الأعمال خبائث ، فقال :( وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) (٢) .

وقد عدّ من الرجس الكفر والنفاق والشرك، فقال :( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (٤) ، وقال :( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (٥) .

وعدّ من الشرك بعض مراتب الإيمان، فقال :( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) (٦) .

فطيب الذات من الشرك : أن لا يؤمن بغيره سبحانه ، ولا يطمئنّ إلاّ إليه ، أي لا يرى له سبحانه شريكاً في وجوده وأوصافه وأفعاله ، وهو الولاية ، وإليه يرجع معنى قوله

ـــــــــــــ

(١) سورة النمل : الآيتان ٨٩ و ٩٠ .

(٢) سورة الأنفال : الآية ٣٧ .

(٣) سورة النور : الآية ٢٦ .

(٤) سورة التوبة : الآية ١٢٥ .

(٥) سورة التوبة : الآية ٢٨ .

(٦) سورة يوسف : الآية ١٠٦ .

٧٩

سبحانه : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ ) (١) ، أي من حيث الذات بالولاية :( يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) (٢) ، والسلام هو الأمن .

فقد ظهر بما وجّهنا به معنى الآية : أنّ الحسنة فيها هي الولاية وبه يُشعر قوله سبحانه :( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (٣) .

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ) (٤) ، قالعليه‌السلام : (الحسنة ـ والله ـ ولاية أمير المؤمنين ، والسيّئة ـ والله ـ اتّباع أعدائه) (٥) .

وفي (الكافي) عن الصادق ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنينعليهم‌السلام ، قالعليه‌السلام :(الحسنة معرفة الولاية وحبّنا أهل البيت ، والسيّئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت) ، ثمَّ قرأ الآية(٦) ـ الحديث .

وبما مرّ من البيان يتبيّن الحال في الآية الأُخرى ، وهي قوله سبحانه :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) (٧) .

فظاهر الآية أنّ الذين صُعقوا من النفخة هم الذين قاموا لله يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، وهم المحضَرون ؛ لقوله سبحانه :( إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) (٨) .

ـــــــــــــ

(١) و (٢) سورة النحل : الآية ٣٢ .

(٣) سورة الشورى : الآية ٢٣ .

(٤) سورة القصص : الآية ٨٤ .

(٥) تفسير القمّي : ٢ / ١٣٢ .

(٦) الكافي : ١ / ٢٠٧ ، الباب ٦٤ ، الحديث ١٤ .

(٧) سورة الزُّمر : الآية ٦٨ .

(٨) سورة يس : الآية ٥٣ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

يده مع يد الذّابح، ويسمّي الله تعالى، ويقول « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » إلى قوله « وأنا من المسلمين » ثمَّ يقول: « اللهم منك ولك. بسم الله، والله أكبر. اللهمّ تقبّل منّي » ثمَّ يمرّ السّكين. ولا ينخعه حتّى يموت. ومن أخطأ في الذّبيحة، فذكر غير صاحبها، كانت مجزئة عنه بالنّيّة. وينبغي أن يبدأ أيضا بالذّبح قبل الحلق، وفي العقيقة بالحلق قبل الذّبح. فإن قدّم الحلق على الذّبح ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن السّنّة أن يأكل الإنسان من هديه لمتعته، ومن الأضحيّة ويطعم القانع والمعترّ: يأكل ثلثه، ويطعم القانع والمعترّ ثلثه، ويهدي لأصدقائه الثّلث الباقي. وقد بيّنّا أنه لا يجوز أن يأكل من الهدي المضمون إلّا إذا كان مضطرّا. فإن أكل منه من غير ضرورة، كان عليه قيمته. ولا بأس بأكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام وادّخارها. ولا يجوز أن يخرج من منى من لحم ما يضحّيه. ولا بأس بإخراج السّنام منه. ولا بأس أيضا بإخراج لحم قد ضحّاه غيره. ويستحبّ أن لا يأخذ شيئا من جلود الهدي والأضاحي، بل يتصدّق بها كلّها. ولا يجوز أيضا أن يعطيها الجزّار. وإذا أراد أن يخرج شيئا منها لحاجته إلى ذلك، تصدّق بثمنه.

ولا يجوز أن يحلق الرّجل رأسه، ولا أن يزور البيت، إلا بعد الذّبح، أو أن يبلغ الهدي محلّه. وهو أن يحصل في رحله

٢٦١

فإذا حصل في رحله بمنى، وأراد أن يحلق، جاز له ذلك. ومتى فعل ذلك ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومن وجبت عليه بدنة في نذر أو كفّارة، ولم يجدها، كان عليه سبع شياه. فإن لم يجد، صام ثمانية عشر يوما إمّا بمكّة أو إذا رجع إلى أهله.

والصّبيّ إذا حجّ به متمتّعا، وجب على وليّه أن يذبح عنه.

ومن لم يتمكّن من شراء هدي، إلّا يبيع بعض ثيابه التي يتجمّل بها، لم يلزمه ذلك، وكان الصوم مجزئا عنه.

ويجزي الهدي عن الأضحيّة. وإن جمع بينهما، كان أفضل. ومن لم يجد الأضحيّة، جاز له أن يتصدّق بثمنها. فإن اختلفت أثمانها، نظر إلى الثّمن الأوّل والثّاني والثّالث، وجمعها ثمَّ يتصدّق بثلثها، وليس عليه شي‌ء.

ومن نذر لله تعالى أن ينحر بدنة، فإن سمّى الموضع الذي ينحرها فيه، وجب عليه الوفاء به، وإن لم يسمّ الموضع، لم يجز له أن ينحرها إلّا بفناء الكعبة. ويكره للإنسان أن يضحّي بكبش قد تولّى تربيته، ويستحبّ أن يكون ذلك ممّا يشتريه.

باب الحلق والتقصير

يستحبّ أن يحلق الإنسان رأسه بعد الذّبح. وإن كان صرورة، لا يجزئه غير الحلق. وإن كان ممّن حجّ حجّة الإسلام، جاز له التّقصير، والحلق أفضل. اللهمّ إلّا أن يكون قد لبّد

٢٦٢

شعره. فإن كان كذلك، لم يجزئه غير الحلق في جميع الأحوال.

ومن ترك الحلق عامدا أو التّقصير إلى أن يزور البيت، كان عليه دم شاة. وإن فعله ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء، وكان عليه إعادة الطّواف. ومن رحل من منى قبل الحلق، فليرجع إليها، ولا يحلق رأسه إلّا بها مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من الرّجوع إليها، فليحلق رأسه في مكانه، ويردّ شعره إلى منى، ويدفنه هناك فإن لم يتمكّن من ردّ الشعر، لم يكن عليه شي‌ء.

والمرأة ليس عليها حلق، ويكفيها من التّقصير مقدار أنملة.

وإذا أراد أن يحلق، فليبدأ بناصيته من القرن الأيمن ويحلق إلى العظمين ويقول إذا حلق: « اللهمّ أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيامة ». ومن لم يكن على رأسه شعر، فليمرّ الموسى عليه. وقد أجزأه. وإذا حلق رأسه، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء والطّيب، إن كان متمتّعا. فإن كان حاجّا غير متمتّع، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف الزّيارة، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف النّساء، حلّت له أيضا النّساء.

ويستحبّ ألا يلبس الثّياب إلّا بعد الفراغ من طواف الزّيارة، وليس ذلك بمحظور. وكذلك يستحبّ ألّا يمسّ الطّيب إلّا بعد الفراغ من طواف النّساء، وإن لم يكن ذلك محظورا على ما قدّمناه.

٢٦٣

باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ من مناسكه بمنى، فليتوجّه إلى مكّة، وليزر البيت يوم النّحر، ولا يؤخره إلّا لعذر. فإن أخّره لعذر، زار من الغد ولا يؤخر أكثر من ذلك. هذا إذا كان متمتّعا. فإن كان مفردا أو قارنا، جاز له أن يؤخر الى أيّ وقت شاء، غير أنّه لا تحلّ له النّساء. وتعجيل الطّواف للقارن والمفرد أفضل من تأخيره.

ويستحبّ لمن أراد زيارة البيت أن يغتسل قبل دخول المسجد والطّواف بالبيت، ويقلّم أظفاره، ويأخذ من شاربه، ثمَّ ثمَّ يزور. ولا بأس أن يغتسل الإنسان بمنى، ثمَّ يجي‌ء إلى مكّة، فيطوف بذلك الغسل بالبيت. ولا بأس أن يغتسل بالنّهار ويطوف بالليل ما لم ينقض ذلك الغسل بحدث أو نوم. فإن نقضه بحدث أو نوم، فليعد الغسل استحبابا، حتّى يطوف وهو على غسل. ويستحبّ للمرأة أيضا أن تغتسل قبل الطّواف.

وإذا أراد أن يدخل المسجد، فليقف على بابه، ويقول: « اللهمّ أعنّي على نسكك » إلى آخر الدّعاء الذي ذكرناه في الكتاب المقدّم ذكره. ثمَّ يدخل المسجد، ويأتي الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله. فإن لم يستطع، استلمه بيده وقبّل يده. فإن لم يتمكّن من ذلك أيضا، استقبله، وكبّر، وقال ما قال حين طاف بالبيت يوم قدم مكّة. ثمَّ يطوف بالبيت أسبوعا كما قدّمنا وصفه

٢٦٤

ويصلّي عند المقام ركعتين. ثمَّ ليرجع الى الحجر الأسود فيقبّله، إن استطاع، ويستقبله ويكبّر. ثمَّ ليخرج إلى الصّفا، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكّة. ثمَّ يأتي المروة، ويطوف بينهما سبعة أشواط، يبدأ بالصّفا ويختم بالمروة.

فإذا فعل ذلك، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء. ثمَّ ليرجع الى البيت، فيطوف به طواف النّساء أسبوعا، يصلّي عند المقام ركعتين، وقد حلّ له النّساء.

وأعلم أنّ طواف النّساء فريضة في الحجّ وفي العمرة المبتولة. وليس بواجب في العمرة التي يتمتّع بها الى الحج. فإن مات من وجب عليه طواف النّساء. كان على وليّه القضاء عنه. وإن تركه وهو حيّ، كان عليه قضاؤه. فإن لم يتمكّن من الرّجوع الى مكّة، جاز له أن يأمر من يتوب عنه. فإذا طاف النّائب عنه، حلّت له النّساء. وطواف النّساء فريضة على النّساء والرّجال والشّيوخ والخصيان، لا يجوز لهم تركه على حال.

فإذا فرغ الإنسان من الطّواف فليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التّشريق إلّا بها. فإن بات في غيرها، كان عليه دم شاة. فإن بات بمكّة ليالي التّشريق، ويكون مشتغلا بالطّواف والعبادة، لم يكن عليه شي‌ء. وإن لم يكن مشتغلا بهما، كان عليه ما ذكرناه، وان خرج من منى بعد نصف اللّيل، جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنّه لا يدخل مكّة إلّا بعد طلوع الفجر. وإن تمكّن ألّا يخرج

٢٦٥

منها إلّا بعد طلوع الفجر، كان أفضل. ومن بات الثّلاث ليال بغير منى متعمّدا، كان عليه ثلاثة من الغنم. والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيّام التّشريق من منى. فإن أراد أن يأتي مكّة للطّواف بالبيت تطوّعا، جاز له ذلك، غير أنّ الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى لرمي الجمار، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيّام: الثّاني من النّحر والثّالث والرّابع، كلّ يوم بإحدى وعشرين حصاة. ويكون ذلك عند الزّوال، فإنّه الأفضل. فإن رماها ما بين طلوع الشمس الى غروبها، لم يكن به بأس.

فإذا أراد أن يرمي، فليبدأ بالجمرة الأولى، فليرمها عن يسارها من بطن المسيل بسبع حصيات يرميهنّ خذفا. ويكبّر مع كلّ حصاة، ويدعوا بالدّعاء الذي قدّمناه. ثمَّ يقوم عن يسار الطّريق ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلّي على النّبيّ وآله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمَّ ليتقدم قليلا ويدعوا ويسأله أن يتقبّل منه. ثمَّ يتقدّم أيضا ويرمي الجمرة الثّانية، ويصنع عندها كما صنع عند الأولى، ويقف ويدعوا، ثمَّ يمضي إلى الثّالثة فيرميها كما رمى الأوليين، ولا يقف عندها.

وإذا غابت الشّمس، ولم يكن قد رمى بعد، فلا يجوز له أن يرمي إلّا في الغد. فإذا كان من الغد، رمى ليومه مرّة، ومرّة قضاء لما فاته، ويفصل بينهما بساعة. وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة، والذي ليومه عند الزّوال. فإن فاته رمي يومين،

٢٦٦

رماها كلّها يوم النّفر، وليس عليه شي‌ء. وقد بينا أنّه لا يجوز الرّمي باللّيل. وقد رخّص للعليل والخائف والرّعاة والعبيد الرّمي باللّيل. ومن نسي رمي الجمار الى أن أتى مكّة، عاد إلى منى، ورماها، وليس عليه شي‌ء. وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه حكم الرّجل سواء.

فإن لم يذكر الى أن يخرج من مكّة، لم يكن عليه شي‌ء. إلّا أنّه إن حجّ في العام المقبل، أعاد ما كان قد فاته من رمي الجمار. وإن لم يحجّ أمر وليّه أن يرمي عنه. فإن لم يكن له وليّ، استعان برجل من المسلمين في قضاء ذلك عنه.

والترتيب واجب في الرّمي. يجب أن يبدأ بالجمرة العظمى ثمَّ الوسطى ثمَّ جمرة العقبة. فمن خالف شيئا منها، أو رماها منكوسة، كان عليه الإعادة. ومن بدأ بجمرة العقبة ثمَّ الوسطى ثمَّ الأولى، أعاد على الوسطى ثمَّ جمرة العقبة وقد أجزأه. فإن نسي فرمى الجمرة الأولى بثلاث حصيات، ورمى الجمرتين الأخريين على التّمام، كان عليه ان يعيد عليها كلّها. وإن كان قد رمى من الجمرة الأولى بأربع حصيات ثمَّ رمى الجمرتين على التّمام، كان عليه أن يعيد على الأولى بثلاث حصيات. وكذلك إن كان قد رمى على الوسطى أقل من أربعة، أعاد عليها وعلى ما بعدها. وإن رماها بأربعة، تمّمها، وليس عليه شي‌ء من الإعادة على الثّالثة. ومن رمى جمرة بست حصيات، وضاعت عنه واحدة،

٢٦٧

أعاد عليها بحصاة، وإن كان من الغد. ولا يجوز له أن يأخذ من حصى الجمار فيرمي بها. ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة، ولم يعلم من أي الجمار هي، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة. فإن رمى بحصاة، فوقعت في محمله، أعاد مكانها حصاة أخرى. فإن أصابت إنسانا أو دابّة، ثمَّ وقعت على الجمرة، فقد أجزأه.

ولا بأس أن يرمي الإنسان راكبا. وإن رمى ماشيا، كان أفضل ولا بأس أن يرمى عن العليل والمبطون والمغمى عليه والصّبيّ.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة. يبدأ بالتّكبير يوم النّحر من بعد الظّهر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّالث من أيّام التّشريق، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات، يبدأ عقيب الظّهر من يوم النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّاني من أيّام التّشريق، ويقول في التّكبير: « الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، والله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

لا بأس أن ينفر الإنسان من منى اليوم الثّاني من أيّام التّشريق وهو اليوم الثّالث من يوم النّحر. فإن أقام إلى النّفر الأخير، وهو اليوم الثّالث من أيّام التّشريق والرّابع من يوم النّحر، كان أفضل. فإن كان ممّن أصاب النّساء في إحرامه أو صيدا، لم يجز له أن

٢٦٨

ينفر في النّفر الأوّل. ويجب عليه المقام الى النّفر الأخير. وإذا أراد أن ينفر في النّفر الأوّل، فلا ينفر إلّا بعد الزّوال، إلّا أن تدعوه ضرورة إليه من خوف وغيره، فإنّه لا بأس أن ينفر قبل الزّوال، وله أن ينفر بعد الزّوال ما بينه وبين غروب الشّمس. فإذا غابت الشّمس، لم يجز له النّفر، وليبت بمنى الى الغد. وإذا نفر في النّفر الأخير، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشّمس أيّ وقت شاء. فإن لم ينفر وأراد المقام بمنى، جاز له ذلك، إلّا الإمام خاصّة، فإنّ عليه أن يصلّي الظّهر بمكّة.

ومن نفر من منى، وكان قد قضى مناسكه كلّها، جاز له أن لا يدخل مكّة. وإن كان قد بقي عليه شي‌ء من المناسك، فلا بدّ له من الرّجوع إليها. والأفضل على كلّ حال الرّجوع إليها لتوديع البيت وطواف الوداع.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان بمسجد منى، وهو مسجد الخيف. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسجده عند المنارة التي في وسط المسجد، وفوقها إلى القبلة نحوا من ثلاثين ذراعا، وعن يمينها وعن يسارها مثل ذلك. فإن استطعت أن يكون مصلّاك فيه، فافعل. ويستحبّ أن يصلّي الإنسان ستّ ركعات في مسجد منى. فإذا بلغ مسجد الحصباء، وهو مسجد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليدخله وليسترح فيه قليلا وليستلق على قفاه.

٢٦٩

فإذا جاء إلى مكّة فليدخل الكعبة، إن تمكّن من ذلك سنّة واستحبابا. والصّرورة لا يترك دخولها على حال مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من ذلك، لم يكن عليه شي‌ء.

فإذا أراد دخول الكعبة فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكّدة. فإذا دخلها، فلا يمتخط فيها، ولا يبصق. ولا يجوز دخولها بحذاء. ويقول إذا دخلها: « اللهمّ إنّك قلت: ومن دخله كان آمنا، فآمنّى من عذابك عذاب النار ».

ثمَّ يصلّي بين الأسطوانتين على الرّخامة الحمراء ركعتين، يقرأ في الأولى منهما « حم السّجدة » وفي الثّانية عدد آياتها، ثمَّ ليصلّ في زوايا البيت كلّها، ثمَّ يقول: « اللهمّ من تهيّأ وتعبّأ » إلى آخر الدّعاء. فإذا صلّى عند الرّخامة على ما قدّمناه، وفي زوايا البيت، قام فاستقبل الحائط بين الرّكن اليمانيّ والغربيّ، ويرفع يديه، ويلتصق به، ويدعوا. ثمَّ يتحوّل الى الرّكن اليمانيّ، فيفعل به مثل ذلك. ثمَّ يأتي الرّكن الغربيّ، ويفعل به أيضا مثل ذلك، ثمَّ ليخرج. ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة مع الاختيار. فإن اضطرّ الى ذلك، لم يكن عليه بأس بالصّلاة فيها. فأمّا النّوافل فالصّلاة فيها مندوب اليه.

فإذا خرج من البيت ونزل عن الدرجة، صلّى عن يمينه ركعتين. فإذا أراد الخروج من مكّة، جاء الى البيت، فطاف به أسبوعا طواف الوداع سنّة مؤكّدة. فإن استطاع أن يستلم الحجر

٢٧٠

والرّكن اليمانيّ في كل شوط، وفعل. وإن لم يتمكّن، افتتح به، وختم به، وقد أجزأه. فإن لم يتمكن من ذلك أيضا، لم يكن عليه شي‌ء. ثمَّ يأتي المستجار، فيصنع عنده كما صنع يوم قدم مكّة. ويتخيّر لنفسه من الدّعاء ما أراد. ثمَّ يستلم الحجر الأسود، ثمَّ يودّع البيت ويقول: « اللهمّ لا تجعله آخر العهد من بيتك » ثمَّ ليأت زمزم فيشرب منه، ثمَّ ليخرج، ويقول: « آئبون تائبون، عابدون، لربّنا حامدون، الى ربّنا راغبون، الى ربّنا راجعون ». فإذا خرج من باب المسجد، فليكن خروجه من باب الحنّاطين. فيخرّ ساجدا، ويقوم مستقبل الكعبة، فيقول: « اللهمّ إني أنقلب على لا إله إلا الله ».

ومن لم يتمكّن من طواف الوداع، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج، لم يكن عليه شي‌ء. فإذا أراد الخروج من مكّة، فليشتر بدرهم تمرا، وليتصدّق به، ليكون كفّارة لما دخل عليه في الإحرام، إن شاء الله.

باب فرائض الحج

فرائض الحجّ: الإحرام من الميقات، والتّلبيات الأربع، والطّواف بالبيت، إن كان متمتّعا، ثلاثة أطواف: طواف للعمرة، وطواف للزيارة، وطواف للنّساء، وإن كان قارنا أو مفردا، طوافان: طواف للحجّ، وطواف للنّساء، ويلزمه مع

٢٧١

كلّ طواف ركعتان عند المقام، وهما أيضا فرضان، والسّعي بين الصّفا والمروة، والوقوف بالموقفين: عرفات والمشعر الحرام وإن كان متمتّعا، كان الهدي أيضا واجبا عليه أو ما يقوم مقامه.

فمن ترك الإحرام متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا حتّى يجوز الميقات، كان عليه أن يرجع إليه، ويحرم منه، إذا تمكّن منه. فإن لم يتمكّن لضيق الوقت أو الخوف أو ما جرى مجراهما من أسباب الضّرورات، أحرم من موضعه وقد أجزأه. فإن كان قد دخل مكّة، وأمكنه الخروج الى خارج الحرم، فليخرج وليحرم منه. فإن لم يستطع ذلك، أحرم من موضعه.

ومن ترك التّلبية متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركها ناسيا، ثمَّ ذكر، فليجدّد التّلبية، وليس عليه شي‌ء.

ومن ترك طواف الزّيارة متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا، أعاد الطّواف أيّ وقت ذكره.

ومن ترك طواف النّساء متعمّدا، لم يبطل حجّة، إلّا أنّه لا تحلّ له النّساء، حتى يطوف عنه حسب ما قدّمناه. وركعتا الطّواف متى تركهما ناسيا، كان عليه قضاءهما حسب ما قدّمناه.

ومن ترك السّعي متعمّدا، فلا حجّ له. فإن تركه ناسيا،

٢٧٢

عليه قضاؤه حسب ما قدّمناه.

ومن ترك الوقوف بعرفات متعمّدا، أو بالمشعر الحرام، فلا حجّ له. فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا، كان عليه أن يعود، فيقف بها ما بينه وبين طلوع الفجر من يوم النّحر. فإن لم يذكر إلّا بعد طلوع الفجر، وكان قد وقف بالمشعر، فقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

وإذا ورد الحاجّ ليلا، وعلم: أنّه مضى الى عرفات، وقف بها وإن كان قليلا، ثمَّ عاد الى المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، وجب عليه المضيّ إليها والوقوف بها، ثمَّ يجي‌ء إلى المشعر الحرام. فإن غلب على ظنّه أنّه إن مضى الى عرفات، لم يلحق المشعر قبل طلوع الشّمس، اقتصر على الوقوف بالمشعر، وقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

ومن أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، فقد أدرك الحجّ. وإن أدركه بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ.

ومن وقف بعرفات، ثمَّ قصد المشعر، فعاقه في الطّريق عائق، فلم يلحق الى قرب الزّوال، فقد تمَّ حجّه، ويقف قليلا بالمشعر ويمضي إلى منى. ومن لم يكن قد وقف بعرفات، وأدرك المشعر بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

ومن فاته الحجّ، فليقم على إحرامه الى انقضاء أيّام

٢٧٣

التّشريق، ثمَّ يجي‌ء، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصّفا والمروة، ويجعل حجّته عمرة. وإن كان قد ساق معه هديا، فلينحره بمكّة وكان عليه الحجّ من قابل إن كانت حجته حجّة الإسلام. وإن كانت حجّة التّطوّع، كان بالخيار: إن شاء حجّ، وإن شاء لم يحجّ. ومن حضر المناسك كلّها ورتّبها في مواضعها. إلّا أنّه كان سكرانا، فلا حجّ له، وكان عليه الحجّ من قابل.

باب مناسك النساء في الحج والعمرة

قد بيّنّا فيما تقدّم من أن الحجّ واجب على النّساء كوجوبه على الرّجال. فمتى كانت المرأة لها زوج، فلا تخرج إلّا معه. فإن منعها زوجها من الخروج في حجّة الإسلام، جاز لها خلافه. ولتخرج، وتحجّ حجّة الإسلام. وإن أرادت أن تحجّ تطوّعا، فمنعها زوجها، فليس لها مخالفته.

وينبغي أن لا تخرج إلّا مع ذي محرم لها من أب أو أخ أو عمّ أو خال. فإن لم يكن لها أحد ممّن ذكرناه. جاز لها أن تخرج مع من تثق بدينه من المؤمنين.

وإذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق، جاز لها أن تخرج في حجّة الإسلام، سواء كان للزّوج عليها رجعة أو لم تكن. وليس لها أن تخرج إذا كانت حجّتها تطوّعا، إلّا أن تكون العدّة

٢٧٤

لزوجها عليها فيها رجعة. فأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها، فلا بأس بها أن تخرج فيها الى الحجّ فرضا كان أو نفلا.

وإذا خرجت المرأة، وبلغت ميقات أهلها، فعليها أن تحرم منه، ولا تؤخره. فإن كانت حائضا، توضّأت وضوء الصّلاة واحتشت واستثفرت وأحرمت، إلّا أنها لا تصلّي ركعتي الإحرام فإن تركت الإحرام ظنّا منها أنّه لا يجوز لها ذلك، وجازت الميقات، كان عليها أن ترجع الى الميقات، فتحرم منه، إذا أمكنها ذلك. فإن لم يمكنها، أحرمت من موضعها. إذا لم تكن قد دخلت مكّة. فإن كانت قد دخلت مكّة، فلتخرج الى خارج الحرم، وتحرم من هناك. فإن لم يمكنها ذلك، أحرمت من موضعها، وليس عليها شي‌ء.

فإذا دخلت المرأة مكّة، وكانت متمتّعة، طافت بالبيت، وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت. وقد أحلّت من كلّ ما أحرمت منه مثل الرّجل سواء.

فإن حاضت قبل الطّواف، انتظرت ما بينها وبين الوقت الذي تخرج الى عرفات. فإن طهرت، طافت وسعت. وإن لم تطهر، فقد مضت متعتها، وتكون حجّة مفردة، تقضي المناسك كلّها ثمَّ تعتمر بعد ذلك عمرة مبتولة. فإن طافت بالبيت ثلاثة أشواط ثمَّ حاضت، كان حكمها حكم من لم يطف. وإذا طافت أربعة أشواط، ثمَّ حاضت، قطعت الطّواف،

٢٧٥

وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وقد تمّت متعتها.

فإذا فرغت من المناسك، وطهرت تمّمت الطّواف. وإن كانت قد طافت الطّواف كلّه، ولم تكن قد صلّت الرّكعتين عند المقام، فلتخرج من المسجد، ولتسع، وتعمل ما قدّمناه من الإحرام بالحجّ وقضاء المناسك، ثمَّ تقضي الرّكعتين إذا طهرت. وإذا طافت بالبيت بين الصّفا والمروة وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وخافت أن يلحقها الحيض فيما بعد، فلا تتمكّن من طواف الزّيارة وطواف النّساء، فجائز لها أن تقدّم الطّوافين معا، والسّعي بين الصّفا والمروة، ثمَّ تخرج فتقضي المناسك كلّها، ثمَّ ترجع الى منزلها.

فإن كانت قد طافت طواف الزّيارة، وبقي عليها طواف النّساء، فلا تخرج من مكّة إلّا بعد أن تقضيه. وإن كانت قد طافت منه أربعة أشواط وأرادت الخروج، جاز لها أن تخرج وإن لم تتمّ الطّواف.

والمستحاضة لا بأس بها أن تطوف بالبيت، وتصلّي عند المقام، وتشهد المناسك كلّها، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة. والفرق بينها وبين الحائض، أنّ الحائض لا يحلّ لها دخول المسجد، فلا تتمكّن من الطّواف، ولا يجوز لها أيضا الصّلاة، والطّواف لا بدّ فيه من الصّلاة، وليس هذا حكم المستحاضة.

٢٧٦

وإذا أرادت الحائض وداع البيت، فلا تدخل المسجد، ولتودّع من أدنى باب من أبواب المسجد، وتنصرف، إن شاء الله.

وإذا كانت المرأة عليلة لا تقدر على الطّواف، طيف بها، وتستلم الأركان والحجر. فإن كان عليها زحمة، فتكفيها الإشارة. ولا تزاحم الرّجال. وإن كان بها علّة تمنع من حملها والطّواف بها، طاف عنها وليّها، وليس عليها شي‌ء. وكذلك إذا كانت عليلة لا تعقل عند الإحرام، أحرم عنها وليّها، وجنّبها ما يجتنب المحرم، وقد تمَّ إحرامها. وليس على النّساء حلق ولا دخول البيت. فإن أرادت دخول البيت، فلتدخله إذا لم يكن هناك زحام. ولا يجوز للمستحاضة دخول البيت على حال.

باب من حج عن غيره

من وجب عليه الحجّ، لا يجوز له أن يحجّ عن غيره إلّا بعد أن يقضي حجّته التي وجبت عليه. فإذا قضاها، جاز له بعد ذلك أن يحجّ عن غيره. ومن ليس له مال يجب عليه الحجّ، جاز له أن يحجّ عن غيره. فإن تمكّن بعد ذلك من المال، كان عليه أن يحجّ عن نفسه، وقد أجزأت الحجّة التي حجّها عمّن حجّ عنه.

وينبغي لمن يحجّ عن غيره أن يذكره في المواضع كلّها،

٢٧٧

فيقول عند الإحرام: اللهمّ ما أصابني من تعب أو نصب أو لغوب فأجر فلان بن فلان، وأجرني في نيابتي عنه. وكذلك يذكره عند التّلبية والطّواف والسّعي وعند الموقفين وعند الذّبح وعند قضاء جميع المناسك، فإن لم يذكره في هذه المواضع، وكانت نيته الحجّ عنه، كان جائزا.

ومن أمر غيره أن يحجّ عنه متمتّعا، فليس له أن يحجّ عنه مفردا ولا قارنا. فإن حجّ عنه كذلك، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. وإن أمره أن يحجّ عنه مفردا أو قارنا، جاز له أن يحجّ عنه متمتّعا، لأنه يعدل الى ما هو الأفضل. ومن أمر غيره أن يحجّ عنه على طريق بعينها، جاز له أن يعدل عن ذلك الطّريق الى طريق آخر. وإذا أمره أن يحجّ عنه بنفسه، فليس له أن يأمر غيره بالنّيابة عنه. فإن جعل الأمر في ذلك اليه، جاز له أن يستنيب غيره فيه. وإذا أخذ حجة عن غيره، لا يجوز له أن يأخذ حجة أخرى، حتى يقضي التي أخذها.

وإذا حجّ عن غيره، فصدّ عن بعض الطّريق، كان عليه ممّا أخذه بمقدار ما بقي من الطّريق. اللهم إلّا أن يضمن الحجّ فيما يستأنف، ويتولّاه بنفسه.

فإن مات النّائب في الحجّ، وكان موته بعد الإحرام ودخول الحرم، فقد سقطت عنه عهدة الحجّ، وأجزأ عمّن حجّ عنه وإن مات قبل الإحرام ودخول الحرم، كان على ورثته، إن

٢٧٨

خلّف في أيديهم شيئا، مقدار ما بقي عليه من نفقة الطّريق. وإذا أخذ حجة، فأنفق ما أخذه في الطّريق من غير إسراف، واحتاج الى زيادة، كان على صاحب الحجّة أن يتمّمه استحبابا. فإن فضل من النّفقة شي‌ء، كان له، وليس لصاحب الحجّة الرّجوع عليه بالفضل. ولا يجوز للإنسان أن يطوف عن غيره وهو بمكّة، إلّا أن يكون الذي يطوف عنه مبطونا لا يقدر على الطّواف بنفسه، ولا يمكن حمله والطّواف به. وإن كان غائبا، جاز أن يطوف عنه.

وإذا حجّ الإنسان عن غيره من أخ له أو أب أو ذي قرابة أو مؤمن، فإن ثواب ذلك يصل الى من حجّ عنه من غير أن ينقض من ثوابه شي‌ء. وإذا حجّ الإنسان عمّن يجب عليه الحجّ بعد موته تطوّعا منه بذلك، فإنّه يسقط عن الميّت بذلك فرض الحجّ.

ومن كان عنده وديعة، فمات صاحبها، وله ورثة، ولم يكن قد حجّ حجّة الإسلام، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يحجّ عنه، ويردّ الباقي على ورثته، إذا غلب على ظنّه أنّ ورثته لا يقضون عنه حجّة الإسلام. فإن غلب على ظنّه أنّهم يتولّون القضاء عنه، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا إلّا بأمرهم.

ولا بأس أن تحجّ المرأة عن الرّجل إذا كانت قد حجّت

٢٧٩

حجّة الإسلام، وكانت عارفة. وإذا لم تكن حجّت حجّة الإسلام، وكانت صرورة، لم يجز لها أن تحجّ عن غيرها على حال.

ولا يجوز لأحد أن يحجّ عن غيره إذا كان مخالفا له في الاعتقاد، اللهمّ إلّا أن يكون أباه، فإنّه يجوز له أن يحجّ عنه.

باب العمرة المفردة

العمرة فريضة مثل الحجّ، لا يجوز تركها. ومن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، سقط عنه فرضها. وإن لم يتمتّع، كان عليه أن يعتمر بعد انقضاء الحجّ، إن أراد، بعد انقضاء أيّام التّشريق، وإن شاء أخّرها إلى استقبال المحرّم. ومن دخل مكّة بالعمرة المفردة في غير أشهر الحجّ، لم يجز له أن يتمتّع بها الى الحجّ. فإن أراد التّمتّع كان عليه تجديد عمرة في أشهر الحجّ. وإن دخل مكّة بالعمرة المفردة في أشهر الحجّ، جاز له أن يقضيها، ويخرج الى بلده أو أيّ موضع شاء. والأفضل له أن يقيم حتى يحجّ، ويجعلها متعة. وإذا دخلها بنيّة التّمتّع، لم يجز له أن يجعلها مفردة، وأن يخرج من مكّة، لأنّه صار مرتبطا بالحجّ. وأفضل العمرة ما كانت في رجب، وهي تلي الحجّ في الفضل.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292