أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333421 / تحميل: 11882
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

واليك نموذجاً من ذلك:

١ - تسامى بشعورِ المسلمين وعواطفهم، أنْ تسترقها النعرات العصبيّة، ونزعاتها المُفرّقة، ووجّهها نحو الهدف الأسمى مِن طاعة اللّه تعالى ورضاه: فالحبّ والبغض، والعطاء والمنع، والنصر والخذلان: كلّ ذلك يجب أنْ يكون للّه عزَّ وجل، وبذلك تتوثّق عرى المؤاخاة، وتتلاشى النزعات المُفرّقة، ويغدو المسلمون كالبنيان المرصوص، يَشُدّ بعضُه بعضاً.

وإليك قبَساً مِن آثار أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المقام:

عن الباقرعليه‌السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ( ودّ المؤمن للمؤمن في اللّه، من أعظم شعب الايمان، ألا ومن أحبّ في اللّه، وأبغض في اللّه، وأعطى في اللّه، ومنع في اللّه، فهو من أصفياء اللّه )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ المتحابّين في اللّه يوم القيامة، على منابرَ من نور، قد أضاء نورُ وجوهِهم، ونورُ أجسادِهم، ونورُ منابرهِم، كلّ شيءٍ حتّى يُعرفوا به، فيُقال هؤلاء المتحابّون في اللّه )(٢).

وقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ( إذا جمَع اللّه عزّ وجل الأولين والآخرين، قام منادِ يُنادي بصوتٍ يسمَع الناس، فيقول: أين المتحابّون في اللّه ؟ قال: فيقوم عُنُق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٩ عن الكافي.

(٢) نفس المصدر.

١٠١

بغير حساب ).

قال: ( فتلقّاهم الملائكة فيقولون: إلى أين ؟ فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب ).

قال: فيقولون: ( فأيّ ضربٍ أنتم مِن الناس ؟ فيقولون: نحن المتحابّون في اللّه، فيقولون: وأيّ شيءٍ كانت أعمالكم ؟ قالوا: كنّا نحبّ في اللّه، ونبغض في اللّه. قال: فيقولون: نِعم أجرُ العاملين )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كلّ مَن لم يحب على الدين، ولم يَبغَض على الدين فلا دِين له )(٢).

وعن جابر الجعفي عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( إذا أردت أنْ تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبِك، فإنْ كان يُحبُّ أهل طاعة اللّه، ويبغَض أهل معصيته، ففيك خير، واللّه يحبّك، وإنْ كان يبغض أهل طاعة اللّه ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع مَن أحَب )(٣).

٢ - رغّب المسلمين فيما يؤلّفهم، ويحقّق لهم العزّة والرخاء، كالتواصي بالحقّ، والتعاون على البِرّ، والتناصر على العدل، والتكافل في مجالات الحياة الاقتصاديّة، فهم في عُرف الشريعة أسرةٌ واحدة، يسعدها ويشقيها

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ١ ص ٢٨٣ عن الكافي.

(٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ٩٠ عن الكافي.

١٠٢

ما يسعد أفرادها ويشقيهم.

دستورها:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (١).

وشعارها قول الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن أصبَح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليسَ بمُسلم )(٢).

٣ - حذّر المسلمين ممّا يبعَث على الفُرقة والعداء، والفحش والبذاء والاغتياب، والنميمة والخيانة والغش، ونحوها مِن مثيرات الفتن والضغائن، ومبدأهم في ذلك قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المؤمن من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم، والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر مَن هجَر السيئات )(٣) .

٤ - أتاح الفُرَص لإنماء العلاقات الودّية بين المسلمين، كالحث على التزاور، وارتياد المحافل الدينيّة، وشهود المجتمعات الإسلاميّة، كصلاة الجماعة ومناسك الحجّ، ونحو ذلك.

_____________________

(١) الفتح: ٢٩.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٤ ص ٤٨ عن الفقيه.

١٠٣

العصبيّة

هي: مناصرة المَرء قومَه، أو أُسرته، أو وطنه، فيما يُخالف الشرع، ويُنافي الحقّ والعدل.

وهي: مِن أخطر النزَعات و أفتكها في تسيب المسلمين، وتفريق شملهم، وإضعاف طاقاتهم، الروحيّة والمادّيّة، وقد حاربها الإسلام، وحذّر المسلمين من شرورها.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من كان في قلبِه حبّةً مِن خَردَلٍ من عصبيّة، بعثَه اللّه تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( من تعصّب عصّبه اللّه بعصابة من نار )(٢).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ اللّه تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهليّة، وتفاخرها بآبائها، ألاّ إنّ الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند اللّه أتقاهم )(٣) .

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ١٤٩ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٤ ص ٤٨ عن الفقيه.

١٠٤

وقال الباقرعليه‌السلام : ( جلس جماعةٌ مِن أصحابِ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان. فقال عمر: ما نسبَك أنت يا سلمان وما أصلك ؟ فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاًّ فهداني اللّه بمحمّد. وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمّد، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمّدٍ، فهذا حسَبي ونسَبي يا عُمَر.

ثُمّ خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذكر له سلمان ما قال عُمَر وما أجابه، فقال رسول اللّه: يا معشَر قريش إنّ حَسبَ المرء دينُه، ومروءته خُلُقَه، وأصلَه عقلُه، قال اللّه تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .

ثُمّ أقبَل على سلمان فقال له: إنّه ليس لأحدٍ مِن هؤلاء عليكَ فضل إلاّ بتقوى اللّه عزَّ وجل، فمَن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه )(١) .

وعن الصادق عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام قال: ( وقع بين سلمان الفارسي رضي اللّه عنه، وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان ؟ فقال سلمان: أمّا أوّلي وأوّلك فنطفةٌ قذِرة. وأمّا آخري وآخرُك فجيفةٌ منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضِعت الموازين، فمَن ثقُل ميزانه فهو الكريم، ومَن خفّ ميزانه فهو اللئيم )(٢).

وأصدق شاهد على واقعيّة الإسلام، واستنكاره النعرات العصبيّة

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٩٥ عن أمالي أبي عليّ الشيخ الطوسي.

(٢) سفينة البحار ج ٢ ص ٣٤٨ عن أمالي الصدوق (ره).

١٠٥

المفرّقة، وجعله الإيمان والتُقى مِقياساً للتفاضل، أنّ أبا لهب - وهو مِن صميم العرب، وعمّ النبيّ - صرّح القرآن بثَلْبه وعذابه:( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ) ، وذلك بكفره ومحاربته للّه ورسوله.

وكان سلمان فارسّياً، بعيداً عن الأحساب العربيّة، وقد منحه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وساماً خالداً في الشرَف والعزّة، فقال: ( سلمان منّا أهل البيت ). وما ذلك إلاّ لسموّ إيمانه، وعِظَم إخلاصه، وتفانيه في اللّه ورسوله.

حقيقة العصبيّة:

لا ريب أنّ العصبيّة الذميمة التي نهى الإسلام عنها هي: التناصر على الباطل، والتعاون على الظلم، والتفاخر بالقيم الجاهليّة.

أمّا التعصّب للحقّ، والدفاع عنه…، و التناصر على تحقيق المصالح الإسلامية العامّة، كالدفاع عن الدين، وحماية الوطن الإسلامي الكبير، وصيانة كرامات المسلمين وأنفسهم وأموالهم، فهو التعصّب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود، وتحقيق العِزة والمنعة للمسلمين، وقد قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : ( إنّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أنْ يرى الرجل شِرار قومِه خيراً مِن خيار قومٍ آخرين، وليس مِن العصبيّة أنْ يحبّ الرجل قومه، ولكِن من العصبيّة أنْ يعين

١٠٦

قومه على الظلم )(١).

غوائل العصبية:

من استقرأ التاريخ الإسلامي، وتتّبع العلل والأسباب، في هبوط المسلمين، عَلِم أنّ النزعات العصبيّة، هي المعول الهدّام، والسبب الأوّل في تناكر المسلمين، وتمزيق شملهم، وتفتيت طاقاتهم، ممّا أدّى بهم إلى هذا المصير القاتم.

فقد ذلّ المسلمون وهانوا، حينما تفشّت فيهم النعرات المفرّقة، فانفصمت بينهم عُرى التحابُب، ووهت فيهم أواصر الإخاء، فأصبحوا مثالاً للتخلّف والتبَعثُر والهَوان، بعد أنْ كانوا رمزاً للتفوّق والتماسك والفِخار، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه تعالى حيثُ قال:

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ) (٢).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٤٩ عن الكافي.

(٢) آل عمران: ١٠٣.

١٠٧

العدل

العدل ضدّ الظلم، وهو مناعة نفسيّة، تردع صاحبها عن الظلم، وتحفّزه على العدل، وأداء الحقوق والواجبات.

وهو سيّد الفضائل، ورمز المفاخر، وقوام المجتمع المتحضّر، وسبيل السعادة والسلام.

وقد مجّده الإسلام، وعنى بتركيزه والتشويق إليه في القرآن والسنّة:

قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) (١).

وقال سُبحانه:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (٢).

وقال عزّ وجل:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( العدلُ أحلى مِن الشهد، وأليَن مِن الزبد، وأطيَب ريحاً مِن المِسك )(٤).

_____________________

(١) النحل: ٩٠.

(٢) الإنعام: ١٥٢.

(٣) النساء: ٥٨.

(٤) الوافي ج ٣ ص ٨٩ عن الكافي، وهو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

١٠٨

وقال الراوي لعليّ بن الحسينعليه‌السلام أخبرني بجميع شرائع الدين. قال: ( قولَ الحقّ، والحُكم بالعدل، والوفاء بالعهد )(١).

وقال الرضاعليه‌السلام : ( استعمالُ العدل والإحسان مُؤذنٌ بدوام النعمة )(٢).

أنواع العدل:

للعدل صورٌ مُشرقةٌ تشعُّ بالجمال والجلال، وإليك أهمها:

١ - عدل الإنسان مع اللّه عزّ وجل: وهو أزهى صور العدل، وأسمى مفاهيمه، وعنوان مصاديقه، وكيف يستطيع الإنسان أنْ يؤدّي واجب العدل للمُنعِم الأعظم، الذي لا تُحصى نعماؤه، ولا تُعَدّ آلاؤه ؟!

وإذا كان عدل المكافأة يُقدّر بمعيار النعم، وشرف المنعم، فمن المستحيل تحقيق العدل نحو واجب الوجود، والغنيّ المطلق عن سائر الخلق، إلاّ بما يستطيعه قصور الإنسان، وتوفيق المولى عزّ وجل له.

وجماع العدل مع اللّه تعالى يتلخّص في الإيمان به، وتوحيده والإخلاص له، وتصديق سُفرائه وحُجَجِه على العباد، والاستجابة لمقتضيات ذلك من التولِّه بحبّه والتشرّف بعبادته، والدأب على طاعته، ومجافاة عِصيانه.

٢ - عدل الإنسان مع المجتمع:

وذلك برعاية حقوق أفراده، وكفّ الأذى والإساءة عنهم،

_____________________

(١) البحار م ١٦ كتاب العشرة ص ١٢٥ عن خصال الصدوق (ره).

(٢) البحار م ١٦ كتاب العشرة ص ١٢٥ عن عيون أخبار الرضا.

١٠٩

وسياستهم بكرم الأخلاق، وحُسن المداراة وحبّ الخير لهم، والعطف على بؤسائهم ومعوزيهم، ونحو ذلك من محقّقات العدل الاجتماعي.

وقد لخّص اللّه تعالى واقع العدل العام في آيةٍ من كتابه المجيد:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١).

وقد رسم أمير المومنينعليه‌السلام منهاج العدل الاجتماعي بإيجاز وبلاغة، فقال لابنه:

( يا بنُيّ اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرِك، فأحبب لغيرك ما تُحبّ لنفسك، واكره له ما تَكره لها، ولا تظلِم كما لا تحبّ أنْ تُظلَم، وأحسِن كما تُحِبّ أنْ يُحسَن إليك، واستقبح مِن نفسِك ما تستقبِح مِن غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم مِن نفسك، ولا تقل ما لا تعلَم وإنْ قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تُحِبّ أنْ يُقال لك ).

أوصىعليه‌السلام ابنه الكريم أنْ يكون عادلاً فيما بينه وبين الناس كالميزان، ثُمّ أوضَح له صور العدل وطرائقه إيجاباً وسلباً.

٣ - عدلُ البشر الأحياء مع أسلافهم الأموات: الذين رحلوا عن الحياة، وخلّفوا لهم المال والثراء، وحُرِموا مِن مُتَعِه ولذائذه، ولم يكسبوا في رحلتهم الأبديّة، إلاّ أذرُعاً مِن أثواب البلى، وأشباراً ضيّقة من بُطون الأرض.

_____________________

(١) النمل: ٩٠.

١١٠

فمن العدل أنْ يستشعر الأحياء نحو أسلافِهم بمشاعر الوفاء والعطف وحُسن المكافاة، وذلك بتنفيذ وصاياهم، وتسديد ديونَهم، وإسداء الخيرات و المبرّات إليهم، وطلب الغفران والرضا والرحمة مِن اللّه عزّ وجل لهم.

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الميّت ليفرح بالترحم عليه، والاستغفار له، كما يَفرح الحيّ بالهديّة تُهدى إليه ).

وقالعليه‌السلام : ( من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً، أضعف اللّه له أجره، ونفع اللّه به الميت )(١).

٤ - عدل الحكام:

وحيث كان الحكّام ساسة الرعيّة، وولاة أمر الأُمّة، فهم أجدَر الناس بالعدل، وأولاهم بالتحلّي به، وكان عدلُهم أسمى مفاهيم العدل، وأروعها مجالاً وبهاءً، وأبلغها أثراً في حياة الناس.

بعدلهم يستتبّ الأمن، ويسود السلام، ويشيع الرخاء، وتسعد الرعيّة.

وبجورهم تنتكِس تلك الفضائل، والأماني إلى نقائضها، وتغدو الأُمّة آنذاك في قلَق وحيرة وضنَكٍ وشقاء.

محاسن العدل:

فطرت النفوس السليمة على حُبّ العدل وتعشّقه، وبُغض الظلم واستنكاره. وقد أجمع البشر عبر الحياة، واختلاف الشرائع والمبادئ

_____________________

(١) هذا الخبر وسابقه عن كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق.

١١١

على تمجيد العدل وتقديسه، والتغنّي بفضائله ومآثره، والتفاني في سبيله.

فهو سرّ حياة الأُمَم، ورمز فضائلها، وقِوام مجدِها وسعادتها، وضمان أمنِها ورخائها، وأجلّ أهدافها وأمانيها في الحياة.

وما دالت الدول الكُبرى، وتلاشت الحضارات العتيدة، إلاّ بضَياع العدل والاستهانة بمبدئه الأصيل، وقد كان أهل البيتعليهم‌السلام المثَل الأعلى للعدل، وكانت أقوالُهم وأفعالهم دروساً خالدة تُنير للإنسانيّة مناهج العدْل والحقّ والرشاد.

وإليك نماذج مِن عدلِهم:

قال سوادة بن قيس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيّام مرضه: يا رسول اللّه إنّك لمّا أقبْلت مِن الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء، وبيدِك القضيب المَمشوق، فرفَعت القضيب وأنت تُريد الراحلة، فأصاب بطني، فأمره النبيّ أنْ يقتصّ منه، فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه، فكشف عن بطنه، فقال سوادة: أتأذن لي أنْ أضع فمي على بطنك، فأذِن له فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه مِن النار يوم النار.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا سوادة بن قيس، أتعفو أم تقتص؟ ). فقال: بل أعفو يا رسول اللّه. فقال: اللهمّ أعفُ عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك محمّد(١).

وقال أبو سعيد الخدري: جاء أعرابي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يتقاضاه دَيناً كان عليه، فاشتدّ عليه حتّى قال له: أُحرّج عليك

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦٧١.

١١٢

إلاّ قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك، تدري مَن تُكلّم ؟!! قال: إنّي أطلب حقّي. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( هلا مع صاحب الحقّ كنتم )، ثُمّ أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: ( إنْ كان عندك تمر فأقرضينا، حتّى يأتي تمرنا فنقضيك ). فقالت: نعم بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه.

قال: فأقرضَته فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال: أوفيت أوفى اللّه لك ؟ فقال: ( أولئك خيار الناس، إنّه لا قُدّست أُمّةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقّه غير متعتع ).

وقيل: إنّ الإعرابي كان كافراً، فأسلم بمشاهدة هذا الخلق الرفيع، وقال: ( يا رسول اللّه، ما رأيت أصبر منك )(١) .

وهكذا كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام :

قال الصادقعليه‌السلام : ( لمّا ولّيَ عليّ صعد المنبر فحمِد اللّه، وأثنى عليه، ثُمّ قال: إنّي لا أرزؤكم مِن فَيئكم درهماً، ما قام لي عذقٌ بيثرِب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم ؟!! قال: فقام إليه عقيل كرّم اللّه وجهَه فقال له: واللّه، لتجعلني وأسود بالمدينة سَواء، فقال: اجلس، أما كان هنا أحدٌ يتكلّم غيرك، وما فضلك عليه إلاّ بسابقة أو بتقوى )(٢).

وجاء في صواعق ابن حجَر ص ٧٩ قال: وأخرج ابن عساكر أنّ

_____________________

(١) فضائل الخمسة من الصحاح الستّة ج ١ ص ١٢٢ عن صحيح ابن ماجة.

(٢) البحار م ٩ ص ٥٣٩ عن الكافي.

١١٣

عقيلاً سأل عليّاًعليه‌السلام فقال: إنّي محتاج، وإنّي فقير فأعطني. قال: ( اصبر حتّى يخرج عطاؤك مَع المسلمين، فأعطيك معهم، فألح عليه )، فقال لرجلٍ: ( خذ بيده وانطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل له دُقّ هذه الأقفال، وخُذ ما في هذه الحوانيت ). قال: تريد أنْ تتّخذني سارقاً ؟ قال: ( وأنت تريد أنْ تتّخذني سارقاً، أنْ آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم ؟ ).

قال: لآتيَنّ معاوية. قال: ( أنت وذاك ). فأتى معاوية فسأله فأعطاه مِئة ألف، ثُمّ قال: اصعد على المنبر، فاذكر ما أولاك به عليّ وما أوّليتك، فصعد فحمِد اللّه، وأثنى عليه، ثُمّ قال: أيّها الناس إنّي أخبركم أنّي أردْت عليّاًعليه‌السلام على دينه فاختار دينه، وإنّي أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه(١).

ومشى إليهعليه‌السلام ثُلّة من أصحابه عند تفرّق الناس عنه، وفرار كثيرٍ منهم إلى معاوية، طلَباً لما في يدَيه مِن الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعطِ هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجَم، ومَن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( أتأمروني أنْ أطلب النصر بالجور، لا واللّه ما أفعل، ما طلعَت شمسٌ، ولاحَ في السماء نجمٌ، واللّه، لو كان مالُهم لي لواسَيت بينهم، وكيف وإنّما هي أموالهم )(٢).

وقال ابن عبّاس: أتيتُه ( يعني أمير المؤمنين عليّاً ) فوجدته يخصف

_____________________

(١) فضائل الخمسة عن الصحاح الستة ج ٣ ص ١٥.

(٢) البحار م ٩ ص ٥٣٣ بتصرّف.

١١٤

نعلاً، ثُمّ ضمّها إلى صاحبتها، وقال لي: ( قوّمها ). فقلت: ليس لهما قيمة.

قال: ( على ذلك ). قلت: كسْر درهم. قال: ( واللّه، لهما أحبّ إليّ مِن أمركم هذا إلاّ أنْ أقيم حدّاً ( حقّاً ) أو ادفع باطلاً )(١) .

وهو القائل: ( واللّه لئن أبيت على حسَك السعدان مُسهّداً، وأُجَرُّ في الأغلال مُصفّداً، أحَبّ إليّ مِن أنْ ألقى اللّه ورسولَه يوم القيامة ظالِماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحُطام، وكيف أظلِم أحداً لنفسٍ يَسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها )(٢).

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٥٧٠ بتصرف.

(٢) سفينة البحار ج ٢ ص ٦٠٦ عن النهج.

١١٥

الظلم

الظلم لغةً: وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلمٌ عظيم، لجعله موضع التوحيد عند المشركين.

وعرفاً هو: بخس الحقّ، والاعتداء على الغير، قولاً أو عمَلاً، كالسباب، والاغتياب، ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صوَر الظُلامات المادّيّة أو المعنويّة.

والظلم من السجايا الراسخة في أغلب النفوس، وقد عانت منه البشريّة في تاريخها المديد ألوان المآسي والأهوال، ممّا جهّم الحياة، ووسمها بطابعٍ كئيب رهيب.

والظلم مِن شيَم النفوس فإنْ تجِد

ذا عفّة فلعلّة لا يظلِمُ

من أجل ذلك كان الظلم جماع الآثام ومنبع الشرور، وداعية الفساد والدمار.

وقد تكاثرت الآيات والأخبار بذمّه والتحذير منه:

قال تعالى:( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (١).

( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٢).

_____________________

(١) الأنعام: ٢١.

(٢) الأنعام: ١٤٤.

١١٦

( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (١).

( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٢).

( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ) (٣).

وقال تعالى:( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ) (٤).

وقال سُبحانه:( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٥).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( واللّه لو أعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أنْ أعصي اللّه في نملَة أسلُبها جُلب شعيرةٍ ما فعلت، وإنّ دنياكم لأهوَن عليّ مِن ورقةٍ في فمِ جرادة، ما لعليٍّ ونعيمٍ يفنى ولذّة لا تبقى )(٦) .

وعن أبي بصير قال: ( دخَل رجُلان على أبي عبد اللّهعليه‌السلام في مداراةٍ بينهما ومعاملة، فلمّا أنْ سمِع كلامها قال: ( أما إنّه ما ظفَر أحدٌ بخير من ظفَر بالظلم. أما إنّ المظلوم يأخُذ مِن دين الظالم أكثر ممّا يأخذ الظالم من مال المظلوم ). ثُمّ قال: ( مَن يفعل الشرّ بالناس فلا

_____________________

(١) آل عمران: ٥٧.

(٢) إبراهيم: ٢٢.

(٣) يونس: ١٣.

(٤) إبراهيم: ٤٢.

(٥) يونس: ٥٤.

(٦) نهج البلاغة.

١١٧

ينكر الشر إذا فُعِل به، أمّا إنّه إنّما يحصِد ابن آدم ما يزرَع، وليس يحصد أحدٌ مِن المرِّ حُلواً، ولا مِن الحُلوِ مرَّاً، فاصطلَح الرجلان قبل أنْ يقوما )(١).

وقالعليه‌السلام : ( مَن أكل مال أخيه ظُلماً ولم يردَّه إليه، أكل جذوةً مِن النار يوم القيامة )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن ظلَم سلّط اللّه عليه من يظلمه، أو على عقِبَه، أو على عقِب عقِبَه ).

قال ( الراوي ): يظلم هو فيسلّط على عقبه ؟

فقال: ( إنّ اللّه تعالى يقول:( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) )( النساء: ٩ )(٣) .

وتعليلاً للخبر الشريف: أنّ مؤاخذة الأبناء بجرائم الآباء إنّما هو في الأبناء الذين ارتضوا مظالم آبائهم أو اغتنموا تراثهم المغصوب، ففي مؤاخذتهم زجرٌ عاطفيٌّ رهيب، يردع الظالم عن العدوان خَشيةً على أبنائه الأعزّاء، وبشارةً للمظلوم على معالجة ظالمه بالانتقام، مشفوعة بثواب ظُلامته في الآخرة.

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن أصبح لا يهمّ بظلمٍ غفَر اللّه له ما اجترم )(٤).

أي ما اجترم من الذنوب التي بينه وبين اللّه عزَّ وجل في ذلك اليوم.

إلى كثير من الروايات الشريفة التي ستراها في مطاوي هذا البحث.

_____________________

(١)، (٢)، (٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٦٢ عن الكافي.

١١٨

أنواع الظلم:

يتنوع الظلم صوراً نشير إليها إشارة لامحة:

١ - ظلم الإنسان نفسه:

وذلك بإهمال توجيهها إلى طاعة اللّه عزّ وجل، وتقويمها بالخلق الكريم، والسلوك الرضيّ، ممّا يزجّها في متاهات الغواية والضلال، فتبوء آنذاك بالخيبة والهوان.

( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (١).

٢ - ظلم الإنسان عائلته:

وذلك بإهمال تربيتهم تربيةً إسلاميّةً صادقة، وإغفال توجيههم وجهة الخير والصلاح، وسياستهم بالقسوةِ والعُنف، والتقتير عليهم بضرورات الحياة ولوازم العيش الكريم، ممّا يُوجب تسيّبهم وبلبلة حياتهم، مادّياً وأدبيّاً.

٣ - ظلم الإنسان ذوي قرباه:

وذلك بجفائهم وخذلانهم في الشدائد والأزَمات، وحرمانهم مِن مشاعر العطف والبِرّ، ممّا يبعث على تناكرهم وتقاطعهم.

٤- ظلم الإنسان للمجتمع:

وذلك بالاستعلاء على أفراده وبخس حقوقهم، والاستخفاف بكراماتهم،

_____________________

(١) الشمس: ( ٧ - ١٠ ).

١١٩

وعدم الاهتمام بشؤونهم ومصالحهم. ونحو ذلك من دواعي تسيّب المجتمع وضعف طاقاته.

وأبشع المظالم الاجتماعيّة، ظُلم الضعفاء، الذين لا يستطيعون صدّ العدوان عنهم، ولا يملكون إلاّ الشكاة والضراعة إلى العدل الرحيم في أساهم، وظلاماتهم.

فعن الباقرعليه‌السلام قال: ( لمّا حضر عليّ بن الحسينعليه‌السلام الوفاة، ضمّني إلى صدره، ثُمّ قال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضَرَته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه، قال: يا بني، إيّاك وظلم مَن لا يجِد عليك ناصراً إلاّ اللّه تعالى )(١).

٥ - ظلم الحكّام والمتسلّطين:

وذلك باستبدادهم، وخنقهم حرّيّة الشعوب، وامتهان كرامتها، وابتزاز أموالها، وتسخيرها لمصالحهم الخاصّة، مِن أجل ذلك كان ظلم الحكّام أسوأ أنواع الظُلم وأشدّها نُكراً، وأبلغها ضرراً في كيان الأُمّة ومقدّراتها.

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيٍّ مِن الأنبياء، في مملكةِ جبّارٍ مِن الجبابرة: أنْ ائت هذا الجبّار فقل له: إنّي لم استعملك على سفك الدماء، واتّخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين، فإنّي لنْ أدَع ظلامتهم وإنْ كانوا كفّاراً )(٢).

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٢ عن الكافي.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517