أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت7%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333196 / تحميل: 11877
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أخلاق أهل البيت

تأليف: السيّد مهدي الصدر

القسم الأوّل - الأخلاق العامّة

١

٢

( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

( القرآن الكريم )

( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ) .

( القرآن الكريم )

٣

( إنّي تركت فيكم ما إنْ تمسّكتم به لنْ تضلّوا بعدي: كتابَ اللّه حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهلَ بيتي، ولنْ يفترقا حتّى يَرِدا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ).

( الرسول الأعظم )

( أفاضلكم أحسنُكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألَفُون ويُؤلَفون وتُوطأ رِحالهُم ).

( الرسول الأعظم )

٤

مُقدمَة الكِتَابَ

٥

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين. وبعد:

فإنّ عِلم الأخلاق هو: العِلم الباحث في مَحاسن الأخلاق ومساوِئها، والحثّ على التحلّي بالأُولى والتخلّي عن الثانية.

ويحتلّ هذا العِلم مكانةً مرموقةً، ومحلاًّ رفيعاً بين العلوم، لشرَفِ موضوعه، وسموِّ غايته. فهو نظامها، وواسطة عقدها، ورمز فضائلها، ومظهر جمالها، إذ العلوم بأسرها منوطة بالخُلق الكريم، تزدان بجماله، وتحلو بآدابه، فإنْ خلت منه غدَت هزيلةُ شَوهاء، تثير السخط والتقزّز.

ولا بدع فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقّق في الإنسان معاني الإنسانية الرفيعة، وتحيطه بهالة وضّاءة من الجمال والكمال، وشرف النفس والضمير، وسمو العزة والكرامة، كما تمسخه الأخلاق الذميمة، وتحطّه إلى سويّ الهمج والوحوش.

وليس أثر الأخلاق مقصوراً على الأفراد فحسب، بل يسري الى الأُمم والشعوب، حيثُ تعكس الأخلاق حياتها وخصائصها ومبلغ رقيها، أو تخلّفها في مضمار الأُمم.

وقد زخر التاريخ بأحداث وعبر دلّت على أنّ فساد الأخلاق وتفسّخها كان مِعوَلاً هدّاماً في تقويض صروح الحضارات، وانهيار كثير من الدوَل والممالك:

٦

وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم

فأقم عليهم مأتماً وعويلا

وناهيك في عظمة الأخلاق، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أولاها عنايةً كُبرى، وجعلَها الهدف والغاية مِن بعثته ورسالته، فقال:

( بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق ).

وهذا هو ما يَهدف إليه عِلم الأخلاق، بما يرسمه من نُظُمٍ وآداب، تُهذِّب ضمائر الناس وتقوّم أخلاقهم، وتوجّههم إلى السيرة الحميدة، والسلوك الأمثل.

وتختلف مناهج الأبحاث الخُلقيّة وأساليبها باختلاف المعنيّين بدراستها مِن القدامى والمحدّثين: بين متزمّتٍ غالٍ في فلسفته الخُلقيّة، يجعلها جافّةً مُرهقةً عسرة التطبيق والتنفيذ. وبين متحكّم فيها بأهوائه، يرسمها كما اقتضت تقاليده الخاصّة، ومحيطه المحدود، ونزعاته وطباعه، ممّا يُجرّدها من صفة الأصالة والكمال. وهذا ما يجعل تلك المناهج مختلفة متباينة، لا تصلح أنْ تكون دستوراً أخلاقيّاً خالداً للبشريّة.

والملحوظ للباحث المقارن بين تلك المناهج، أنّ أفضلها وأكملها هو: النهج الإسلامي المستمدّ من القرآن الكريم، وأخلاق أهل البيتعليهم‌السلام ، الذي ازدان بالقصد والاعتدال، وأصالة المبدأ، وسموّ الغاية، وحكمة التوجيه، وحُسن الملائمة لمختلف العصور والأفكار.

وهو النهج الفريد الأمثل الذي يستطيع بفضل خصائصه وميّزاته أنْ يسمو بالناس فرداً ومجتمعاً، نحو التكامل الخُلقي، والمُثل الأخلاقيّة العُليا، بأُسلوبٍ شيّق محبّب، يستهوي العقول والقلوب، ويحقّق لهم ذلك بأقرب

٧

وقتٍ، وأيسر طريق.

هو منهج يمثّل سموّ آداب الوحي الإلهي، وبلاغة أهل البيتعليهم‌السلام ، وحكمتهم، وهُم يسيرون على ضوئه، ويستلهمون مفاهيمه، ويستقون من معينه، ليُحيلوها إلى الناس حكمةً بالغة، وأدَباً رفيعاً، ودروساً أخلاقيّة فذّة، تشعّ بنورها وطهورها على النفس، فتزكّيها وتنيرها بمفاهيمها الخيّرة وتوجيهها الهادف البنّاء.

مِن أجل ذلك تعشّقت هذا النهج، وصبَوت إليه، وآثرت تخطيط هذه الرسالة ورسم أبحاثها على ضوئه وهُداه.

ولئن اهتدى به أُناسٌ وقَصُر عنه آخرون، فليس ذلك بقادحٍ في حكمته وسموّ تعاليمه، وإنّما هو لاختلاف طِباع الناس، ونَزَعاتهم في تقبّل مفاهيم التوجيه والتأديب وانتفاعهم بها، كاختلاف المرضى في انتفاعهم بالأدوية الشافية، والعقاقير الناجعة: فمنهم المنتفع بها، ومنهم مَن لا تجديه نفعاً.

وممّا يحزُّ في النفس، ويبعث على الأسى والأسَف البالِغَين، أنّ المسلمين بعد أنْ كانوا قادةَ الأُمم، وروّادها إلى الفضائل، ومكارم الأخلاق، قد خسروا مثاليّتهم لانحرافهم عن آداب الإسلام، وأخلاقه الفذّة، ما جعلهم في حالةٍ مُزريةٍ مِن التخلّف والتسيّب الخُلقيَّين. لذلك كان لزاماً علهيم - إذا ما ابتغوا العزّة والكرامة وطيب السُمعة - أنْ يستعيدوا ما أغفلوه مِن تُراثهم الأخلاقي الضخم، وينتفعوا برصيده المذخور، ليكسبوا ثقة الناس وإعجابهم من جديد، وليكونوا كما أراد اللّه تعالى لهم:(..خَيْرَ أُمَّةٍ

٨

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...).

وتلك أمنيةٌ غالية، لا تُنال إلاّ بتضافر جهود المُخلصين من أعلام الأُمّة الإسلاميّة وموجّهيها، على توعية المسلمين، وحثّهم على التمسّك بالأخلاق الإسلاميّة، ونشر مفاهيمها البنّاءة والاهتمام بعرضها عرضاً شيّقاً جذّاباً، يُغري الناس بدراستها والإفادة منها.

وهذا ما حداني إلى تأليف هذا الكتاب، وتخطيطه على ضوء الخصائص التالية:

(١) إنّ هذا الكتاب لم يستوعب علم الأخلاق، وإنّما ضَمَّ أهمَّ أبحاثه، وأبلغها أثراً في حياة الناس. وقد جهدت ما استطعت في تجنّب المصطلحات العلميّة وألفاظها الغامضة، وعرضتها بأُسلوبٍ واضح مركّز، يُمتّع القارئ، ولا يُرهقه بالغموض والإطناب، الباعثَين على الملل والسأم.

(٢) اختيار الأحاديث والأخبار الواردة فيه مِن الكتب المعتبرة والمصادر الوثيقة لدى المحدّثين والرواة.

(٣) الاهتمام بذكر محاسن الخُلق الكريم، ومساوئ الخُلق الذميم، وبيان آثارهما الروحيّة والمادّية في حياة الفرد أو المجتمع.

والجدير بالذكر: أنّ المقياس الخُلقي في تقييم الفضائل الخُلقيّة، وتحديد واقعها هو: التوسّط والاعتدال، المبرّأ من الإفراط والتفريط.

فالخُلق الرضيّ هو: ما كان وسطاً بين المغالاة والإهمال، كنقطة الدائرة مِن محيطها، فإذا انحرف عن الوسط إلى طرف الإفراط أو التفريط غدا خلقاً ذميماً.

٩

فالعفّة فضيلةٌ بين رذيلتَي الشرِّ والجمود: فإنْ أفرط الإنسان بها كان جامداً خاملاً، معرضاً عن ضرورات الحياة ولذائذها المشروعة، وإنْ فرّط فيها وقصّر، كان شرّهاً جشعاً، منهمكاً على اللذائذ والشهوات.

والشجاعة فضيلةٌ بين رذيلتَي التهوّر والجُبن: فإنْ أفرط الشجاع فيها كان متهوّراً مجازفاً فيما يُحسن الأحجام عنه، وإنْ فرَّط وقصّر كان جباناً هيّاباً مُحجماً عمّا يحسن الإقدام عليه.

والسخاء فضيلةٌ بين رذيلتَي التبذير والبُخل: فإنْ أفرط فيها كان مُسرفاً مبذّراً سخيّاً على مَن لا يستحقّ البذل والسخاء، وإنْ فرّط فيها وقصّر كان شحيحاً بخيلاً فيما يجدر الجُود والسخاءُ فيه... وهكذا دواليك.

مِن أجل ذلك كان كسب الفضائل، والتحلّي بها، والثبات عليها، من الأهداف السامية التي يتبارى فيها، ويتنافس عليها، ذوو النفوس الكبيرة، والهمم العالية، ولا ينالها إلاّ ذو حظٍّ عظيم.

ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتاً * لدى المجد حتّى عُد ألفٌ بواحدِ

وإنّي لأرجو اللّه عزّ وجل أنْ يتقبّل منّي هذا المجهود المتواضع ويُثيبني عليه، بلطفه الواسع، وكرمه الجزيل، وأنْ يوفّقني وإخواني المؤمنين للانتفاع به، والسير على ضوئه، إنّه وليّ الهداية والتوفيق.

الكاظميّة مهدي السيّد عليّ اللصدر

١٠

حُسن الخُلق

حسن الخلق هو: حالةٌ تبعث على حُسن معاشرة الناس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة، كما عرّفه الإمام الصادقعليه‌السلام حينما سُئل عن حدّه فقال: ( تُليّن جناحَك، وتُطيّب كلامك، وتَلقَى أخاك ببشرٍ حسن )(١) .

من الأماني والآمال التي يطمح إليها كل عاقل حصيف، ويسعى جاهداً في كسبها وتحقيقها، أنْ يكون ذا شخصيّة جذّابة، ومكانةٍ مرموقة، محبّباً لدى الناس، عزيزاً عليهم.

وإنّها لأمنيةٌ غالية، وهدف سامي، لا يناله إلاّ ذوو الفضائل والخصائص التي تؤهّلهم كفاءاتهم لبلوغها، ونيل أهدافها، كالعلم والأريَحيّة والشجاعة ونحوها من الخصال الكريمة.

بيد أنّ جميع تلك القيم والفضائل، لا تكون مدعاة للإعجاب والإكبار، وسموّ المنزلة، ورِفعة الشأن، إلاّ إذا اقترنت بحُسن الخُلق، وازدانت بجماله الزاهر، ونوره الوضّاء. فإذا ما تجرّدت منه فقدت قيمها الأصيلة، وغدَت صوراً شوهاء تثير السأم والتذمّر.

_____________________

(١) الكافي للكليني.

١١

لذلك كان حسن الخُلق ملاك الفضائل ونظام عقدها، ومحوَر فلكِها، وأكثرها إعداداً وتأهيلاً لكسب المحامد والأمجاد، ونيل المحبّة والإعزاز.

أنظر كيف يمجّد أهل البيتعليهم‌السلام هذا الخُلق الكريم، ويُطرون المتحلّين به إطراءاً رائعاً، ويحثّون على التمسّك به بمختلَف الأساليب التوجيهيّة المشوقة، كما تصوّره النصوص التالية:

قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أفاضلُكم أحسنُكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألَفَون ويُؤلَفون وتُوطأ رحالهم )(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلقاً )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( ما يقدم المؤمن على اللّه تعالى بعملٍ بعد الفرائض، أحبّ إلى اللّه تعالى مِن أنْ يسعَ الناس بخُلُقه )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى ليُعطي العبد مِن الثواب على حُسن الخُلق، كما يُعطي المجاهد في سبيل اللّه، يغدو عليه و يروح )(٤) .

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ صاحب الخُلُق الحسن له مثل أجرِ الصائم القائم )(٥).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الخُلق الحسن يُميت الخطيئة، كما تُميت الشمس الجليد )(٦).

وقالعليه‌السلام : ( البِرُّ وحُسن الخُلق يُعمّران الديار، ويزيدان

_____________________

(١) الكافي. والأكناف جمع كنف، وهو: الناحية والجانب، ويُقال ( رجل موطأ الأكناف ) أي كريمٌ مضياف.

(٢)، (٣)، (٤)، (٥)، (٦) عن الكافي.

١٢

في الأعمار )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنْ شئت أنْ تُكرمَ فَلِن، وإنْ شِئت أنْ تُهان فاخشن )(٢).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم )(٣).

وكفى بحُسن الخُلق شرَفاً وفضلاً، أنّ اللّه عزّ وجل لم يَبعث رُسله وأنبياءه إلى الناس إلاّ بعد أنْ حلاّهم بهذه السجيّة الكريمة، وزانهم بها، فهي رمزُ فضائلهم، وعنوان شخصيّاتهم.

ولقد كان سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله المثل الأعلى في حُسن الخُلق، وغيره مِن كرائم الفضائل والخِلال. واستطاع بأخلاقه المثاليّة أنْ يملك القلوب والعقول، واستحقّ بذلك ثناء اللّه تعالى عليه بقوله عزّ من قائل:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

قال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وهو يُصوّر أخلاق رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( كان أجوَد الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمّةً، وأليَنهم عريكةً، وأكرمهم عِشرةً. مَن رآه بديهة هابه. ومَن خالطهُ فعرفه أحبّه، لم أرَ مثله قبله ولا بعده )(٤).

_____________________

(١) عن الكافي.

(٢) تُحف العقول.

(٣) من لا يحضره الفقيه.

(٤) سفينة البحار - مادّة خُلق -.

١٣

وحسبنا أنْ نذكر ما أصابه مِن قريش، فقد تألّبت عليه، وجرّعته ألوان الغُصَص، حتّى اضطرته الى مغادرة أهله وبلاده، فلمّا نصره اللّه عليهم، وأظفره بهم، لم يشكّوا أنّه سيثأر منهم، وينكّل بهم، فما زاد أنْ قال لهم: ( ما تقولون إنّي فاعل بكم ؟ !) قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم. فقال: ( أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء ).

وجاء عن أنَس قال: كنت مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه بُردٌ غليظ الحاشية، فجذَبه أعرابي بردائه جذبةً شديدة، حتّى أثّرت حاشية البُرد في صفحة عاتقه، ثُم قال: يا محمّد، احمل لي على بعيرَيّ هذَين مِن مال اللّه الذي عندك، فإنّك لا تحمل لي مِن مالك، ولا مال أبيك. فسكَت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثُمّ قال: ( المال مال اللّه، وأنا عبده ).

ثُمّ قال: ( ويُقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي ؟!) قال: لا. قال: ( لِمَ ؟ )، قال: لأنّك لا تكافئ بالسيّئة السيّئة. فضحك النبيّ، ثُمّ أمَر أنْ يحمل له على بعير شعيراً، وعلى الآخر تمراً(١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: ( إنّ يهوديّاً كان له على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك. فقال: فإنّي لا أفارقك يا محمّد، حتى تقضيني. فقال: إذن أجلس معك، فجلس معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول اللّه يتهدَّدونه

_____________________

(١) سفينة البحار - مادّة خلق -.

١٤

ويتوعّدونه، فنظر رسول اللّه إليهم فقال: ما الذي تصنعون به ؟! فقالوا: يا رسول اللّه يهودي يحبسك ! فقال: لم يبعثني ربِّي عزَّ وجل بأنْ أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أنْ لا إله إلا اللّه، وأشهد أنْ محمّداً عبدُه ورسوله، وشطر مالي في سبيل اللّه، أما واللّه ما فعلت بك الذي فعلت، إلاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة، فانّي قرأت نعتك في التوراة: محمّد بن عبد اللّه، مولده بمكّة، ومهاجره بطيبة، وليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا متزيّن بالفحش، ولا قول الخنا، وأنا أشهد أنّ لا إله إلاّ اللّه، وأنّك رسول اللّه، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه، وكان اليهودي كثير المال )(١).

وهكذا كان الأئمّة المعصومون مِن أهل البيتعليهم‌السلام في مكارم أخلاقهم، وسموّ آدابهم. وقد حمل الرواة إلينا صوراً رائعة ودروساً خالدة مِن سيرتهم المثاليّة، وأخلاقهم الفذّة:

مِن ذلك ما ورد عن أبي محمّد العسكريعليه‌السلام قال: ( وردّ على أمير المؤمنينعليه‌السلام أخوان له مؤمنان، أبٌ وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين يديهما، ثُمّ أمَر بطعامٍ فأحضر فأكلا منه، ثُمّ جاء قنبر بطست وإبريق خشَب ومنديل، فأخذ أمير المؤمنينعليه‌السلام الإبريق فغسَل يد الرجل بعد أنْ كان الرجل يمتنع من ذلك، وتمرّغ في التراب، وأقسمه أمير المؤمنينعليه‌السلام أنْ يغسل مطمئنّاً، كما كان يغسل لو كان الصابّ عليه قنبر ففعل، ثمُّ ناول الإبريق محمّد بن

_____________________

(١) البحار م ٦ في مكارم أخلاق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٥

الحنفيّة وقال: يا بني، لو كان هذا الابن حضَرني دون أبيه لصبَبت على يده، ولكن اللّه عزّ وجل يأبى أنْ يُسوّي بين ابن وأبيه، إذا جمعهما مكان، ولكن قد صبّ الأب على الأب، فليصب الابن على الابن، فصبّ محمّد بن الحنفيّة على الابن ).

ثُمّ قال العسكريعليه‌السلام : ( فمن اتّبع عليّاً على ذلك فهو الشيعي حقّاً )(١).

وورد أنّ الحسن والحسين مرّا على شيخ يتوضّأ ولا يُحسن، فأخذا في التنازع، يقول كلٌّ واحدٍ منهما أنت لا تُحسن الوضوء، فقالا: ( أيّها الشيخ كن حَكَماً بيننا، يتوضأ كلٌّ واحدٍ منّا، فتوضّئا ثُمّ قالا: أيّنا يُحسن ؟) قال: كلاكما تُحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يُحسن، وقد تعلّم الآن منكما، وتاب على يدَيكما ببركتكما وشفقتكما على أُمّة جدّكما(٢).

وجنى غلام للحسينعليه‌السلام جنايةً توجِب العقاب عليه، فأمر به أنْ يُضرب، فقال: يا مولاي،( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ). قال: ( خلّوا عنه ). فقال: يا مولاي،( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ). قال: ( قد عفوت عنك ). قال: يا مولاي،( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) . قال: ( أنت حرّ لوجه اللّه، ولك ضعف ما كنت أعطيك )(٣).

_____________________

(١) سفينة البحار - مادّة وضع -.

(٢) البحار م ١٠ عن عيون المحاسن ص ٨٩.

(٣) البحار م ١٠ ص ١٤٥ عن كشف الغمّة.

١٦

وحدّث الصولي: أنّه جرى بين الحسين وبين محمّد بن الحنفيّة كلام، فكتب ابن الحنفيّة إلى الحسين:

( أمّا بعد يا أخي، فإنّ أبي وأباك عليّ لا تفضلني فيه ولا أفضلك، وأمّك فاطمة بنت رسول اللّه، لو كان ملء الأرض ذهباً ملك أُمّي ما وفت بأُمّك، فإذا قرأت كتابي هذا فصر إليّ حتّى تترضاني، فإنّك أحقّ بالفضل منّي، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته )، ففعل الحسين فلم يجرِ بعد ذلك بينهما شيء(١).

وعن محمّد بن جعفر وغيره قالوا: وقف على عليّ بن الحسينعليه‌السلام رجلٌ من أهل بيته فأسمعه وشتمه، فلم يكلّمه، فلمّا انصرف قال لجلسائه: ( لقد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحبّ أنْ تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردّي عليه ).

فقالوا له: نفعل، ولقد كنّا نحبّ أنْ يقول له ويقول. فأخذ نعليه ومشى وهو يقول:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )، فعلمنا أنّه لا يقول له شيئاً.

قال: فخرج حتّى أتى منزل الرجل، فصرخ به، فقال: قولوا له هذا عليّ بن الحسين. قال: فخرج متوثّباً للشر، وهو لا يشكّ أنّه إنّما جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه.

فقال له عليّ بن الحسين: ( يا أخي، إنّك وقفت عليّ آنفاً وقلت وقلت، فإنْ كنت قلت ما فيّ فأستغفر اللّه منه، وإنْ كنت قلت ما ليس فيّ فغَفَر اللّه لك ). قال: فقبّل الرجل بين عينيه، وقال: بل قلت فيك

_____________________

(١) البحار م ١٠ ص ١٤٤ عن مناقب ابن شهر آشوب.

١٧

ما ليس فيك وأنا أحقّ به(١).

وليس شيء أدلّ على شرَف حُسن الخُلق، وعظيم أثره في سموّ الإنسان وإسعاده، من الحديث التالي:

عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: ثلاثة نفر آلوا باللات والعزّى ليقتلوا محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذهَب أمير المؤمنين وحده إليهم وقتل واحداً منهم وجاء بآخرَين، فقال النبيّ: ( قدّم إليّ أحد الرجُلَين، فقدّمه فقال: قل لا إله إلاّ اللّه، واشهَد أنّي رسول اللّه. فقال: لَنَقْل جبل أبي قُبَيس أحبّ إليّ مِن أنْ أقول هذه الكلمة،. قال: يا عليّ، أخره واضرب عنقه. ثُمّ قال: قدِّم الآخر، فقال: قل لا إله إلاّ اللّه، واشهد أنّي رسول اللّه. قال: ألحقني بصاحبي.

قال: يا عليّ، أخره واضرب عنقه. فأخره وقام أمير المؤمنين ليضرب عُنقه فنزل جبرئيل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا محمّد، إنّ ربَّك يُقرئك السلام، ويقول لا تقتله فإنّه حَسن الخُلق سخيٌّ في قومه. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ، أمسك فإنّ هذا رسول ربِّي يُخبرني أنّه حَسن الخُلق سخيّ في قومه. فقال المُشرك تحت السيف: هذا رسول ربِّك يُخبرك ؟ قال: نعم. قال: واللّه ما ملكت درهماً مع أخٍ لي قط، ولا قطبت وجهي في الحرب، فأنا أشهد أنْ لا اله إلا اللّه، وأنّك رسول اللّه. فقال رسول اللّه: هذا ممّن جرّه حُسن خُلقه وسخائه إلى جنّات النعيم )(٢).

_____________________

(١) البحار م ١١ ص ١٧ عن إعلام الورى وإرشاد المفيد.

(٢) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٢١٠ في حسن الخلق.

١٨

سُوء الخلق:

وهو: انحراف نفساني، يسبّب انقباض الإنسان وغلظته وشراسته، ونقيض حُسن الخلق.

من الثابت أنّ لسوء الخُلق آثاراً سيّئة، ونتائج خطيرة، في تشويه المتّصف به وحطّ كرامته، ما يجعله عُرضةً للمقت والازدراء، وهدفاً للنقد والذم.

وربّما تفاقَمت أعراضه ومضاعفاته، فيكون حينذاك سبباً لمختلف المآسي والأزمات الجسميّة والنفسيّة الماديّة والروحيّة.

وحسبُك في خِسّة هذا الخُلق وسُوء آثاره، أنّ اللّه تعالى خاطب سيّد رُسله، وخاتم أنبيائه، وهو المثل الأعلى في جميع الفضائل والمكرمات قائلاً:( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ).

مِن أجل ذلك فقد تساند العقل والنقل على ذمّه والتحذير منه، وإليك طَرفاً من ذلك:

قال النبيّ ( صلى اللّه عليه وآله ): ( عليكم بحُسنِ الخُلق، فإنّ حَسنَ الخُلق في الجنّة لا محالة، وإيّاكم وسُوء الخُلق، فإنّ سُوء الخُلق في النار لا محالة )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنْ شئت أنْ تُكرم فلِن، وأنْ شِئت

_____________________

(١) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ( ره ).

١٩

أنْ تُهان فاخشَن )(١).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أبى اللّه لِصاحب الخُلق السيّئ بالتوبة، قيل: فكيف ذلك يا رسول اللّه ؟ قال: لأنّه إذا تاب مِن ذنبٍ وقَع في ذنبٍ أعظم منه )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ سُوء الخُلق ليُفسد العمل كما يُفسد الخلّ العسل )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( مَن ساءَ خُلقه عذّب نفسه )(٤) .

الأخلاق بين الاستقامة والانحراف:

كما تمرض الأجساد وتعروها أعراض المرض مِن شحوب وهزال وضعف، كذلك تمرض الأخلاق، وتبدو عليها سِمات الاعتدال ومضاعفاته، في صور من الهزال الخلقي، والانهيار النفسي، على اختلاف في أبعاد المرض ودرجات أعراضه الطارئة على الأجسام والأخلاق.

وكما تُعالَج الأجسام المريضة، وتستردّ صحّتها ونشاطها، كذلك تُعالَج الأخلاق المريضة وتستأنف اعتدالها واستقامتها، متفاوتةً في ذلك حسب أعراضها، وطباع ذويها، كالأجسام سواء بسواء.

ولولا إمكان معالجة الأخلاق وتقويمها، لحبطت جهود الأنبياء في تهذيب الناس، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح، وغدا البشر من جرّاء

_____________________

(١) تُحف العقول.

(٢)، (٣)، (٤) عن الكافي.

٢٠

ذلك كالحيوان وأخسّ قيمة، وأسوأ حالاً منه، حيث أمكن ترويضه، وتطوير أخلاقه، فالفرس الجموح يغدو بالترويض سلِس المقاد، والبهائم الوحشيّة تعود داجنة أليفة.

فكيف لا يجدي ذلك في تهذيب الإنسان، وتقويم أخلاقه، وهو أشرف الخَلق، وأسماهم كفاءةً وعقلاً ؟؟

من أجل ذلك فقد تمرض أخلاق الوادع الخَلُوق، ويغدو عبوساً شرِساً منحرفاً عن مثاليته الخُلقيّة، لحدوث إحدى الأسباب التالية:

(١) - الوهن والضعف الناجمان عن مرض الإنسان واعتدال صحّته، أو طروّ أعراض الهرَم والشيخوخة عليه، ممّا يجعله مرهف الأعصاب عاجزاً عن التصبّر، واحتمال مؤون الناس ومداراتهم.

(٢) - الهموم: فإنّها تذهل اللبيب الخَلُوق، وتحرفه عن أخلاقه الكريمة، وطبعه الوادع.

(٣) - الفقر: فإنّه قد يُسبّب تجهّم الفقير وغلظته، أنَفَةً مِن هوان الفقر وألَم الحِرمان، أو حُزناً على زوال نعمته السالفة، وفقد غناه.

(٤) - الغنى: فكثيراً ما يجمح بصاحبه نحو الزهو والتيه والكِبَر والطغيان، كما قال الشاعر:

لقد كشَف الإثراء عنك خلائقاً * من اللؤمِ كانت تحت ثوبٍ من الفقر

(٥) - المنصب: فقد يُحدث تنمّراً في الخُلق، وتطاولاً على الناس، منبعثاً عن ضعة النفس وضعفها، أو لؤم الطبع وخسّته.

(٦) - العزلة والتزمّت: فإنّه قد يُسبّب شعوراً بالخيبة والهوان، ممّا يجعل المعزول عبوساً متجهّماً.

٢١

علاج سوء الخلق:

وحيث كان سُوء الخُلق مِن أسوَأ الخِصال وأخسّ الصفات، فجديرٌ بمَن يرغب في تهذيب نفسه، وتطهير أخلاقه، من هذا الخُلق الذميم، أنْ يتّبع النصائح التالية:

(١) - أنْ يتذكّر مساوئ سُوء الخُلُق وأضراره الفادحة، وأنّه باعِثٌ على سخط اللّه تعالى، وازدراء الناس ونفرتهم، على ما شرحناه في مطلع هذا البحث.

(٢) - أنْ يستعرض ما أسلفناه من فضائل حُسن الخُلق، ومآثره الجليلة، وما ورَد في مدحه، والحثّ عليه، مِن آثار أهل البيتعليهم‌السلام .

(٣) - التريّض على ضبط الأعصاب، وقمع نزَوَات الخُلق السيّئ وبوادره، وذلك بالترّيث في كلّ ما يصدر عنه من قول أو فعل، مستهدياً بقول الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أفضل الجهاد مَن جاهد نفسَه التي بينَ جنبيه ). يتبّع تلك النصائح من اعتلت أخلاقه، ومرضت بدوافع نفسيّة ؤ، أو خُلقيّة. أما مَن ساء خُلقه بأسباب مرضيّة جسميّة، فعلاجه بالوسائل الطبيّبة، وتقوية الصحّة العامّة، وتوفير دواعي الراحة والطمأنينة، وهدوء الأعصاب.

٢٢

الصـدق

وهو: مطابقة القول للواقع، وهو أشرف الفضائل النفسيّة، والمزايا الخُلقيّة، لخصائصه الجليلة، وآثاره الهامّة في حياة الفرد والمجتمع.

فهو زينة الحديث ورواؤه، ورمز الاستقامة والصلاح، وسبب النجاح والنجاة، لذلك مجّدته الشريعة الإسلاميّة، وحرضت عليه، قرآناً وسنةّ.

قال تعالى:( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) . ( الزمر: ٣٣ - ٣٤ )

وقال تعالى:( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) . ( المائدة: ١١٩ )

وقال تعالى:( أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ). ( التوبة: ١١٩ )

وهكذا كرَّم أهلُ البيتعليهم‌السلام هذا الخُلق الرفيع، ودعوا إليه بأساليبهم البليغة الحكيمة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( لا تغترّوا بصلاتهم، ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش، ولكن إختبروهم عند صِدق الحديث، وأداء الأمانة )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٢٣

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( زينةُ الحديث الصدق )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( الزموا الصدق فإنّه منجاة )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن صدَق لسانُه زكى عملُه )(٣).

أي صار عمله ببركة الصدْق زاكياً نامياً في الثواب ؛ لأنّ اللّه تعالى( إنّما يقبل من المتّقين )، والصدق من أبرز خصائص التقوى وأهمّ شرائطه.

مآثر الصدق:

من ضرورات الحياة الاجتماعيّة، ومقوّماتها الأصليّة هي:

شيوع التفاهم والتآزر بين عناصر المجتمع وأفراده، ليستطيعوا بذلك النهوض بأعباء الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، ومن ثُم ليسعدوا بحياة كريمة هانئة، وتعايش سلمي.

وتلك غاياتٌ سامية، لا تتحقّق إلاّ بالتفاهم الصحيح، والتعاون الوثيق، وتبادل الثقة والائتمان بين أولئك الأفراد.

وبديهيّ أنّ اللسان هو أداة التفاهم، ومنطلق المعاني والأفكار، والترجمان المفسّر عمّا يدور في خلَد الناس من مختلف المفاهيم والغايات، فهو يلعب دوراً خطيراً في حياة المجتمع، وتجاوب مشاعره وأفكاره.

_____________________

(١) الإمامة والتبصرة.

(٢) كمال الدين للصدوق.

(٣) الكافي.

٢٤

وعلى صدقه أو كذبه ترتكز سعادة المجتمع أو شقاؤه، فإنْ كان اللسان صادق اللهجة، أميناً في ترجمة خوالِج النفس وأغراضها، أدّى رسالة التفاهم والتواثق، وكان زائد خيرٍ، ورسول محبّةٍ وسلام.

وإنْ كان متّصفاً بالخداع والتزوير، وخيانة الترجمة والإعراب، غدا رائد شرٍّ، ومدعاة تناكر وتباغض بين أفراد المجتمع، ومعول هَدمٍ في كيانه.

من أجل ذلك كان الصدق من ضرورات المجتمع، وحاجاته الملحّة، وكانت له آثاره وانعكاساته في حياة الناس.

فهو نظام المجتمع السعيد، ورمز خلقه الرفيع، ودليل استقامة أفراده ونُبلهم، والباعث القويّ على طيب السمعة، وحُسن الثناء والتقدير، وكسب الثقة والائتمان من الناس.

كما له آثاره ومعطياته في توفير الوقت الثمين، وكسب الراحة الجسميّة والنفسيّة.

فإذا صدق المتبايعون في مبايعاتهم، ارتاحوا جميعاً من عناء المماكسة، وضياع الوقت الثمين في نِشدان الواقع، وتحرّي الصدق.

وإذا تواطأ أرباب الأعمال والوظائف على التزام الصدق، كان ذلك ضماناً لصيانة حقوق الناس، واستتباب أمنهم ورخائهم.

وإذا تحلّى كافّة الناس بالصدق، ودرجوا عليه، أحرزوا منافعه الجمّة، ومغانمه الجليلة.

وإذا شاع الكذِب في المجتمع، وهت قِيَمُه الأخلاقيّة، وساد التبرّم

٢٥

والسخط بين أفراده، وعزَّ فيه التفاهم والتعاون، وغدا عرضةً للتبعثر والانهيار.

أقسام الصدق:

للصدق صوَرٌ وأقسام تتجلّى في الأقوال والأفعال، واليك أبرزها:

(١) - الصدق في الأقوال، وهو: الإخبار عن الشيء على حقيقته من غير تزويرٍ وتمويه.

(٢) - الصدق في الأفعال، وهو: مطابقة القول للفعل، كالبرِّ بالقسَم، والوفاء بالعهد والوعد.

(٣) - الصدق في العزم، وهو: التصميم على أفعال الخير، فإنْ أنجزها كان صادق العزم، وإلاّ كان كاذبه.

(٤) - الصدق في النيّة، وهو: تطهيرها من شوائب الرياء، والإخلاص بها الى اللّه تعالى وحده.

٢٦

الكذِب

وهو: مخالفة القول للواقع. وهو من أبشع العيوب والجرائم، ومصدر الآثام والشرور، وداعية الفضيحة والسقوط. لذلك حرّمته الشريعة الإسلاميّة، ونعت على المتّصفين به، وتوعّدتهم في الكتاب والسنّة:

قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) ( غافر: ٢٨ )

وقال تعالى:( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) ( الجاثية: ٧ )

وقال تعالى:( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) ( النحل:١٠٥ )

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنَّ اللّه جعل للشرِّ أقفالاً، وجعَل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذِِب شرّ مِن الشراب )(١).

وقالعليه‌السلام : ( كان عليّ بن الحسين يقول لولدِه: إتّقوا الكذِب، الصغير منه والكبير، في كلّ جدّ وهزْل، فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير، اجترأ على الكبير، أما عَلِمتم أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ما يزال العبد يصدق حتّى يكتبه اللّه صديّقاً، وما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه اللّه كذّاباً )(٢).

_____________________

(١)، (٢) الكافي.

٢٧

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ الكذب هو خراب الإيمان )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( اعتياد الكذِب يورث الفقر )(٢).

وقال عيسى بن مريمعليه‌السلام : ( من كثُر كذِبه ذهب بهاؤه )(٣).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع: ( قد كثُرت عليَّ الكذّابة وستكثُر، فمَن كذب عليَّ متعمّداً، فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب اللّه وسنّتي، فما وافق كتاب اللّه فخذوا به، وما خالَف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به )(٤).

مساوئ الكذِب:

وإنّما حرّمت الشريعة الإسلاميّة ( الكذب ) وأنذرت عليه بالهوان والعقاب، لما ينطوي عليه من أضرار خطيرة، ومساوئ جمّة، فهو:

(١) - باعث على سوء السمعة، وسقوط الكرامة، وانعدام الوثاقة، فلا يُصدّق الكذّاب وإنْ نطق بالصدق، ولا تقبل شهادته، ولا يوثَق بمواعيده وعهوده.

ومن خصائصه أنّه ينسى أكاذيبه ويختلق ما يُخالفها، وربّما لفّق

_____________________

(١) الكافي.

(٢) الخصال للصدوق.

(٣) الكافي.

(٤) احتجاج الطبرسي.

٢٨

الأكاذيب العديدة المتناقضة، دعماً لكذبة افتراها، فتغدو أحاديثه هذراً مقيتاً، ولغواً فاضحاً.

(٢) - إنّه يضعف ثقة الناس بعضهم ببعض، ويشيع فيهم أحاسيس التوجّس والتناكر.

(٣) - إنّه باعثٌ على تضييع الوقت والجُهد الثمينين، لتمييز الواقع من المزيّف، والصدق من الكذِب.

(٤) - وله فوق ذلك آثار روحيّة سيّئة، ومغبّة خطيرة، نوّهت عنها النصوص السالفة.

دواعي الكذِب:

الكذِب انحراف خُلُقي له أسبابه ودواعيه، أهمّها:

(١) - العادة: فقد يعتاد المرء على ممارسة الكذِب بدافع الجهل، أو التأثّر بالمحيط المتخلّف، أو لضعف الوازع الديني، فيشبّ على هذه العادة السيّئة، وتمتدّ جذورها في نفسه، لذلك قال بعض الحكماء:( من استحلى رضاع الكذِب عسُر فطامه ).

(٢) - الطمع: وهو من أقوى الدوافع على الكذِب والتزوير، تحقيقاً لأطماع الكذّاب، وإشباعاً لنهمه.

(٣) - العِداء والحسَد: فطالما سوّلا لأربابهما تلفيق التُّهَم، وتزويق الافتراءات والأكاذيب، على مَن يُعادونه أو يحسدونه. وقد عانى الصُلَحَاء

٢٩

والنُّبَلاء الذين يترفّعون عن الخوض في الباطل، ومقابلة الإساءة بمثلها - كثيراً من مآسي التُّهَم والافتراءات والأراجيف.

أنواع الكذب:

للكذِب صورٌ شوهَاء، تتفاوت بشاعتها باختلاف أضرارها وآثارها السيّئة، وهي:

الأُولى: اليمين الكاذبة

وهي مِن أبشع صور الكذِب، وأشدّها خطراً وإثماً، فإنّها جنايةٌ مزدوجة: جرأةٌ صارخة على المولى عزَّ وجل بالحِلف به كَذِباً وبُهتاناً، وجريمةٌ نكراء تمحق الحقوق وتهدر الكرامات.

من أجل ذلك جاءت النصوص في ذمّها والتحذير منها:

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إيّاكم واليمين الفاجرة، فإنّها تدَع الديار مِن أهلها بلاقع )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اليمين الصُّبْر الكاذبة، تورث العقب الفقر )(٢).

الثانية: شهادة الزور

وهي كسابقتها جريمة خطيرة، وظلمٌ سافرٌ هدّام، تبعث على غمط الحقوق، واستلاب الأموال، وإشاعة الفوضى في المجتمع، بمساندة

_____________________

(١)، (٢) الكافي.

٣٠

المجرمين على جرائم التدليس والابتزاز.

أنظر كيف تنذر النصوص شهود الزور بالعقاب الأليم:

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدَي الحاكم حتّى يتبوّأ مقعده مِن النار، وكذلك مَن كتم الشهادة )(١).

ونهى القرآن الكريم عنها فقال تعالى:( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (الحجّ: ٣٠ )

أضرار اليمين الكاذبة وشهادة الزور:

وإنّما حرُمت الشريعة الإسلاميّة اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، وتوعّدت عليهما بصنوف الوعيد والإرهاب، لآثارهما السيّئة، وأضرارهما الماحقة، في دين الإنسان ودنياه، من ذلك:

(١) - أنّ مقترف اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، يُسيء إلى نفسه إساءةً كُبرى بتعريضها إلى سخط اللّه تعالى، وعقوباته التي صوّرتها النصوص السالفة.

(٢) - ويُسيء كذلك إلى مَن سانده ومالأه، بالحِلف كذِباً، والشهادة زوراً، حيث شجّعه على بَخس حقوق الناس، وابتزاز أموالهم، وهدر كراماتهم.

_____________________

(١) الكافي، ومن لا يحضره الفقيه.

٣١

(٣) - و يَسيء كذلك إلى مَن اختلق عليه اليمين والشهادة المزوّرتين، بخذلانه وإضاعة حقوقه، وإسقاط معنويّاته.

(٤) - ويسيء إلى المجتمع عامّة بإشاعة الفوضى والفساد فيه، وتحطيم قِيمه الدينيّة والأخلاقيّة.

(٥) - ويسيء إلى الشريعة الإسلاميّة بتحدّيها، ومخالفة دستورها المقدّس، الذي يجب اتّباعه وتطبيقه على كلّ مسلم.

الثالثة: خُلف الوعد

الوفاء بالوعد من الخلال الكريمة التي يزدان بها العقلاء، ويتحلّى بها النُبلاء، وقد نوّه اللّه عنها في كتابه الكريم فقال:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) ( مريم: ٥٤ ).

ذلك أنّ إسماعيلعليه‌السلام وعَد رجلاً، فمكَث في انتظاره سنة كاملة، في مكان لا يُبارحه، وفاءاً بوعده.

وإنّه لمن المؤسف أنْ يشيع خُلف الوعد بين المسلمين اليوم، متجاهلين نتائجه السيّئة في إضعاف الثقة المتبادلة بينهم، وإفساد العلاقات الاجتماعيّة، والإضرار بالمصالح العامّة.

قال الصادقعليه‌السلام : ( عِدة المؤمن أخاه نذرٌ لا كفارة له، فمَن أخلَف فبخُلف اللّه تعالى بدأ، ولمَقتهِ تعرّض، وذلك قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٣٢

وقالعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعَد رجلاً إلى صخرةٍ فقال: أنا لك هاهنا حتّى تأتي. قال: فاشتدّت الشمس عليه، فقال أصحابه: يا رسول اللّه، لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ. فقال: قد وعدته إلى هاهنا، وإنْ لم يجئ كان منه إلى المحشر )(١).

الرابعة: الكذِب الساخر

فقد يستحلي البعض تلفيق الأكاذيب الساخرة، للتندّر على الناس، والسخريّة بهم، وهو لهو عابث خطير، ينتج الأحقاد والآثام.

قال الصادقعليه‌السلام ، ( مَن روى على مؤمنٍ روايةً، يُريد بها شَينه، وهدم مروّته ليَسقط مِن أعيُن الناس، أخرجه اللّه تعالى مِن ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبلُه الشيطان )(٢).

علاج الكذب:

فجديرٌ بالعاقل أنْ يُعالج نفسُه من هذا المرض الأخلاقي الخطير، والخُلُق الذميم، مستهدياً بالنصائح التالية:

(١) - أنْ يتدبّر ما أسلفناه مِن مساوئ الكذِب، وسوء آثاره المادّية والأدبيّة على الإنسان.

(٢) - أن يستعرض فضائل الصدق ومآثره الجليلة، التي نوّهنا

_____________________

(١) علل الشرائع.

(٢) الكافي.

٣٣

عنها في بحثِ الصدْق.

(٣) - أنْ يرتاض على التزام الصدق، ومجانبة الكذِب، والدأب المتواصل على مُمارسة هذه الرياضة النفسيّة، حتّى يبرأ مِن هذا الخُلق الماحق الذميم.

مسوّغات الكذب:

لا شك أنّ الكذِب رذيلةٌ مقيتة حرّمها الشرع، لمساوئها الجمّة، بَيد أنّ هناك ظروفاً طارئة تُبيح الكذِب وتسوّغه، وذلك فيما إذا توقّفت عليه مصلحةٌ هامّة، لا تتحقّق إلاّ به، فقد أجازته الشريعة الإسلامية حينذاك، كإنقاذ المسلم، وتخليصه من القتل أو الأسر، أو صيانة عرضه وكرامته، أو حفظ ماله المحترم، فإنّ الكذِب والحالة هذه واجبٌ إسلاميّ محتّم.

وهكذا إذا كان الكذِبُ وسيلةً لتحقيق غايةٍ راجحة، وهدفٍ إصلاحي، فإنّه آنذاك راجحٌ أو مباح، كالإصلاح بين الناس، أو استرضاء الزوجة واستمالتها، أو مخادعة الأعداء في الحروب.

وقد صرّحت النصوص بتسويغ الكذِب للأغراض السالفة.

قال الصادقعليه‌السلام : ( كلّ كذِبٍ مسؤول عنه صاحبُه يوماً إلاّ في ثلاثة: رجلٌ كايَد في حربِه فهو موضوع عنه، أو رجلٌ أصلَح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى هذا يُريد بذلك الإصلاح فيما بينهما، أو رجلٌ وعَد أهله شيئاً وهو لا يُريد أنْ يتمّ لهم )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٣٤

الحِلْم وكظم الغيظ

وهما: ضبط النفس إزاء مثيرات الغصب، وهما من أشرف السجايا، وأعزّ الخصال، ودليلا سموّ النفس، وكرم الأخلاق، وسببا المودّة والإعزاز.

وقد مدَح اللّه الحُلَماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم في مُحكَم كتابه الكريم.

فقال تعالى:( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) ( الفرقان: ٦٣ ).

وقال تعالى:( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( فصّلت: ٣٤ - ٣٥ ).

وقال تعالى:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (آل عمران: ١٣٤).

وعلى هذا النسق جاءت توجيهات أهل البيتعليهم‌السلام : قال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ اللّه عزَّ وجل يحب الحييّ الحليم )(١).

وسمع أمير المؤمنينعليه‌السلام رجلاً يشتم قنبراً، وقد رام قنبر أنْ يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( مهلاً يا قنبر، دع شاتمك، مُهاناً، تُرضي الرحمن، وتُسخِط الشيطان، وتُعاقب عدوّك، فو الذي فلَق

_____________________

(١) الكافي.

٣٥

الحبّة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخَط الشيطان بمثل الصمت، ولا عُوقِب الأحمق بمثل السكوت عنه )(١).

وقالعليه‌السلام : ( أوّل عِوض الحليم مِن حلمه، أنّ الناس أنصاره على الجاهل )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا وقع بين رجُلين منازعة نزل ملكان، فيقولان للسفيه منهما: قلتَ وقلت، وأنت أهلٌ لما قلت، ستُجزى بما قلت. ويقولان للحليم منهما: صبَرت وحلمت، سيغفر اللّه لك، إنْ أتممت ذلك. قال: فإنْ ردَّ عليه ارتفَع الملَكان )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( ما مِن عبدٍ كظم غيظاً، إلاّ زاده اللّه عزَّ وجل عزّاً في الدنيا والآخرة، وقد قال اللّه عزَّ وجل: ( والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه يحب المحسنين ) وأثابه مكانه غيظه ذلك )(٤).

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ( اصبر على أعداء النعم، فإنّك لنْ تُكافئ مَن عصى الله فيك، بأفضل مِن أنْ تُطيع اللّه فيه )(٥).

وأحضَرعليه‌السلام وِلده يوماً فقال لهم: ( يا بَنِيّ إنّي موصيكم بوصيّةٍ، فمَن حفظها لم يضِع معها، إنْ أتاكم آتٍ فأَسمَعكم في الإذن اليُمنى مكروهاً، ثُم تحوّل إلى الإذن اليُسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً

_____________________

(١) مجالس الشيخ المفيد.

(٢) نهج البلاغة.

(٣)، (٤)، (٥) الكافي.

٣٦

فاقبلوا عذره )(١) .

وقد يحسب السفهاء أنّ الحلم من دلائل الضعف، ودواعي الهوان، ولكنّ العقلاء يرونه من سمات النُبل، وسموّ الخُلُق، ودواعي العزّة والكرامة.

فكلّما عظُم الإنسان قدراً، كرمت أخلاقه، وسمت نفسه، عن مجاراة السفهاء في جهالتهم وطيشهم، معتصماً بالحِلم وكرم الإغضاء، وحُسن العفو، ما يجعله مثار الإكبار والثناء.

كما قيل:

وذي سفه يخاطبني بجهلٍ

فآنف أنْ أكون له مُجيبا

يَزيد سفاهةً وأزيد حِلماً

كعودٍ زاده الإحراق طيبا

ويقال: إنَّ رجلاً شتَم أحد الحكماء، فأمسك عنه، فقيل له في ذلك قال: ( لا أدخل حرباً الغالب فيها أشرّ مِن المغلوب ).

ومِن أروع ما نظمه الشعراء في مدح الحِلم، ما رواه الإمام الرضاعليه‌السلام ، حين قال له المأمون: أنشدني أحسن ما رويت في الحِلم، فقالعليه‌السلام :

إذا كان دوني مَن بُليتُ بجهله

أبَيت لنفسي أنْ تُقابل بالجهل

وإنْ كان مثلي في محلّي مِن النهى

أخذْت بحلمي كي أجلّ عن المثل

وإنْ كنت أدنى منه في الفضل والحِجى

عرفت له حقّ التقدّم والفضل

فقال له المأمون: ما أحسن هذا، هذا مَن قاله ؟ فقال: ( بعض فتياننا )(٢) .

_____________________

(١) كشف الغمّة للأربلي.

(٢) معاني الأخبار، وعيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق.

٣٧

ولقد كان الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الطاهرون من أهل بيته، المثل الأعلى في الحِلم، وجميل الصفح، وحسن التجاوز.

وقد زجَزت أسفار السيَر والمناقب، بالفيض الغمر منها، وإليك نموذجاً من ذلك:

قال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتى باليهوديّة التي سمَت الشاة للنبيّ، فقال لها: ما حمَلَك على ما صنعت ؟ فقالت: قلت: إنْ كان نبيّاً لم يضرّه، وإنْ كان ملَكاً أرحت الناس منه، فعفى رسول اللّه عنه )(١).

وعفىصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جماعةٍ كثيرة، بعد أنْ أباح دمهم، وأمر بقتلهم.

منهم: هبّار بن الأسود بن المطّلب، وهو الذي روّع زينب بنت رسول اللّه، فألقت ذا بطنها، فأباح رسول اللّه دمه لذلك، فروي أنّه اعتذر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من سوء فعله، وقال: وكنا يا نبيّ اللّه أهلَ شِرك، فهدانا اللّه بك، وأنقذنا بك من الهلَكة، فاصفح عن جهلي، وعمّا كان يبلغك عنّي، فإنّي مقرٌّ بسوء فعلي، معترفٌ بذنبي. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك، حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجبُّ ما قبله.

ومنهم: عبد اللّه بن الربعرى، وكان يهجو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة، ويعظم القول فيه، فهرب يوم الفتح، ثّم رجع إلى رسول اللّه

_____________________

(١) الكافي.

٣٨

واعتذر، فقبِلصلى‌الله‌عليه‌وآله عذره.

ومنهم: وحشي قاتل حمزة سلام اللّه عليه، روي أنّه أسلم، قال له النبيّ: ( أَوحشيّ ؟ ) قال: نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمّي ؟ فأخبره، فبكىصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: ( غيّب وجهك عنّي )(١) .

وهكذا كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أحلَم الناس وأصفحهم عن المُسيء:

ظفر بعبد اللّه بن الزبير، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وهُم ألدّ أعدائه، والمؤلّبين عليه، فعفا عنهم، ولم يتعقّبهم بسوء.

وظفَر بعمرو بن العاص، وهو أخطَر عليه مِن جيش ذي عدّة، فأعرض عنه، وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأَته اتّقاءً لضربته.

وحال جند معاوية بينه وبين الماء، في معركة صفّين، وهُم يقولون له ولا قطرة حتّى تموت عطشاً، فلمّا حمل عليهم، وأجلاهم عنه، سوّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده.

وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل، وودعها أكرم وداع، وسار في ركابها أميالاً، وأرسل معها مَن يخدمها ويحفّ بها(٢) .

وكان الحسن بن عليّعليه‌السلام على سرّ أبيه وجدّه صلوات اللّه عليهم أجمعين:

فمن حلمه ما رواه المبرّد، وابن عائشة: أنّ شاميّاً رآه راكباً،

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١.

(٢) عبقريّة الإمام للعقّاد بتصرّف.

٣٩

فجعل يلعنه، والحسن لا يردّ، فلما فرغ، أقبل الحسنعليه‌السلام فسلّم عليه، وضحك، فقال: ( أيّها الشيخ أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإنْ كنت جائعاً أشبعناك، وإنْ كنت عرياناً كسوناك، وإنْ كنت محتاجاً أغنيناك، وإنْ كنت طريداً آويناك، وإنْ كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعوَد عليك ؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً ).

فلمّا سمِع الرجل كلامه بكى، ثُمّ قال: أشهد أنّك خليفة اللّه في أرضه، اللّه أعلَم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللّه إليّ، والآن أنت أحبُّ خلق اللّه إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أنْ ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم(١).

وهكذا كان الحسين بن عليّعليهما‌السلام : جنى غلام للحسينعليه‌السلام جنايةً تُوجِب العقاب عليه، فأمر به أنْ يُضرَب، فقال: يا مولاي، والكاظمين الغيظ. قال: ( خلّوا عنه ). قال: يا مولاي، والعافين عن الناس. قال: ( قد عفوت عنك ). قال: واللّه يحبُّ المحسنين، قال: ( أنت حرٌّ لوجه اللّه، ولك ضعف ما كنت أعطيك )(٢).

وإنّي استقرأت سيرة أهل البيتعليهم‌السلام فوجدتها نمطاً فريداً، ومثلاً عالياً، في دنيا السيَر والأخلاق:

_____________________

(١) البحار مجلّد ٩ ص ٩٥.

(٢) كشف الغمّة للأربلي.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517