أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت0%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد مهدي الصدر
تصنيف: الصفحات: 517
المشاهدات: 318195
تحميل: 11072

توضيحات:

أخلاق أهل البيت
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 318195 / تحميل: 11072
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشُّكر

وهو عرفان النعمة من المنعم، وحمده عليها، واستعمالها في مرضاته. وهو من خلال الكمال، وسِمات الطِّيبَة والنُبل، وموجبات ازدياد النِّعَم واستدامتها.

والشكرُ واجبٌ مقدّسٌ للمنعم المخلوق، فكيف بالمنعم الخالق، الذي لا تُحصى نَعماؤه ولا تُعدّ آلاؤه.

والشكر لا يجدي المولى عزّ وجل، لاستغنائه المطلق عن الخلق، وإنّما يعود عليهم بالنفع، لإعرابه عن تقديرهم للنِّعَم الإلهيّة، واستعمالها في طاعته ورضاه، وفي ذلك سعادتهم وازدهار حياتهم.

لذلك دعَت الشريعة إلى التخلّق بالشكر والتحلّي به كتاباً وسنّة:

قال تعالى:( وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) (البقرة: ١٥٢).

وقال عزّ وجل:( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ) (سبأ: ١٥).

وقال تعالى:( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ( إبراهيم: ٧ ).

وقال تعالى:( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) ( سبأ: ١٣).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

١٦١

( الطاعم الشاكر له مِن الأجر، كأجر الصائم المُحتَسِب، والمُعافى الشاكر له مِن الأجر كأجر المبتلى الصابر، والمُعطى الشاكر له مِن الأجر كأجر المحروم القانع )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن أعطى الشكر أُعطِيَ الزيادة، يقول اللّه عزّ وجل:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) ) ( إبراهيم: ٧ )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( شكرُ كلّ نِعمة، وإنْ عظُمَت، أنْ تحمِد اللّه عزَّ وجلّ عليها )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( ما أنعَم اللّه على عبدٍ بنعمةٍ بالغةً ما بلَغت فحَمدُ اللّه عليها، إلاّ كان حمَدُ اللّه أفضل مِن تِلك النعمة وأوزَن )(٤).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( تقول ثلاث مرّات: إذا نظرت إلى المُبتَلَى مِِن غير أنْ تُسمِعه: الحمدُ للّه الذي عافاني ممّا ابتلاك به، ولو شاء فعل. قال: مَن قال ذلك لم يصبه ذلك البلاء أبداً )(٥).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الرجل منكم ليشرب الشربة مِن الماء، فيوجب اللّه له بها الجنّة، ثمّ قال: إنّه ليأخذ الإناء، فيضعه على فيه، فيسمّي ثُمّ يشرب، فينحّيه وهو يشتهيه، فيحمد اللّه، ثُمّ يعود، ثُمّ ينحّيه فيحمد اللّه، ثُمّ يعود فيشرب، ثُمّ يُنحّيه فيحمد اللّه

_____________________

(١)، (٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ٦٧ عن الكافي.

(٤) الوافي ج ٣ ص ٦٩ عن الكافي.

(٥) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٣٥ عن ثواب الإعمال للصدوق.

١٦٢

فيُوجب اللّه عزّ وجل له بها الجنّة )(١).

أقسام الشكر:

ينقسم الشكر إلى ثلاثة أقسام: شكر القلب. وشكر اللسان. وشكر الجوارح. ذلك أنّه متى امتلأت نفس الإنسان وعياً وإدراكاً بعِظَمِ نِعم اللّه تعالى، وجزيل آلائه عليه، فاضت على اللسان بالحمدِ والشكر للمنعم الوهّاب.

ومتى تجاوبت النفس واللسان في مشاعر الغبطة والشكر، سرى إيحاؤها إلى الجوارح، فغدت تُعرب عن شكرها للمولى عزّ وجل بانقيادها واستجابتها لطاعته.

من أجل ذلك اختلفت صوَر الشكر، وتنوّعت أساليبه:

أ - فشُكر القلب: هو تصوّر النعمة، وأنّها مِن اللّه تعالى.

ب - وشُكر اللسان: حمد المنعم والثناء عليه.

ج - وشُكر الجوارح: إعمالها في طاعة اللّه، والتحرّج بها عن معاصيه: كاستعمال العين في مجالات التبصّر والاعتبار، وغضّها عن المحارم، واستعمال اللسان في حسن المقال، وتعفّفه عن الفحش، والبذاء، واستعمال اليد في المآرب المباحة، وكفّها عن الأذى والشرور.

وهكذا يجدر الشكر على كلّ نعمة مِن نِعَم اللّه تعالى، بما يلائمها

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٣١ عن الكافي.

١٦٣

من صور الشكر ومظاهره:

فشُكر المال: إنفاقه في سُبُل طاعة اللّه ومرضاته.

وشُكر العِلم: نشره وإذاعة مفاهيمه النافعة.

وشُكر الجاه: مناصرة الضُّعَفاء والمضطهدين، وإنقاذهم من ظلاماتهم. ومهما بالغ المرء في الشكر، فإنّه لن يستطيع أنْ يوفّي النعم شُكرها الحق، إذ الشكر نفسه مِن مظاهر نعم اللّه وتوفيقه، لذلك يعجز الإنسان عن أداء واقع شكرها: كما قال الصادقعليه‌السلام : ( أوحى اللّه عزّ وجل إلى موسىعليه‌السلام : يا موسى، اشكرني حقَّ شُكري. فقال: يا رب، وكيف أشكرك حقّ شكرك، وليس مِن شكرٍ أشكرك به، إلاّ وأنتَ أنعمت به عليّ. قال: يا موسى، الآن شكَرتَني حين علِمت أنّ ذلك منّي )(١).

فضيلة الشكر:

من خصائص النفوس الكريمة تقدير النعَم والألطاف، وشكر مسديها، وكلّما تعاظمت النِعم، كانت أحقّ بالتقدير، وأجدَر بالشكر الجزيل، حتّى تَتَسامى إلى النعم الإلهيّة، التي يقصُر الإنسان عن تقييمها وشكرها.

فكلّ نظرةٍ يسرحها الطرف، أو كلمةٍ ينطق بها الفم، أو عضوٍ تحرّكه الإرادة، أو نَفَسٍ يردّده المرء، كلّها مِنَحٌ ربّانيّة عظيمة،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٨ عن الكافي.

١٦٤

لا يثمنّها إلاّ العاطلون منها.

ولئن وجَب الشكر للمخلوق فكيف بالمُنعِم الخالق، الذي لا تُحصى نعماؤه ولا تقدّر آلاؤه.

والشكر بعد هذا مِن موجبات الزلفى والرضا من المولى عزّ وجل، ومضاعفة نِعَمه وآلائه على الشكور.

أمّا كفران النعم، فإنّه مِن سِمات النفوس اللئيمة الوضيعة، ودلائل الجهل بقيم النعم وأقدارها، وضرورة شكرها.

أنظر كيف يخبر القران الكريم: أنّ كُفران النعَم هو سبب دمار الأُمم ومحق خيراتها:( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( النحل: ١١٢ ).

وسئل الصادقعليه‌السلام : عن قول اللّه عزّ وجل:( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) ( سبأ: ١٩ ).

فقال: ( هؤلاء قومٌ كانت لهم قُرى متّصلة، ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهارٌ جارية، وأموالٌ ظاهرة، فكفروا نِعَم اللّه عزّ وجل، وغيّروا ما بأُنفسهم مِن عافيةِ اللّه، فغيّر اللّه ما بِهم مِن نعمةٍ، وإنّ اللّه لا يُغيّر ما بقومٍ، حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم، فأرسل اللّه عليهم سيل العَرمِ ففرّق قُراهم، وخرّب ديارهم، وذهَب بأموالهم، وأبدَلهم مكان جنّاتهم جنّتين ذواتَي أُكل خمط وأثل وشيءٍ من سِدرٍ قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلاّ الكفور )(١).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

١٦٥

وقال الصادقعليه‌السلام في حديث له:

( إن قوماً أفرغت عليهم النعمة، وهُم ( أهل الثرثار )، فعمدوا إلى مُخ الحنطة فجعلوه خُبز هجاء فجعلوا ينجون به صبيانهم، حتّى اجتمع مِن ذلك جبَل، فمرّ رجلٌ على امرأة وهي تفعل ذلك بصبيٍّ لها، فقال: ويحكم، اتّقوا اللّه لا تُغيّروا ما بكم مِن نعمة، فقالت: كأنّك تخوّفنا بالجوع، أما مادام ثرثارنا يجري فإنّا لا نخاف الجوع.

قال: فأسف اللّه عزّ وجل، وضعف لهم الثرثار، وحبس عنهم قطر السماء ونبت الأرض، قال فاحتاجوا إلى ما في أيديهم فأكلوه، ثُمّ احتاجوا إلى ذلك الجبَل فإنّه كان ليقسم بينهم بالميزان )(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أسرَعُ الذنوب عقوبة كُفران النِّعَم )(٢).

كيف نتحلّى بالشكر:

إليك بعض النصائح لاكتساب فضيلة الشكر والتحلّي به:

١ - التفكّر فيما أغدقه اللّه على عباده من صنوف النِّعَم، وألوان الرعاية واللطف.

٢ - ترك التطلّع إلى المُترفين والمُنعّمين في وسائل العيش، وزخارف

_____________________

(١) البحار عن محاسن البرقي.

(٢) البحار عن أمالي ابن الشيخ الطوسي.

١٦٦

الحياة، والنظَر إلى البؤساء والمعوزين، ومَن هو دون الناظر في مستوى الحياة والمعاش، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( وأكثر أنْ تنظر إلى مَن فُضِّلْتَ عليه في الرِّزق، فإنّ ذلك مِن أبواب الشُكر )(١).

٣ - تذكّر الإنسان الأمراض، والشدائد التي أنجاه اللّه منها بلُطفه، فأبدله بالسقم صحّة، وبالشدّة رخاءً وأمناً.

٤ - التأمّل في محاسن الشُكر، وجميل آثاره في استجلاب ودّ المنعِم، وازدياد نِعَمه، وآلائه، وفي مساوئ كُفران النِّعم واقتضائه مقت المُنعِم وزوال نِعَمه.

_____________________

(١) نهج البلاغة .

١٦٧

التوكّل

هو: الاعتماد على اللّه تعالى في جميع الأمور، وتفويضها إليه، والإعراض عمّا سِواه. وباعثه قوّة القلب واليقين، وعدمه من ضعفهما أو ضعف القَلب، وتأثّره بالمخاوف والأوهام.

والتوكّل هو: من دلائل الإيمان، وسِمات المؤمنين ومزاياهم الرفيعة، الباعثة على عزّة نفوسهم، وترفعهم عن استعطاف المخلوقين، والتوكّل على الخالِق في كسب المنافع ودَرء المضار.

وقد تواترت الآيات والآثار في مَدحِه والتشويق إليه:

قال تعالى:( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( الطلاق: ٣ ).

وقال:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

وقال:( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) ( التوبة: ٥١ ).

وقال تعالى:( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران: ١٦٠ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الغنى والعِزّ يجولان، فإذا ظفَرا بموضعِ التوكّل أوطنا )(١).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٦ عن الكافي.

١٦٨

وقالعليه‌السلام : ( أوحى اللّه إلى داودعليه‌السلام : ما اعتصم بي عبدٌ مِن عبادي دون أحدٍ مِن خلقي، عرفت ذلك من نيّته، ثُمّ تكيده السماوات والأرض ومَن فيهن، إلاّ جعلت له المخرج من بينهنّ.

وما اعتصم عبدٌ مِن عبادي بأحدٍ مِن خلقي، عرَفت ذلك من نيّته، إلاّ قطعت أسباب السماوات مِن يديه، وأسَخت الأرض مِن تحته، ولم أُبال بأيّ وادٍ هلَك )(١).

وقالعليه‌السلام : ( من أعطي ثلاثاً، لم يمنع ثلاثاً:

مَن أُعطي الدعاء أُعطي الإجابة.

ومَن أُعطي الشُكر أُعطي الزيادة.

ومَن أُعطي التوكّل أُعطي الكفاية.

ثُمّ قال: أَتلَوت كتاب اللّه تعالى ؟:( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( الطلاق: ٣ ).

وقال:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) ( إبراهيم: ٧ )، وقال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) )( غافر: ٦٠ )(٢).

وقال أمير المؤمنين في وصيّتهِ للحسنعليه‌السلام :

( وألجئ نفسك في الأُمور كلّها، إلى إلهك، فإنّك تُلجئها إلى كهفٍ حريز، ومانعٍ عزيز )(٣).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٥٦ عن الكافي.

(٢) نهج البلاغة.

١٦٩

( كان فيما وعَظ به لُقمان ابنه، أنْ قال له: يا بني، ليعتبر مَن قصُر يَقينه وضعُفَت نيّته في طلَب الرزق، أنّ اللّه تبارك وتعالى خلَقه في ثلاثةِ أحوال، ضِمن أمره، وآتاه رِزقه، ولم يكُن له في واحدةٍ منها كسبٌ ولا حيلة، أنّ اللّه تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة:

أمّا أوّل ذلك فإنّه كان في رحِم أُمّه، يرزُقه هناك في قرارٍ مكين، حيثُ لا يؤذيه حرٌّ ولا برْد.

ثُمّ أخرجه من ذلك، وأجرى له رِزقاً مِن لبنِ أُمّه، يكفيه به ويربيه ويُنعِشه، من غير حولٍ به ولا قوّة.

ثُمّ فُطِم من ذلك، فأجرى له رِزقاً من كسبِ أبَوَيه، برأفةٍ ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتّى أنّهما يُؤثرانه على أنفسهما، في أحوالٍ كثيرة، حتّى إذا كبُر وعقل، واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربّه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله، مخافة رزقه، وسوء ظنٍ ويقين بالخلَف من اللّه تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يا بني )(١).

حقيقة التوكّل:

ليس معنى التوكّل إغفال الأسباب والوسائل الباعثة على تحقيق المنافع، ودرء المضار، وأنْ يقف المرء إزاء الأحداث والأزَمَات مكتوف اليدين.

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٥٥ عن خصال الصدوق ( ره ).

١٧٠

سليب الإرادة والعزْم، وإنّما التوكّل هو: الثقة باللّه عزّ وجل، والركون إليه، والتوكّل عليه دون غيره من سائر الخلْق والأسباب، باعتبار أنّه تعالى هو مصدر الخير، ومسبّب الأسباب، وأنّه وحده المُصرّف لأُمور العباد، والقادر على إنجاح غاياتهم ومآربهم.

ولا ينافي ذلك تذرّع الإنسان بالأسباب الطبيعيّة، والوسائل الظاهريّة لتحقيق أهدافه ومصالحه كالتزوّد للسفر، والتسلّح لمقاومة الأعداء، والتداوي من المرض، والتحرّز من الأخطار والمضار، فهذه كلّها أسباب ضروريّة لحماية الإنسان، وإنجاز مقاصده، وقد أبى اللّه عزَّ وجل أنْ تجري الأُمور إلاّ بأسبابها.

بيد أنّه يجب أنْ تكون الثقة به تعالى، والتوكّل عليه، في إنجاح الغايات والمآرب، دون الأسباب، وآيةُ ذلك أنّ أعرابيّاً أهمل عَقل بعيره متوكّلاً على اللّه في حفظه، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، له: ( إعقل وتوكّل ).

درجات التوكّل:

يتفاوت الناس في مدارج التوكّل تفاوتاً كبيراً، كتفاوتهم في درجات إيمانهم: فمنهم السبّاقون والمجلّون في مجالات التوكّل، المنقطعون إلى اللّه تعالى، والمُعرِضون عمّن سِواه، وهُم الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، ومَن دار في فلَكهم من الأولياء.

١٧١

ومِن أروع صور التوكّل وأسماه، ما رُوي عن إبراهيمعليه‌السلام :

( أنّه لمّا أُلقِي في النار، تلقّاه جبرئيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة ؟ فقال: أمّا إليك فلا، حسبي اللّه ونعم الوكيل. فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردتَ أن أخمد النار فانّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا أريد، فقال جبرئيل: فاسأل اللّه. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي )(١).

ومن الناس من هو عديم التوكل، عاطل منه، لضعف إحساسه الروحي، وهزال إيمانه. ومنهم بين هذا وذاك على تفاوت في مراقي التوكّل.

محاسن التوكّل:

الإنسان في هذه الحياة، عرضةٌ للنوائب، وهدفٌ للمشاكل والأزَمات، لا ينفكّ عن جلادها ومقارعتها، ينتصر عليها تارةً وتصرعه أُخرى، وكثيراً ما تُرديه لقاً، مهيض الجناح، كسير القلب.

فهو منها في قلقٍ مضني، وفزَعٍ رهيب، يخشى الإخفاق، ويخاف الفقر، ويرهَب المرض، ويُعاني ألوان المخاوف المهدِّدة لأمنه ورخائه.

ولئن استطاعت الحضارة الحديثة أنْ تُخفّف أعباء الحياة، بتيسيراتها الحضاريّة، وتوفير وسائل التسلية والترفيه، فقد عجَزت عن تزويد النفوس

_____________________

(١) سفينة البحار ج ٢ ص ٦٣٨ عن بيان التنزيل لابن شهرآشوب بتلخيص.

١٧٢

بالطمأنينة والاستقرار، وإشعارها بالسكينة والسلام الروحيّين، فلا يزال القلَق والخوف مخيّماً على النفوس، آخذاً بخناقها، ممّا ضاعف الأمراض النفسيّة، وأحداث الجنون والانتحار في أرقى الممالك المتحضّرة.

ولكن الشريعة الإسلاميّة استطاعت بمبادئها السامية، ودستورها الخُلُقي الرفيع - أنْ تخفّف قلَق النفوس ومخاوفها، وتمدّها بطاقات روحيّة ضخمة، من الجلد والثبات، والثقة والاطمئنان، بالتوكّل على اللّه، والاعتماد عليه، والاعتزاز بحسن تدبيره، وجميل صنعه، وجزيل آلائه، وأنّه له الخلق والأمر وهو على كلّ شيء قدير. وبهذا ترتاح النفوس، وتستبدل بالخوف أمناً، وبالقلق دِعَةً ورخاءً.

والتوكّل بعد هذا مِن أهمّ عوامل عزّة النفس، وسموّ الكرامة، وراحة الضمير، وذلك بترفّع المتوكّلين عن الاستعانة بالمخلوق، واللجوء إلى الخالق، في جلب المنافع، ودرء المضار.

ولعلّ أجدر الناس بالتوكّل أرباب الأقدار والمسؤوليّات الكبيرة، كالمصلحين ليستمدّوا منه العزم والتصميم على مجابهة عَنَتِ الناس وإرهاقهم، والمضيّ قُدماً في تحقيق أهدافهم الإصلاحيّة، متخطّين ما يعترضهم مِن أشواكٍ وعوائق.

كيف تكسب التوكّل:

١ - استعراض الآيات والأخبار الناطقة بفضله وجميل أثره في كسب

١٧٣

الطمأنينة والرخاء.

ومِن طريق ما نُظِم في التوكّل قول الحسينعليه‌السلام :

إذا ما عضّك الدهر فلا تجنَح إلى خلقٍ

ولا تسأل سِوى اللّه تعالى قاسِم الرزق

فلو عِشت وطوّفت مِن الغرب إلى الشرق

لَما صادَفت مَن يقدِر أنْ يُسعد أو يُشقي

وممّا نُسِب لأمير المؤمنينعليه‌السلام :

رضيتُ بما قسَم اللّه لي

وفوّضت أمري إلى خالقي

كما أحسن اللّه فيما مضى

كذلك يُحسن فيما بقي

وقال بعض الأعلام:

كن عن همومك معرضاً

وكلّ الأُمور إلى القضا

فلَرُبَّ أمرٍ مُسخطٍ

لك في عواقبه رضا

ولربَّما اتّسع المضيق

وربَّما ضاق الفضا

اللّه عوّدك الجميل

فقس على ما قد مضى

* * *

٢ - تقوية الإيمان باللّه عزّ وجل، والثقة بحُسن صنعه، وحِكمة تدبيره، وجزيل حنانه ولُطفه، وأنّه هو مصدر الخير، ومسبّب الأسباب، وهو على كلّ شيء قدير.

٣ - التنبّه إلى جميل صنع اللّه تعالى، وسموّ عنايته بالإنسان، في جميع أطواره وشؤونه، مِن لدن كان جنيناً حتّى آخر الحياة، وأنّ مَن توكّل عليه كفاه، ومن استنجده أنجده وأغاثه.

٤ - الاعتبار بتطوّر ظروف الحياة، وتداول الأيّام بين الناس،

١٧٤

فكم فقير صار غنيّاً، وغنيّ صار فقيراً، وأمير غدا صعلوكاً، وصعلوك غدا أميراً متسلّطاً.

وهكذا يجدر التنبّه إلى عظَمة القدرة الإلهية في أرزاق عبيده، ودفع الأسواء عنهم، ونحو ذلك من صوَر العِبَر والعِظات الدالّة على قدرة اللّه عزّ وجل، وأنّه وحده هو الجدير بالثقة، والتوكّل والاعتماد، دون سِواه.

وآية حصول التوكّل للمرء هي: الرضا بقضاء اللّه تعالى وقَدره في المسرّات والمكاره، دون تضجّرٍ واعتراض، وتلك منزلةٌ سامية لا ينالها إلاّ الأفذاذ المقرّبون.

١٧٥

الخوف من اللّه تعالى

وهو: تألّم النفس خَشيةٍ مِن عِقاب اللّه، مِن جرّاء عِصيانه ومخالفته. وهو مِن خصائص الأولياء، وسمات المتّقين، والباعث المحفّز على الاستقامة والصلاح، والوازع القويّ عن الشرور والآثام.

لذلك أولته الشريعة عنايةً فائقة، وأثنت على ذويه ثناءً عاطراً مشرّفاً:

قال تعالى:( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فاطر: ٢٨ ).

وقال:( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) ( الملك: ١٢ ).

وقال:( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) ( النازعات: ٤٠ - ٤١ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( خَفِ اللّه كأنّك تراه، وإنْ كنت لا تراه فإنّه يراك، وإنْ كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإنْ كنت تعلم إنّه يراك ثُمّ برزت له بالمعصية، فقد جعلته مِن أهوَن الناظرين إليك )(١).

وقالعليه‌السلام : ( المؤمن بين مخافَتين: ذنبٌ قد مضى لا يدري ما صنَع اللّه فيه، وعمرٌ قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه مِن المهالك،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٧ عن الكافي.

١٧٦

فهو لا يصبح إلاّ خائفاً، ولا يصلحه إلاّ الخوف )(١).

وقالعليه‌السلام : ( لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لِما يخاف ويرجو )(٢) .

وفي مناهي النبيّ ( صلى اللّه عليه وآله ):

( من عرضت له فاحشة، أو شهوة فاجتنبها مِن مخافة اللّه عزّ وجل، حرّم اللّه عليه النار، وآمنه من الفزَع الأكبَر، وأنجز له ما وعده في كتابه، في قوله عزّ وجل:( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) )( الرحمن: ٤٦ )(٣).

وقال بعض الحكماء: مسكينٌ ابن آدم، لو خاف مِن النار كما يَخاف من الفقر لنجا منهما جميعاً، ولو رغب في الجنّة كما رغِب في الدنيا لفاز بهما جميعاً، ولو خاف اللّه في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً.

ودخل حكيمٌ على المهدي العبّاسي فقال له: عِظني. فقال: أليس هذا المجلس قد جلَس فيه أبوك وعمّك قبلك ؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمال ترجو لهم النجاة بها ؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمال تخاف عليهم الهلَكة منها ؟ قال: نعم. قال: فانظر ما رجَوت لهم فيه فآتِه، وما خِفت عليهم منه فاجتنبه.

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٥٧ عن الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١١٣ عن الفقيه.

١٧٧

الخوف بين المدّ والجزر:

لقد صوّرت الآيات الكريمة، والأخبار الشريفة، أهمّيّة الخوف، وأثره في تقويم الإنسان وتوجيهه وجهة الخير والصلاح، وتأهيله لشرف رضا اللّه تعالى وإنعامه.

بيد أنّ الخوف كسائر السجايا الكريمة، لا تستحقّ الإكبار والثناء، إلاّ إذا اتّسمت بالقصد والاعتدال، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

فالإفراط في الخوف يجدب النفس، ويدعها يباباً مِن نضارة الرجاء، ورونَقه البهيج، ويدَع الخائف آيساً آبقاً موغلاً في الغواية والضلال، ومُرهِقاً نفسه في الطاعة والعبادة حتّى يشقيها وينهكها.

والتفريط فيه باعثٌ على الإهمال والتقصير، والتمرّد على طاعة اللّه تعالى واتّباع دستوره.

وبتعادل الخوف والرجاء تنتعش النفس، ويسمو الضمير، وتتفجّر الطاقات الروحيّة، للعمل الهادف البنّاء.

كما قال الصادقعليه‌السلام : ( أرجُ اللّه رجاءً لا يجرئك على معاصيه، وخَف اللّه خوفاً لا يؤيّسك مِن رحمته )(١).

محاسن الخوف:

قِيَم السجايا الكريمة بقدر ما تحقّق في ذويها مِن مفاهيم الإنسانيّة الفاضلة،

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١١٨ عن أمالي الصدوق.

١٧٨

وقِيم الخير والصلاح، وتؤهّلهم للسعادة والرخاء. وبهذا التقييم يحتلّ الخوف مركز الصدارة بين السجايا الأخلاقيّة الكريمة، وكانت له أهميّة كُبرى في عالم العقيدة والإيمان، فهو الذي يلهب النفوس، ويحفّزها على طاعة اللّه عزَّ وجل، ويفطمها من عصيانه، ومِن ثُمّ يسمو بها إلى منازل المتّقين الأبرار.

وكلّما تجاوبت مشاعر الخشية والخوف في النفس، صقلتها وسَمَت بها إلى أوج ملائكي رفيع، يحيل الإنسان ملاكاً في طيبته ومثاليّته، كما صوّره أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو يُقارن بين الملَك والإنسان والحيوان، فقال: ( إنّ اللّه عزّ وجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوةً بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما.

فمن غلَب عقلهُ شهوتهَ، فهو خير مِن الملائكة، ومَن غلَب شهوته عقلَه فهو شرٌّ مِن البهائم )(١).

مِن أجل ذلك نجد الخائف مِن اللّه تعالى يستسهلّ عناء طاعته، ويستحلي مرارتها، ويستوخم حلاوة المعاصي والآثام، خَشية من سخطه وخوفاً من عقابه.

وبهذا يسعد الإنسان، وتزدهر حياته الماديّة والروحيّة، كما انتظم الكون، واتّسقت عناصره السماويّة والأرضيّة، بخضوعه للّه عزَّ وجل، وسَيره على وفق نُظُمه وقوانينه.

( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً

_____________________

(١) علل الشرائع.

١٧٩

وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( النحل: ٩٧ ).

وما هذه المآسي والأرزاء التي تعيشها البشريّة اليوم مِن شيوع الفوضى وانتشار الجرائم، واستبداد الحيرة والقلق، والخوف بالناس إلاّ لإعراضهم عن اللّه تعالى، وتنكّبهم عن دستوره وشريعته.

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف: ٩٦ ).

كيف نستشعر الخوف:

يجدر بمَن ضعُف فيه شعور الخوف اتّباع النصائح التالية:

١ - تركيز العقيدة، وتقوية الإيمان باللّه تعالى، ومفاهيم المعاد والثواب والعقاب، والجنّة والنار، إذ الخوف مِن ثمرات الإيمان وانعكاساته على النفس:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( الأنفال: ٢ ).

٢ - استماع المواعظ البليغة، والحِكَم الناجعة، الموجبة للخوف والرهبة.

٣ - دراسة حالات الخائفين وضراعتهم وتبتّلهم إلى اللّه عزّ وجل، خوفاً من سَطوته، وخَشيةً مِن عقابه.

وإليك أروَع صورة للضراعة والخوف مناجاة الإمام زين العابدينعليه‌السلام في بعض أدعيته:

١٨٠