أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333188 / تحميل: 11876
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ونوّره بالحكمة، وذلّله بذِكر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحَذّره صَولة الدهر، وفُحش تقلّب الليالي والأيّام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب مَن كان قبلَك مِن الأوّلين، وسِر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا، وعمّا انتقلوا، وأين حلّوا ونزَلوا، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة، وحلّوا ديار الغربة، وكأنّك عن قليلٍ قد صِرت كأحدِهم، فأصلح مثواك، ولا تبِع آخرتَك بدُنياك )(١).

ومن روائع الحِكَم التشبيه التالي:

( فقد شبّه الحُكماء الإنسان وانهماكه في الدنيا، واغتراره بها، وغفلته عمّا وراءها، كشخصٍ مُدلىً في بئر، ووسَطه مشدودٌ بحبل، وفي أسفل ذلك البئر ثُعبانٌ عظيم، متوجّه إليه، منتظرٌ لسقوطه، فاتحٌ فاهُ لالتقامه، وفي أعلى ذلك البئر جرذان أبيضٌ وأسود، لا يزالان يقرِضان ذلك الحبل، شيئاً فشيئاً، ولا يفتران عن قرضِه آناً ما، وذلك الشخص مع رؤيته ذلك الثعبان، ومشاهدته لانقراض الحبل آناً فآناً، قد أقبل على قليلِ عسلٍ، قد لُطِخ به جِدارُ ذلك البئر وامتزج بترابه، واجتمع عليه زنابيرٌ كثيرة، وهو مشغولٌ بلطعه، منهمكٌ فيه، متلذّذٌ بما أصاب منه، مخاصمٌ لتلك الزنابير التي عليه، قد صرف جميعَ باله إلى ذلك، فهو غير ملتفتٍ إلى ما فوقه وما تحته.

فالبئر هو الدنيا، والحبل هو العمر، والثعبان الفاتح فاه هو الموت،

_____________________

(١) نهج البلاغة في وصيّتهعليه‌السلام لابنه الحسن.

٢٠١

والجرذان هُما الليل والنهار القارضان للأعمال، والعسَل المختلط بالتراب هو لذات الدنيا الممزوجة بالكدَر والآثام، والزنابير هم أبناء الدنيا المتزاحمون عليها ).

ومِن العِبر البالغة في تصرّم الحياة وإنْ طالت: ما رُوي أنّ نوحاًعليه‌السلام عاش ألفَين وخمسمِئة عام، ثمّ إنّ ملَك الموت جاءه وهو في الشمس، فقال: السلام عليك. فرّد عليه نوحعليه‌السلام وقال له: ما حاجتك يا ملك الموت ؟ قال: جئت لأقبض روحك. فقال له: تدَعني أتحوّل من الشمس إلى الظلّ. فقال له: نعم. فتحوّل نوحعليه‌السلام ، ثمّ قال: يا ملك الموت، فكأنّ ما مرّ بي في الدنيا مثل تحوّلي من الشمس إلى الظلّ !! فامضِ لما أُمِرت به. فقبض روحهعليه‌السلام .

ومِن عِبَر الطُّغاة والجبّارين ما قاله المنصور لمّا حضرته الوفاة: ( بعنا الآخرة بنومة ).

وردّد هارون الرشيد وهو ينتقي أكفانه عند الموت:( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) ( الحاقّة: ٢٨ - ٢٩ ).

وقيل لعبدِ الملك بن مروان في مرَضه: كيف تجدك يا أبا مروان ؟ قال: أجدُني كما قال اللّه تعالى:( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ..) ( الأنعام: ٩٤ ).

ورأى زيتون الحكيم رجُلاً على شاطئ البحر مهموماً محزوناً، يتلهّف على الدنيا، فقال له: يا فتى، ما تلهفك على الدنيا ! لو كنت في غاية الغنى، وأنت راكبٌ لجّةَ البحر، وقد انكسرت بك السفينة،

٢٠٢

وأشرفت على الغرَق، أما كانت غاية مطلوبك النجاة، وإنْ يفوتك كلّ ما بيدك. قال: نعم.

قال: ولو كنت ملِكاً على الدنيا، وأحاط بك مَن يريد قتلك، أما كان مرادك النجاة مِن يده، ولو ذهب جميع ما تملك. قال: نعم.

قال: فأنتَ ذلك الغنيُّ الآن، وأنت ذلك الملكُ، فتسلّى الرجل بكلامه.

وقال بعض العارفين لرجلٍ مِن الأغنياء: كيف طلبك للدنيا ؟ فقال: شديد. قال: فهل أدركت منها ما تريد ؟ قال: لا. قال: هذه التي صرَفت عُمرك في طلبِها لم تحصَل منها على ما تريد فكيف التي لم تطلبها !!

ولا ريب أنّ تلك العِظات لا تنجع إلاّ في القلوب السليمة، والعقول الواعية، أما الذين إسترقّتهم الحياة، وطبعت على قلوبهم، فلا يجديهم أبلغ المواعظ، كما قال بعض العارفين: إذا أُشرب القلبُ حبَّ الدنيا لم تنجع فيه كثرة المواعظ، كما أنّ الجسَد إذا استحكم فيه الداء، لم ينجع فيه كثرة الدواء.

٢٠٣

( ب ) غرور العلم

ومن صوَر الغرور ومفاتنه، الاغترار بالعلم، واتّساع المعارف، ممّا يثير في بعض الفضلاء الزهو والتيه، والتنافس البشِع على الجاه، والتهالك على الأطماع، ونحوها من الخلال المقيتة، التي لا تليق بالجُهّال فضلاً عن العلماء.

وربّما أفرط بعضهم في الزهو والغرور، فَجُنَّ بجنون العظَمَة، والتطاول على الناس بالكِبَر والازدراء.

وفات المغترّين بالعِلم، أنّ العِلم ليس غايةً في نفسه، وإنّما هو وسيلةٌ لتهذيب الإنسان وتكامله، وإسعاده في الحياتين الدنيويّة والأُخروية، فإذا لم يحقّق العِلم تلك الغايات السامية، كان جُهداً ضائعاً، وعَناءً مُرهِقاً، وغروراً خادعاً:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا...) ( الجمعة: ٥ ).

وقد أحسن الشاعر حيث يقول:

ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم

ولو عَظّموه في النفوس لعَظُما

ولكن أهانوه فهان وجهّموا

محيّاه بالأطماع حتّى تجهّما

فالعلم كالغيث ينهلّ على الأرض الطيبة، فيحيلها جناناً وارفة،

٢٠٤

تزخر بالخير والجمال، وينهلّ على الأرض السبخة فلا يجديها نفعاً.

وهكذا يفيء العلم على الكرام طيبةً وبهاءً، وعلى اللئام خُبثاً ولُؤماً.

وكيف يغترُّ العالِم بعلمه، ولم يكن الوحيد في مضماره، فقد عرَف الناس قديماً وحديثاً عُلماءً أفذاذاً جَلّوا في ميادين العلم، وحَلّقوا في آفاقه، وكانت لهم مآثرهم العلميّة الخالدة.

وعلى مَ الاغترار بالعلم، ومسؤوليّة العالم خطيرة، ومؤاخذته أشدّ من الجاهل، والحجّة عليه ألزَم، فإنْ لم يهتَدِ بنور العلم، ويعمل بمقتضاه، كان العلم وبالاً عليه، وغدا قدوة سيّئة للناس.

أنظر كيف يصوّر أهل البيتعليهم‌السلام جرائر العلماء المنحرفين، وأخطارهم:

فعن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : صنفان مِن أُمّتي إذا صلُحا صلُحت أُمّتي، وإذا فسَدا فسدت أُمّتي ) قيل: يا رسول اللّه ومَن هما ؟ قال: الفقهاء والأمراء )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( يُغفر للجاهل سبعون ذنباً، قبل أنْ يُغفَر للعالم ذنبٌ واحد )(٢).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يطلع قومٌ من أهل الجنّة إلى قومٍ مِن أهل النار، فيقولون: ما أدخلَكم النار وقد دخلنا الجنّة لفضلِ تأديبكم وتعليمكم ؟ فيقولون: إنّا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله )(٣).

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٨٣ عن خصال الشيخ الصدوق.

(٢) الوافي مجلّد العقل والعلم ص ٥٢ عن الكافي.

(٣) الوافي في وصيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٠٥

فجديرٌ بالعلماء والفُضلاء أنْ يكونوا قدوةً حسنةً للناس، ونموذجاً للخُلق الرفيع، وأنْ يتفادوا ما وسعهم مزالِق الغرور، وخلاله المَقيتة، وأنْ يستشعروا الآية الكريمة:

( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( القصص: ٨٣ ).

٢٠٦

( ج ) غرور الجاه

ويُعتبَر الجاه والسُّلطة مِن أقوى دواعي الغرور، وأشدَّ بواعثه، فترى المتسلّطين يتيهون على الناس زهواً وغروراً، ويستذلّون كراماتهم صَلَفاً وكِبراً.

وقد عاش الناس هذه المأساة في غالب العصور، وعانوا غرور المتسلّطين وتحدّيهم، بأسىً ولوعةٍ بالِغَين.

وفات هؤلاء المغرورين بمفاتن السُّلطة والرِّعَة، أنّ الإسراف في الغرور والأنانيّة أمرٌ يستنكره الإسلام ويتوعّد عليه بصنوف الإنذار والوعيد، في عاجل الحياة وآجلها، كما يعرّضهم لمقت الناس وغضبهم ولعنهم، ويخسرون بذلك أغلى وأخلَد مآثر الحياة: حبَّ الناس وعطفَهم، وكان عليهم أنْ يستغلّوا جاههم، ونفوذهم في استقطاب الناس، وتوفير رصيدهم الشعبي، وكسب عواطف الجماهير وودّهم.

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبَد الإحسان إنسانا

وأقوى عامل على تخفيف حدّة هذا الغرور، وقمع نَزَواته العارمة، هو التأمّل والتفكّر فيما ينتاب هؤلاء المغرورين مِن صروف الدهر، وسطوة الأقدار، وتنكّر الزمان. فصاحب السلطان كراكب الأسد، لا يدري أمَدَ

٢٠٧

غضَبه وافتراسه.

وقد زخَر التاريخ بصنوف العِبَر والعِظات الدالّة على ذلك:

ومنها: ما ذكره عبد اللّه بن عبد الرحمان صاحب الصلاة بالكوفة،

قال: دخلت إلى أُمّي في يوم أضحى، فرأيت عندها عجوزاً في أطمارٍ رثّة، وذلك في سنة ١٩٠، فإذا لها لسانٌ وبيان، فقلت لأُمّي: مَن هذه ؟ قالت: خالتك عباية أُمّ جعفر بن يحيى البرمكي. فسلّمت عليها، وتحفّيت بها، وقلت: أصارك الدهر إلى ما أرى ؟!

فقالت: نعم يا بني، إنّا كنّا في عواري ارتَجَعها الدهر منّا. فقلت: فحدّثيني ببعض شأنك.

فقالت: خذه جملة، لقد مضى عليّ أضحى، وعلى رأسي أربعمِئة وصيفة، وأنا أزعم أنّ ابني عاق، وقد جئتك اليوم أطلب جلدَتَي شاة، اجعل إحداهما شِعاراً، والأُخرى دِثاراً.

قال فرَفَقت لها، ووهبْت لها دراهم، فكادت تموت فرحاً(١) .

ودخل بعض الوعّاظ على الرشيد، فقال: عِظني، فقال له: أتراك لو مُنِعتَ شربةً من ماء عند عطشِك، بِمَ كنت تشتريها ؟ قال: بنصف مُلكي.

قال: أتراها لو حُبِسَت عند خروجها بِمَ كنت تشتريها ؟ قال: بالنصف الباقي.

_____________________

(١) سفينة البحار م ٢ ص ٦٠٩.

٢٠٨

قال: فلا يغرّنّك مُلك قيمته شربة ماء(١) .

فجديرٌ بالعاقل أنْ يدرك أنّ جميع ما يزهو به، ويدفعه على الغرور من مال، أو علم، أو جاه، ونفوذ، إنّما هي نِعَمٌ وألطافٌ إلهيّة أسداها المنعم الأعظم، فهي أحرى بالحمد، وأجدر بالشكر، منها بالغرور والخُيَلاء.

الجاه بين المدح والذم:

ليس طلب الجاه مذموماً على الإطلاق، وإنّما هو مختلف باختلاف الغايات والأهداف، فمن طلبه لغايةٍ مشروعة، وهدَفٍ سامٍ نبيل، كنصرة المظلوم، وعون الضعيف، ودفع المظالم عن نفسه أو غيره، فهو الجاه المحبّب المحمود.

ومَن توخّاه للتسلّط على الناس، والتعالي عليهم، والتحكّم بهم، فذلك هو الجاه الرخيص الذميم.

وقد تلتبس الغايات أحياناً في بعض صور الجاه، كالتصدّي لإمامة الجماعة، وممارسة توجيه الناس وإرشادهم، وتسنّم المراكز الروحيّة الهامّة.

فتتمّيز الغايات آنذاك بما يتّصف به ذووها من حسن الإخلاص، وسموّ الغاية، وحُبّ الخير للناس، أو يتّسمون بالأنانيّة، والانتهازيّة، وهذا مِن صور الغرور الخادعة، أعاذنا اللّه منها جميعاً.

_____________________

(١) لآلي النركاني.

٢٠٩

(د) غرور المال

وهكذا يستثير المال كوامن الغرور، ويعكِس على أربابه صوَراً مَقيتة من التلبيس والخداع.

فهو يفتن الأثرياء من عشّاق الجاه، ويحفّزهم على السخاء والأريحيّة، بأموالٍ مشوبةً بالحرام، ويحبسون أنّهم يحسنون صنعاً، وهُم مخدوعون مغرورون.

وقد يتعطّف بعضهم على البؤساء والمعوزين جهراً ويشحّ عليهم سرّاً، كسباً للسمعة والإطراء، وهو مغرورٌ مفتون.

ومنهم مَن يمتنع عن أداء الحقوق الإلهية المحَتّمة عليه بُخلاً وشُحّاً، مكتفياً بأداء العبادات التي لا تتطلّب البذل والإنفاق، كالصلاة والصيام، زاعماً براءة ذِمّته بذلك، وهو مفتونٌ مغرور، إذ يجب أداء الفرائض الإلهيّة ماديّة وعباديّة، ولكلِّ فرضٍ أهميّته في عالم العقيدة والشريعة.

ومِن أجل ذلك كان المال من أخطر بواعث الغرور ومفاتنه.

فعن الصادقعليه‌السلام قال: ( يقول إبليس: ما أعياني في ابن آدم فلن يُعييني منه واحدة من ثلاثة: أخذُ مالٍ من غير حلّه، أو مَنعه من حقّه، أو وضعِه في غير وجهه )(١).

_____________________

(١) عن خصال الصدوق (ره).

٢١٠

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الدينار والدرهم أهلَكا مَن كان قبلكم، وهُما مهلكاكم )(١).

المال بين المدح والذم:

للمال محاسنه ومساوئه، ومضارّه ومنافعه، فهو يُسعِد ويُشقي أربابه تبَعاً لوسائل كسبه وغايات إنفاقه.

فمن محاسنه: أنّه الوسيلة الفعّالة لتحقيق وسائل العيش، ونيل مآرب الحياة، وأشواقها الماديّة، والسبب القويّ في عزّة ملاكه واستغنائهم عن لئام الناس، والذريعة الهامّة في كسب المحامد والأمجاد. كما قال الشريف الرضي رحمه اللّه:

اشتر العِزّ بما بِيع

فما العز بغالي

بالقصار الصفر إنْ

شِئت أو السمر الطوالِ

ليس بالمغبون عقلاً

مَن شرى عزَّاً بمالِ

إنما يُدَّخَر المالُ

لحاجاتِ الرجالِ

والفتى مَن جَعل

الأموال أثمان المعالي

كما أنّ المال مِن وسائل التزوّد للآخرة، وكسب السعادة الأبديّة فيها.

ومِن مساوئ المال: أنّه باعثٌ على التورّط في الشُّبُهات، واقتراف المحارم والآثام، كاكتسابه بوسائل غير مشروعة، أو منع الحقوق الإلهيّة

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٥٢ عن الكافي.

٢١١

المفروضة عليه، أو إنفاقه في مجالات الغواية والمنكرات، كما أوضحت غوائله النصوص السالفة.

وهو إلى ذلك من أقوى الصوارف والملهيات عن ذكر اللّه عزّ وجل، والتأهّب للحياة الأخرويّة الخالدة.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ( المنافقون: ٩ ).

فليس المال مذموماً إطلاقاً، وإنّما يختلف باختلاف وسائله وغاياته، فإنْ صحّت ونَبُلَت كان مَدعاة للحمد والثناء، وإنْ هبطت وأسفّت كان مَدعاة للذمّ والاستنكار.

ولمّا كانت النفوس مشغوفةً بالمال، ومولعةً بجمعه واكتنازه، فحريٌّ بالمؤمن الواعي المستنير، أنْ لا ينخدع ببريقه، ويغترّ بمفاتنه، وأنْ يتّعظ بحرمان المغرورين به، والحريصين عليه، من كسب المثوبة في الآخرة، وإفلاسهم ممّا زاد عن حاجاتهم وكفافهم في الدنيا، فإنهم خزّان أمناء، يكدحون ويشقون في ادخاره، ثمّ يخلّفونه طعمة سائغة للوارثين، فيكون عليهم الوزر ولأبنائهم المُهنّى والاغتباط.

٢١٢

( هـ ) غرور النسب

وقد يغترُّ بعضهم برفعة أنسابهم، وانحدارهم من سلالة أهل البيتعليهم‌السلام ، فيحسبون أنّهم ناجون بزلفاهم، وإنْ انحرفوا عن نهجِهم، وتعسّفوا طُرق الغواية والضلال.

وهو غرور خادع حيث إنّ اللّه تعالي يُكرم المطيع ولو كان عبداً حبشيّاً، ويهين العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

وما نال أهل البيتعليهم‌السلام تلك المآثر الخالدة، ونالوا شرف العزّة والكرامة عند اللّه عزَّ وجل، إلاّ باجتهادهم في طاعة اللّه، وتفانيهم في مرضاته.

فاغترار الأبناء بشرف آبائهم وعراقتهم، وهُم منحرفون عن سيرتهم، من أحلام اليقظة ومفاتن الغرور.

أرأيت جاهلاً غدا عالماً بفضيلة آبائه ؟ أو جباناً صار بطلاً بشجاعة أجداده ؟ أو لئيماً عاد سخيّاً معطاءً بجود أسلافه ؟ كلا، ما كان اللّه تعالى ليساوي بين المطيع والعاصي، وبين المجاهد والوادع.

أنظر كيف يقصّ القرآن الكريم ضراعة نوحعليه‌السلام إلى ربِّه في استشفاع وليده الحبيب ونجاته من غَمَرات الطوفان الماحق، فلم يُجده

٢١٣

ذلك لكفر ابنه وغوايته:( وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ( هود: ٤٥ - ٤٦ ).

واستمع إلى سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله كيف يُملي على أسرته الكريمة درساً خالداً في الحثِّ على طاعة اللّه تعالى وتقواه، وعدم الاغترار بشرف الأنساب والأحساب، كما جاء عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: ( قام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الصفا، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطّلب، إنّي رسول اللّه إليكم، وإنّي شفيقٌ عليكم، وإنّ لي عملي، ولكلِّ رجلٍ منكم عملُه، لا تقولوا إنّ محمّداً منّا، وسنُدخَل مُدخله، فلا واللّه، ما أوليائي منكم، ولا مِن غيركم، يا بني عبد المطّلب إلاّ المتّقون، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة، تأتون تحملون الناس على ظهوركم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا إنّي قد أُعذِرت إليكم، فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين اللّه تعالى فيكم )(١) .

فجديرٌ بالعاقل أنْ يتوقّى فتنة الغرور بشرف الأنساب، وأنْ يسعى جاهداً في تهذيب نفسه وتوجيهها وجهة الخير والصلاح، متمثّلاً قول الشاعر:

إنّ الفتى مَن يقول ها أنذا

ليس الفتى مَن يقول كان أبي

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٠ عن الكافي.

٢١٤

الحسَد

وهو تمنّي زوال نعمة المحسود، وانتقالها للحاسد، فإنْ لم يتمنَّ زوالها، بل تمنّى نظيرها، فهو غبطة، وهي ليست ذميمة.

والحسَد مِن أبشع الرذائل وألأم الصفات، وأسوَأ الانحرافات الخُلقيّة أثراً وشرّاً، فالحَسود لا ينفكّ عن الهمّ والعِناد، ساخطاً على قضاء اللّه سُبحانه في رعاية عبيده، وآلائه عليهم، حانقاً على المحسود، جاهداً في كيده، فلا يستطيع ذلك، فيعود وبال حسده عليه، ويرتدّ كيده في نحره.

ناهيك في ذمّ الحسَد والحُسّاد، وخطرها البالغ، أنّ اللّه تعالى أمر بالاستعاذة من الحاسد، بعد الاستعاذة من شرّ ما خلَق قائلاً:( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) ( الفلق: ٥ ).

لذلك تكاثرت النصوص في ذمّه والتحذير منه:

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ما رأيت ظالماً أشبَهُ بمظلومٍ مِن

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ عن المجازات النبويّة، وجاء في الكافي عن الصادقعليه‌السلام : ( يأكل الإيمان ) بدَل الحسنات.

٢١٥

الحاسد، نَفَس دائم، وقلب هائم، وحُزنٍ لازِم )(١) .

وقال الحسن بن عليّعليه‌السلام : ( هلاك الناس في ثلاث: الكبر، والحرص، والحسد.

فالكِبَر: هلاك الدين وبه لُعِن إبليس.

والحرص: عدوّ النفس، وبه أُخرج آدم من الجنّة.

والحسَد: رائد السُّوء، ومنه قَتْلُ قابيل هابيل )(٢).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم لأصحابه: ( ألا إنّه قد دبَّ إليكم داءُ الأُمم مِن قبلكم، وهو الحسَد، ليس بحالق الشَّعر، لكنّه حالق الدين، ويُنجي منه أنْ يكُفَّ الإنسان يدَه، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غمزٍ على أخيه المؤمن )(٣).

بواعث الحسَد:

للحسَد أسبابٌ وبواعث نجملها في النقاط التالية:

١ - خُبث النفس:

فهناك شِذاذ طُبِّعوا على الخُبث واللؤم، فتراهم يحزنون بمباهج الناس

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٣١ عن كنز الكراجكي.

(٢) عن كشف الغمّة.

(٣) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٣١ عن مجالس الشيخ المفيد وأمالي ابن الشيخ الطوسي.

٢١٦

وسعادتهم، ويُسَرّون بشقائهم ومآسيهم، ومِن ثمّ يحسدونهم على ما آتاهم اللّه من فضله، وإنْ لم يكن بينهم تِرة أو عداء. وذلك لخُبثِهم ولؤم طباعهم.

٢- العِداء:

وهو أقوى بواعث الحسَد، وأشدّها صرامةً على مكايدة الحسود واستلاب نعمته.

٣ - التنافس:

بين أرباب المصالح والغايات المشتركة: كتحاسد أرباب المِهَن المتّحدة وتحاسد الأبناء في الحظوة لدى آبائهم، وتحاسد بطانة الزعماء والأمراء في الزلفى لديهم.

وهكذا تكثر بواعث الحسَد بين فئات تجمعهم وحدة الأهداف والروابط، فلاتجد تحاسداً بين متباينين هدفاً واتجاهاً، فالتاجر يَحسُد نظيره التاجر دون المهندس والزارع.

٤ - الأنانيّة:

وقد يستحوِذ الحسَد عن ذويه بدافع الأثرة والأنانيّة، رغبةً في التفوّق على الأقران، وحبّاً بالتفرّد والظهور.

٥ - الازدراء:

وقد ينجم الحسَد على ازدراء الحاسد للمحسود، مستكثراً نِعَمِ اللّه عليه، حاسداً له على ذلك.

وربّما اجتمعت بواعث الحسَد في شخص، فيغدو آنذاك بُركاناً ينفجر حسَداً وبغياً، يتحدّى محسوده تحدّياً سافراً مليئاً بالحُنق واللؤم، لا يستطيع

٢١٧

كتمان ذلك، ممّا يجعله شريراً مجرماً خطيراً.

مساوئ الحسَد:

يختصّ الحسَد بين الأمراض الخلقيّة بأنّه أشدّها ضرراً، وأسوأها مغبّةً في دين الحاسد ودُنياه.

١ - فمِن أضراره العاجلة في دنيا الحاسِد، أنّه يُكدّر عليه صفوَ الحياة، ويجعله قرين الهمّ والعناء، لتبرّمه بنِعَم اللّه على عباده، وهي عظيمةٌ وفيرة، وذلك ما يُشقيه، ويتقاضاه عِلَلاً صحيحة ونفسيّة ماحقة.

كما يُفجعه في أنفس ذخائر الحياة: في كرامته، وسُمعته، فتَراه ذميماً مُحَقّراً، منبوذاً تمقته النفوس، وتنبذه الطباع.

ويُفجِعه كذلك في أخلاقه، فتراه لا يتحرّج عن الوقيعةِ بمحسوده، بصنوف التُّهم والأكاذيب المحرّمة في شُرعة الأخلاق، ولا يألو جُهداً في إثارة الفتَن المفرّقة بينه وبين أودّائه، وذَوي قُرباه، نكايةً به وإذلالاً له.

وأكثر الناس استهدافاً للحسَد، ومعاناة لشروره وأخطاره، اللامعون المتفوّقون مِن أرباب العلم والفضائل، لما ينفسه الحسّاد عليهم من سموّ المنزلة، وجلالة القدر، فيسعون جاهدين في ازدرائهم واستنقاصهم، وشنّ الحمَلات الظالمة عليهم.

وهذا هو سرّ ظلامة الفضَلاء، وحرمانهم من عواطف التقدير والإعزاز، وربّما طاشت سهام الحسَد، فأخلَفت ظنّ الحاسَد، وعادت

٢١٨

عليه باللوعة والأسى، وعلى المحسود بالتنويه والإكبار كما قال أبو تمام:

وإذا أراد اللّه نصر فضيلة

طُويَت أتاح لها لسان حسُود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يُعرف طيبُ عَرف العُود

لولا التخوّف للعواقب لم يزل

للحاسِد النعمى على المسحود

ويقول الآخر:

اصبر على حسَد الحسُود

فإنّ صبَرك قاتله

فالنار تأكُل بعضَها

إنْ لم تجِد ما تأكله

٢ - وأمّا أضرار الحسَد الآجلة:

فقد عرفت ما يتذرّع به الحاسِد من صنوف الدس والتخريب في الوقيعة بالمحسود، وهدر كرامته. وهذا ما يعرض الحاسِد لسخط اللّه تعالى وعقابه، ويأكل حسَناته كما تأكل النار الحطب.

هذا إلى تنمّر الحاسد، وسخطه على مشيئة اللّه سُبحانه، في إغداق نعمه على عباده، وتلك جرأة صارخة تبّوئه السخط والهَوان.

علاج الحسَد:

وإليك بعض النصائح العلاجيّة للحسَد:

١ - تَركُ تطلّع المرء إلى مِن فوقه سعادة ورخاءً وجاهاً، والنظر إلى من دونه في ذلك، ليستشعر عناية اللّه تعالى به، وآلائه عليه، فتخفّ بذلك نوازع الحسَد وميوله الجامحة.

٢١٩

٢ - تذكّر مساوئ الحسَد. وغوائله الدينيّة والدنيويّة، وما يُعانيه الحسّاد من صنوف المكاره والأزَمات.

٣ - مراقبة اللّه تعالى، والإيمان بحكمة تدبيره لعباده، والاستسلام لقضائه، متوقّياً بوادر الحسَد، ومقتضياته الأثيمة مِن ثلب المحسود والإساءة إليه، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ويُنجي منه أنْ يكفّ الإنسان يده، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غمزٍ على أخيه المؤمن ).

ولو لم يكن في نبْذ الحسَد إلاّ استهجانه، والترفّع عن الاتّصاف بمثالبه المقيتة، لوجوب نبذه ومجافاته.

وجدير بالآباء أنْ لا يميّزوا بين أبنائهم في شمول العناية والبِرِّ. فيبذروا في نفوسهم سموم الحسَد، ودوافعه الأثيمة.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

يده مع يد الذّابح، ويسمّي الله تعالى، ويقول « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » إلى قوله « وأنا من المسلمين » ثمَّ يقول: « اللهم منك ولك. بسم الله، والله أكبر. اللهمّ تقبّل منّي » ثمَّ يمرّ السّكين. ولا ينخعه حتّى يموت. ومن أخطأ في الذّبيحة، فذكر غير صاحبها، كانت مجزئة عنه بالنّيّة. وينبغي أن يبدأ أيضا بالذّبح قبل الحلق، وفي العقيقة بالحلق قبل الذّبح. فإن قدّم الحلق على الذّبح ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن السّنّة أن يأكل الإنسان من هديه لمتعته، ومن الأضحيّة ويطعم القانع والمعترّ: يأكل ثلثه، ويطعم القانع والمعترّ ثلثه، ويهدي لأصدقائه الثّلث الباقي. وقد بيّنّا أنه لا يجوز أن يأكل من الهدي المضمون إلّا إذا كان مضطرّا. فإن أكل منه من غير ضرورة، كان عليه قيمته. ولا بأس بأكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام وادّخارها. ولا يجوز أن يخرج من منى من لحم ما يضحّيه. ولا بأس بإخراج السّنام منه. ولا بأس أيضا بإخراج لحم قد ضحّاه غيره. ويستحبّ أن لا يأخذ شيئا من جلود الهدي والأضاحي، بل يتصدّق بها كلّها. ولا يجوز أيضا أن يعطيها الجزّار. وإذا أراد أن يخرج شيئا منها لحاجته إلى ذلك، تصدّق بثمنه.

ولا يجوز أن يحلق الرّجل رأسه، ولا أن يزور البيت، إلا بعد الذّبح، أو أن يبلغ الهدي محلّه. وهو أن يحصل في رحله

٢٦١

فإذا حصل في رحله بمنى، وأراد أن يحلق، جاز له ذلك. ومتى فعل ذلك ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومن وجبت عليه بدنة في نذر أو كفّارة، ولم يجدها، كان عليه سبع شياه. فإن لم يجد، صام ثمانية عشر يوما إمّا بمكّة أو إذا رجع إلى أهله.

والصّبيّ إذا حجّ به متمتّعا، وجب على وليّه أن يذبح عنه.

ومن لم يتمكّن من شراء هدي، إلّا يبيع بعض ثيابه التي يتجمّل بها، لم يلزمه ذلك، وكان الصوم مجزئا عنه.

ويجزي الهدي عن الأضحيّة. وإن جمع بينهما، كان أفضل. ومن لم يجد الأضحيّة، جاز له أن يتصدّق بثمنها. فإن اختلفت أثمانها، نظر إلى الثّمن الأوّل والثّاني والثّالث، وجمعها ثمَّ يتصدّق بثلثها، وليس عليه شي‌ء.

ومن نذر لله تعالى أن ينحر بدنة، فإن سمّى الموضع الذي ينحرها فيه، وجب عليه الوفاء به، وإن لم يسمّ الموضع، لم يجز له أن ينحرها إلّا بفناء الكعبة. ويكره للإنسان أن يضحّي بكبش قد تولّى تربيته، ويستحبّ أن يكون ذلك ممّا يشتريه.

باب الحلق والتقصير

يستحبّ أن يحلق الإنسان رأسه بعد الذّبح. وإن كان صرورة، لا يجزئه غير الحلق. وإن كان ممّن حجّ حجّة الإسلام، جاز له التّقصير، والحلق أفضل. اللهمّ إلّا أن يكون قد لبّد

٢٦٢

شعره. فإن كان كذلك، لم يجزئه غير الحلق في جميع الأحوال.

ومن ترك الحلق عامدا أو التّقصير إلى أن يزور البيت، كان عليه دم شاة. وإن فعله ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء، وكان عليه إعادة الطّواف. ومن رحل من منى قبل الحلق، فليرجع إليها، ولا يحلق رأسه إلّا بها مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من الرّجوع إليها، فليحلق رأسه في مكانه، ويردّ شعره إلى منى، ويدفنه هناك فإن لم يتمكّن من ردّ الشعر، لم يكن عليه شي‌ء.

والمرأة ليس عليها حلق، ويكفيها من التّقصير مقدار أنملة.

وإذا أراد أن يحلق، فليبدأ بناصيته من القرن الأيمن ويحلق إلى العظمين ويقول إذا حلق: « اللهمّ أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيامة ». ومن لم يكن على رأسه شعر، فليمرّ الموسى عليه. وقد أجزأه. وإذا حلق رأسه، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء والطّيب، إن كان متمتّعا. فإن كان حاجّا غير متمتّع، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف الزّيارة، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف النّساء، حلّت له أيضا النّساء.

ويستحبّ ألا يلبس الثّياب إلّا بعد الفراغ من طواف الزّيارة، وليس ذلك بمحظور. وكذلك يستحبّ ألّا يمسّ الطّيب إلّا بعد الفراغ من طواف النّساء، وإن لم يكن ذلك محظورا على ما قدّمناه.

٢٦٣

باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ من مناسكه بمنى، فليتوجّه إلى مكّة، وليزر البيت يوم النّحر، ولا يؤخره إلّا لعذر. فإن أخّره لعذر، زار من الغد ولا يؤخر أكثر من ذلك. هذا إذا كان متمتّعا. فإن كان مفردا أو قارنا، جاز له أن يؤخر الى أيّ وقت شاء، غير أنّه لا تحلّ له النّساء. وتعجيل الطّواف للقارن والمفرد أفضل من تأخيره.

ويستحبّ لمن أراد زيارة البيت أن يغتسل قبل دخول المسجد والطّواف بالبيت، ويقلّم أظفاره، ويأخذ من شاربه، ثمَّ ثمَّ يزور. ولا بأس أن يغتسل الإنسان بمنى، ثمَّ يجي‌ء إلى مكّة، فيطوف بذلك الغسل بالبيت. ولا بأس أن يغتسل بالنّهار ويطوف بالليل ما لم ينقض ذلك الغسل بحدث أو نوم. فإن نقضه بحدث أو نوم، فليعد الغسل استحبابا، حتّى يطوف وهو على غسل. ويستحبّ للمرأة أيضا أن تغتسل قبل الطّواف.

وإذا أراد أن يدخل المسجد، فليقف على بابه، ويقول: « اللهمّ أعنّي على نسكك » إلى آخر الدّعاء الذي ذكرناه في الكتاب المقدّم ذكره. ثمَّ يدخل المسجد، ويأتي الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله. فإن لم يستطع، استلمه بيده وقبّل يده. فإن لم يتمكّن من ذلك أيضا، استقبله، وكبّر، وقال ما قال حين طاف بالبيت يوم قدم مكّة. ثمَّ يطوف بالبيت أسبوعا كما قدّمنا وصفه

٢٦٤

ويصلّي عند المقام ركعتين. ثمَّ ليرجع الى الحجر الأسود فيقبّله، إن استطاع، ويستقبله ويكبّر. ثمَّ ليخرج إلى الصّفا، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكّة. ثمَّ يأتي المروة، ويطوف بينهما سبعة أشواط، يبدأ بالصّفا ويختم بالمروة.

فإذا فعل ذلك، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء. ثمَّ ليرجع الى البيت، فيطوف به طواف النّساء أسبوعا، يصلّي عند المقام ركعتين، وقد حلّ له النّساء.

وأعلم أنّ طواف النّساء فريضة في الحجّ وفي العمرة المبتولة. وليس بواجب في العمرة التي يتمتّع بها الى الحج. فإن مات من وجب عليه طواف النّساء. كان على وليّه القضاء عنه. وإن تركه وهو حيّ، كان عليه قضاؤه. فإن لم يتمكّن من الرّجوع الى مكّة، جاز له أن يأمر من يتوب عنه. فإذا طاف النّائب عنه، حلّت له النّساء. وطواف النّساء فريضة على النّساء والرّجال والشّيوخ والخصيان، لا يجوز لهم تركه على حال.

فإذا فرغ الإنسان من الطّواف فليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التّشريق إلّا بها. فإن بات في غيرها، كان عليه دم شاة. فإن بات بمكّة ليالي التّشريق، ويكون مشتغلا بالطّواف والعبادة، لم يكن عليه شي‌ء. وإن لم يكن مشتغلا بهما، كان عليه ما ذكرناه، وان خرج من منى بعد نصف اللّيل، جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنّه لا يدخل مكّة إلّا بعد طلوع الفجر. وإن تمكّن ألّا يخرج

٢٦٥

منها إلّا بعد طلوع الفجر، كان أفضل. ومن بات الثّلاث ليال بغير منى متعمّدا، كان عليه ثلاثة من الغنم. والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيّام التّشريق من منى. فإن أراد أن يأتي مكّة للطّواف بالبيت تطوّعا، جاز له ذلك، غير أنّ الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى لرمي الجمار، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيّام: الثّاني من النّحر والثّالث والرّابع، كلّ يوم بإحدى وعشرين حصاة. ويكون ذلك عند الزّوال، فإنّه الأفضل. فإن رماها ما بين طلوع الشمس الى غروبها، لم يكن به بأس.

فإذا أراد أن يرمي، فليبدأ بالجمرة الأولى، فليرمها عن يسارها من بطن المسيل بسبع حصيات يرميهنّ خذفا. ويكبّر مع كلّ حصاة، ويدعوا بالدّعاء الذي قدّمناه. ثمَّ يقوم عن يسار الطّريق ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلّي على النّبيّ وآله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمَّ ليتقدم قليلا ويدعوا ويسأله أن يتقبّل منه. ثمَّ يتقدّم أيضا ويرمي الجمرة الثّانية، ويصنع عندها كما صنع عند الأولى، ويقف ويدعوا، ثمَّ يمضي إلى الثّالثة فيرميها كما رمى الأوليين، ولا يقف عندها.

وإذا غابت الشّمس، ولم يكن قد رمى بعد، فلا يجوز له أن يرمي إلّا في الغد. فإذا كان من الغد، رمى ليومه مرّة، ومرّة قضاء لما فاته، ويفصل بينهما بساعة. وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة، والذي ليومه عند الزّوال. فإن فاته رمي يومين،

٢٦٦

رماها كلّها يوم النّفر، وليس عليه شي‌ء. وقد بينا أنّه لا يجوز الرّمي باللّيل. وقد رخّص للعليل والخائف والرّعاة والعبيد الرّمي باللّيل. ومن نسي رمي الجمار الى أن أتى مكّة، عاد إلى منى، ورماها، وليس عليه شي‌ء. وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه حكم الرّجل سواء.

فإن لم يذكر الى أن يخرج من مكّة، لم يكن عليه شي‌ء. إلّا أنّه إن حجّ في العام المقبل، أعاد ما كان قد فاته من رمي الجمار. وإن لم يحجّ أمر وليّه أن يرمي عنه. فإن لم يكن له وليّ، استعان برجل من المسلمين في قضاء ذلك عنه.

والترتيب واجب في الرّمي. يجب أن يبدأ بالجمرة العظمى ثمَّ الوسطى ثمَّ جمرة العقبة. فمن خالف شيئا منها، أو رماها منكوسة، كان عليه الإعادة. ومن بدأ بجمرة العقبة ثمَّ الوسطى ثمَّ الأولى، أعاد على الوسطى ثمَّ جمرة العقبة وقد أجزأه. فإن نسي فرمى الجمرة الأولى بثلاث حصيات، ورمى الجمرتين الأخريين على التّمام، كان عليه ان يعيد عليها كلّها. وإن كان قد رمى من الجمرة الأولى بأربع حصيات ثمَّ رمى الجمرتين على التّمام، كان عليه أن يعيد على الأولى بثلاث حصيات. وكذلك إن كان قد رمى على الوسطى أقل من أربعة، أعاد عليها وعلى ما بعدها. وإن رماها بأربعة، تمّمها، وليس عليه شي‌ء من الإعادة على الثّالثة. ومن رمى جمرة بست حصيات، وضاعت عنه واحدة،

٢٦٧

أعاد عليها بحصاة، وإن كان من الغد. ولا يجوز له أن يأخذ من حصى الجمار فيرمي بها. ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة، ولم يعلم من أي الجمار هي، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة. فإن رمى بحصاة، فوقعت في محمله، أعاد مكانها حصاة أخرى. فإن أصابت إنسانا أو دابّة، ثمَّ وقعت على الجمرة، فقد أجزأه.

ولا بأس أن يرمي الإنسان راكبا. وإن رمى ماشيا، كان أفضل ولا بأس أن يرمى عن العليل والمبطون والمغمى عليه والصّبيّ.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة. يبدأ بالتّكبير يوم النّحر من بعد الظّهر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّالث من أيّام التّشريق، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات، يبدأ عقيب الظّهر من يوم النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّاني من أيّام التّشريق، ويقول في التّكبير: « الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، والله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

لا بأس أن ينفر الإنسان من منى اليوم الثّاني من أيّام التّشريق وهو اليوم الثّالث من يوم النّحر. فإن أقام إلى النّفر الأخير، وهو اليوم الثّالث من أيّام التّشريق والرّابع من يوم النّحر، كان أفضل. فإن كان ممّن أصاب النّساء في إحرامه أو صيدا، لم يجز له أن

٢٦٨

ينفر في النّفر الأوّل. ويجب عليه المقام الى النّفر الأخير. وإذا أراد أن ينفر في النّفر الأوّل، فلا ينفر إلّا بعد الزّوال، إلّا أن تدعوه ضرورة إليه من خوف وغيره، فإنّه لا بأس أن ينفر قبل الزّوال، وله أن ينفر بعد الزّوال ما بينه وبين غروب الشّمس. فإذا غابت الشّمس، لم يجز له النّفر، وليبت بمنى الى الغد. وإذا نفر في النّفر الأخير، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشّمس أيّ وقت شاء. فإن لم ينفر وأراد المقام بمنى، جاز له ذلك، إلّا الإمام خاصّة، فإنّ عليه أن يصلّي الظّهر بمكّة.

ومن نفر من منى، وكان قد قضى مناسكه كلّها، جاز له أن لا يدخل مكّة. وإن كان قد بقي عليه شي‌ء من المناسك، فلا بدّ له من الرّجوع إليها. والأفضل على كلّ حال الرّجوع إليها لتوديع البيت وطواف الوداع.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان بمسجد منى، وهو مسجد الخيف. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسجده عند المنارة التي في وسط المسجد، وفوقها إلى القبلة نحوا من ثلاثين ذراعا، وعن يمينها وعن يسارها مثل ذلك. فإن استطعت أن يكون مصلّاك فيه، فافعل. ويستحبّ أن يصلّي الإنسان ستّ ركعات في مسجد منى. فإذا بلغ مسجد الحصباء، وهو مسجد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليدخله وليسترح فيه قليلا وليستلق على قفاه.

٢٦٩

فإذا جاء إلى مكّة فليدخل الكعبة، إن تمكّن من ذلك سنّة واستحبابا. والصّرورة لا يترك دخولها على حال مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من ذلك، لم يكن عليه شي‌ء.

فإذا أراد دخول الكعبة فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكّدة. فإذا دخلها، فلا يمتخط فيها، ولا يبصق. ولا يجوز دخولها بحذاء. ويقول إذا دخلها: « اللهمّ إنّك قلت: ومن دخله كان آمنا، فآمنّى من عذابك عذاب النار ».

ثمَّ يصلّي بين الأسطوانتين على الرّخامة الحمراء ركعتين، يقرأ في الأولى منهما « حم السّجدة » وفي الثّانية عدد آياتها، ثمَّ ليصلّ في زوايا البيت كلّها، ثمَّ يقول: « اللهمّ من تهيّأ وتعبّأ » إلى آخر الدّعاء. فإذا صلّى عند الرّخامة على ما قدّمناه، وفي زوايا البيت، قام فاستقبل الحائط بين الرّكن اليمانيّ والغربيّ، ويرفع يديه، ويلتصق به، ويدعوا. ثمَّ يتحوّل الى الرّكن اليمانيّ، فيفعل به مثل ذلك. ثمَّ يأتي الرّكن الغربيّ، ويفعل به أيضا مثل ذلك، ثمَّ ليخرج. ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة مع الاختيار. فإن اضطرّ الى ذلك، لم يكن عليه بأس بالصّلاة فيها. فأمّا النّوافل فالصّلاة فيها مندوب اليه.

فإذا خرج من البيت ونزل عن الدرجة، صلّى عن يمينه ركعتين. فإذا أراد الخروج من مكّة، جاء الى البيت، فطاف به أسبوعا طواف الوداع سنّة مؤكّدة. فإن استطاع أن يستلم الحجر

٢٧٠

والرّكن اليمانيّ في كل شوط، وفعل. وإن لم يتمكّن، افتتح به، وختم به، وقد أجزأه. فإن لم يتمكن من ذلك أيضا، لم يكن عليه شي‌ء. ثمَّ يأتي المستجار، فيصنع عنده كما صنع يوم قدم مكّة. ويتخيّر لنفسه من الدّعاء ما أراد. ثمَّ يستلم الحجر الأسود، ثمَّ يودّع البيت ويقول: « اللهمّ لا تجعله آخر العهد من بيتك » ثمَّ ليأت زمزم فيشرب منه، ثمَّ ليخرج، ويقول: « آئبون تائبون، عابدون، لربّنا حامدون، الى ربّنا راغبون، الى ربّنا راجعون ». فإذا خرج من باب المسجد، فليكن خروجه من باب الحنّاطين. فيخرّ ساجدا، ويقوم مستقبل الكعبة، فيقول: « اللهمّ إني أنقلب على لا إله إلا الله ».

ومن لم يتمكّن من طواف الوداع، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج، لم يكن عليه شي‌ء. فإذا أراد الخروج من مكّة، فليشتر بدرهم تمرا، وليتصدّق به، ليكون كفّارة لما دخل عليه في الإحرام، إن شاء الله.

باب فرائض الحج

فرائض الحجّ: الإحرام من الميقات، والتّلبيات الأربع، والطّواف بالبيت، إن كان متمتّعا، ثلاثة أطواف: طواف للعمرة، وطواف للزيارة، وطواف للنّساء، وإن كان قارنا أو مفردا، طوافان: طواف للحجّ، وطواف للنّساء، ويلزمه مع

٢٧١

كلّ طواف ركعتان عند المقام، وهما أيضا فرضان، والسّعي بين الصّفا والمروة، والوقوف بالموقفين: عرفات والمشعر الحرام وإن كان متمتّعا، كان الهدي أيضا واجبا عليه أو ما يقوم مقامه.

فمن ترك الإحرام متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا حتّى يجوز الميقات، كان عليه أن يرجع إليه، ويحرم منه، إذا تمكّن منه. فإن لم يتمكّن لضيق الوقت أو الخوف أو ما جرى مجراهما من أسباب الضّرورات، أحرم من موضعه وقد أجزأه. فإن كان قد دخل مكّة، وأمكنه الخروج الى خارج الحرم، فليخرج وليحرم منه. فإن لم يستطع ذلك، أحرم من موضعه.

ومن ترك التّلبية متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركها ناسيا، ثمَّ ذكر، فليجدّد التّلبية، وليس عليه شي‌ء.

ومن ترك طواف الزّيارة متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا، أعاد الطّواف أيّ وقت ذكره.

ومن ترك طواف النّساء متعمّدا، لم يبطل حجّة، إلّا أنّه لا تحلّ له النّساء، حتى يطوف عنه حسب ما قدّمناه. وركعتا الطّواف متى تركهما ناسيا، كان عليه قضاءهما حسب ما قدّمناه.

ومن ترك السّعي متعمّدا، فلا حجّ له. فإن تركه ناسيا،

٢٧٢

عليه قضاؤه حسب ما قدّمناه.

ومن ترك الوقوف بعرفات متعمّدا، أو بالمشعر الحرام، فلا حجّ له. فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا، كان عليه أن يعود، فيقف بها ما بينه وبين طلوع الفجر من يوم النّحر. فإن لم يذكر إلّا بعد طلوع الفجر، وكان قد وقف بالمشعر، فقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

وإذا ورد الحاجّ ليلا، وعلم: أنّه مضى الى عرفات، وقف بها وإن كان قليلا، ثمَّ عاد الى المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، وجب عليه المضيّ إليها والوقوف بها، ثمَّ يجي‌ء إلى المشعر الحرام. فإن غلب على ظنّه أنّه إن مضى الى عرفات، لم يلحق المشعر قبل طلوع الشّمس، اقتصر على الوقوف بالمشعر، وقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

ومن أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، فقد أدرك الحجّ. وإن أدركه بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ.

ومن وقف بعرفات، ثمَّ قصد المشعر، فعاقه في الطّريق عائق، فلم يلحق الى قرب الزّوال، فقد تمَّ حجّه، ويقف قليلا بالمشعر ويمضي إلى منى. ومن لم يكن قد وقف بعرفات، وأدرك المشعر بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

ومن فاته الحجّ، فليقم على إحرامه الى انقضاء أيّام

٢٧٣

التّشريق، ثمَّ يجي‌ء، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصّفا والمروة، ويجعل حجّته عمرة. وإن كان قد ساق معه هديا، فلينحره بمكّة وكان عليه الحجّ من قابل إن كانت حجته حجّة الإسلام. وإن كانت حجّة التّطوّع، كان بالخيار: إن شاء حجّ، وإن شاء لم يحجّ. ومن حضر المناسك كلّها ورتّبها في مواضعها. إلّا أنّه كان سكرانا، فلا حجّ له، وكان عليه الحجّ من قابل.

باب مناسك النساء في الحج والعمرة

قد بيّنّا فيما تقدّم من أن الحجّ واجب على النّساء كوجوبه على الرّجال. فمتى كانت المرأة لها زوج، فلا تخرج إلّا معه. فإن منعها زوجها من الخروج في حجّة الإسلام، جاز لها خلافه. ولتخرج، وتحجّ حجّة الإسلام. وإن أرادت أن تحجّ تطوّعا، فمنعها زوجها، فليس لها مخالفته.

وينبغي أن لا تخرج إلّا مع ذي محرم لها من أب أو أخ أو عمّ أو خال. فإن لم يكن لها أحد ممّن ذكرناه. جاز لها أن تخرج مع من تثق بدينه من المؤمنين.

وإذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق، جاز لها أن تخرج في حجّة الإسلام، سواء كان للزّوج عليها رجعة أو لم تكن. وليس لها أن تخرج إذا كانت حجّتها تطوّعا، إلّا أن تكون العدّة

٢٧٤

لزوجها عليها فيها رجعة. فأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها، فلا بأس بها أن تخرج فيها الى الحجّ فرضا كان أو نفلا.

وإذا خرجت المرأة، وبلغت ميقات أهلها، فعليها أن تحرم منه، ولا تؤخره. فإن كانت حائضا، توضّأت وضوء الصّلاة واحتشت واستثفرت وأحرمت، إلّا أنها لا تصلّي ركعتي الإحرام فإن تركت الإحرام ظنّا منها أنّه لا يجوز لها ذلك، وجازت الميقات، كان عليها أن ترجع الى الميقات، فتحرم منه، إذا أمكنها ذلك. فإن لم يمكنها، أحرمت من موضعها. إذا لم تكن قد دخلت مكّة. فإن كانت قد دخلت مكّة، فلتخرج الى خارج الحرم، وتحرم من هناك. فإن لم يمكنها ذلك، أحرمت من موضعها، وليس عليها شي‌ء.

فإذا دخلت المرأة مكّة، وكانت متمتّعة، طافت بالبيت، وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت. وقد أحلّت من كلّ ما أحرمت منه مثل الرّجل سواء.

فإن حاضت قبل الطّواف، انتظرت ما بينها وبين الوقت الذي تخرج الى عرفات. فإن طهرت، طافت وسعت. وإن لم تطهر، فقد مضت متعتها، وتكون حجّة مفردة، تقضي المناسك كلّها ثمَّ تعتمر بعد ذلك عمرة مبتولة. فإن طافت بالبيت ثلاثة أشواط ثمَّ حاضت، كان حكمها حكم من لم يطف. وإذا طافت أربعة أشواط، ثمَّ حاضت، قطعت الطّواف،

٢٧٥

وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وقد تمّت متعتها.

فإذا فرغت من المناسك، وطهرت تمّمت الطّواف. وإن كانت قد طافت الطّواف كلّه، ولم تكن قد صلّت الرّكعتين عند المقام، فلتخرج من المسجد، ولتسع، وتعمل ما قدّمناه من الإحرام بالحجّ وقضاء المناسك، ثمَّ تقضي الرّكعتين إذا طهرت. وإذا طافت بالبيت بين الصّفا والمروة وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وخافت أن يلحقها الحيض فيما بعد، فلا تتمكّن من طواف الزّيارة وطواف النّساء، فجائز لها أن تقدّم الطّوافين معا، والسّعي بين الصّفا والمروة، ثمَّ تخرج فتقضي المناسك كلّها، ثمَّ ترجع الى منزلها.

فإن كانت قد طافت طواف الزّيارة، وبقي عليها طواف النّساء، فلا تخرج من مكّة إلّا بعد أن تقضيه. وإن كانت قد طافت منه أربعة أشواط وأرادت الخروج، جاز لها أن تخرج وإن لم تتمّ الطّواف.

والمستحاضة لا بأس بها أن تطوف بالبيت، وتصلّي عند المقام، وتشهد المناسك كلّها، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة. والفرق بينها وبين الحائض، أنّ الحائض لا يحلّ لها دخول المسجد، فلا تتمكّن من الطّواف، ولا يجوز لها أيضا الصّلاة، والطّواف لا بدّ فيه من الصّلاة، وليس هذا حكم المستحاضة.

٢٧٦

وإذا أرادت الحائض وداع البيت، فلا تدخل المسجد، ولتودّع من أدنى باب من أبواب المسجد، وتنصرف، إن شاء الله.

وإذا كانت المرأة عليلة لا تقدر على الطّواف، طيف بها، وتستلم الأركان والحجر. فإن كان عليها زحمة، فتكفيها الإشارة. ولا تزاحم الرّجال. وإن كان بها علّة تمنع من حملها والطّواف بها، طاف عنها وليّها، وليس عليها شي‌ء. وكذلك إذا كانت عليلة لا تعقل عند الإحرام، أحرم عنها وليّها، وجنّبها ما يجتنب المحرم، وقد تمَّ إحرامها. وليس على النّساء حلق ولا دخول البيت. فإن أرادت دخول البيت، فلتدخله إذا لم يكن هناك زحام. ولا يجوز للمستحاضة دخول البيت على حال.

باب من حج عن غيره

من وجب عليه الحجّ، لا يجوز له أن يحجّ عن غيره إلّا بعد أن يقضي حجّته التي وجبت عليه. فإذا قضاها، جاز له بعد ذلك أن يحجّ عن غيره. ومن ليس له مال يجب عليه الحجّ، جاز له أن يحجّ عن غيره. فإن تمكّن بعد ذلك من المال، كان عليه أن يحجّ عن نفسه، وقد أجزأت الحجّة التي حجّها عمّن حجّ عنه.

وينبغي لمن يحجّ عن غيره أن يذكره في المواضع كلّها،

٢٧٧

فيقول عند الإحرام: اللهمّ ما أصابني من تعب أو نصب أو لغوب فأجر فلان بن فلان، وأجرني في نيابتي عنه. وكذلك يذكره عند التّلبية والطّواف والسّعي وعند الموقفين وعند الذّبح وعند قضاء جميع المناسك، فإن لم يذكره في هذه المواضع، وكانت نيته الحجّ عنه، كان جائزا.

ومن أمر غيره أن يحجّ عنه متمتّعا، فليس له أن يحجّ عنه مفردا ولا قارنا. فإن حجّ عنه كذلك، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. وإن أمره أن يحجّ عنه مفردا أو قارنا، جاز له أن يحجّ عنه متمتّعا، لأنه يعدل الى ما هو الأفضل. ومن أمر غيره أن يحجّ عنه على طريق بعينها، جاز له أن يعدل عن ذلك الطّريق الى طريق آخر. وإذا أمره أن يحجّ عنه بنفسه، فليس له أن يأمر غيره بالنّيابة عنه. فإن جعل الأمر في ذلك اليه، جاز له أن يستنيب غيره فيه. وإذا أخذ حجة عن غيره، لا يجوز له أن يأخذ حجة أخرى، حتى يقضي التي أخذها.

وإذا حجّ عن غيره، فصدّ عن بعض الطّريق، كان عليه ممّا أخذه بمقدار ما بقي من الطّريق. اللهم إلّا أن يضمن الحجّ فيما يستأنف، ويتولّاه بنفسه.

فإن مات النّائب في الحجّ، وكان موته بعد الإحرام ودخول الحرم، فقد سقطت عنه عهدة الحجّ، وأجزأ عمّن حجّ عنه وإن مات قبل الإحرام ودخول الحرم، كان على ورثته، إن

٢٧٨

خلّف في أيديهم شيئا، مقدار ما بقي عليه من نفقة الطّريق. وإذا أخذ حجة، فأنفق ما أخذه في الطّريق من غير إسراف، واحتاج الى زيادة، كان على صاحب الحجّة أن يتمّمه استحبابا. فإن فضل من النّفقة شي‌ء، كان له، وليس لصاحب الحجّة الرّجوع عليه بالفضل. ولا يجوز للإنسان أن يطوف عن غيره وهو بمكّة، إلّا أن يكون الذي يطوف عنه مبطونا لا يقدر على الطّواف بنفسه، ولا يمكن حمله والطّواف به. وإن كان غائبا، جاز أن يطوف عنه.

وإذا حجّ الإنسان عن غيره من أخ له أو أب أو ذي قرابة أو مؤمن، فإن ثواب ذلك يصل الى من حجّ عنه من غير أن ينقض من ثوابه شي‌ء. وإذا حجّ الإنسان عمّن يجب عليه الحجّ بعد موته تطوّعا منه بذلك، فإنّه يسقط عن الميّت بذلك فرض الحجّ.

ومن كان عنده وديعة، فمات صاحبها، وله ورثة، ولم يكن قد حجّ حجّة الإسلام، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يحجّ عنه، ويردّ الباقي على ورثته، إذا غلب على ظنّه أنّ ورثته لا يقضون عنه حجّة الإسلام. فإن غلب على ظنّه أنّهم يتولّون القضاء عنه، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا إلّا بأمرهم.

ولا بأس أن تحجّ المرأة عن الرّجل إذا كانت قد حجّت

٢٧٩

حجّة الإسلام، وكانت عارفة. وإذا لم تكن حجّت حجّة الإسلام، وكانت صرورة، لم يجز لها أن تحجّ عن غيرها على حال.

ولا يجوز لأحد أن يحجّ عن غيره إذا كان مخالفا له في الاعتقاد، اللهمّ إلّا أن يكون أباه، فإنّه يجوز له أن يحجّ عنه.

باب العمرة المفردة

العمرة فريضة مثل الحجّ، لا يجوز تركها. ومن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، سقط عنه فرضها. وإن لم يتمتّع، كان عليه أن يعتمر بعد انقضاء الحجّ، إن أراد، بعد انقضاء أيّام التّشريق، وإن شاء أخّرها إلى استقبال المحرّم. ومن دخل مكّة بالعمرة المفردة في غير أشهر الحجّ، لم يجز له أن يتمتّع بها الى الحجّ. فإن أراد التّمتّع كان عليه تجديد عمرة في أشهر الحجّ. وإن دخل مكّة بالعمرة المفردة في أشهر الحجّ، جاز له أن يقضيها، ويخرج الى بلده أو أيّ موضع شاء. والأفضل له أن يقيم حتى يحجّ، ويجعلها متعة. وإذا دخلها بنيّة التّمتّع، لم يجز له أن يجعلها مفردة، وأن يخرج من مكّة، لأنّه صار مرتبطا بالحجّ. وأفضل العمرة ما كانت في رجب، وهي تلي الحجّ في الفضل.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517