أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333464 / تحميل: 11886
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الشُّكر

وهو عرفان النعمة من المنعم، وحمده عليها، واستعمالها في مرضاته. وهو من خلال الكمال، وسِمات الطِّيبَة والنُبل، وموجبات ازدياد النِّعَم واستدامتها.

والشكرُ واجبٌ مقدّسٌ للمنعم المخلوق، فكيف بالمنعم الخالق، الذي لا تُحصى نَعماؤه ولا تُعدّ آلاؤه.

والشكر لا يجدي المولى عزّ وجل، لاستغنائه المطلق عن الخلق، وإنّما يعود عليهم بالنفع، لإعرابه عن تقديرهم للنِّعَم الإلهيّة، واستعمالها في طاعته ورضاه، وفي ذلك سعادتهم وازدهار حياتهم.

لذلك دعَت الشريعة إلى التخلّق بالشكر والتحلّي به كتاباً وسنّة:

قال تعالى:( وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) (البقرة: ١٥٢).

وقال عزّ وجل:( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ) (سبأ: ١٥).

وقال تعالى:( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ( إبراهيم: ٧ ).

وقال تعالى:( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) ( سبأ: ١٣).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

١٦١

( الطاعم الشاكر له مِن الأجر، كأجر الصائم المُحتَسِب، والمُعافى الشاكر له مِن الأجر كأجر المبتلى الصابر، والمُعطى الشاكر له مِن الأجر كأجر المحروم القانع )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن أعطى الشكر أُعطِيَ الزيادة، يقول اللّه عزّ وجل:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) ) ( إبراهيم: ٧ )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( شكرُ كلّ نِعمة، وإنْ عظُمَت، أنْ تحمِد اللّه عزَّ وجلّ عليها )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( ما أنعَم اللّه على عبدٍ بنعمةٍ بالغةً ما بلَغت فحَمدُ اللّه عليها، إلاّ كان حمَدُ اللّه أفضل مِن تِلك النعمة وأوزَن )(٤).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( تقول ثلاث مرّات: إذا نظرت إلى المُبتَلَى مِِن غير أنْ تُسمِعه: الحمدُ للّه الذي عافاني ممّا ابتلاك به، ولو شاء فعل. قال: مَن قال ذلك لم يصبه ذلك البلاء أبداً )(٥).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الرجل منكم ليشرب الشربة مِن الماء، فيوجب اللّه له بها الجنّة، ثمّ قال: إنّه ليأخذ الإناء، فيضعه على فيه، فيسمّي ثُمّ يشرب، فينحّيه وهو يشتهيه، فيحمد اللّه، ثُمّ يعود، ثُمّ ينحّيه فيحمد اللّه، ثُمّ يعود فيشرب، ثُمّ يُنحّيه فيحمد اللّه

_____________________

(١)، (٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ٦٧ عن الكافي.

(٤) الوافي ج ٣ ص ٦٩ عن الكافي.

(٥) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٣٥ عن ثواب الإعمال للصدوق.

١٦٢

فيُوجب اللّه عزّ وجل له بها الجنّة )(١).

أقسام الشكر:

ينقسم الشكر إلى ثلاثة أقسام: شكر القلب. وشكر اللسان. وشكر الجوارح. ذلك أنّه متى امتلأت نفس الإنسان وعياً وإدراكاً بعِظَمِ نِعم اللّه تعالى، وجزيل آلائه عليه، فاضت على اللسان بالحمدِ والشكر للمنعم الوهّاب.

ومتى تجاوبت النفس واللسان في مشاعر الغبطة والشكر، سرى إيحاؤها إلى الجوارح، فغدت تُعرب عن شكرها للمولى عزّ وجل بانقيادها واستجابتها لطاعته.

من أجل ذلك اختلفت صوَر الشكر، وتنوّعت أساليبه:

أ - فشُكر القلب: هو تصوّر النعمة، وأنّها مِن اللّه تعالى.

ب - وشُكر اللسان: حمد المنعم والثناء عليه.

ج - وشُكر الجوارح: إعمالها في طاعة اللّه، والتحرّج بها عن معاصيه: كاستعمال العين في مجالات التبصّر والاعتبار، وغضّها عن المحارم، واستعمال اللسان في حسن المقال، وتعفّفه عن الفحش، والبذاء، واستعمال اليد في المآرب المباحة، وكفّها عن الأذى والشرور.

وهكذا يجدر الشكر على كلّ نعمة مِن نِعَم اللّه تعالى، بما يلائمها

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٣١ عن الكافي.

١٦٣

من صور الشكر ومظاهره:

فشُكر المال: إنفاقه في سُبُل طاعة اللّه ومرضاته.

وشُكر العِلم: نشره وإذاعة مفاهيمه النافعة.

وشُكر الجاه: مناصرة الضُّعَفاء والمضطهدين، وإنقاذهم من ظلاماتهم. ومهما بالغ المرء في الشكر، فإنّه لن يستطيع أنْ يوفّي النعم شُكرها الحق، إذ الشكر نفسه مِن مظاهر نعم اللّه وتوفيقه، لذلك يعجز الإنسان عن أداء واقع شكرها: كما قال الصادقعليه‌السلام : ( أوحى اللّه عزّ وجل إلى موسىعليه‌السلام : يا موسى، اشكرني حقَّ شُكري. فقال: يا رب، وكيف أشكرك حقّ شكرك، وليس مِن شكرٍ أشكرك به، إلاّ وأنتَ أنعمت به عليّ. قال: يا موسى، الآن شكَرتَني حين علِمت أنّ ذلك منّي )(١).

فضيلة الشكر:

من خصائص النفوس الكريمة تقدير النعَم والألطاف، وشكر مسديها، وكلّما تعاظمت النِعم، كانت أحقّ بالتقدير، وأجدَر بالشكر الجزيل، حتّى تَتَسامى إلى النعم الإلهيّة، التي يقصُر الإنسان عن تقييمها وشكرها.

فكلّ نظرةٍ يسرحها الطرف، أو كلمةٍ ينطق بها الفم، أو عضوٍ تحرّكه الإرادة، أو نَفَسٍ يردّده المرء، كلّها مِنَحٌ ربّانيّة عظيمة،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٨ عن الكافي.

١٦٤

لا يثمنّها إلاّ العاطلون منها.

ولئن وجَب الشكر للمخلوق فكيف بالمُنعِم الخالق، الذي لا تُحصى نعماؤه ولا تقدّر آلاؤه.

والشكر بعد هذا مِن موجبات الزلفى والرضا من المولى عزّ وجل، ومضاعفة نِعَمه وآلائه على الشكور.

أمّا كفران النعم، فإنّه مِن سِمات النفوس اللئيمة الوضيعة، ودلائل الجهل بقيم النعم وأقدارها، وضرورة شكرها.

أنظر كيف يخبر القران الكريم: أنّ كُفران النعَم هو سبب دمار الأُمم ومحق خيراتها:( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( النحل: ١١٢ ).

وسئل الصادقعليه‌السلام : عن قول اللّه عزّ وجل:( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) ( سبأ: ١٩ ).

فقال: ( هؤلاء قومٌ كانت لهم قُرى متّصلة، ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهارٌ جارية، وأموالٌ ظاهرة، فكفروا نِعَم اللّه عزّ وجل، وغيّروا ما بأُنفسهم مِن عافيةِ اللّه، فغيّر اللّه ما بِهم مِن نعمةٍ، وإنّ اللّه لا يُغيّر ما بقومٍ، حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم، فأرسل اللّه عليهم سيل العَرمِ ففرّق قُراهم، وخرّب ديارهم، وذهَب بأموالهم، وأبدَلهم مكان جنّاتهم جنّتين ذواتَي أُكل خمط وأثل وشيءٍ من سِدرٍ قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلاّ الكفور )(١).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

١٦٥

وقال الصادقعليه‌السلام في حديث له:

( إن قوماً أفرغت عليهم النعمة، وهُم ( أهل الثرثار )، فعمدوا إلى مُخ الحنطة فجعلوه خُبز هجاء فجعلوا ينجون به صبيانهم، حتّى اجتمع مِن ذلك جبَل، فمرّ رجلٌ على امرأة وهي تفعل ذلك بصبيٍّ لها، فقال: ويحكم، اتّقوا اللّه لا تُغيّروا ما بكم مِن نعمة، فقالت: كأنّك تخوّفنا بالجوع، أما مادام ثرثارنا يجري فإنّا لا نخاف الجوع.

قال: فأسف اللّه عزّ وجل، وضعف لهم الثرثار، وحبس عنهم قطر السماء ونبت الأرض، قال فاحتاجوا إلى ما في أيديهم فأكلوه، ثُمّ احتاجوا إلى ذلك الجبَل فإنّه كان ليقسم بينهم بالميزان )(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أسرَعُ الذنوب عقوبة كُفران النِّعَم )(٢).

كيف نتحلّى بالشكر:

إليك بعض النصائح لاكتساب فضيلة الشكر والتحلّي به:

١ - التفكّر فيما أغدقه اللّه على عباده من صنوف النِّعَم، وألوان الرعاية واللطف.

٢ - ترك التطلّع إلى المُترفين والمُنعّمين في وسائل العيش، وزخارف

_____________________

(١) البحار عن محاسن البرقي.

(٢) البحار عن أمالي ابن الشيخ الطوسي.

١٦٦

الحياة، والنظَر إلى البؤساء والمعوزين، ومَن هو دون الناظر في مستوى الحياة والمعاش، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( وأكثر أنْ تنظر إلى مَن فُضِّلْتَ عليه في الرِّزق، فإنّ ذلك مِن أبواب الشُكر )(١).

٣ - تذكّر الإنسان الأمراض، والشدائد التي أنجاه اللّه منها بلُطفه، فأبدله بالسقم صحّة، وبالشدّة رخاءً وأمناً.

٤ - التأمّل في محاسن الشُكر، وجميل آثاره في استجلاب ودّ المنعِم، وازدياد نِعَمه، وآلائه، وفي مساوئ كُفران النِّعم واقتضائه مقت المُنعِم وزوال نِعَمه.

_____________________

(١) نهج البلاغة .

١٦٧

التوكّل

هو: الاعتماد على اللّه تعالى في جميع الأمور، وتفويضها إليه، والإعراض عمّا سِواه. وباعثه قوّة القلب واليقين، وعدمه من ضعفهما أو ضعف القَلب، وتأثّره بالمخاوف والأوهام.

والتوكّل هو: من دلائل الإيمان، وسِمات المؤمنين ومزاياهم الرفيعة، الباعثة على عزّة نفوسهم، وترفعهم عن استعطاف المخلوقين، والتوكّل على الخالِق في كسب المنافع ودَرء المضار.

وقد تواترت الآيات والآثار في مَدحِه والتشويق إليه:

قال تعالى:( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( الطلاق: ٣ ).

وقال:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

وقال:( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) ( التوبة: ٥١ ).

وقال تعالى:( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران: ١٦٠ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الغنى والعِزّ يجولان، فإذا ظفَرا بموضعِ التوكّل أوطنا )(١).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٦ عن الكافي.

١٦٨

وقالعليه‌السلام : ( أوحى اللّه إلى داودعليه‌السلام : ما اعتصم بي عبدٌ مِن عبادي دون أحدٍ مِن خلقي، عرفت ذلك من نيّته، ثُمّ تكيده السماوات والأرض ومَن فيهن، إلاّ جعلت له المخرج من بينهنّ.

وما اعتصم عبدٌ مِن عبادي بأحدٍ مِن خلقي، عرَفت ذلك من نيّته، إلاّ قطعت أسباب السماوات مِن يديه، وأسَخت الأرض مِن تحته، ولم أُبال بأيّ وادٍ هلَك )(١).

وقالعليه‌السلام : ( من أعطي ثلاثاً، لم يمنع ثلاثاً:

مَن أُعطي الدعاء أُعطي الإجابة.

ومَن أُعطي الشُكر أُعطي الزيادة.

ومَن أُعطي التوكّل أُعطي الكفاية.

ثُمّ قال: أَتلَوت كتاب اللّه تعالى ؟:( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( الطلاق: ٣ ).

وقال:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) ( إبراهيم: ٧ )، وقال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) )( غافر: ٦٠ )(٢).

وقال أمير المؤمنين في وصيّتهِ للحسنعليه‌السلام :

( وألجئ نفسك في الأُمور كلّها، إلى إلهك، فإنّك تُلجئها إلى كهفٍ حريز، ومانعٍ عزيز )(٣).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٥٦ عن الكافي.

(٢) نهج البلاغة.

١٦٩

( كان فيما وعَظ به لُقمان ابنه، أنْ قال له: يا بني، ليعتبر مَن قصُر يَقينه وضعُفَت نيّته في طلَب الرزق، أنّ اللّه تبارك وتعالى خلَقه في ثلاثةِ أحوال، ضِمن أمره، وآتاه رِزقه، ولم يكُن له في واحدةٍ منها كسبٌ ولا حيلة، أنّ اللّه تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة:

أمّا أوّل ذلك فإنّه كان في رحِم أُمّه، يرزُقه هناك في قرارٍ مكين، حيثُ لا يؤذيه حرٌّ ولا برْد.

ثُمّ أخرجه من ذلك، وأجرى له رِزقاً مِن لبنِ أُمّه، يكفيه به ويربيه ويُنعِشه، من غير حولٍ به ولا قوّة.

ثُمّ فُطِم من ذلك، فأجرى له رِزقاً من كسبِ أبَوَيه، برأفةٍ ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتّى أنّهما يُؤثرانه على أنفسهما، في أحوالٍ كثيرة، حتّى إذا كبُر وعقل، واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربّه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله، مخافة رزقه، وسوء ظنٍ ويقين بالخلَف من اللّه تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يا بني )(١).

حقيقة التوكّل:

ليس معنى التوكّل إغفال الأسباب والوسائل الباعثة على تحقيق المنافع، ودرء المضار، وأنْ يقف المرء إزاء الأحداث والأزَمَات مكتوف اليدين.

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٥٥ عن خصال الصدوق ( ره ).

١٧٠

سليب الإرادة والعزْم، وإنّما التوكّل هو: الثقة باللّه عزّ وجل، والركون إليه، والتوكّل عليه دون غيره من سائر الخلْق والأسباب، باعتبار أنّه تعالى هو مصدر الخير، ومسبّب الأسباب، وأنّه وحده المُصرّف لأُمور العباد، والقادر على إنجاح غاياتهم ومآربهم.

ولا ينافي ذلك تذرّع الإنسان بالأسباب الطبيعيّة، والوسائل الظاهريّة لتحقيق أهدافه ومصالحه كالتزوّد للسفر، والتسلّح لمقاومة الأعداء، والتداوي من المرض، والتحرّز من الأخطار والمضار، فهذه كلّها أسباب ضروريّة لحماية الإنسان، وإنجاز مقاصده، وقد أبى اللّه عزَّ وجل أنْ تجري الأُمور إلاّ بأسبابها.

بيد أنّه يجب أنْ تكون الثقة به تعالى، والتوكّل عليه، في إنجاح الغايات والمآرب، دون الأسباب، وآيةُ ذلك أنّ أعرابيّاً أهمل عَقل بعيره متوكّلاً على اللّه في حفظه، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، له: ( إعقل وتوكّل ).

درجات التوكّل:

يتفاوت الناس في مدارج التوكّل تفاوتاً كبيراً، كتفاوتهم في درجات إيمانهم: فمنهم السبّاقون والمجلّون في مجالات التوكّل، المنقطعون إلى اللّه تعالى، والمُعرِضون عمّن سِواه، وهُم الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، ومَن دار في فلَكهم من الأولياء.

١٧١

ومِن أروع صور التوكّل وأسماه، ما رُوي عن إبراهيمعليه‌السلام :

( أنّه لمّا أُلقِي في النار، تلقّاه جبرئيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة ؟ فقال: أمّا إليك فلا، حسبي اللّه ونعم الوكيل. فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردتَ أن أخمد النار فانّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا أريد، فقال جبرئيل: فاسأل اللّه. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي )(١).

ومن الناس من هو عديم التوكل، عاطل منه، لضعف إحساسه الروحي، وهزال إيمانه. ومنهم بين هذا وذاك على تفاوت في مراقي التوكّل.

محاسن التوكّل:

الإنسان في هذه الحياة، عرضةٌ للنوائب، وهدفٌ للمشاكل والأزَمات، لا ينفكّ عن جلادها ومقارعتها، ينتصر عليها تارةً وتصرعه أُخرى، وكثيراً ما تُرديه لقاً، مهيض الجناح، كسير القلب.

فهو منها في قلقٍ مضني، وفزَعٍ رهيب، يخشى الإخفاق، ويخاف الفقر، ويرهَب المرض، ويُعاني ألوان المخاوف المهدِّدة لأمنه ورخائه.

ولئن استطاعت الحضارة الحديثة أنْ تُخفّف أعباء الحياة، بتيسيراتها الحضاريّة، وتوفير وسائل التسلية والترفيه، فقد عجَزت عن تزويد النفوس

_____________________

(١) سفينة البحار ج ٢ ص ٦٣٨ عن بيان التنزيل لابن شهرآشوب بتلخيص.

١٧٢

بالطمأنينة والاستقرار، وإشعارها بالسكينة والسلام الروحيّين، فلا يزال القلَق والخوف مخيّماً على النفوس، آخذاً بخناقها، ممّا ضاعف الأمراض النفسيّة، وأحداث الجنون والانتحار في أرقى الممالك المتحضّرة.

ولكن الشريعة الإسلاميّة استطاعت بمبادئها السامية، ودستورها الخُلُقي الرفيع - أنْ تخفّف قلَق النفوس ومخاوفها، وتمدّها بطاقات روحيّة ضخمة، من الجلد والثبات، والثقة والاطمئنان، بالتوكّل على اللّه، والاعتماد عليه، والاعتزاز بحسن تدبيره، وجميل صنعه، وجزيل آلائه، وأنّه له الخلق والأمر وهو على كلّ شيء قدير. وبهذا ترتاح النفوس، وتستبدل بالخوف أمناً، وبالقلق دِعَةً ورخاءً.

والتوكّل بعد هذا مِن أهمّ عوامل عزّة النفس، وسموّ الكرامة، وراحة الضمير، وذلك بترفّع المتوكّلين عن الاستعانة بالمخلوق، واللجوء إلى الخالق، في جلب المنافع، ودرء المضار.

ولعلّ أجدر الناس بالتوكّل أرباب الأقدار والمسؤوليّات الكبيرة، كالمصلحين ليستمدّوا منه العزم والتصميم على مجابهة عَنَتِ الناس وإرهاقهم، والمضيّ قُدماً في تحقيق أهدافهم الإصلاحيّة، متخطّين ما يعترضهم مِن أشواكٍ وعوائق.

كيف تكسب التوكّل:

١ - استعراض الآيات والأخبار الناطقة بفضله وجميل أثره في كسب

١٧٣

الطمأنينة والرخاء.

ومِن طريق ما نُظِم في التوكّل قول الحسينعليه‌السلام :

إذا ما عضّك الدهر فلا تجنَح إلى خلقٍ

ولا تسأل سِوى اللّه تعالى قاسِم الرزق

فلو عِشت وطوّفت مِن الغرب إلى الشرق

لَما صادَفت مَن يقدِر أنْ يُسعد أو يُشقي

وممّا نُسِب لأمير المؤمنينعليه‌السلام :

رضيتُ بما قسَم اللّه لي

وفوّضت أمري إلى خالقي

كما أحسن اللّه فيما مضى

كذلك يُحسن فيما بقي

وقال بعض الأعلام:

كن عن همومك معرضاً

وكلّ الأُمور إلى القضا

فلَرُبَّ أمرٍ مُسخطٍ

لك في عواقبه رضا

ولربَّما اتّسع المضيق

وربَّما ضاق الفضا

اللّه عوّدك الجميل

فقس على ما قد مضى

* * *

٢ - تقوية الإيمان باللّه عزّ وجل، والثقة بحُسن صنعه، وحِكمة تدبيره، وجزيل حنانه ولُطفه، وأنّه هو مصدر الخير، ومسبّب الأسباب، وهو على كلّ شيء قدير.

٣ - التنبّه إلى جميل صنع اللّه تعالى، وسموّ عنايته بالإنسان، في جميع أطواره وشؤونه، مِن لدن كان جنيناً حتّى آخر الحياة، وأنّ مَن توكّل عليه كفاه، ومن استنجده أنجده وأغاثه.

٤ - الاعتبار بتطوّر ظروف الحياة، وتداول الأيّام بين الناس،

١٧٤

فكم فقير صار غنيّاً، وغنيّ صار فقيراً، وأمير غدا صعلوكاً، وصعلوك غدا أميراً متسلّطاً.

وهكذا يجدر التنبّه إلى عظَمة القدرة الإلهية في أرزاق عبيده، ودفع الأسواء عنهم، ونحو ذلك من صوَر العِبَر والعِظات الدالّة على قدرة اللّه عزّ وجل، وأنّه وحده هو الجدير بالثقة، والتوكّل والاعتماد، دون سِواه.

وآية حصول التوكّل للمرء هي: الرضا بقضاء اللّه تعالى وقَدره في المسرّات والمكاره، دون تضجّرٍ واعتراض، وتلك منزلةٌ سامية لا ينالها إلاّ الأفذاذ المقرّبون.

١٧٥

الخوف من اللّه تعالى

وهو: تألّم النفس خَشيةٍ مِن عِقاب اللّه، مِن جرّاء عِصيانه ومخالفته. وهو مِن خصائص الأولياء، وسمات المتّقين، والباعث المحفّز على الاستقامة والصلاح، والوازع القويّ عن الشرور والآثام.

لذلك أولته الشريعة عنايةً فائقة، وأثنت على ذويه ثناءً عاطراً مشرّفاً:

قال تعالى:( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فاطر: ٢٨ ).

وقال:( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) ( الملك: ١٢ ).

وقال:( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) ( النازعات: ٤٠ - ٤١ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( خَفِ اللّه كأنّك تراه، وإنْ كنت لا تراه فإنّه يراك، وإنْ كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإنْ كنت تعلم إنّه يراك ثُمّ برزت له بالمعصية، فقد جعلته مِن أهوَن الناظرين إليك )(١).

وقالعليه‌السلام : ( المؤمن بين مخافَتين: ذنبٌ قد مضى لا يدري ما صنَع اللّه فيه، وعمرٌ قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه مِن المهالك،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٧ عن الكافي.

١٧٦

فهو لا يصبح إلاّ خائفاً، ولا يصلحه إلاّ الخوف )(١).

وقالعليه‌السلام : ( لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لِما يخاف ويرجو )(٢) .

وفي مناهي النبيّ ( صلى اللّه عليه وآله ):

( من عرضت له فاحشة، أو شهوة فاجتنبها مِن مخافة اللّه عزّ وجل، حرّم اللّه عليه النار، وآمنه من الفزَع الأكبَر، وأنجز له ما وعده في كتابه، في قوله عزّ وجل:( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) )( الرحمن: ٤٦ )(٣).

وقال بعض الحكماء: مسكينٌ ابن آدم، لو خاف مِن النار كما يَخاف من الفقر لنجا منهما جميعاً، ولو رغب في الجنّة كما رغِب في الدنيا لفاز بهما جميعاً، ولو خاف اللّه في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً.

ودخل حكيمٌ على المهدي العبّاسي فقال له: عِظني. فقال: أليس هذا المجلس قد جلَس فيه أبوك وعمّك قبلك ؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمال ترجو لهم النجاة بها ؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمال تخاف عليهم الهلَكة منها ؟ قال: نعم. قال: فانظر ما رجَوت لهم فيه فآتِه، وما خِفت عليهم منه فاجتنبه.

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٥٧ عن الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١١٣ عن الفقيه.

١٧٧

الخوف بين المدّ والجزر:

لقد صوّرت الآيات الكريمة، والأخبار الشريفة، أهمّيّة الخوف، وأثره في تقويم الإنسان وتوجيهه وجهة الخير والصلاح، وتأهيله لشرف رضا اللّه تعالى وإنعامه.

بيد أنّ الخوف كسائر السجايا الكريمة، لا تستحقّ الإكبار والثناء، إلاّ إذا اتّسمت بالقصد والاعتدال، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

فالإفراط في الخوف يجدب النفس، ويدعها يباباً مِن نضارة الرجاء، ورونَقه البهيج، ويدَع الخائف آيساً آبقاً موغلاً في الغواية والضلال، ومُرهِقاً نفسه في الطاعة والعبادة حتّى يشقيها وينهكها.

والتفريط فيه باعثٌ على الإهمال والتقصير، والتمرّد على طاعة اللّه تعالى واتّباع دستوره.

وبتعادل الخوف والرجاء تنتعش النفس، ويسمو الضمير، وتتفجّر الطاقات الروحيّة، للعمل الهادف البنّاء.

كما قال الصادقعليه‌السلام : ( أرجُ اللّه رجاءً لا يجرئك على معاصيه، وخَف اللّه خوفاً لا يؤيّسك مِن رحمته )(١).

محاسن الخوف:

قِيَم السجايا الكريمة بقدر ما تحقّق في ذويها مِن مفاهيم الإنسانيّة الفاضلة،

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١١٨ عن أمالي الصدوق.

١٧٨

وقِيم الخير والصلاح، وتؤهّلهم للسعادة والرخاء. وبهذا التقييم يحتلّ الخوف مركز الصدارة بين السجايا الأخلاقيّة الكريمة، وكانت له أهميّة كُبرى في عالم العقيدة والإيمان، فهو الذي يلهب النفوس، ويحفّزها على طاعة اللّه عزَّ وجل، ويفطمها من عصيانه، ومِن ثُمّ يسمو بها إلى منازل المتّقين الأبرار.

وكلّما تجاوبت مشاعر الخشية والخوف في النفس، صقلتها وسَمَت بها إلى أوج ملائكي رفيع، يحيل الإنسان ملاكاً في طيبته ومثاليّته، كما صوّره أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو يُقارن بين الملَك والإنسان والحيوان، فقال: ( إنّ اللّه عزّ وجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوةً بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما.

فمن غلَب عقلهُ شهوتهَ، فهو خير مِن الملائكة، ومَن غلَب شهوته عقلَه فهو شرٌّ مِن البهائم )(١).

مِن أجل ذلك نجد الخائف مِن اللّه تعالى يستسهلّ عناء طاعته، ويستحلي مرارتها، ويستوخم حلاوة المعاصي والآثام، خَشية من سخطه وخوفاً من عقابه.

وبهذا يسعد الإنسان، وتزدهر حياته الماديّة والروحيّة، كما انتظم الكون، واتّسقت عناصره السماويّة والأرضيّة، بخضوعه للّه عزَّ وجل، وسَيره على وفق نُظُمه وقوانينه.

( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً

_____________________

(١) علل الشرائع.

١٧٩

وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( النحل: ٩٧ ).

وما هذه المآسي والأرزاء التي تعيشها البشريّة اليوم مِن شيوع الفوضى وانتشار الجرائم، واستبداد الحيرة والقلق، والخوف بالناس إلاّ لإعراضهم عن اللّه تعالى، وتنكّبهم عن دستوره وشريعته.

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف: ٩٦ ).

كيف نستشعر الخوف:

يجدر بمَن ضعُف فيه شعور الخوف اتّباع النصائح التالية:

١ - تركيز العقيدة، وتقوية الإيمان باللّه تعالى، ومفاهيم المعاد والثواب والعقاب، والجنّة والنار، إذ الخوف مِن ثمرات الإيمان وانعكاساته على النفس:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( الأنفال: ٢ ).

٢ - استماع المواعظ البليغة، والحِكَم الناجعة، الموجبة للخوف والرهبة.

٣ - دراسة حالات الخائفين وضراعتهم وتبتّلهم إلى اللّه عزّ وجل، خوفاً من سَطوته، وخَشيةً مِن عقابه.

وإليك أروَع صورة للضراعة والخوف مناجاة الإمام زين العابدينعليه‌السلام في بعض أدعيته:

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517