أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت7%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333201 / تحميل: 11877
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الغيبة

وهي: ذِكر المؤمن المُعيّن بما يكره، سَواءً أكان ذلك في خَلقِه، أم خُلُقه، أو مختصّاته.

وليست الغيبة محصورةٌ باللسان، بل تشمل كلّ ما يُشعر باستنقاص الغير، قولاً أو عمَلاً، كنايةً أو تصريحاً.

وقد عرّفها الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً: ( هل تدرون ما الغيبة ؟) قالوا: اللّه ورسوله أعلم.

قال: ( ذِكرُك أخاكَ بما يَكره ).

قيل له: أرأيت إنْ كان في أخي ما أقول ؟ قال: ( إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإنْ لم يكن فيه فقد بهتّه ).

وهي مِن أخسّ السجاياً، وألأم الصفات، وأخطَر الجرائم والآثام، وكفاها ذمّاً أنّ اللّه تعالى شبّه المُغتاب بآكل لحم الميتة، فقال:( يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) ( الحجرات: ١٢).

وقال سُبحانه ناهياً عنها:( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ) ( النساء: ١٤٨ ).

وهكذا جاءت النصوص المتواترة في ذمّها، والتحذير منها:

٢٢١

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( الغيبةُ أسرَع في دين الرجل المسلم مِن الآكلة في جوفه )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام ( مَن روى على مؤمنٍ روايةً يُريد بها شَينه، وهدْم مروّته، ليسقط مِن أعين الناس، أخرجه اللّه عزّ وجل مِن ولايته إلى ولاية الشيطان )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( لا تَغتَب فتُغتَب، ولا تَحفُر لأخيك حُفرة، فتقَع فيها، فإنّك كما تَدين تُدان )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أذاع فاحشةً كان كمبتدئها، ومِن عيّر مؤمناً بشيءٍ لا يموت حتّى يركبه )(٤).

التصامُم عن الغيبة:

وجديرٌ بالعاقل أنْ يترفّع عن مجاراة المغتابين، والاستماع إليهم،

_____________________

(١) البحار م ١٥ كتاب العشرة ص ١٧٧ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ كتاب العشرة ص ١٨٧ عن ثواب الأعمال ومحاسن البرقي وأمالي الصدوق.

(٣) البحار م ١٥ كتاب العشرة ص ١٨٥ عن أمالي الصدوق.

(٤) البحار م ١٥ كتاب العشرة ص ١٨٨ عن ثواب الأعمال ومحاسن البرقي.

٢٢٢

فإنّ المستمع للغيبة صنو المستغيب، وشريكُه في الإثم.

ولا يعفيه مِن ذلك إلاّ أنْ يستنكر الغيبة بلسانه، أو يطوّر الحديث بحديثٍ بريء، أو النفار من مجلس الاغتياب، فإنْ لم يستطع ذلك كلّه، فعليه الإنكار بقلبه، ليأمن جريرة المشاركة في الاغتياب.

قال بعض الحكماء: ( إذا رأيت مَن يغتاب الناس، فاجهد جُهدَك أنْ لا يعرفك، فإنّ أشقى الناس به معارفه ).

وكما يجب التوقّي مِن استماع الغيبة، كذلك يجدر حفظ غَيبة المؤمن، والذب عن كرامته، إذا ما ذُكر بالمزريات، فعن الصادقعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن رَدَّ عن عرض أخيه المسلم وجبَت له الجنّة ألبتّة )(١).

وجدير بالذكر أنّ حُرمة الاغتياب مختصّةٌ بمَن يعتقد الحق، فلا تسري إلى غيره من أهل الضلال.

بواعث الغيبة:

للغيبة بواعثٌ ودوافع أهمّها ما يلي:

١ - العِداء أو الحسَد، فإنّهما أقوى دواعي الاغتياب والتشهير بالمعادي أو المحسود. نكايةً به، وتشّفياً منه.

_____________________

(١) البحار م ١٥ كتاب العشرة ص ١٨٨ عن ثواب الأعمال.

٢٢٣

٢ - الهزل: وهو باعث على ثلب المستغات، ومحاكاته إثارة للضحِك والمجون.

٣ - المباهاة: وذلك بذكرِ مساوئ الغير تشدّقاً ومباهاةً بالترفّع عنها والبراءةِ منها.

٤ - المجاراة: فكثيراً ما يندفع المرء على الاغتياب مجاراةً للأصدقاء والخُلَطاء اللاهين بالغيبة، وخشيةً مِن نفرتهم إذا لم يُحاورهم في ذلك.

مساوئ الغيبة:

مِن أهمّ الأهداف والغايات التي حقّقها الإسلام، وعنى بها عنايةً كبرى، اتّحاد المسلمين وتآزرهم وتآخيهم، ليكونوا المثَل الأعلى في القوّة والمنعة، وسموّ الكرامة، والمجد. وعزّز تلك الغاية السامية بما شرّعه من نُظُم وآداب، لتكون دستوراً خالداً للمسلمين، فحثّهم على ما ينمّي الأُلفة والمودّة، ويوثّق العلائق الاجتماعيّة، ويحقّق التآخي والتآزر، كحُسن الخُلق، وصِدق الحديث، وأداء الأمانة، والاهتمام بشؤون المسلمين، ورعاية مصالحهم العامّة. ونهاهم عن كلّ ما يعكّر صفو القلوب، ويثير الأحقاد والضغائن الموجِبة لتناكر المسلمين، وتقاطعهم كالكذِب، والغش، والخيانة، والسُّخرية.

وحيث كانت الغيبة عاملاً خطيراً، ومِعولاً هدّاماً، في تقويض صرح المجتمع، وإفساد علاقاته الوثيقة، فقد حرّمها الشرع الإسلامي،

٢٢٤

وعدّها مِن كبائر الآثام.

فمن مساوئها: أنّها تبذر سموم البغضة والفُرقة في صفوف المسلمين، فتعكّر صفو المحبّة، وتفصم عُرى الصداقة، وتقطع وشائج القرابة.

وذلك بأنّ الغيبة قد تبلغ المغتاب، وتستثير حَنَقَه على المستغيب، فيثأر منه، ويُبادله الذمّ والقدح، وطالما أثارت الفتَن الخطيرة، والمآسي المحزونة.

هذا إلى مساوئها وآثامها الروحيّة التي أوضحتها الآثار، حيث صرّحت أنّ الغيبة تنقل حسنَات المستغيب يوم القيامة إلى المُستغاب، فإنْ لم يكن له حسَنات طُرِح عليه مِن سيئات المُستغاب، كما جاء عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ( يُؤتى بأحدِكم يوم القيامة، فيُوقف بين يدَيّ اللّه تعالى، ويُدفّع إليه كتابه، فلا يَرى حسَنَاته، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي فإنّي لا أرى فيه طاعتي. فيقول له: إنّ ربَّك لا يضلّ ولا ينسى، ذهَب عملُك باغتياب الناس.

ثمّ يُؤتى بآخر ويُدفع إليه كتابه، فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي، فإنّي ما عمِلت هذه الطاعات، فيقول له: إنّ فلاناً اغتابك فدُفعت حسَناته إليك )(١).

مسوّغات الغيبة:

الغيبة المحرّمة هي ما قُصِد بها استنقاص المؤمن وإذلاله، فإنّ لم

_____________________

(١) جامع السعادات ج ٢ ص ٣٠١.

٢٢٥

يُقصد بها ذلك، وتوقّف عليها غرضٌ وجيه، فلا حُرمة فيها. وإليك ما ذكره العلماء من الموارد المسوّغة للغيبة:

١ - شكاية المتظلّم لإحقاق حقّه عند الحاكم، فيصُحّ نسبة الجناية والظلم إلى الغير في هذه الحالة.

٢ - نُصح المستشير في أمرٍ ما كالتزويج والأمانة، فيحقّ للمستشار أنْ يذكر مثالب المسؤول عنه.

ويصحّ كذلك تحذير المؤمن من صُحبةِ فاسقٍ أو مُضلّ، بذكر مساوئهما مِن الفِسق والضلال، صيانةً له مِن شرّهما وإضلالهما، ويصحّ جرح الشاهد إذا ما سُئل عنه.

٣ - ردّ مَن أدّعى نسَباً مزوّراً.

٤ - القدح في مقالةٍ فاسدة، أو إدعاءٍ باطل شرعاً.

٥ - الشهادة على مقترفي الجرائم والمحارم.

٦ - ضرورة التعريف: وذلك بذكر الألقاب المقيتة، التي يتوقّف عليها تعريف أصحابها، كالأعمش والأعرج ونحوهما.

٧ - النهي عن المنكر: وذلك بذكر مساوئ شخصٍ عند من يستطيع إصلاحه ونهيه عنها.

٨ - غيبة المتجاهر بالفسق كشرب الخمر، ولعب القمار، بشرط الاقتصار على ما يتجاهر به، إذ ليس لفاسقٍ غيبة.

ولا بُدّ للمرء أنْ يستهدف في جميع تلك الموارد السالفة، الغاية النبيلة، والقصد السليم، مِن بواعث الغيبة، ويتجنّب البواعث غير النبيلة، كالعِداء والحسَد ونحوهما.

٢٢٦

علاج الغيبة:

وذلك باتّباع النصائح التالية:

١ - تذكّر ما عرضناه من مساوئ الغيبة، وأخطارها الجسيمة، في دنيا الإنسان وأُخراه.

٢ - الاهتمام بتزكية النفس، وتجميلها بالخُلُق الكريم، وصونها عن معائب الناس ومساوئهم، بدلاً مِن اغتيابهم واستنقاصهم.

قيل لمحمّد بن الحنفيّة: مَن أدّبك ؟ قال:( أدّبني ربّي في نفسي، فما استحسنته مِن أُولي الألباب والبصيرة تبِعتهم به فاستعملته، وما استقبحت من الجُهّال اجتنبته وتركته متنفراً، فأوصلني ذلك إلى كنوز العلم ) (١).

٣ - استبدال الغيبة بالأحاديث الممتعة، والنوادر الشيقة، والقصص الهادفة الطريفة.

٤ - ترويض النفس على صون اللسان، وكفّه عن بوادر الغيبة وقوارصها، وبذلك تخف نوازع الغيبة وبواعثها العارمة.

كفّارة الغيبة:

وسبيلها بعد الندم على اقترافها، والتوبة من آثامها، التودّد إلى

_____________________

(١) سفينة البحار م ١ ص ٣٢٤.

٢٢٧

المُستغاب، واستبراء الذمّة منه، فإنْ صفح وعفى، وإلاّ كان التودّد إليه، والاعتذار منه، مكافئاً لسيّئة الغيبة.

هذا إذا كان المُستغاب حيّاً، ولم يثر الاستيهاب منه غضبه وحقده، فإنْ خيف ذلك، أو كان ميّتاً أو غائباً، فاللازم - والحالة هذه - الاستغفار له، تكفيراً عن اغتيابه، فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( سُئل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما كفّارة الاغتياب ؟ قال: تستغفر اللّه لِمَن اغتبته كلّما ذكرته )(١).

قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( كلّما ذكرته ) أي كلّما ذكرت المُستغاب بالغيبة.

_____________________

(١) البحار م ١٥ كتاب العشرة ص ١٨٤ عن الكافي.

٢٢٨

البهتان

وعلى ذِكر الغيبة يَحسُن الإشارة إلى البُهتان: - وهو اتّهام المؤمن، والتجنّي عليه بما لم يفعله، وهو أشدُّ إثماً وأعظَمُ جُرماً مِن الغيبة، كما قال اللّه عزَّ وجل:

( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) ( النساء: ١١٢ ).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( مَن بَهَت مؤمناً أو مومنة، أو قال فيه ما ليس فيه، أقامَهُ اللّه تعالى يوم القيامة على تلٍّ مِن نار، حتّى يخرج ممّا قاله فيه )(١).

_____________________

(١) سفينة البحار م ١ ص ١١٠ عن عيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

٢٢٩

النميمة

وهي: نقل الأحاديث التي يَكره الناس إفشاءها ونقلها مِن شخصٍِِِ إلى آخر، نكايةً بالمَحكي عنه ووقيعةً به.

والنميمة مِن أبشع الجرائم الخُلقيّة، وأخطرها في حياة الفرد والمجتمع، والنمّام ألأم الناس وأخبثهم، لاتّصافه بالغيبة، والغدْر، والنفاق، والإفساد بين الناس، والتفريق بين الأحبّاء.

لذلك جاء ذمّه، والتنديد في الآيات والأخبار:

قال تبارك وتعالى:

( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) ( القلم: ١٠ - ١٣ ).

والزنيم هو الدعيّ، فظهر مِن الآية الكريمة، أنّ النميمة مِن خلال الأدعياء، وسجايا اللُّقَطاء.

٢٣٠

وقال سُبحانه:( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) ، فالهُمَزَة النمّام واللُّمزة المغتاب.

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال:

( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا اُنبئكم بشراركم. قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء العيب )(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( محرّمةٌ الجنّةُ على العيّابين المشّائين بالنميمة )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام للمنصور: ( لا تقبَل في ذي رحِمك، وأهل الرعاية مِن أهل بيتك، قولَ مَن حرّم اللّه عليه الجنّة، وجعل مأواه النار، فإنّ النمام شاهدُ زُور، وشريكُ إبليس في الإغراءِ بين الناس، فقد قال اللّه تعالى:( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) ( الحُجُرات: ٦ )(٣).

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٤ عن الكافي.

(٣) البحار كتاب العشرة ص ١٩٠ عن أمالي الصدوق.

٢٣١

بواعث النميمة:

للنميمة باعثان:

١ - هتك المحكيّ عنه، والوقيعة به.

٢ - التودّد والتزلّف للمحكيّ له بنمّ الأحاديث إليه.

مساوئ النميمة:

تَجمع النميمة بين رذيلتين خطيرتين: الغيبة والنمِّ، فكلّ نميمةٍ غيبة، وليست كلّ غيبة نميمة، فمساوئها كالغيبة، بل أنكى منها وأشّد، لاشتمالها على إذاعة الأسرار، وهتك المحكيّ عنه، والوقيعة فيه، وقد تسوّل سفك الدماء، واستباحة الأموال، وانتهاك صنوف الحُرُمات، وهدر الكرامات.

كيف تعامل النمّام:

وحيث كان النمّام مِن أخطر المُفسدين، وأشدّهم إساءة وشراً بالناس، فلزِم الحذر منه، والتوقّي مِن كيده وإفساده، وذلك باتّباع النصائح الآتية:

١ - أنْ يُكذَّب النمّام، لِفِسقه وعدم وثاقته، كما قال تعالى:( إِنْ

٢٣٢

جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) ( الحُجُرات: ٦ ).

٢ - أنْ لا يَظنّ بأخيه المؤمن سُوءاً، بمجرّد النمّ عليه، لقوله تعالى:( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) ( الحجرات: ١٢ ).

٣ - أنْ لا تبعثه النميمة على التجسّس والتحقّق عن واقع النمّام، لقوله تعالى:( وَلا تَجَسَّسُوا ) (الحجرات: ١٢).

٤ - أنْ لا ينمّ على النمّام بحكاية نميمته، فيكون نمّاماً ومُغتاباً، في آنٍ واحد.

وقد رُوي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : أنّ رجلاً أتاه يَسعى إليه برجل. فقال: ( يا هذا، نحن نسأل عمّا قُلت، فإنْ كنت صادقاً مَقتْناك، وإنْ كُنت كاذباً عاقبناك، وإنْ شئت أنْ نقيلك أقلناك. قال: أقلني يا أمير المؤمنين )(١).

وعن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال: قلت له: جُعِلتُ فِداك، الرجل مِن إخوتي يَبلُغني عنه الشيء الذي أكره له، فأسأله عنه فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قومٌ ثقات.

فقال لي: ( يا محمّد، كَذِّب سمَعك وبصرك عن أخيك، فإنْ شهد عندك خمسون قسامة، وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم، ولا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه به، وتهدم به مروّته، فتكون من الذين قال اللّه عزَّ وجل:( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ

_____________________

(١) سفينة البحار م ٢ ص ٦١٣.

٢٣٣

الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ( النور: ١٩ )(١).

السعاية:

ومن متممات بحث النميمة (السعاية): وهي أقسى صور النميمة، وأنكاها جريرة وإثماً، إذ تسهدف دمار المسعى به وهلاكه بالنمّ عليه، والسعاية فيه لدى المرهوبين، من ذوي السلطة والسطوة.

وأكثر ضحايا السعاية هم المرموقون من العظماء والأعلام، المحسودون على أمجادهم وفضائلهم، مما يحفز حاسديهم على إذلالهم، والنكاية بهم، فلا يستطيعون سبيلا إلى ذلك، فيكيدونهم بلؤم السعاية، إرضاءا لحسدهم وخبثهم، بيد أنه قد يبطل كيد السعاة، وتخفق سعايتهم، فتعود عليهم بالخزي والعقاب، وعلى المسعي به بالتبجيل والاعزاز.

لذلك كان الساعي من ألأم الناس، وأخطرهم جناية وشرا، كما جاء عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال: شر الناس المثلث؟ قيل: يا رسول الله ومن المثلث؟ قال: الذي يسعى بأخيه إلى السلطان، فيهلك نفسه، ويهلك أخاه، ويهلك السلطان(٢) .

____________________

(١) البحار م ١٥ كتاب العشرة ص ١٨٨ عن ثواب الأعمال للصدوق.

(٢) البحار م ١٥ كتاب العشرة ص ١٩١ عن كتاب الإمامة والتبصرة.

٢٣٤

الفُحش والسَّب والقَذف

الفحش هو: التعبير عمّا يقبح التصريح به، كألفاظ الوقاع، وآلاته ممّا يتلَفّظ به السُّفهاء، ويتحاشاه النُّبلاء، ويعبّرون عنها بالكناية والرمز كاللمس والمس، كناية عن الجُماع.

وهكذا يُكنّي الأُدباء عن ألفاظ ومفاهيم يتفادون التصريح بها لياقةً وأدباً، كالكناية عن الزوجة بالعائلة، وأُمّ الأولاد، وعن التبوّل والتغوط، بقضاء الحاجة، والرمز إلي البرَص والقرْع بالعارض مثلاً، إذ التصريح بتلك الألفاظ والمفاهيم مُستهَجَن عند العُقلاء والعارفين.

وأمّا السبّ فهو: الشتم، نحو ( يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا خائن ) وأمثاله من مصاديق الإهانة والتحقير.

وأمّا القذف: نحو يا منكوح، أو يا ابن الزانية، أو يا زوج الزانية، أو يا أخت الزانية.

وهذه الخصال الثلاث مِن أبشع مساوئ اللسان، وغوائله الخطيرة، التي استنكرها الشرع والعقل، وحذّرت منها الآثار والنصوص.

أمّا الفُحش

فقد قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذمّه: ( إنّ اللّه حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء، قليل الحَياء، لا يُبالي

٢٣٥

ما قال ولا ما قيل له، فإنّك إنْ فتّشته لم تجده إلاّ لِغيِّة، أو شِرك شيطان )، فقيل يا رسول اللّه، وفي الناس شِرك شيطان ؟! فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( أما تقرأ قول اللّه تعالى:( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ ) )( الإسراء: ٦٤ )(١).

المراد بمشاركة الشيطان للناس في الأموال دفعهم على كسبها بالوسائل المحرّمة، وإنفاقها في مجالات الغواية والآثام. وأمّا مشاركته في الأولاد: فبمشاركته الآباء في حال الوقاع إذا لم يُسمُّوا اللّه تعالى عنده، وولد غيِّة أي ولد زنا.

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ مِن شِرار عِباد اللّه مَن تُكرَه مُجالَستُه لِفُحشِه )(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن خاف الناسُ لسانه فهو في النار )(٣).

وقالعليه‌السلام لنفرٍ من الشيعة: ( معاشِر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول )(٤).

وأمّا السبّ

فعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : سَبَابُ المؤمن فُسوق، وقتاله كُفر، وأكل لحمه

_____________________

(١)، (٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ١٦٠ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن أمالي الشيخ الصدوق وأمالي ابن الشيخ الطوسي.

٢٣٦

معصية، وحُرمة ماله كحُرمة دمِه )(١).

وعن أبي الحسن موسىعليه‌السلام في رجُلَين يتسابّان فقال: ( البادئ منهما أظلَم، ووزْره ووزر صاحبه عليه، ما لَم يتعدّ المظلوم )(٢) .

وأمّا القذف

فقد قال الباقرعليه‌السلام : ( ما مِن إنسانٍ يَطعنُ في مؤمنٍ، إلاّ مات بشرِّ ميتة، وكان قَمِناً أنْ لا يرجع إلى خير )(٣).

وكان للإمام الصادقعليه‌السلام صديقٌ لا يكاد يُفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في الحذّائين، ومعه غلام سِندِي يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره، فلمّا نظر في الرابعة قال: يابن الفاعلة أين كنت ؟!

قال الراوي: فرفَع الصادق يدَه فصلَتَ بها جبهة نفسه، ثُمّ قال: سُبحان اللّه تقذف أُمّه !! قد كنت أريتَني أنّ لك ورَعاً، فإذا ليس لك ورَع. فقال: جُعلت فِداك إنّ أُمّه سنديّة مُشركة.

فقال: ( أما علِمت أنّ لكلّ أُمّة نكاحاً، تنَحّ عنّي ).

قال الراوي: فما رأيته يمشي معه، حتّى فرّق بينهما الموت(٤).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٠ عن الكافي والفقيه.

(٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ١٦٠ عن الكافي.

(٤) الوافي ج ٣ ص ١٦١ عن الكافي.

٢٣٧

بواعِث البَذاء

مِن الواضح أنّ تلك المُهاتَرات والقوارص، تنشأ غالِباً عن العِداء، أو الحسَد، أو الغضب، وسُوء الخُلق، وكثيراً ما تنشأ عن فساد التربية، وسُوء الأدَب، باعتياد البَذاء وعدَم التحرّج مِن آثامه ومساوئه.

مساوئ المُهاتَرات:

لا ريبَ أنّ لتِلك المُهاتَرات مِن الفُحش، والسبِّ، والقذْف، أضراراً خطيرة وآثاماً فادحة:

فمن مساوئها: أنّها تُجرّد الإنسان مِن خصائص الإنسانية المهذّبة، وأخلاقها الكريمة، وتَسِمَهُ بالسفالة والوحشيّة.

ومنها: أنّها داعية العِداء والبَغضاء، وإفساد العلاقات الاجتماعيّة، وإيجابها المَقت والمُجافاة مِن أفراد المجتمع.

ومنها: أنّها تعرّض ذويها لسخط اللّه تعالى وعقابه الأليم، كما صوّرته النصوص السالفة.

لذلك جاء التحريض على رعاية اللسان، وصونه عن قوارص البَذاء.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( اللسان سبع إنْ حُلّي عنه عقر ).

وستأتي النصوص المُشعِرة بذلك في بحث الكلِم الطيّب.

٢٣٨

السُّخرية

وهي: محاكاة أقوال الناس، أو أفعالهم، أو صِفاتهم على سبيل استنقاصهم، والضَّحِك عليهم، بألوان المُحاكاة القوليّة والفعليّة.

وقد حرّمها الشرع لإيجابها العِداء، وإثارة البَغضاء، وإفساد العلاقات الودّية بين أفراد المسلمين.

وكيف يجرؤ المرء على السُّخرية بالمؤمن ؟! واستنقاصه، وإعابته، وكلّ فردٍ سِوى المعصوم، لا يخلُوا من معائب ونقائص، ولا يأمن أنْ تجعله عوادي الزمن يوماً ما هدَفاً للسُّخرية والازدراء.

لذلك ندّد القرآن الكريم بالسُّخرية وحذّر منها:

فقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الحُجرات: ١١ ).

وقال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ) ( المطفّفين: ٢٩ - ٣٢ ).

٢٣٩

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن روى على مؤمنٍ روايةً يُريدُ بها شَينه، وهدْم مروّته، ليسقُط مِن أعيُن الناس، أخرجَه اللّه تعالى مِن ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبلُه الشيطان )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تطلبوا عثَرَات المؤمنين، فإنّه مَن تتبّع عثَرَات المؤمنين تَتَبّع اللّه عثَرَاته، ومَن تتبّع اللّه عثَرَاته يفضَحُه ولو في جوف بيته )(٢).

فجديرٌ بالعاقل أنْ ينبذ السُّخرية تحرّجاً مِن آثامها وتوقّياً مِن غوائلها، وأنْ يُقدّر الناس على حسب إيمانهم وصلاحهم، وحُسن طويتهم غاضّاً عن نقائصهم وعيوبهم، كما جاء في الخبَر: ( إنّ اللّه تعالى أخفى أولياءه في عباده، فلا تستصغرنَّ عبداً مِن عباد اللّه، فربَّما كان وليّه وأنت لا تعلم ).

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٣ عن الكافي.

٢٤٠

الكلِم الطيّب

مَن استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعيّة، والأزَمات المعكِّرة لصفو المجتمع، علِم أنّ منشأها في الأغلَب بوادِر اللسان، وتبادل المُهاتَرات الباعثة على توتّر العلائق الاجتماعيّة، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.

مِن أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلِم الطيّب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدَب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع.

فطيبُ الحديث، وحُسنُ المَقال، مِن سِمات النبيل والكمال، ودواعي التقدير والإعزاز، وعوامل الظفَر والنجاح.

وقد دعت الشريعة الإسلاميّة إلى التحلّي بأدَب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً، إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.

قال تعالى:( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) ( الإسراء: ٥٣ ).

وقال سُبحانه:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) ( البقرة: ٨٣ ).

وقال عزّ وجل:( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ

٢٤١

أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ( فُصِّلت: ٣٤ ).

وقال تعالى:( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) ( لقمان: ١٩ ).

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

وقال رجلٌ لأبي الحسنعليه‌السلام : أوصني. فقال: ( احفظ لسانك تعزّ، ولا تمكّن الناس مِن قيادك فتَذِلّ رقبتك )(١).

وجاء رجلٌ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول اللّه، أوصِني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ، ويحَك وهل يُكبّ الناسُ على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم !!)(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام لعبّاد بن كثير البصري الصوفي: ( ويحَك يا عبّاد، غرّك أنّ عُفّ بطنُك وفرجُك، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

إنّه لا يتقبّل اللّه منك شيئاً حتّى تقول قولاً عدْلاً )(٣).

وقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : ( القول الحسَن يثري المال، وينمّي الرزق، وينسئ في الأجل، ويُحبّب إلى الأهل، ويُدخِل الجنّة )(٤).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٤ عن الكافي.

(٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن الخصال أمالي الصدوق.

٢٤٢

ويُنسب للصادقعليه‌السلام هذا البيت:

عوّد لسانَك قول الخير تحظَ به

إنّ اللسان لِما عوّدت معتادُ

وعن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( رحم اللّه عبداً قال خيراً فغنِم، أو سكَت عن سُوءٍ فسلِم )(١).

ونستجلي من تلك النصوص الموجّهة ضرورةَ التمسُّك بأدَب الحديث، وصَون اللسان عن البَذاء، وتعويدَه على الكلِم الطيِّب، والقَول الحسَن.

فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقْعُه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحبُّ، ويَستديم الودّ، ويمنَع نَزْغ الشيطان، في إفساد علائق الصداقة والمودّة.

وفي الأعداء يلطّف مشاعر العِداء، ويُخفّف مِن إساءتهم وكيدهم.

لذلك نجِد العُظماء يرتاضون على ضبط ألسنتهم، وصيانتها مِن العثَرات والفلَتَات.

فقد قيل أنّه اجتمع أربعة ملوك فتكلّموا:

فقال ملك الفُرس:ما ندِمت على ما لم أقُل مرّة، وندِمت على ما قُلت مراراً .

وقال قيصر:أنا على ردِّ ما لم أقُل أقدَر منّي على ردّ ما قُلت .

وقال ملك الصين:ما لَم أتكلّم بكلمةٍ ملكتها، فإذا تكلّمت بها ملكتني .

وقال ملك الهند:العجَب ممّن يتكلّم بكلمةٍ إنْ رُفعت ضرّت، وإنْ

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٨٨، عن كتاب الإمامة والتبصرة.

٢٤٣

لم تُرفَع لم تنفع(١).

وليس شيءٌ أدلّ على غباء الإنسان، وحماقته، مِن الثرثرة، وفضول القول، وبَذاءة اللسان.

فقد مرّ أمير المؤمنين برجلٍ يتكلّم بفضول الكلام، فوقف عليه فقال: ( يا هذا إنّك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك ودَع ما لا يعنيك )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( مَن كثُر كلامه كثُر خطأه، ومَن كثُر خطأه قلّ حياؤه، ومَن قلّ حياؤه قلّ ورَعُه، ومَن قلّ ورَعُه مات قلبُه، ومَن مات قلبُه دخل النار )(٣).

وعن سليمان بن مهران قال: دخلتُ على الصادقعليه‌السلام وعنده نفرٌ مِن الشيعة، فسمعته وهو يقول: ( معاشِر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول )(٤).

وتوقّياً مِن بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثّت النصوص على الصمت، وعفّة اللسان، ليأمن المرء كبوَتَه وعثَرَاته المدمّرة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( الصمتٌ كنزٌ وافر، وزينُ الحليم،

_____________________

(١) مجاني الأدب.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٨٧ عن النهج.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن أمالي الصدوق.

٢٤٤

وسِترُ الجاهل )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( كان أبو ذر يقول: يا مُبتغي العِلم إنّ هذا اللسان مفتاح خيرٍ، ومفتاح شرٍّ، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهَبك ووَرَقِك )(٢).

ونُقِل أنّه اجتمع قس بن ساعدة وأكثَم بن صيفي، فقال أحدُهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم مِن العيوب ؟ فقال: هي أكثر مِن أنْ تُحصَر، وقد وجدت خصلةً إنْ استعملها الإنسان ستَرَت العُيوب كلّها. قال: ما هي ؟ قال: حِفظ اللسان.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

٢٤٥

غوائل الذنوب

إنّ بين الأمراض الصحيّة التي يعانيها الإنسان، وبين الذنوب التي يقترفها شبَهاً قويّاً في نشأتهما، وسُوء مغبّتهما عليه.

فكما تنشأ أغلَب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحيّة التي وضَعها الأطباء، وقايةً وعلاجاً للأبدان، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهيّة، والنُظُم السماويّة، التي شرّعها اللّه تعالى لإصلاح البشَر وإسعادهم.

وكما يختصّ كلّ مرضٍ بأضرارٍ خاصّة، وآثارٍ سيّئة، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المَرَضيّة، كذلك الذنوب، فإنّ لكلّ نوعٍ منها مغبّةً سيّئة، وضرراً فادحاً، وآثاراً خطيرة، تُسبّب للإنسان ألوان المآسي والشقاء.

ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الإساءة والأذى، فإنّ الذنوب أشدّ نكايةً، وأسوأ أثراً من الأمراض، لسهولة معالجة الأجسام، وصعوبة مباشرة النفوس.

لذلك كانت الذنوب سموماً مُهلكة، وجراثيم فاتكة، تعيث في الإنسان فساداً، وتُعرّضه لصُنوف الأخطار والمهالك.

انظر كيف يَعرض القرآن الكريم صوَراً رهيبةً مِن غوائل الذنوب،

٢٤٦

وأخطارها الماحقة في سلسلةٍ مِن آياته الكريمة:

قال تعالى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) ( الإسراء: ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) ( الأنعام: ٦ ).

وقال تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف: ٩٦ ).

وقال تعالى:( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الأنفال: ٥٣ ).

وقال تعالى:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) ( الشورى: ٣٠ ).

وقال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم: ٤١ ).

وهكذا جاءت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مُحَذِّرةً غوائل الذنوب، ومآسيها العامّة، وأوضحَت أنّ ما يُعانيه الفرد والمجتمع، مِن ضروب الأزَمَات، والمِحَن، كشيوع المظالم، وانتشار الأمراض، وشُحّ الأرزاق، كلّ ذلك ناشئ مِن مقارفة الذنوب والآثام، وإليك طرَفاً منها:

عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه

٢٤٧

عليه وآله ): عجِبتُ لِمَن يحتمي مِن الطعام مخافة الدّاء، كيف لا يحتمي مِن الذنوب مخافة النار ؟!!)(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول اللّه تبارك وتعالى: يابن آدم ما تنصفني، أتَحَبّب إليك بالنِّعَم، وتَتَمَقّت إليّ بالمعاصي، خيري عليك مُنزَل، وشرّك إليَّ صاعد، ولا يزال ملَكٌ كريمٌ يأتيني عنك في كلّ يومٍ وليلة بعملٍ قبيحٍ، يابن آدم لو سمِعْت وصفَك مِن غيرك، وأنت لا تعلَم مَن الموصوف، لسارعت إلى مقته )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبِه نكتةً سَوداء، فإنْ تاب انمَحَت، وإنْ زاد زادَت، حتّى تَغلِب على قلبِه فلا يُفلِح بعدها أبداً )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ العبدَ يسأل اللّه الحاجة، فيكون مِن شأنه قضاؤها إلى أجلٍ قريب أو إلى وقتٍ بطيء، فيذنب العبدُ ذنباً، فيقول اللّه تبارك وتعالى للمَلَك: لا تقضِ حاجته، واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخَطي، واستوجَب الحرمان منّي )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كان أبيعليه‌السلام يقول: إنّ اللّه قضى قضاءً حتماً ألاّ يُنعِم على العبدِ بنعمةٍ فيسلُبها إيّاه، حتّى يُحدِث

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٥ عن أمالي الصدوق.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٦ عن عيون أخبار الرضا للصدوق.

(٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

٢٤٨

العبدُ ذنباً يستحقّ بذلك النقمة )(١) .

وقال الرضاعليه‌السلام : ( كلّما أحدَث العِباد مِن الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدَث اللّه لهُم مِن البلاء ما لَم يكونوا يعرفون )(٢).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إذا غضِب اللّه عزّ وجل على أُمّةٍ، ولَم يُنزِل بها العذاب، غلَت أسعارها، وقَصُرت أعمارها، ولَم يربَح تِجّارُها، ولَم تَزكُ ثِمارها، ولم تَغزَر أنهارها، وحُبِس عنها أمطارها، وسلّط عليها شرارها )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( وجدنا في كتاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا ظهر الزنا مِن بعدي كثُر موتُ الفجأة، وإذا طُفِّفَ المِكيال والميزان، أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة، مَنعَتْ الأرضُ برَكَتها مِن الزرع والثمار والمعادن كلّها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوّهم، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهَوا عن المنكر، ولم يتّبعوا الأخيار مِن أهل بيتي، سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يُستجاب لهم )(٤).

وعن المفضّل قال: قال الصادقعليه‌السلام : ( يا مفضل، إيّاك

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن التهذيب والفقيه.

(٤) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

٢٤٩

والذنوب، وحذِّرها شيعتنا، فواللّه ما هي إلى أحدٍ أسرع منها إليكم، إنّ أحدَكم لتُصيبه المَعَرّة مِن السلطان، وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليصيبه السقَم وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُحبَس عنه الرزق وما هو إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُشدّد عليه عند الموت وما هو إلاّ بذنوبه، حتّى يقول مَن حضر: لقد غُمّ بالموت ).

فلمّا رأى ما قد دخلني، قال: ( أتدري لم ذاك يا مفضل ؟ ) قلتُ: لا أدري جُعلت فداك.

قال: ( ذاك واللّه أنّكم لا تؤاخَذون بها في الآخرة، وعُجّلت لكم في الدنيا )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( توقّوا الذنوب، فما مِن بليّةٍ، ولا نقصِ رِزقٍ، إلاّ بذنبٍ، حتّى الخَدْش، والكبوَة، والمصيبة، قال اللّه عزّ وجل:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) )(٢).

وربّما لبّس الشيطان على بعضٍ الأغراء، بأنّ الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة، لأشقّت المنهمكين عليها، السادرين في اقترافه ا، وهُم رَغم ذلك في أرغَد عيش وأسعَدِ حياة.

وخفِيَ عليهم أنّ اللّه عزَّ وجل لا يُعجزه الدرك، ولا يخاف الفوت، وإنّما يُمهِل العُصاة، ويُؤخّر عقابهم، رعايةً لمصالحهم، عسى أنْ يثوبوا إلى الطاعة والرشد، أو يُمهَلَهم إشفاقاً على الأبرياء والضُّعَفاء مِمّن تضرّهم

_____________________

(١) البحار عن علل الشرائع.

(٢) البحار عن الخصال.

٢٥٠

معاجلةُ المذنبين وهُم بُرَءاءُ مِن الذنوب.

أو يُصابِر المجرمين استدراجاً لهم، ليزدادوا طُغياناً وإثماً، فيأخُذهم بالعقاب الصارم، والعذاب الأليم، كما صرّحت بذلك الآيات والروايات.

قال اللّه تعالى:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( آل عمران: ١٧٨ ).

وقال سُبحانه:( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ( فاطر: ٤٥ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أرادَ اللّهُ بعبدٍ خيراً، فأذنَب ذنباً، أتبَعهُ بنقمةٍ، ويُذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبدٍ شراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنعمةٍ، ليُنسيه الاستغفار، ويتمادى بها، وهو قول اللّه تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( القلم: ٤٤ ) بالنِّعَم عند المعاصي )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام : ( إنّ للّه عزّ وجل في كلِّ يومٍ وليلة مُنادِياً يُنادي: مهلاً مهلاً، عبادَ اللّه عن معاصي اللّه، فلولا بهائمٌ رُتّع، وصبيةٌ رُضّع، وشيوخٌ ركّع، لصُبّ عليكم العذاب صبّاً، تُرَضّون به رضّاً )(٢).

وقد يختلِج في الذهن أنّ الأنبياء والأوصياء معصومون مِن اقتراف الذنوب والآثام، فكيف يؤاخذون بها، ويعانون صنوف المِحَن والأرزاء ؟

وتوجيه ذلك: أنّ الذنوب تختلف، وتتفاوَت باختلاف الأشخاص،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

٢٥١

ومبلغ إيمانهم، وأبعاد طاعتهم وعبوديّتهم للّه عزَّ وجل.

فرُبّ متعةٍ بريئة، يتعاطاها فردان: يحسبها الأوّل طيّبةً مباحة، ويحسبُها الثاني جريرةً وذنباً، حيث ألهته عمّا يتعشّقه مِن ذكر اللّه عزّ وجل وعبادته.

وحيث كان الأنبياءعليهم‌السلام هُم المَثل الأعلى في الإيمان باللّه، والتفاني في طاعته والتولّه بعبادته، أعتُبر تركُ الأولى منهم ذنباً وتقصيراً، كما قيل:( حسَنات الأبرار سيّئات المقربّين ) .

هذا إلى أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.

وقد تكون المحن والأرزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتَحن، وجَلَده على طاعة اللّه، ونافذ قَدَرِه ومشيئته، وقد تكون وسيلةً لمضاعفة أجر المبتلى، وجزيل ثوابه، بصبره على تلك المعاناة، وتفويض أمره إلى اللّه عزّ وجل.

٢٥٢

التوبة

لقد عرَفتَ في البحث السابق غوائل الذنوب، وأضرارها الماديّة والروحيّة، والتشابه بينهما وبين الأمراض الجسميّة في فداحتها، وسوء آثارها على الإنسان.

فكما تجدرُ المسارعة إلى عِلاج الجِسم مِن جراثيم الأمراض قبل استفحالها، وضعف الجسم عن مكافحتها، كذلك تجِب المبادرة إلى تصفية النفس، وتطهيرها مِن أوضار الذنوب، ودنَس الآثام، قبل تفاقم غوائلها، وعِسرِ تداركها.

وكما تُعالَج الأمراض الصحيّة بتجرّع العقاقير الكريهة، والاحتماء عن المطاعم الشهيّة الضّارة، كذلك تعالَج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة، والإقلاع عن الشهَوات العارمة، والأهواء الجامحة، ليأمن التائب أخطارها ومآسيها الدنيويّة والأخرويّة.

حقيقة التوبة:

لا تتحقّق التوبة الصادقة النصوح، إلاّ بعد تبلورها، واجتيازها

٢٥٣

أطواراً ثلاثة:

فالطور الأوّل: هو طور يَقظَة الضمير، وشعور المذنب بالأسى والندَم على معصية اللّه تعالى، وتعرّضه لسخَطِه وعِقابه، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى:

الطور الثاني: وهو طور الإنابة إلى اللّه عزَّ وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ عصيانه، فإذا ما أنس بذلك تحوّل إلى:

الطور الثالث: وهو طور تصفية النفس مِن رواسِب الذنوب، وتلافي سيّئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسَنَات، وتلاشي السيّئات، وبذلك تتحقّق التوبة الصادقة النصوح.

وليست التوبةُ هزلاً عابثاً، ولقلقة يتشدَّق بها اللسان، وإنّما هي: الإنابة الصادقة إلى اللّه تعالى، ومجافاة عصيانه بعزمٍ وتصميم قويّين، والمستغفِر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهترٌ كذّاب، كما قال الإمام الرضاعليه‌السلام :

( المُستغفِر مِن ذنبٍ ويفعلُه كالمستهزئ بربِّه ).

فضائل التوبة:

للتوبة فضائل جمّة، ومآثر جليلة، صَوّرها القرآن الكريم، وأعربَت عنها آثار أهل البيتعليهم‌السلام .

وناهيك في فضلها أنّها بلسَمُ الذنوب، وسفينة النجاة، وصمّام الأمن

٢٥٤

مَن سُخطِ اللّه تعالى وعِقابه.

وقد أبَت العناية الإلهيّة أنْ تُهمِل العُصاة يتخبّطون في دياجير الذنوب، ومجاهل العِصيان، دون أنْ يسَعَهم بعطفه السامي، وعفوه الكريم، فشوّقهم إلى الإنابة، ومهّد لهم التوبة، فقال سُبحانه:

( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الأنعام: ٥٤).

وقال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وقال تعالى حاكياً:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ) (نوح: ١٠ - ١٢ ).

وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا تابَ العبد توبةً نصوحاً، أحبّه اللّه تعالى فستَر عليه في الدنيا والآخرة ).

قال الراوي: وكيف يستر اللّه عليه ؟ قال: ( ينسي ملَكَيه ما كَتَبَا عليه مِن الذنوب، ثمّ يُوحي اللّه إلى جوارِحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بِقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك مِن الذنوب، فيَلْقى اللّه تعالى حين يلقاه، وليس شيءٌ يشهدُ

٢٥٥

عليه بشيءٍ مِن الذنوب )(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : التائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له ).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثٍ آخر: ( ليس شيءٌ أحبُّ إلى اللّه مِن مؤمنٍ تائب، أو مؤمنةٍ تائبة )(٢).

وعن أبي عبد اللّه أو عن أبي جعفرعليهما‌السلام قال: ( إنّ آدم قال: يا ربِّ، سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مجرى الدم منّي فاجعل لي شيئاً.

فقال: يا آدم، جعلتُ لك أنّ مَن همّ مِن ذرّيتك بسيّئة لم يُكتَب عليه شيء، فإنْ عملها كُتِبَت عليه سيّئة، ومَن همّ منهم بحسنةٍ فإنْ لم يعملها كُتِبَت له حسنة، فإنْ هو عمِلَها كُتِبت له عشراً.

قال: يا رب زدني. قال: جعلتُ لك أنّ مَن عمِل منهم سيّئة ثمّ استغفرني غفرت له.

قال: يا ربّ، زدني. قال: جَعلتُ لهم التوبة، حتّى يبلغ النفس هذه. قال: يا ربّ حسبي )(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله اللّه سبْعَ ساعات، فإنْ استغفر اللّه لم يُكتَب عليه، وإنْ مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيّئة، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ٩٨ عن عيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٨٤ عن الكافي.

٢٥٦

يستغفر ربّه فيغفر له، وإنّ الكافر لينساه مِن ساعته )(١).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن مؤمنٍ يُقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم: ( أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيّوم، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، وأسأله أنْ يُصلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ، وأنْ يتوب عليّ ) إلاّ غفرها اللّه له، ولا خير فيمن يُقارف في يومه أكثر مِن أربعين كبيرة )(٢).

وجوب التوبة وفوريّتها:

لا ريبَ في وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها:

أمّا العقل: فمن بديهيّاته ضرورة التوقّي والتحرّز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الإنسان وهلاكه. لذلك وجَب التحصّن بالتوبة، والتحرّز بها مِن غوائل الذنوب وآثارها السيّئة، في عاجل الحياة وآجلها.

وأمّا النقل: فقد فرضتها أوامر القرآن والسنّة فرضاً محتّماً، وشوّقت إليها بألوان التشويق والتيسير.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تاب قبل موته بسنة قّبِل اللّه توبته )، ثمّ قال: ( إنّ السنةَ

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٢ عن الكافي.

٢٥٧

لكثير، مَن تاب قبل موتِه بشهرٍ قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الشهرَ لكثير، مَن تاب قبل موتِه بجُمعة قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الجُمعة لكثير، مَن تاب قَبل موته بيومٍ قبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: إنّ يوماً لكثير، مَن تابَ قَبل أنْ يُعايَن قبِل اللّه توبته )(١).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ للّه عزَّ وجل فضولاً مِن رِزقه، يُنحله مَن يشاء مِن خلقه، واللّه باسطٌ يدَيه عند كلّ فجر لمذنبٍ الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يدَيه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له )(٢).

تجديد التوبة:

مِن الناس مَن يهتدي بعد ضلال، ويستقيم بعد انحراف، فيتدارك آثامه بالتوبة والإنابة، مُلبّياً داعي الإيمان، ونِداء الضمير الحُر.

بَيد أنّ الإنسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة، وتسترقّه بأهوائها ومغرياتها، فيُقارف المعاصي مِن جديد، منجَرفاً بتيّارها العَرم ِ، وهكذا يعيش صِراعاً عنيفاً بين العقل والشهَوات، ينتصر عليها تارة، وتنتصر عليه أُخرى، وهكذا دواليك.

وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة خَشية النكول

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ١٠٠ عن ثواب الأعمال للصدوق (ره).

٢٥٨

عنها، فيظلّون سادرين في المعاصي والآثام.

فعلى هؤلاء أنْ يعلموا أنّ الإنسان عرضةً لأغواء الشيطان، وتسويلاته الآثمة، ولا ينجو منها إلاّ المعصومون مِن الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، وأنّ الأجدر بهم إذا ما استزلّهم بخِدَعِه ومغرياته، أنْ يُجدّدوا عهد التوبة والإنابة بنيّةٍ صادقة، وتصميمٍ جازم، فإنْ زاغوا وانحرفوا فلا يُقنطَهم ذلك عن تجديدها كذلك، مُستشعِرين قول اللّه عزّ وجل:

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وهكذا شجّعت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام على تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة، إنقاذاً لصرعى الآثام مِن الانغماس فيها، والانجراف بها، وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة.

فعن محمّد بن مسلم قال: قال الباقرعليه‌السلام : ( يا محمّد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورةٌ له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان ).

قلت: فإنْ عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة.

فقال: ( يا محمّد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثمّ لا يقبل اللّه توبته!! قلتُ: فإنّه فعل ذلك مراراً، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر. فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفورٌ رحيم، يقبل التوبة، ويعفو عن السيّئات،

٢٥٩

فإيّاك أنْ تُقنّط المؤمنين مِن رحمة اللّه تعالى )(١).

وعن أبي بصير قال: ( قلتُ لأبي عبد اللّهعليه‌السلام :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) ( التحريم: ٨ ) ؟ قال: ( هو الذنب الذي لا يعود إليه أبداً ). قلت: وأيّنا لم يعد.

فقال: ( يا أبا محمّد، إنّ اللّه يُحبّ مِن عباده المفتن التوّاب )(٢).

المراد بالمفتن التوّاب: هو مَن كان كثير الذنب كثير التوبة.

ولا بدع أنْ يحبّ اللّه تعالى المفتن التوّاب، فإنّ الإصرار على مقارفة الذنوب، وعدم ملافاتها بالتوبة، دليلٌ صارخٌ على موت الضمير وتلاشي الإيمان، والاستهتار بطاعة اللّه عزّ وجل، وذلك من دواعي سخَطِه وعقابه.

منهاج التوبة:

ولا بدّ للتائب أنْ يعرف أساليب التوبة، وكيفيّة التخلّص مِن تبِعات الذنوب، ومسؤوليّاتها الخطيرة، ليكفّر عن كلّ جريرةٍ بما يلائمها مِن الطاعة والإنابة.

فللذنوب صور وجوانب مختلفة:

منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم، وهي قِسمان: تركُ الواجبات، وفِعل المحرّمات.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517