أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333403 / تحميل: 11882
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

( ومالي لا أبكي !! ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تُخادعني، وأيّامي تخاتلني، وقد خفَقَت عند رأسي أجنحة الموت، فمالي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لِحدي، أبكي لسؤال منكرٍ ونكير إيّايَ، أبكي لخروجي مِن قبري عُرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرّة عن يميني، وأُخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) ( عبس: ٣٧ - ٤١).

طرف مِن قَصص الخائفين:

عن الباقرعليه‌السلام قال: ( خرَجَت امرأةٌ بغيّ على شباب مِن بني إسرائيل فأفتنتهم، فقال بعضهم: لو كان العابد فلان رآها أفتنتْه!، وسمِعت مقالتهم، فقالت: واللّه لا أنصرف إلى منزلي، حتّى أفتنه. فمَضت نحوه بالليل فدقّت عليه، فقالت: آوي عندك ؟ فأبى عليها فقالت: إنّ بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي، فإنْ أدخلتني وإلاّ لحقوني، وفضحوني، فلمّا سمِع مقالتها فتح لها، فلمّا دخلت عليه رمَت بثيابها، فلمّا رأى جمالها وهيئتها وقعت في نفسه، فضرب يده عليها، ثُمّ رجعت إليه نفسه، وقد كان يوقد تحت قدرٍ له، فأقبل حتّى وضَع يده على النار فقالت: أيّ شيء تصنع ؟ فقال: أحرقها لأنّها عملت العمل، فخرجت

١٨١

حتّى أتَت جماعة بني إسرائيل فقالت: الحقوا فلاناً فقد وضَع يدَه على النار، فأقبلوا فلحقوه وقد احترقت يده )(١) .

وعن الصادقعليه‌السلام : ( إنّ عابداً كان في بني إسرائيل، فأضافته امرأة مِن بني إسرائيل، فهمَّ بها، فأقبل كلّما همّ بها قرّب إصبعاً مِن أصابعه إلى النار، فلم يزَل ذلك دأبه حتّى أصبح، قال له ا: أخرجي لبئس الضيف كنت لي )(٢).

_____________________

(١)، (٢) عن البحار م ٥ عن قصص الأنبياء للقطب الراوندي.

١٨٢

الرجاء من اللّه تعالى

وهو: انتظار محبوب تمهّدت أسباب حصوله، كمَن زرَع بذراً في أرضٍ طيّبه، ورعاه بالسقي والمداراة، فرجا منه النتاح والنفع.

فإنْ لم تتمهّد الأسباب، كان الرجاء حمقاً وغروراً، كمَن زرع أرضاً سبخة وأهمل رعايتها، وهو يرجو نتاجها.

والرجاء: هو الجناح الثاني من الخوف، اللذان يطير بهما المؤمن إلى آفاق طاعة اللّه، والفوز بشرف رضاه، وكرَم نعمائه، إذ هو باعث على الطاعة رغبةً كما يبعث الخوف عليها رهبة وفزعاً.

ولئن تَساند الخوف والرجاء على تهذيب المؤمن وتوجيهه، وجهة الخير والصلاح، بيد أنّ الرجاء أعذب مورداً، وأحلى مذاقاً مِن الخوف، لصدوره عن الثقة باللّه، والاطمئنان بسعة رحمته، وكرم عفوه، وجزيل ألطافه.

وبديهيّ أنّ المطيع رغبةً ورجاءً، أفضل منه رهبةً وخوفاً، لذلك كانت تباشير الرجاء وافرة، وبواعثه جمّة وآياته مشرّقة، وإليك طرَفاً منها:

١ - النهي عن اليأس والقنوط.

قال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ

١٨٣

رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وقال تعالى: «ولا تيأسوا من روح اللّه إنّه لا ييأس من روح اللّه، الا القوم الكافرون» (يوسف: ٨٧).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام لرجلٍ أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه: ( أيا هذا، يأسك مِن رحمةِ اللّه أعظمُ مِن ذنوبك )(١).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يبعث اللّه المقنّطين يوم القيامة، مغلبّةً وجوهُهُم، يعني غلَبة السواد على البياض، فيُقال لهم: هؤلاء المقنّطون مِن رحمة اللّه تعالى )(١).

٢ - سعة رحمة اللّه وعظيم عفوه:

قال تعالى:( فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) ( الأنعام: ١٤٧ ).

وقال تعالى:( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ) ( الرعد: ٦ ).

وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ( النساء: ٤٨ ).

وقال تعالى:( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الأنعام: ٥٤ ).

وجاء في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لولا أنكّم تذنبون فتستغفرون اللّه تعالى، لأتى اللّه تعالى بخلقٍ يذنبون ويستغفرون، فيغفر لهم،

_____________________

(١) جامع السعادات ج ١ ص ٢٤٦.

(٢) سفينة البحار ج ٢ ص ٤٥١ عن نوادر الراوندي.

١٨٤

إنّ المؤمن مفتن توّاب، أما سمِعت قول اللّه تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ) )( البقرة: ٢٢٢ ) الخبر(١).

توضيح: المُفتَن التوّاب: هو مَن يقترف الذنوب ويُسارع إلى التوبة منها.

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة، نشَر اللّه تبارك وتعالى رحمته، حتّى يطمَع إبليس في رحمته )(٢).

وعن سليمان بن خالد قال: ( قرأت على أبي عبد اللّهعليه‌السلام هذه الآية:( إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) ( الفرقان: ٧٠ ).

فقال: ( هذه فيكم، إنّه يؤتَى بالمؤمن المذنب يوم القيامة، حتّى يُوقَف بين يديّ اللّه عزَّ وجل، فيكون هو الذي يلي حسابه، فيوقفه على سيّئاته شيئاً فشيئاً، فيقول: عملْْْت كذا في يوم كذا في ساعة كذا، فيقول أعرف يا ربّي، حتّى يوقفه على سيئاته كلّها، كلّ ذلك يقول: أعرف. فيقول سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، أبدلوها لعبدي حسَنَات.

قال: فتُرفَع صحيفته للناس فيقولون: سُبحان اللّه ! أما كانت لهذا العبد سيّئة واحدة، وهو قول اللّه عزَّ وجل:( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) )( الفرقان: ٧٠ )(٣).

٣ - حسن الظن باللّه الكريم: وهو أقوى دواعي الرجاء.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥١ عن الكافي.

(٢) البحار مجلّد ٣ ص ٢٧٤ عن أمالي الشيخ الصدوق.

(٣) البحار مجلّد ٣ ص ٢٧٤ عن محاسن البرقي.

١٨٥

قال الرضاعليه‌السلام : ( أحسِن الظنّ باللّه، فإنّ اللّه تعالى يقول: أنا عند ظنِّ عبدي بي، إنْ خيراً فخيراً، وإنْ شراً فشراً )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( آخر عبدٍ يؤمر به إلى النار، يلتفت، فيقول اللّه عزَّ وجل: أعجلوه(٢) ، فإذا أُتِيَ به قال له: يا عبدي، لِمَ التفتّ ؟ فيقول: يا ربِّ، ما كان ظنِّي بك هذا، فيقول اللّه عزَّ وجل: عبدي وما كان ظنُّك بي ؟ فيقول: يا ربِّ، كان ظنِّي بك أنْ تغفر لي خطيئتي وتُسكنَني جنَّتك. فيقول اللّه: ملائكتي، وعزَّتي وجلالي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني، ما ظنَّ بي هذا ساعة من حياته خيراً قط، ولو ظنَّ بي ساعة من حياته خيراً ما روّعته بالنار، أجيزوا له كذِبه وأدخلوه الجنّة ).

ثُمّ قال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : ( ما ظنَّ عبدٌ باللّه خيراً، إلاّ كان اللّه عند ظنِّه به، ولا ظنَّ به سوءاً إلاّ كان اللّه عند ظنِّه به، وذلك قوله عزَّ وجل:( وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) )( فصّلت: ٢٣ )(٣).

٤ - شفاعة النبيّ والأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام لشيعتهم ومحبّيهم:

عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا كان يوم القيامة ولّينا حساب شيعتنا، فمَن كانت مظلمته فيما بينه وبين اللّه عزَّ وجل، حكمنا فيها فأجابنا، ومَن كانت

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٩ عن الكافي.

(٢) أعجلوه: أي ردّوه مستعجلاً.

(٣) البحار م ٣ ص ٢٧٤ عن ثواب الأعمال للصدوق.

١٨٦

مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوُهِبَت لنا، ومَن كانت مظلمته فيما بينه وبيننا كنّا أحقُّ مَن عفى وصفَح )(١).

وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير بالإسناد إلى جرير بن عبد اللّه البجَلي قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّدٍ مات شهيداً، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّدٍ مات مغفوراً له، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّدٍ مات تائباً، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّدٍ مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّدٍ بشّره ملَكُ الموت بالجنّة ثُمّ منكرٌ ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمّد يُزَفّ إلى الجنّة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّدٍ فُتِح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّدٍ جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حبِّ آل محمّدٍ مات على السنَّة والجماعة.

ألا ومَن مات على بغض آلِ محمّدٍ، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيسٌ مِن رحمة اللّه....).

وقد أرسله الزمخشري في تفسير آية المودّة مِن كشّافه إرسال المسلّمات، رواه المؤلّفون في المناقب والفضائل مُرسَلاً مرّة ومسنداً تارات(٢) .

وأورد ابن حجَر في صواعقه ص ١٠٣ حديثاً هذا لفظه:

( إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله خرَج على أصحابه ذات يوم،

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ٣٠١ عن عيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٢) الفصول المهمّة للمرحوم آية اللّه السيّد عبد الحسين شرف الدين.

١٨٧

ووجهه مشرقٌ كدائرة القمر، فسأله عبد الرحمان بن عوف عن ذلك، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( بشارةٌ أتتني مِن ربّي في أخي وابن عمّي وابنتي، بأنّ اللّه زوّج عليّاً من فاطمة، وأمَر رضوان خازن الجِنان فهزّ شجرةَ طوبى، فحملت رقاقاً ( يعني صكاكاً ) بعدد محبّي أهل بيتي، وأنشأ تحتها ملائكةً من نور، دفع إلى كلّ ملَك صكاً، فإذا استوت القيامة بأهلها، نادت الملائكة في الخلائق، فلا يبقى محبّ لأهل البيت، إلاّ دَفعت إليه صكاً فيه فكاكه من النار، فصار أخي وابن عمّي وابنتي فكاكَ رقابِ رجالٍ ونساء مِن أُمّتي من النار )(١).

وجاء في الصواعق ص ٩٦ لابن حجَر: ( أنّه قال: لمّا أنزل اللّه تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) ( البينة: ٧ - ٨).

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام : ( هُم أنتَ وشيعتُك، تأتي أنتَ وشيعتُك يوم القيامة راضين مرضيّين، ويأتي عدوّك غضابى مقمحين )(٢) .

٥ - النوائب والأمراض كفارة لآثام المؤمن:

قال الصادقعليه‌السلام : ( يا مفضّل، إيّاك والذنوب، وحذّرها شيعتنا، فوَاللّه ما هي إلى أحدٍ أسرع منها إليكم، إنّ أحدكم لتصيبه المعرّة من السلطان، وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُصيبه السقَم، وما ذاك إلاّ

_____________________

(١) الفصول المهمّة للإمام شرف الدين ص ٤٤.

(٢) الفصول المهمّة للإمام شرف الدين ص ٣٩.

١٨٨

بذنوبه، وإنّه ليحبس عنه الرزق وما هو إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُشدّد عليه عند الموت، وما هو إلاّ بذنوبه، حتّى يقول مَن حضَر: لقد غمّ بالموت.

فلمّا رأى ما قد دخَلني، قال: ( أتدري لِمَ ذاك يا مفضّل ؟ ) قال: قلتُ لا أدري جُعلتُ فِداك.

قال: ( ذاك واللّه أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة وعُجلت لكم في الدنيا )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قال اللّه تعالى: وعزّتي وجلالي، لا أُخرِج عبداً من الدنيا وأنا أُريد أنْ أرحمه، حتّى أستوفي منه كلّ خطيئةٍ عمِلها، إمّا بسَقمٍ في جسَده، وإمّا بضيقٍ في رزقه، وإمّا بخوفٍ في دنياه، فإنْ بقيت عليه بقيّة، شدّدت عليه عند الموت...)(٢).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما يزال الغمّ والهمّ بالمؤمن حتّى ما يدَع له ذنباً )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ المؤمن ليُهوَّل عليه في نومِه فيُغفَر له ذنوبه، وإنّه ليُمتَهَنُ في بدنه فيغفر له ذنوبه )(٤).

واقع الرجاء

وممّا يجدر ذكره: أنّ الرجاء كما أسلَفنا لا يُجدي ولا يُثمر، إلاّ

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ٣٥ عن عِلل الشرائع للصدوق (ره).

(٢)، (٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٧٢ عن الكافي.

١٨٩

بعد توفّر الأسباب الباعثة على نجاحه، وتحقيق أهدافه، وإلاّ كان هوَساً وغروراً.

فمن الحُمق أنْ يتنكّب المرء مناهج الطاعة، ويتعسّف طُرق الغواية والضلال، ثُمّ يُمنّي نفسه بالرجاء، فذلك غرورٌ باطل وخِداع مغرِّر.

ألا ترى عظَماء الخلْق وصفوتهم من الأنبياء والأوصياء والأولياء كيف تفانوا في طاعة اللّه عزَّ وجل، وانهمكوا في عبادته، وهُم أقرب الناس إلى كرم اللّه وأرجاهم لرحمته.

إذاً فلا قيمة للرجاء، إلا بعد توفّر وسائل الطاعة، والعمل للّه تعالى، كما قال الإمام الصادقعليه‌السلام : ( لا يكون المؤمنُ مؤمناً، حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً، حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو )(١).

وقيل لهعليه‌السلام : إنّ قوماً مِن مواليك يَلمّون بالمعاصي، ويقولون نرجو. فقال: ( كذِبوا ليسوا لنا بمَوَالِ، أُولئك قومٌ ترجّحت بهم الأماني، مَن رجا شيئاً عمِل له، ومَن خاف شيئاً هربَ منه )(٢).

الحكمة في الترجّي والتخويف

يختلف الناس في طباعهم وسلوكهم اختلافاً كبيراً، فمِن الحكمة في إرشادهم وتوجيههم، رعاية ما هو الأجدر بإصلاحهم مِن الترجّي والتخويف

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٨ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٥٧ عن الكافي.

١٩٠

فمِنهم مَن يصلحه الرجاء، وهُم:

١ - العُصاة النادمون على ما فرّطوا في الآثام، فحاولوا التوبة إلى اللّه، بيد أنّهم قنَطوا مِن عفو اللّه وغُفرانه، لفداحة جرائمهم، وكثرة سيّئاتهم، فيُعالج والحالةُ هذه قنوطَهم بالرجاء بعظيم لُطف اللّه، وسعة رحمته وغُفرانه.

٢ - وهكذا يُداوى بالرجاء مَن أنهك نفسه بالعبادة وأضرّ بها.

أمّا الذين يصلحهم الخوف:

فهم المرَدَة العُصاة، المنغمسون في الآثام، والمغترّون بالرجاء، فعلاجهم بالتخويف والزجر العنيف، بما يتهدّدهم مِن العقاب الأليم، والعذاب المُهين.

وما أحلى قول الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

١٩١

الغرور

وهو: انخداع الإنسان بخِدعةٍ شيطانيّة ورأيٍ خاطئ، كمَن ينفق المال المغصوب في وجوه البرِّ والإحسان، معتقداً بنفسه الصلاح، ومؤمّلاً للأجر والثواب، وهو مغرورٌ مخدوع بذلك.

وهكذا ينخدع الكثيرون بالغرور، وتلتبس به أعمالهم، فيعتقدون صحّتها ونُجحها، ولو محصوها قليلاً، لأدركوا ما تتّسم به مِن غرورٍ وبطلان.

لذلك كان الغرور مِن أخطر أشراك الشيطان، وأمضى أسلحته، وأخوَف مكائده.

وللغرورِ صِوَرٌ وألوانٌ مختلفة باختلاف نزَعات المغرورين وبواعث غرورهم، فمنهم المغترّ بزخارف الدنيا ومباهجها الفاتنة، ومنهم المغترّ بالعلم أو الزعامة، أو المال، أو العبادة، ونحو ذلك من صِوَر الغرور وألوانه.

وسأعرض في البحث التالي أهمّ صور الغرور وأبرَز أنواعه، معقّباً على كلّ نوع منها بنصائح علاجيّة، تجلو غبش الغرور وتخفّف مِن حدّته.

١٩٢

( أ ) الاغترار بالدنيا

وأكثر مَن يتّصف بهذا الغرور هُم: ضُعَفاء الإيمان، والمخدوعون بمباهج الدنيا ومفاتنها، فيتناسَون فناءها وزوالها، وما يَعقبها مِن حياة أبديّة خالدة، فيتذرّعون إلى تبرير اغترارهم بالدنيا، وتهالكهم عليها، بزعمَين فاسِدَين، وقياسَين باطِلَين:

الأوّل: أنّ الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد خيرٌ من النسيئة.

الثاني: أنّ لذائذ الأُولى ومتعها يقينيّة، ولذائذ الثانية - عندهم - مشكوكة، والمتيقّن خيرٌ مِن المشكوك.

وقد أخطأوا وضلّوا ضلالاً مبيناً، إذ فاتهم في زعمهم الأوّل، أنّ النقد خيرٌ من النسيئة إنْ تعادلا في ميزان النفع، وإلاّ فإنْ رجُحت النسيئة كانت أفضل وأنفع من النقد، كمَن يُتاجر بمبلغٍ عاجلٍ من المال، ليربح أضعافه في الآجل، أو يحتمي عن شهَوات ولذائذ عاجلة توخّياً للصحّة في الآجل المديد.

هذا إلى الفارق الكبير، والبون الشاسع، بين لذائذ الدنيا والآخرة، فلذائذ الأُولى فانية، منغّصة بالأكدار والهموم، والثانية خالدة هانئة.

وهكذا أخطأوا بزعمهم الثاني في شكّهم وارتيابهم في الحياة الأخرويّة.

١٩٣

فقد أثبتها الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام والعلماء، وكثيرٌ من الأُمم البدائيّة الأُولى، وأيقنوا بها يقيناً لا يُخالجه الشكّ، فارتياب المغرورين بالآخرة والحالة هذه، هَوَس يستنكره الدين والعقل.

ألا ترى كيف يؤمن المريض بنجع الدواء الذي أجمع عليه الأطباء ؟! وإنْ كذّبهم فصبيّ غِر أو مُغفّلٌ بليد.

وبعد أنْ عرَفت فساد ذَينك الزعمَين وبطلانهما، فاعلم أنّه لم يُصوِّر واقع الدنيا، ويَعرِض خدعها وأمانيها المُغرِّرة كما صوّرها القرآن الكريم، وعرّفها أهل البيتعليهم‌السلام ، فإذا هي برْقٌ خلّب وسرابٌ خادِع.

أنظر كيف يُصوّر القرآن واقع الدنيا وغرورها، فيقول تعالى:

(....أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ...) ( الحديد:٢٠ ).

وقال تعالى:( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( يونس: ٢٤ ).

وقال عزّ وجل:( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) ( النازعات: ٣٧ - ٤١ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( ماذئبان ضاريان في غنمٍ قد فارقها

١٩٤

رعاؤها، أحدُهما في أوّلِها، والآخر في آخرها، بأفسَدَ فيها، من حُبِّ الدنيا [المال] والشرف في دين المسلم )(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( مَثَلُ الحريص على الدنيا، مثل دودة القز كلّما ازدادت مِن القزِّ على نفسها لفّاً، كان أبعَد لها من الخروج، حتّى تموتَ غمّاً )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن أصبح وأمسى، والدنيا أكبر همّه، جعل اللّه تعالى الفقر بين عينيه، وشتّت أمره، ولم ينَل مِن الدنيا إلاّ ما قُسِم له، ومَن أصبح وأمسى والآخرة أكبرُ همّه، جعل اللّه تعالى الغنى في قلبه، وجمَع له أمره )(٣).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّما الدنيا فناءٌ وعَناء وغِيَرٌ وعِبَر: فمِن فنائها: أنّك ترى الدهر موتِراً قوسه، مفوقاً نبله، لا تُخطئ سهامه، ولا يشفى جراحه، يرمي الصحيح بالسقم، والحيَّ بالموت.

ومِن عنائها: أنّ المرء يجمَع ما لا يأكُل، ويبني ما لا يَسكن، ثُمّ يخرج إلى اللّه لا مالاً حمَل ولا بناءً نقَل.

ومن غِيَرِها أنّك ترى المغبوط مرحوماً، والمرحوم مغبوطاً، ليس بينهم إلاّ نعيمٌ زلّ، وبؤسٌ نزَل.

ومن عِبَرها: إنّ المرء يشرف على أمله، فيتخطّفه أجله، فلا أمَل مدروك، ولا مؤمّل متروك )(٤).

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ١٥٢ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٥٤ عن الكافي.

(٤) سفينة البحار ج ١ ص ٤٦٧.

١٩٥

وقال الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام : ( يا هشام، إنّ العُقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة ؛ لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة: فمَن طلَب الآخرة طلبته الدنيا، حتّى يستوفي منها رزقه، ومَن طلَب الدنيا طلبته الآخرة، فيأتيه الموت، فيفسد عليه دنياه وآخرته )(١).

القانون الخالد:

تواطأ الناس بأسرهم، على ذمّ الدنيا وشكايتها، لمعاناة آلامها، ففرحها مُكدَّر بالحزن، وراحتها منغصّة بالعَناء، لا تصفو لأحد، ولا يهنأ بها إنسان. وبالرغم مِن تواطئهم على ذلك تباينوا في سُلوكهم وموقفهم من الحياة:

فمنهم مَن تعشّقها، وهام بحبّها، وتكالَب على حُطامها، ما صيَرهم في حالة مُزرية، مِن التنافس والتناحر.

ومنهم مَن زهِد فيها، وانزوى هارباً مِن مباهجها ومُتعها إلى الأديِرَة والصوامع، ما جعلَهُم فلولاً مُبعثَرة على هامش الحياة.

وجاء الإسلام، والناس بين هذين الاتّجاهين المتعاكسين، فاستطاع بحكمته البالغة، وإصلاحه الشامل، أنْ يشرّع نظاماً خالداً، يؤلّف بين الدين والدنيا، ويجمَع بين مآرب الحياة وأشواق الروح، بأُسلوبٍ يُلائم

_____________________

(١) تحف العقول في وصيته لهشام بن الحكم.

١٩٦

فطرة الإنسان، ويضمن له السعادة والرخاء.

فتراه تارة يحذّر عشّاق الحياة من خُدعها وغرورها، ليحررهم من أسرها واسترقاقها، كما صورته الآثار السالفة.

وأخرى يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلى لذائذها البريئة وأشواقها المرفرفة، لئلاّ ينقطعوا عن ركب الحياة، ويصبحوا عرضة للفاقة والهوَان.

قال الصادقعليه‌السلام : ( ليس منّا مَن ترَك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدُنياه )(١) .

وقال العالمعليه‌السلام : ( اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً )(٢).

وبهذا النظام الفذ ازدهرت حضارة الإسلام، وتوغل المسلمون في مدارج الكمال، ومعارج الرقيّ الماديّ والروحي.

وعلى ضوء هذا القانون الخالد نستجلي الحقائق التالية:

١ - التمتّع بملاذ الحياة، وطيباتها المحلّلة، مُستحسن لا ضير فيه، ما لم يكن مشتملاً على حرام أو تبذير، كما قال سُبحانه:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( الأعراف: ٣٢ ).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( اعلموا عباد اللّه أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ١٠ ص ٩ عن الفقيه.

١٩٧

أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكِنَت، وأكلوها بأفضل ما أُكِلَت، فحظُوا مِن الدنيا بما حظى به المُترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون، ثُمّ انقلبوا عنها بالزاد المُبلّغ والمتْجر الرابح )(١).

٢ - إنّ التوفر على مقتنيات الحياة ونفائسها ورغائبها، هو كالأوّل مستحسن محمود، إلاّ ما كان مختَلساً مِن حرام، أو صارفاً عن ذكر اللّه تعالى وطاعته.

أمّا اكتسابها استعفافا عن الناس، أو تذرّعاً بها إلى مرضاة اللّه عزَّ وجل كصلة الأرحام، وإعانة البؤَسَاء، وإنشاء المشاريع الخيريّة كالمساجد والمدارس والمستشفيات، فإنّه من أفضل الطاعات وأعظم القُرُبات، كما صرّح بذلك أهل البيتعليهم‌السلام :

قال الصادقعليه‌السلام : ( لا خير فيمَن لا يجمع المال مِن حلالٍ، يكفّ به وجهه، ويقضي به دينه، ويصِل به رحمه )(٢).

وقال رجل لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : واللّه إنّا لنطلب الدنيا ونحبُّ أنْ نُؤتاها.

فقال: ( تحبُّ أنْ تصنع بها ماذا ؟ ) قال: أعُود بها على نفسي وعيالي، وأصِلُ بها، وأتصدّق بها، وأحجُّ، وأعتمِر. فقال أبو عبد اللّه: ( ليس هذا طلَب الدنيا، هذا طلب الآخرة )(٣).

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الوافي ج ١٠ ص ٩ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٠ ص ٩ عن الكافي.

١٩٨

٣ - إنّ حبَّ البقاء في الدنيا ليس مذموماً مطلقاً، وإنّما يختلف بالغايات والأهداف، فمن أحبّه لغاية سامية، كالتزود من الطاعة، واستكثار الحسنات، فهو مستحسن. ومن أحبّه لغاية دنيئة، كممارسة الآثام، واقتراف الشهوات، فذلك ذميم مقيت، كما قال زين العابدينعليه‌السلام : ( عَمّرني ما كان عمري بِذلةً في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك ).

ونستخلص ممّا أسلفناه أنّ الدنيا المذمومة هي التي تخدع الإنسان، وتصرفه عن طاعة اللّه والتأهب للحياة الأخرويّة.

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكُفر والإفلاس في الرجل

مساوئ الاغترار بالدنيا:

١ - من أبرز مساوئ الغرور أنّه يُلقي حجاباً حاجزاً بين العقل وواقع الإنسان، فلا يتبيّن آنذاك نقائصه ومساويه، من جشعٍ، وحرصٍ، وتكالبٍ على الحياة، ممّا يُسبّب نقصه وذمّه.

٢ - إنّ الغرور يُشقي أربابه، ويدفعهم إلى معاناة الحياة، ومصارعتها، دون اقتناعٍ بالكفاف، أو نظرٍ لزوالها المحتوم، ممّا يُظنيهم ويُشقيهم، كمّا صوّره الخبَر الآنف الذكر: ( مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القزّ، كلّما ازدادت على نفسها لفّاً، كان أبعد لها مِن الخروج، حتّى تموت غماً ).

٣ - والغرور بعد هذا وذاك، مِن أقوى الصوارف والمُلهيات عن

١٩٩

التأهّب للآخرة والتزوّد من الأعمال الصالحة، الموجبة للسعادة الأخرويّة، ونعيمها الخالد.

وقال تعالى:( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) ( النازعات: ٣٧ - ٤١ ).

علاج هذا الغرور:

وهو كما يلي مجملاً:

١ - استعراض الآيات والنصوص الواردة في ذم الغرور بالدنيا وأخطاره الرهيبة.

٢ - إجماع الأنبياء والأوصياء والحكماء على فناء الدنيا، وخلود الآخرة، فجديرٌ بالعاقل أنْ يؤثّر الخالد على الفاني، ويتأهّب للسعادة الأبديّة والنعيم الدائم:( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) ( الأعلى: ١٦ - ١٩ ).

٣ - الإفادة من المواعظ البليغة، والحكم الموجهة، والقصَص الهادفة المعبرة عن ندم الطغاة والجبارين، على اغترارهم في الدنيا، وصرف أعمارهم باللهو والفسوق.

ومِن أبلغ العِظات وأقواها أثراً في النفس كلمة أمير المؤمنين لابنه الحسنعليه‌السلام : ( أحي قلبَك بالموعظة، وأمِته بالزهادة، وقوّه باليقين،

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كانت ربّما استفيد الندب إليها من مثل قوله تعالى:( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم ) المؤمن: ٨٢، وقوله:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) الآية ١٢٢ من السورة إلّا أنّ إرادتها من قوله:( السائحون ) تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

وثالثاً: أنّ هذه الصفات الشريفة هي الّتى يتمّ بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعيّ بالجنّـة المستتبع للبشارة الإلهيّـة والنبويّـة وهى الملازمة للقيام بحقّ الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحقّ على نفسه.

قوله تعالى: ( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى ) إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنّه تعالى لمّا ذكر في الآية الثانية الّتى تبيّن سبب استغفار ابراهيم لأبيه مع كونه كافراً أنّه تبرّأ منه بعد ذلك لمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله، فدلّ ذلك على أنّ تبيّن كون المشركين أصحاب الجحيم إنّما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازماً لكونهم أعداء لله فإذا تبيّن للنبىّ والّذين آمنوا أنّ المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروريّ وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغواً لا يترتّب عليه أثر وخضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

وذلك أنّه تارة يفرض الله تعالى عدوّاً للعبد مبغضاً له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذلّلاً غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوّاً لله محارباً له مستكبراً مستعلياً كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنّه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلّا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبّس بلباس الذلّة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ والتناول إلّا الهزؤ بمقام الربوبيّـة واللعب بمقام العبوديّـة وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

وفي الآية نفى الجواز بنفى الحقّ بدليل قوله:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا ) أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبيّن لهم كذا وكذا، وقد تقدّم في ذيل قوله

٤٢١

تعالى:( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) الآية ١٧ من السورة أنّ حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحقّ.

والمعنى أنّ النبيّ والّذين آمنوا بعد ما ظهر وتبيّن بتبيين الله لهم أنّ المشركين أعداء لله مخلّدون في النار لم يكن لهم حقّ يملكون به أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى منهم، وأمّا استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنّه ظنّ أنّه ليس بعدوّ معاند لله وإن كان مشركاً فاستعطفه بوعد وعدها إيّاه فاستغفر له فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله معاند على شركه وضلاله تبرّء منه.

وقوله:( إنّ إبراهيم لأوّاه حليم ) تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنّه تحمّل جفوة أبيه ووعده وعداً حسناً لكونه حليماً واستغفر له لكونه أوّاهاً، والأوّاه هو الكثير التأوّه خوفاً من ربّه وطمعاً فيه.

قوله تعالى: ( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) إلى آخر الآيتين الآيتان متّصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهى عن الاستغفار للمشركين.

أمّا الآية الاُولى أعني قوله:( وما كان الله ليضلّ ) الخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتّقوا ما بيّن الله لهم أن يتّقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب ما ينطبق على المورد أنّ المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودّد إليهم فعلى المؤمنين أن يتّقوا ذلك وإلّا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك أن تذكر ما قدّمناه في تفسير قوله تعالى:( اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ) المائدة: ٣ في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدّمة.

والآية بوجه في معنى قوله تعالى:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) الأنفال: ٥٣ وما في معناه من الآيات، وهى جميعاً تهتف بأنّ من السنّة الإلهيّـة أن تستمرّ على العبد نعمته وهدايته حتّى يغيّر هو ما عنده بالكفران والتعدّى فيسلب الله منه النعمة والهداية.

٤٢٢

وأمّا الآية الثانية أعنى قوله:( إنّ الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولىّ ولا نصير ) فذيلها بيان لعلّة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة وهو النهى عن تولّى أعداء الله أو وجوب التبرّى منهم إذ لا ولىّ ولا نصير حقيقة إلّا الله سبحانه وقد بيّنه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولّى عليه تعالى أو من أذن في تولّيهم له من أوليائه وليس لهم أن يتعدّوا ذلك إلى تولّى أعدائه كائنين من كانوا.

وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو أنّ الله سبحانه هو الّذى يملك كلّ شئ وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كلّ أمر فهو الولىّ لا ولىّ غيره.

وقد ظهر من عموم البيان والعلّة في الآيات الأربع أنّ الحكم عامّ وهو وجوب التبرّى أو حرمة التولّى لأعداء الله سواء كان التولّى بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدوّ مشركاً أو كافراً أو منافقاً أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بايات الله أو المصرّين على بعض الكبائر كالمرابى المحارب لله ورسوله.

قوله تعالى: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين ) إلى آخر الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الّذى تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشقّ معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حرّ شديد أو غير ذلك، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحقّ، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أنّ المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرّجاً من العسرة والمشقّة الّتى واجهتهم في مسيرهم.

والتخليف - على ما في المجمع - تأخير الشئ عمّن مضى فأمّا تأخير الشئ عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الّذى هو مقابل لجهة الوجه يقال، خلّفه أي جعله خلفه فهو مخلّف. انتهى والرحب هو السعة الّتى تقابل الضيق، وبما رحبت أي برحبها فما مصدريّة.

و الآيتان وإن كانت كلّ واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الاُخرى

٤٢٣

فالاُولى تبيّن التوبة على النبيّ والمهاجرين والأنصار والثانية تبيّن توبة الثلاثة المخلّفين مضافاً إلى أنّ نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الاُولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم، وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.

وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضاً ومدلولاً غير أنّ السياق يدلّ على أنّهما مسوقتان لغرض واحد ومتّصلتان كلاماً واحداً تبيّن فيه توبته تعالى للنبىّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا، ومن الدليل عليه قوله:( لقد تاب الله على النبيّ - إلى أن قال -وعلى الثلاثة ) الخ فالآية الثانية غير مستقلّة عن الاُولى بحسب اللفظ وإن استقلّت عنها في المعنى، وذلك يستدعى نزولهما معاً وتعلّق غرض خاصّ بهذا الاتّصال والامتزاج.

ولعلّ الغرض الأصلىّ بيان توبة الله سبحانه لاُولئك الثلاثة المخلّفين وقد ضمّ إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتّى للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم وزوال تميّزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتّى يعود الجميع على نعت واحد وهو أنّ الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإنّ الله سبحانه يبدء بذكر توبته على النبيّ والمهاجرين والأنصار ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ) وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) فليس إلّا أنّ الكلام مسوق على منهج الإجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالاً ثمّ اُشير إلى حال كلّ من الفريقين على حدته فذُكرت عند ذلك توبته الخاصّـة به.

ولو كانت كلّ واحدة من الآيتين ذات غرض مستقلّ من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكراراً من غير نكتة ظاهرة.

على أنّ في الآية الاُولى دلالة واضحة على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له في ذلك ذنب

٤٢٤

ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فإنّ في الكلام مدحاً للمهاجرين والأنصار باتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يزغ قلبه ولا كاد أن يزيغ حتّى صار متّبعاً يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيؤول معنى الآية إلى أنّ الله - اُقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعاً إلى النبيّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا فأمّا توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والأنصار فإنّهم اتّبعوا النبيّ في ساعة العسرة وزمانها - وهو أيّـام مسيرهم إلى تبوك - اتّبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحقّ بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتّبعوه تاب الله عليهم إنّه بهم لرؤوف رحيم.

وأمّا الثلاثة الّذين خلّفوا فإنّهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ووسعت - وكان ذلك بسبب أنّ الناس لم يعاشروهم ولا كلّموهم حتّى أهلهم فلم يجدوا أنيساً يأنسون به - وضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغمّ عليهم - و أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه بالتوبة والإنابة فلمّا كان ذلك كلّه تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم إنّه هو التوّاب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثمّ بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين.

وقد تبيّن بذلك كلّه أوّلاً: أنّ المراد بالتوبة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محض الرجوع إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى اُمّته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى اُمّته.

وأيضاً فإنّ من فضله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن: كلّما ذكر اُمّته أو الّذين معه بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفاً له كما في قوله:( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون ) البقرة: ٢٨٥ وقوله:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) التوبة ٢٦، وقوله:( لكن الرسول والّذين آمنوا معه جاهدوا ) التوبة ٨٨ إلى غير ذلك من الموارد.

وثانياً: أنّ المراد بما ذكر ثانياً وثالثاً من التوبه بقوله:( ثمّ تاب عليهم ) في

٤٢٥

الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالاً بقوله:( لقد تاب الله ) .

وثالثاً: أنّ المراد بالتوبة في قوله:( ثمّ تاب عليهم ) في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مراراً في الأبحاث السابقة أنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الربّ تعالى، وأنّه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية وهو التوبة الاُولى منه فيهتدى العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى.

والدليل على أنّ المراد بها في الموضعين ذلك أمّا في الآية الاُولى فلأنّه لم يذكر منهم فيها ذنباً يستغفرون له حتّى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنّما ذكر أنّه كان من المتوقّع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الاُولى منه تعالى دون الثانية، وأمّا في الآية الثانية فلأنّه ذكر بعدها قوله:( ليتوبوا ) وهو الاستغفار، اُخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلّا التوبة الاُولى منه.

وربّما أيّد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم:( إنّه بهم رؤوف رحيم ) حيث لم يذكر من أسمائه ما يدلّ بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار.

ورابعاً: أنّ المراد بقوله في الآية الثانية:( ليتوبوا ) توبة الثلاثة الّذين خلّفوا المترتّب على توبته تعالى الاُولى عليهم، فالمعنى ثمّ تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم ويغفر لهم إنّه هو التوّاب الرحيم.

فان قلت: فالآية لم تدلّ على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل أنّ الآية نزلت في توبتهم.

قلت: القصّة ثابتة نقلاً غير أنّها لا توجد دلالة في لفظ الآية إلّا أنّ الآية تدلّ بسياقها على ذلك فقد قال تعالى قى مقام الإجمال:( لقد تاب الله ) وهو أعمّ بإطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد:( إنّ الله هو التوّاب الرحيم ) وخاصّـة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله:( وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه ) فإذا كانوا أقدموا على التوبة ليأخذوا ملجاً من الله يأمنون فيه وقد هداهم

٤٢٦

الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال أن يردّهم الله من بابه خائبين وهو التوّاب الرحيم، وكيف يستقيم ذلك؟ وهو القائل عزّ من قائل:( إنّما التوبة على الله للّذين يعملون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب فاُولئك يتوب الله عليهم ) النساء: ١٧.

وربّما قيل: إنّ معنى( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) ثمّ سهّل الله عليهم التوبة ليتوبوا. وهو سخيف. وأسخف منه قول من قال: إنّ المراد بالتوبة في( ليتوبوا ) الرجوع إلى حالتهم الاُولى قبل المعصية. وأسخف منه قول آخرين: إنّ الضمير في( ليتوبوا ) راجع إلى المؤمنين والمعنى ثمّ تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأنّ الله قابل التوب.

وخامساً: أنّ الظنّ يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظيّـة بل لخصوص المورد.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين ) الصدق بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الإنسان إذا طابق خبره الخارج ثمّ لمّا عدّ كلّ من الاعتقاد والعزم - الإرادة - قولاً توسّع في معنى الصدق فعدّ الإنسان صادقاً إذا طابق خبره الخارج وصادقاً إذا عمل بما اعتقده وصادقاً إذا أتى بما يريده ويعزم عليه على الجدّ.

وما في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى واطلاق الصادقين وإطلاق الأمر بالكون معهم - والمعيّة هي المصاحبة في العمل وهو الاتّباع - يدلّ على أنّ المراد بالصدق هو معناه آلوسيع العامّ دون الخاصّ.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى واتّباع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وهو غير الأمر بالاتّصاف بصفتهم فإنّه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ) إلى آخر الآيتين الرغبة ميل خاصّ نفسانيّ والرغبة في الشئ الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة عن الشئ الميل عنه بتركه والباء للسببيّـة فقوله:( ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) معناه وليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازى وفي تعب الأسفار ودعثائها ويقعدوا

٤٢٧

للتمتّع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب والمخمصة المجاعة، والغيظ أشدّ الغضب، والموطئ الأرض الّتى توطأ بالأقدام.

والآية تسلب حقّ التخلّف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل المدينة والأعراب الّذين حولها ثمّ تذكر أنّ الله قابل هذا السلب منهم بأنّه يكتب لهم في كلّ مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كلّ أرض يطئونها فيغيطون به الكفّـار أو نيل نالوه منهم عملاً صالحاً فإنّهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله:( ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأ ) الخ.

ثمّ ذكر أنّ نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كلّ واد قطعوه فإنّه مكتوب لهم محفوظ لأجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.

وقوله:( ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) غاية متعلّقة بقوله:( كتب لهم ) أي غاية هذه الكتابة هي أن يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنّما خصّ جزاء أحسن الأعمال بالذكر لأنّ رغبة العامل عاكفة عليه، أو لأنّ الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لأنّ المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقّها وقيام الدعوة الدينيّـة به.

وههنا معنى آخر وهو أنّ جزاء العمل في الحقيقة إنّما هو نفس العمل عائداً إلى الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء ومعنى آخر وهو أن يغفر الله سبحانه سيّئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسناً ثمّ يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك وربّما رجع المعنيان إلى معنى واحد.

قوله تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) السياق يدلّ على أنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً، وقوله:( فرقة منهم ) الضمير للمؤمنين الّذين ليس لهم أن ينفروا كافّة، ولازمه أن يكون النفر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

فالآية تنهى مؤمنى سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافّة

٤٢٨

بل يحضّضهم أن ينف طائفة منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه في الدين، وينفر إلى الجهاد غيرهم.

والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضمير في قوله( رجعوا ) للطائفة المتفقّهين، وفي قوله:( إليهم ) لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقّهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقّههم ورجوعهم إلى اوطانهم.

ومعنى الآية لا يجوز لمؤمنى البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً فهلّا نفر وخرج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين ليتحقّقوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لاُصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون ويتّقون.

ومن هنا يظهر أوّلاً: أنّ المراد بالتفقّه تفهّم جميع المعارف الدينيّـة من اُصول وفروع لا خصوص الأحكام العمليّـة وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرّعة، والدليل عليه قوله:( لينذروا قومهم ) فإنّ ذلك أمر إنّما يتمّ بالتفقّه في جميع الدين وهو ظاهر.

وثانياً: أنّ النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الدينىّ بدلالة من الآية.

وثالثاً: أنّ سائر المعاني المحتملة الّتى ذكروها في الآية بعيده عن السياق كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) نفرهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه، وقول بعضهم في( فلو لا نفر ) : أي إلى الجهاد، والمراد بقوله:( ليتفقهوا ) أي الباقون المتخلّفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى اُولئك المتخلّفين. فهذه ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرّض لها والإطناب في البحث عنها.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّـار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) أمر بالجهاد العامّ الّذى فيه توسّع الإسلام حتّى يشيع في الدنيا فإنّ قتال كلّ طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفّـار لا ينتهى إلّا باتّساع الإسلام اتّساعاً باستقرار سلطنته على الدنيا وإحاطته بالناس جميعاً.

والمراد بقوله:( وليجدوا فيكم غلظة ) أي الشدّة في ذات الله وليس يعنى بها

٤٢٩

الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الاُصول الدينيّـة تذمّ ذلك وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كلّ تعدّ واعتداء وجفاء كما مرّ في سورة البقرة.

وفي قوله:( واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) وعد إلهى بالنصر بشرط التقوى، ويؤول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائماً مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربّهم منهم، وهو أنّه معهم ومولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتّقون.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المسجد:( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) الآية فكبّر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاريّ: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

وفي الكافي بإسناده عن سماعة عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لقى عبّاد البصريّ علىّ بن الحسينعليه‌السلام في طريق مكّة فقال له: يا علىّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته إنّ الله يقول:( إنّ الله اشترى ) الخ، فقال علىّ بن الحسينعليه‌السلام إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ.

أقول: يريدعليه‌السلام ما في الآية الثانية:( التائبون العابدون ) الآية من الأوصاف.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سياحة اُمّتى في المساجد.

أقول: وروى عن أبى هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ السائحين هم الصائمون، وعن أبى اُمامة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ سياحة اُمّتى الجهاد في سبيل الله، وقد تقدّم الكلام فيه.

وفي المجمع:( التائبين العابدين ) إلى آخرها بالياء عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام .

٤٣٠

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاريّ ومسلم والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبوجهل وعبدالله بن أبى أميّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أى عمّ قل لا إله إلّا الله اُحاجّ لك بها عند الله فقال أبوجهل وعبدالله بن أبى اُميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب؟ وجعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرضها عليه وأبوجهل وعبدالله يعانوانه(١) بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلّمهم هو: على ملّة عبدالمطّلب، وأبى أن يقول: لا إله إلّا الله.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية، وأنزل الله في أبى طالب فقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ) .

اقول: وفي معناه روايات اُخرى من طرق أهل السنّة، وفى بعضها أنّ المسلمين لمّا رأوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر لعمّه وهو مشرك استغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية، وقد اتّفقت الرواية عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه كان مسلماً غير متظاهر بإسلامه ليتمكّن بذلك من حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيما روى بالنقل الصحيح من أشعاره شئ كثير يدلّ على توحيده وتصديقه النبوّة، وقد قدّمنا نبذة منها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر قال: الأوّاه الدّعاء.

وفي المجمع في قوله تعالى:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية عن الحسن.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في الآية قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الاُسارى(٢) قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتّى يؤذن لكم

____________________

(١) أي يفسرانه.

(٢) يعنى يوم بدر.

٤٣١

ولكن ما كان الله ليعذّب قوماً بذنب أذنبوه حتّى يبيّن لهم ما يتّقون. قال: حتّى ينهاهم قبل ذلك.

أقول: ظاهر الروايتين أنّهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، واتّصال الآية بالآيتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدّم توضيحه.

وفي الكافي بإسناده عن حمزة بن محمّـد الطيّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) قال: يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه. الحديث.

أقول: ورواه أيضاً عن عبد الأعلى عنهعليه‌السلام ، ورواه البرقىّ أيضاً في المحاسن.

وفى تفسير القمّىّ:( لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة ) قال الصادقعليه‌السلام : هكذا نزلت وهم أبوذرّ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الّذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمّىّ في تفسيره في قوله تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدوّا له عدّة ) الآية: ٤٦ من السورة، وروى قراءة( بالنبيّ ) في المجمع عنه وعن الرضاعليهما‌السلام .

وفي المجمع في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) وقرء علىّ بن الحسين زين العابدين ومحمّـد بن علىّ الباقرو جعفر بن محمّـد الصادقعليهم‌السلام وأبو عبد الرحمن السلمىّ. خالفوا.

وفيه في قوله:( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار ) الآية نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتّى يجد طعمها ثمّ يعطيها صاحبه فيمصّها ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة.

وفيه في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) الآية نزلت في شأن كعب بن مالك

٤٣٢

ومرارة بن الربيع وهلال بن اُميّة، وذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثمّ ندموا فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة جاؤوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتّى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: ولكن لا يقربوكنّ.

فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيؤون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.

أقول: وقد تقدّمت القصّة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمّىّ في الآية ٤٦ من السورة، ورويت القصّة بطرق كثيرة.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب من تفسير أبى يوسف بن يعقوب بن سفيان حدّثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال:( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله ) قال: أمر الله الصحابة أن يخافوا الله. ثمّ قال:( وكونوا مع الصادقين ) يعنى مع محمّـد وأهل بيتهعليهم‌السلام .

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وقد روى في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن ابن عبّـاس، وأيضاً عن ابن عساكر عن أبى جعفر في قوله:( وكونوا مع الصادقين ) قالا: مع علىّ بن أبى طالب.

وفي الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبدالله (عيه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عزّوجلّ:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الّذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم.

٤٣٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، وهو ممّا يدلّ على أن المراد بالتفقّه في الآية أعمّ من تعلّم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

واعلم أنّ هناك أقوالاً اُخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها لظهور ضعفها ووهنها.

٤٣٤

( سورة التوبة آيه ١٢٤ - ١٢٩)  

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَيَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِنْ أَحَدٍ ثُمّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ ( ١٢٧ ) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لاَإِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ١٢٩ )

( بيان)

هي آيات تختتم بها آيات براءة وهى تذكر حال المؤمنين والمنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنيّـة، يتحصّل بذلك أيضاً أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، وهو قولهم عند نزول القرآن: أيّكم زادته هذه إيماناً ؟ ونظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟

وفيها وصفه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاً يحنّ به إليه قلوب المؤمنين، وأمره بالتوكّل عليه إن أعرضوا عنه.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً ) إلى آخر الآيتين. نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟ يدلّ على أنّ سائله لا يخلو من شئ في قلبه فإنّ هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثراً من

٤٣٥

نزول القرآن وكأنّه يذعن أنّ قلوب غيره كقلبه فيما يتلقّاه فيتفحّص عمّن أثّر في قلبه نزول القرآن كأنّه يرى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعى أنّ القرآن يصلح كلّ قلب سواء كان مستعدّاً مهيّئاً للصلاح أم لا وهو لا يذعن بذلك وكلّما تليت عليه سورة جديدة ولم يجد في قلبه خشوعاً لله ولا ميلاً وحناناً إلى الحقّ زاد شكّاً فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتّى يستقرّ في شكّه ويزيد ثباتاً في نفاقه.

وبالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.

وقد فصل الله سبحانه أمر القلوب وفرّق بين قلوب المؤمنين والّذين في قلوبهم مرض فقال:( فأمّا الّذين آمنوا ) وهم الّذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة( فزادتهم ) السورة النازلة( إيماناً ) فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه، وهذه زيادة في الكيف، وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنيّـة والحقائق الإلهيّـة، وبسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان وهذه زيادة في الكمّيّة ونسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة وكيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيماناً فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلّل وجوههم فرحاً( وهم يستبشرون ) .

( وأما الّذين في قلوبهم مرض ) وهم أهل الشكّ والنفاق( فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) أي ضلالاً جديداً إلى ضلالهم القديم وقد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الانعام: ١٢٥ والمقابلة الواقعة بين( الّذين آمنوا ) و( الّذين في قلوبهم مرض ) يفيد أنّ هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح وإنّما هو الشكّ أو الجحد وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال( وماتوا وهم كافرون ) .

والآية تدلّ على أنّ السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلباً سليماً زادته إيماناً واستبشاراً وسروراً، وإن كان قلباً مريضاً زادته رجساً وضلالاً نظير ما يفيده قوله:( وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا

٤٣٦

خساراً ) أسرى: ٨٢.

قوله تعالى: ( أو لا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ) الآية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكّرون ولا يعتبرون وهم يرون أنّهم يبتلون ويمتحنون كلّ عام مرّة أو مرّتين فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهيّـة وهم لا يتوبون ولا يتذكّرون ولو تفكّروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم وأيقنوا أنّ الاستمرار على هذا الشأن ينتهى بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبّد.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) الآية وهذه خصيصة اُخرى من خصائصهم وهى أنّهم عند نزول سورة قرآنيّـة - ولا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، وهذا قول من يسمع حديثاً لا يطيقه ويضيق بذلك صدره فيتغيّر لونه ويظهر القلق والاضطراب في وجهه فيخاف أن يلتفت إليه ويظهر السرّ الّذى طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد أودعه سرّه وأوقفه على باطن أمره كأنّه يستفسره هل يطّلع على ما بنا من القلق والاضطراب أحد؟

فقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي بعض المنافقين، وهذا من الدليل على أنّ الضمير في قوله في الآية السابقة:( فمنهم من يقول ) أيضاً للمنافقين، وقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور أمره وانهتاك ستره، وقوله:( هل يراكم من أحد ) في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد؟ ومن للتأكيد وأحد فاعل يراكم.

وقوله:( ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لا يفقهون ) ظاهر السياق أنّ المعنى ثمّ انصرفوا من عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال صرف الله قلوبهم عن وعى الآيات الإلهيّـة والإيمان بها بسبب أنّهم قوم لا يفقهون الكلام الحقّ فالجملة حاليّة على ما يجوّزه بعضهممن خلوّا الجملة الحاليّة المصدّرة بالفعل الماضي عن قد.

وربّما احتمل كون قوله:( صرف الله قلوبهم ) دعاءً منه تعالى على المنافقين، وله

٤٣٧

نظائر في القرآن، والدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشرّ.

قوله تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) العنت هو الضرر والهلاك، وما في قوله:( ما عنتّم ) مصدريّة التأويل عنتكم، والمراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وصفه بأنّه من أنفسهم والظاهر أنّ المراد به أنّه بشر مثلكم ومن نوعكم إذ لا دليل يدلّ على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصّـة، وخاصّـة بالنظر إلى وجود رجال من الروم وفارس والحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.

والمعنى لقد جاءكم أيّها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه أنّه يشقّ عليه ضرّكم أو هلاككم وأنّه حريص عليكم جميعاً من مؤمن أو غير مؤمن، وأنّه رؤوف رحيم بالمؤمنين منكم خاصّـة فيحقّ عليكم أن تطيعوا أمره لأنّه رسول لا يصدع إلّا عن أمر الله، وطاعته طاعة الله، وأن تأنسوا به وتحنّوا إليه لأنّه من أنفسكم، وأن تجيبوا دعوته وتصغوا إليه كما ينصح لكم.

ومن هنا يظهر أنّ القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله( رسول ) و( من أنفسكم ) و( عزيز عليه ما عنتّم ) الخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته وقبول دعوته، ويدلّ عليه قوله في الآية التالية:( فإن تولّوا فقل حسبى الله ) .

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم ) أي وإن تولّوا عنك وأعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبى الله لا إله إلّا هو أي هو كافىّ لا إله إلّا هو.

فقوله:( لا إله إلّا هو ) في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب واعتصامه بربّه فهو كاف لا كافى سواه لأنّه الله لا إله غيره، ومن المحتمل أن تكون كلمة التوحيد جيئ بها للتعظيم نظير قوله:( وقالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه ) البقرة: ١١٦.

وقوله:( عليه توكّلت ) وفيه معنى الحصر تفسير يفسّر به قوله:( حسبى الله ) الدالّ على معنى التوكّل بالالتزام، وقد تقدّم في بعض الأبحاث السابقة أنّ معنى التوكّل هو اتّخاذ العبد ربّه وكيلاً يحلّ محلّ نفسه ويتولّى تدبير اُموره أي انصرافه عن

٤٣٨

التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، ولا محالة هو بعض الأسباب الّذى هو علّة ناقصة والاعتصام بالسبب الحقيقيّ الّذي إليه ينتهي جميع الأسباب.

ومن هنا يظهر وجه تذييل الكلام بقوله:( وهو ربّ العرش العظيم ) أي الملك والسلطان الّذي يحكم به على كلّ شئ ويدبّر به كلّ أمر.

وإنّما قال تعالى:( فقل حسبي الله ) الآية ولم يقل: فتوكّل على الله لإرشاده إلى أن يتوكّل على ربّه وهو ذاكر هذه الحقائق الّتي تنوّر حقيقة معنى التوكّل، وأنّ انظر المصيب هو أن لا يثق الإنسان بما يدر كه من الأسباب الظاهرة الّتي هي لا محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه ويثق بربّه ويتوكّل عليه في حصول بغيته وغرضه.

وفي الآية من الدلالة على عجيب اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنّه تعالى يأمره بالتوكّل على ربّه فيما يهتمّ به من الأمر وهو ما تبيّنه الآية السابقة من شدّة رغبته وحرصه في اهتداء الناس وفوزهم بالسعادة فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام - في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان ونقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) وقال:( نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى ) .

ولو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّـة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرّطون النار.

٤٣٩

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة بن أعين عن أبى جعفرعليه‌السلام ( وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) يقول شكّاً إلى شكّهم.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أخرج أبونعيم في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يلتق أبواي قطّ على سفاح: لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّـبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً لا تنشعب شعبتان إلّا كنت في خيرهما.

أقول: وقد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة وغيرهم كالعبّـاس وأنس وأبى هريرة وربيعة بن الحارث بن عبدالمطّلب وابن عمر وابن عبّـاس وعلى ومحمّـد بن علىّ الباقر وجعفر بن محمّـد الصادقعليه‌السلام وغيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن الأنباريّ في المصاحف وابن مردويه عن الحسن أنّ اُبىّ بن كعب كان يقول: إنّ أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر الآية.

أقول: و الرواية مرويّـة من طريق آخر عن اُبىّ بن كعب، وهى لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدّم من الروايات في قوله تعالى:( واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) الآية البقرة: ٢٨١ أنّها آخر آية نزلت من القرآن.

على أنّ لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلّا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحديث الدواة والقرطاس.

وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبى داود عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم - إلى قوله -وهو ربّ العرش العظيم ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلّا أنّى أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فاُلحقت في آخر براءة.

أقول: وفي رواية أخرى أنّ عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بيّنه أبداً كذلك

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517