أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت15%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333205 / تحميل: 11877
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ذلك كالحيوان وأخسّ قيمة، وأسوأ حالاً منه، حيث أمكن ترويضه، وتطوير أخلاقه، فالفرس الجموح يغدو بالترويض سلِس المقاد، والبهائم الوحشيّة تعود داجنة أليفة.

فكيف لا يجدي ذلك في تهذيب الإنسان، وتقويم أخلاقه، وهو أشرف الخَلق، وأسماهم كفاءةً وعقلاً ؟؟

من أجل ذلك فقد تمرض أخلاق الوادع الخَلُوق، ويغدو عبوساً شرِساً منحرفاً عن مثاليته الخُلقيّة، لحدوث إحدى الأسباب التالية:

(١) - الوهن والضعف الناجمان عن مرض الإنسان واعتدال صحّته، أو طروّ أعراض الهرَم والشيخوخة عليه، ممّا يجعله مرهف الأعصاب عاجزاً عن التصبّر، واحتمال مؤون الناس ومداراتهم.

(٢) - الهموم: فإنّها تذهل اللبيب الخَلُوق، وتحرفه عن أخلاقه الكريمة، وطبعه الوادع.

(٣) - الفقر: فإنّه قد يُسبّب تجهّم الفقير وغلظته، أنَفَةً مِن هوان الفقر وألَم الحِرمان، أو حُزناً على زوال نعمته السالفة، وفقد غناه.

(٤) - الغنى: فكثيراً ما يجمح بصاحبه نحو الزهو والتيه والكِبَر والطغيان، كما قال الشاعر:

لقد كشَف الإثراء عنك خلائقاً * من اللؤمِ كانت تحت ثوبٍ من الفقر

(٥) - المنصب: فقد يُحدث تنمّراً في الخُلق، وتطاولاً على الناس، منبعثاً عن ضعة النفس وضعفها، أو لؤم الطبع وخسّته.

(٦) - العزلة والتزمّت: فإنّه قد يُسبّب شعوراً بالخيبة والهوان، ممّا يجعل المعزول عبوساً متجهّماً.

٢١

علاج سوء الخلق:

وحيث كان سُوء الخُلق مِن أسوَأ الخِصال وأخسّ الصفات، فجديرٌ بمَن يرغب في تهذيب نفسه، وتطهير أخلاقه، من هذا الخُلق الذميم، أنْ يتّبع النصائح التالية:

(١) - أنْ يتذكّر مساوئ سُوء الخُلُق وأضراره الفادحة، وأنّه باعِثٌ على سخط اللّه تعالى، وازدراء الناس ونفرتهم، على ما شرحناه في مطلع هذا البحث.

(٢) - أنْ يستعرض ما أسلفناه من فضائل حُسن الخُلق، ومآثره الجليلة، وما ورَد في مدحه، والحثّ عليه، مِن آثار أهل البيتعليهم‌السلام .

(٣) - التريّض على ضبط الأعصاب، وقمع نزَوَات الخُلق السيّئ وبوادره، وذلك بالترّيث في كلّ ما يصدر عنه من قول أو فعل، مستهدياً بقول الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أفضل الجهاد مَن جاهد نفسَه التي بينَ جنبيه ). يتبّع تلك النصائح من اعتلت أخلاقه، ومرضت بدوافع نفسيّة ؤ، أو خُلقيّة. أما مَن ساء خُلقه بأسباب مرضيّة جسميّة، فعلاجه بالوسائل الطبيّبة، وتقوية الصحّة العامّة، وتوفير دواعي الراحة والطمأنينة، وهدوء الأعصاب.

٢٢

الصـدق

وهو: مطابقة القول للواقع، وهو أشرف الفضائل النفسيّة، والمزايا الخُلقيّة، لخصائصه الجليلة، وآثاره الهامّة في حياة الفرد والمجتمع.

فهو زينة الحديث ورواؤه، ورمز الاستقامة والصلاح، وسبب النجاح والنجاة، لذلك مجّدته الشريعة الإسلاميّة، وحرضت عليه، قرآناً وسنةّ.

قال تعالى:( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) . ( الزمر: ٣٣ - ٣٤ )

وقال تعالى:( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) . ( المائدة: ١١٩ )

وقال تعالى:( أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ). ( التوبة: ١١٩ )

وهكذا كرَّم أهلُ البيتعليهم‌السلام هذا الخُلق الرفيع، ودعوا إليه بأساليبهم البليغة الحكيمة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( لا تغترّوا بصلاتهم، ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش، ولكن إختبروهم عند صِدق الحديث، وأداء الأمانة )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٢٣

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( زينةُ الحديث الصدق )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( الزموا الصدق فإنّه منجاة )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن صدَق لسانُه زكى عملُه )(٣).

أي صار عمله ببركة الصدْق زاكياً نامياً في الثواب ؛ لأنّ اللّه تعالى( إنّما يقبل من المتّقين )، والصدق من أبرز خصائص التقوى وأهمّ شرائطه.

مآثر الصدق:

من ضرورات الحياة الاجتماعيّة، ومقوّماتها الأصليّة هي:

شيوع التفاهم والتآزر بين عناصر المجتمع وأفراده، ليستطيعوا بذلك النهوض بأعباء الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، ومن ثُم ليسعدوا بحياة كريمة هانئة، وتعايش سلمي.

وتلك غاياتٌ سامية، لا تتحقّق إلاّ بالتفاهم الصحيح، والتعاون الوثيق، وتبادل الثقة والائتمان بين أولئك الأفراد.

وبديهيّ أنّ اللسان هو أداة التفاهم، ومنطلق المعاني والأفكار، والترجمان المفسّر عمّا يدور في خلَد الناس من مختلف المفاهيم والغايات، فهو يلعب دوراً خطيراً في حياة المجتمع، وتجاوب مشاعره وأفكاره.

_____________________

(١) الإمامة والتبصرة.

(٢) كمال الدين للصدوق.

(٣) الكافي.

٢٤

وعلى صدقه أو كذبه ترتكز سعادة المجتمع أو شقاؤه، فإنْ كان اللسان صادق اللهجة، أميناً في ترجمة خوالِج النفس وأغراضها، أدّى رسالة التفاهم والتواثق، وكان زائد خيرٍ، ورسول محبّةٍ وسلام.

وإنْ كان متّصفاً بالخداع والتزوير، وخيانة الترجمة والإعراب، غدا رائد شرٍّ، ومدعاة تناكر وتباغض بين أفراد المجتمع، ومعول هَدمٍ في كيانه.

من أجل ذلك كان الصدق من ضرورات المجتمع، وحاجاته الملحّة، وكانت له آثاره وانعكاساته في حياة الناس.

فهو نظام المجتمع السعيد، ورمز خلقه الرفيع، ودليل استقامة أفراده ونُبلهم، والباعث القويّ على طيب السمعة، وحُسن الثناء والتقدير، وكسب الثقة والائتمان من الناس.

كما له آثاره ومعطياته في توفير الوقت الثمين، وكسب الراحة الجسميّة والنفسيّة.

فإذا صدق المتبايعون في مبايعاتهم، ارتاحوا جميعاً من عناء المماكسة، وضياع الوقت الثمين في نِشدان الواقع، وتحرّي الصدق.

وإذا تواطأ أرباب الأعمال والوظائف على التزام الصدق، كان ذلك ضماناً لصيانة حقوق الناس، واستتباب أمنهم ورخائهم.

وإذا تحلّى كافّة الناس بالصدق، ودرجوا عليه، أحرزوا منافعه الجمّة، ومغانمه الجليلة.

وإذا شاع الكذِب في المجتمع، وهت قِيَمُه الأخلاقيّة، وساد التبرّم

٢٥

والسخط بين أفراده، وعزَّ فيه التفاهم والتعاون، وغدا عرضةً للتبعثر والانهيار.

أقسام الصدق:

للصدق صوَرٌ وأقسام تتجلّى في الأقوال والأفعال، واليك أبرزها:

(١) - الصدق في الأقوال، وهو: الإخبار عن الشيء على حقيقته من غير تزويرٍ وتمويه.

(٢) - الصدق في الأفعال، وهو: مطابقة القول للفعل، كالبرِّ بالقسَم، والوفاء بالعهد والوعد.

(٣) - الصدق في العزم، وهو: التصميم على أفعال الخير، فإنْ أنجزها كان صادق العزم، وإلاّ كان كاذبه.

(٤) - الصدق في النيّة، وهو: تطهيرها من شوائب الرياء، والإخلاص بها الى اللّه تعالى وحده.

٢٦

الكذِب

وهو: مخالفة القول للواقع. وهو من أبشع العيوب والجرائم، ومصدر الآثام والشرور، وداعية الفضيحة والسقوط. لذلك حرّمته الشريعة الإسلاميّة، ونعت على المتّصفين به، وتوعّدتهم في الكتاب والسنّة:

قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) ( غافر: ٢٨ )

وقال تعالى:( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) ( الجاثية: ٧ )

وقال تعالى:( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) ( النحل:١٠٥ )

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنَّ اللّه جعل للشرِّ أقفالاً، وجعَل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذِِب شرّ مِن الشراب )(١).

وقالعليه‌السلام : ( كان عليّ بن الحسين يقول لولدِه: إتّقوا الكذِب، الصغير منه والكبير، في كلّ جدّ وهزْل، فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير، اجترأ على الكبير، أما عَلِمتم أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ما يزال العبد يصدق حتّى يكتبه اللّه صديّقاً، وما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه اللّه كذّاباً )(٢).

_____________________

(١)، (٢) الكافي.

٢٧

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ الكذب هو خراب الإيمان )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( اعتياد الكذِب يورث الفقر )(٢).

وقال عيسى بن مريمعليه‌السلام : ( من كثُر كذِبه ذهب بهاؤه )(٣).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع: ( قد كثُرت عليَّ الكذّابة وستكثُر، فمَن كذب عليَّ متعمّداً، فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب اللّه وسنّتي، فما وافق كتاب اللّه فخذوا به، وما خالَف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به )(٤).

مساوئ الكذِب:

وإنّما حرّمت الشريعة الإسلاميّة ( الكذب ) وأنذرت عليه بالهوان والعقاب، لما ينطوي عليه من أضرار خطيرة، ومساوئ جمّة، فهو:

(١) - باعث على سوء السمعة، وسقوط الكرامة، وانعدام الوثاقة، فلا يُصدّق الكذّاب وإنْ نطق بالصدق، ولا تقبل شهادته، ولا يوثَق بمواعيده وعهوده.

ومن خصائصه أنّه ينسى أكاذيبه ويختلق ما يُخالفها، وربّما لفّق

_____________________

(١) الكافي.

(٢) الخصال للصدوق.

(٣) الكافي.

(٤) احتجاج الطبرسي.

٢٨

الأكاذيب العديدة المتناقضة، دعماً لكذبة افتراها، فتغدو أحاديثه هذراً مقيتاً، ولغواً فاضحاً.

(٢) - إنّه يضعف ثقة الناس بعضهم ببعض، ويشيع فيهم أحاسيس التوجّس والتناكر.

(٣) - إنّه باعثٌ على تضييع الوقت والجُهد الثمينين، لتمييز الواقع من المزيّف، والصدق من الكذِب.

(٤) - وله فوق ذلك آثار روحيّة سيّئة، ومغبّة خطيرة، نوّهت عنها النصوص السالفة.

دواعي الكذِب:

الكذِب انحراف خُلُقي له أسبابه ودواعيه، أهمّها:

(١) - العادة: فقد يعتاد المرء على ممارسة الكذِب بدافع الجهل، أو التأثّر بالمحيط المتخلّف، أو لضعف الوازع الديني، فيشبّ على هذه العادة السيّئة، وتمتدّ جذورها في نفسه، لذلك قال بعض الحكماء:( من استحلى رضاع الكذِب عسُر فطامه ).

(٢) - الطمع: وهو من أقوى الدوافع على الكذِب والتزوير، تحقيقاً لأطماع الكذّاب، وإشباعاً لنهمه.

(٣) - العِداء والحسَد: فطالما سوّلا لأربابهما تلفيق التُّهَم، وتزويق الافتراءات والأكاذيب، على مَن يُعادونه أو يحسدونه. وقد عانى الصُلَحَاء

٢٩

والنُّبَلاء الذين يترفّعون عن الخوض في الباطل، ومقابلة الإساءة بمثلها - كثيراً من مآسي التُّهَم والافتراءات والأراجيف.

أنواع الكذب:

للكذِب صورٌ شوهَاء، تتفاوت بشاعتها باختلاف أضرارها وآثارها السيّئة، وهي:

الأُولى: اليمين الكاذبة

وهي مِن أبشع صور الكذِب، وأشدّها خطراً وإثماً، فإنّها جنايةٌ مزدوجة: جرأةٌ صارخة على المولى عزَّ وجل بالحِلف به كَذِباً وبُهتاناً، وجريمةٌ نكراء تمحق الحقوق وتهدر الكرامات.

من أجل ذلك جاءت النصوص في ذمّها والتحذير منها:

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إيّاكم واليمين الفاجرة، فإنّها تدَع الديار مِن أهلها بلاقع )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اليمين الصُّبْر الكاذبة، تورث العقب الفقر )(٢).

الثانية: شهادة الزور

وهي كسابقتها جريمة خطيرة، وظلمٌ سافرٌ هدّام، تبعث على غمط الحقوق، واستلاب الأموال، وإشاعة الفوضى في المجتمع، بمساندة

_____________________

(١)، (٢) الكافي.

٣٠

المجرمين على جرائم التدليس والابتزاز.

أنظر كيف تنذر النصوص شهود الزور بالعقاب الأليم:

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدَي الحاكم حتّى يتبوّأ مقعده مِن النار، وكذلك مَن كتم الشهادة )(١).

ونهى القرآن الكريم عنها فقال تعالى:( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (الحجّ: ٣٠ )

أضرار اليمين الكاذبة وشهادة الزور:

وإنّما حرُمت الشريعة الإسلاميّة اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، وتوعّدت عليهما بصنوف الوعيد والإرهاب، لآثارهما السيّئة، وأضرارهما الماحقة، في دين الإنسان ودنياه، من ذلك:

(١) - أنّ مقترف اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، يُسيء إلى نفسه إساءةً كُبرى بتعريضها إلى سخط اللّه تعالى، وعقوباته التي صوّرتها النصوص السالفة.

(٢) - ويُسيء كذلك إلى مَن سانده ومالأه، بالحِلف كذِباً، والشهادة زوراً، حيث شجّعه على بَخس حقوق الناس، وابتزاز أموالهم، وهدر كراماتهم.

_____________________

(١) الكافي، ومن لا يحضره الفقيه.

٣١

(٣) - و يَسيء كذلك إلى مَن اختلق عليه اليمين والشهادة المزوّرتين، بخذلانه وإضاعة حقوقه، وإسقاط معنويّاته.

(٤) - ويسيء إلى المجتمع عامّة بإشاعة الفوضى والفساد فيه، وتحطيم قِيمه الدينيّة والأخلاقيّة.

(٥) - ويسيء إلى الشريعة الإسلاميّة بتحدّيها، ومخالفة دستورها المقدّس، الذي يجب اتّباعه وتطبيقه على كلّ مسلم.

الثالثة: خُلف الوعد

الوفاء بالوعد من الخلال الكريمة التي يزدان بها العقلاء، ويتحلّى بها النُبلاء، وقد نوّه اللّه عنها في كتابه الكريم فقال:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) ( مريم: ٥٤ ).

ذلك أنّ إسماعيلعليه‌السلام وعَد رجلاً، فمكَث في انتظاره سنة كاملة، في مكان لا يُبارحه، وفاءاً بوعده.

وإنّه لمن المؤسف أنْ يشيع خُلف الوعد بين المسلمين اليوم، متجاهلين نتائجه السيّئة في إضعاف الثقة المتبادلة بينهم، وإفساد العلاقات الاجتماعيّة، والإضرار بالمصالح العامّة.

قال الصادقعليه‌السلام : ( عِدة المؤمن أخاه نذرٌ لا كفارة له، فمَن أخلَف فبخُلف اللّه تعالى بدأ، ولمَقتهِ تعرّض، وذلك قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٣٢

وقالعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعَد رجلاً إلى صخرةٍ فقال: أنا لك هاهنا حتّى تأتي. قال: فاشتدّت الشمس عليه، فقال أصحابه: يا رسول اللّه، لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ. فقال: قد وعدته إلى هاهنا، وإنْ لم يجئ كان منه إلى المحشر )(١).

الرابعة: الكذِب الساخر

فقد يستحلي البعض تلفيق الأكاذيب الساخرة، للتندّر على الناس، والسخريّة بهم، وهو لهو عابث خطير، ينتج الأحقاد والآثام.

قال الصادقعليه‌السلام ، ( مَن روى على مؤمنٍ روايةً، يُريد بها شَينه، وهدم مروّته ليَسقط مِن أعيُن الناس، أخرجه اللّه تعالى مِن ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبلُه الشيطان )(٢).

علاج الكذب:

فجديرٌ بالعاقل أنْ يُعالج نفسُه من هذا المرض الأخلاقي الخطير، والخُلُق الذميم، مستهدياً بالنصائح التالية:

(١) - أنْ يتدبّر ما أسلفناه مِن مساوئ الكذِب، وسوء آثاره المادّية والأدبيّة على الإنسان.

(٢) - أن يستعرض فضائل الصدق ومآثره الجليلة، التي نوّهنا

_____________________

(١) علل الشرائع.

(٢) الكافي.

٣٣

عنها في بحثِ الصدْق.

(٣) - أنْ يرتاض على التزام الصدق، ومجانبة الكذِب، والدأب المتواصل على مُمارسة هذه الرياضة النفسيّة، حتّى يبرأ مِن هذا الخُلق الماحق الذميم.

مسوّغات الكذب:

لا شك أنّ الكذِب رذيلةٌ مقيتة حرّمها الشرع، لمساوئها الجمّة، بَيد أنّ هناك ظروفاً طارئة تُبيح الكذِب وتسوّغه، وذلك فيما إذا توقّفت عليه مصلحةٌ هامّة، لا تتحقّق إلاّ به، فقد أجازته الشريعة الإسلامية حينذاك، كإنقاذ المسلم، وتخليصه من القتل أو الأسر، أو صيانة عرضه وكرامته، أو حفظ ماله المحترم، فإنّ الكذِب والحالة هذه واجبٌ إسلاميّ محتّم.

وهكذا إذا كان الكذِبُ وسيلةً لتحقيق غايةٍ راجحة، وهدفٍ إصلاحي، فإنّه آنذاك راجحٌ أو مباح، كالإصلاح بين الناس، أو استرضاء الزوجة واستمالتها، أو مخادعة الأعداء في الحروب.

وقد صرّحت النصوص بتسويغ الكذِب للأغراض السالفة.

قال الصادقعليه‌السلام : ( كلّ كذِبٍ مسؤول عنه صاحبُه يوماً إلاّ في ثلاثة: رجلٌ كايَد في حربِه فهو موضوع عنه، أو رجلٌ أصلَح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى هذا يُريد بذلك الإصلاح فيما بينهما، أو رجلٌ وعَد أهله شيئاً وهو لا يُريد أنْ يتمّ لهم )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٣٤

الحِلْم وكظم الغيظ

وهما: ضبط النفس إزاء مثيرات الغصب، وهما من أشرف السجايا، وأعزّ الخصال، ودليلا سموّ النفس، وكرم الأخلاق، وسببا المودّة والإعزاز.

وقد مدَح اللّه الحُلَماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم في مُحكَم كتابه الكريم.

فقال تعالى:( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) ( الفرقان: ٦٣ ).

وقال تعالى:( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( فصّلت: ٣٤ - ٣٥ ).

وقال تعالى:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (آل عمران: ١٣٤).

وعلى هذا النسق جاءت توجيهات أهل البيتعليهم‌السلام : قال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ اللّه عزَّ وجل يحب الحييّ الحليم )(١).

وسمع أمير المؤمنينعليه‌السلام رجلاً يشتم قنبراً، وقد رام قنبر أنْ يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( مهلاً يا قنبر، دع شاتمك، مُهاناً، تُرضي الرحمن، وتُسخِط الشيطان، وتُعاقب عدوّك، فو الذي فلَق

_____________________

(١) الكافي.

٣٥

الحبّة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخَط الشيطان بمثل الصمت، ولا عُوقِب الأحمق بمثل السكوت عنه )(١).

وقالعليه‌السلام : ( أوّل عِوض الحليم مِن حلمه، أنّ الناس أنصاره على الجاهل )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا وقع بين رجُلين منازعة نزل ملكان، فيقولان للسفيه منهما: قلتَ وقلت، وأنت أهلٌ لما قلت، ستُجزى بما قلت. ويقولان للحليم منهما: صبَرت وحلمت، سيغفر اللّه لك، إنْ أتممت ذلك. قال: فإنْ ردَّ عليه ارتفَع الملَكان )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( ما مِن عبدٍ كظم غيظاً، إلاّ زاده اللّه عزَّ وجل عزّاً في الدنيا والآخرة، وقد قال اللّه عزَّ وجل: ( والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه يحب المحسنين ) وأثابه مكانه غيظه ذلك )(٤).

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ( اصبر على أعداء النعم، فإنّك لنْ تُكافئ مَن عصى الله فيك، بأفضل مِن أنْ تُطيع اللّه فيه )(٥).

وأحضَرعليه‌السلام وِلده يوماً فقال لهم: ( يا بَنِيّ إنّي موصيكم بوصيّةٍ، فمَن حفظها لم يضِع معها، إنْ أتاكم آتٍ فأَسمَعكم في الإذن اليُمنى مكروهاً، ثُم تحوّل إلى الإذن اليُسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً

_____________________

(١) مجالس الشيخ المفيد.

(٢) نهج البلاغة.

(٣)، (٤)، (٥) الكافي.

٣٦

فاقبلوا عذره )(١) .

وقد يحسب السفهاء أنّ الحلم من دلائل الضعف، ودواعي الهوان، ولكنّ العقلاء يرونه من سمات النُبل، وسموّ الخُلُق، ودواعي العزّة والكرامة.

فكلّما عظُم الإنسان قدراً، كرمت أخلاقه، وسمت نفسه، عن مجاراة السفهاء في جهالتهم وطيشهم، معتصماً بالحِلم وكرم الإغضاء، وحُسن العفو، ما يجعله مثار الإكبار والثناء.

كما قيل:

وذي سفه يخاطبني بجهلٍ

فآنف أنْ أكون له مُجيبا

يَزيد سفاهةً وأزيد حِلماً

كعودٍ زاده الإحراق طيبا

ويقال: إنَّ رجلاً شتَم أحد الحكماء، فأمسك عنه، فقيل له في ذلك قال: ( لا أدخل حرباً الغالب فيها أشرّ مِن المغلوب ).

ومِن أروع ما نظمه الشعراء في مدح الحِلم، ما رواه الإمام الرضاعليه‌السلام ، حين قال له المأمون: أنشدني أحسن ما رويت في الحِلم، فقالعليه‌السلام :

إذا كان دوني مَن بُليتُ بجهله

أبَيت لنفسي أنْ تُقابل بالجهل

وإنْ كان مثلي في محلّي مِن النهى

أخذْت بحلمي كي أجلّ عن المثل

وإنْ كنت أدنى منه في الفضل والحِجى

عرفت له حقّ التقدّم والفضل

فقال له المأمون: ما أحسن هذا، هذا مَن قاله ؟ فقال: ( بعض فتياننا )(٢) .

_____________________

(١) كشف الغمّة للأربلي.

(٢) معاني الأخبار، وعيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق.

٣٧

ولقد كان الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الطاهرون من أهل بيته، المثل الأعلى في الحِلم، وجميل الصفح، وحسن التجاوز.

وقد زجَزت أسفار السيَر والمناقب، بالفيض الغمر منها، وإليك نموذجاً من ذلك:

قال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتى باليهوديّة التي سمَت الشاة للنبيّ، فقال لها: ما حمَلَك على ما صنعت ؟ فقالت: قلت: إنْ كان نبيّاً لم يضرّه، وإنْ كان ملَكاً أرحت الناس منه، فعفى رسول اللّه عنه )(١).

وعفىصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جماعةٍ كثيرة، بعد أنْ أباح دمهم، وأمر بقتلهم.

منهم: هبّار بن الأسود بن المطّلب، وهو الذي روّع زينب بنت رسول اللّه، فألقت ذا بطنها، فأباح رسول اللّه دمه لذلك، فروي أنّه اعتذر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من سوء فعله، وقال: وكنا يا نبيّ اللّه أهلَ شِرك، فهدانا اللّه بك، وأنقذنا بك من الهلَكة، فاصفح عن جهلي، وعمّا كان يبلغك عنّي، فإنّي مقرٌّ بسوء فعلي، معترفٌ بذنبي. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك، حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجبُّ ما قبله.

ومنهم: عبد اللّه بن الربعرى، وكان يهجو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة، ويعظم القول فيه، فهرب يوم الفتح، ثّم رجع إلى رسول اللّه

_____________________

(١) الكافي.

٣٨

واعتذر، فقبِلصلى‌الله‌عليه‌وآله عذره.

ومنهم: وحشي قاتل حمزة سلام اللّه عليه، روي أنّه أسلم، قال له النبيّ: ( أَوحشيّ ؟ ) قال: نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمّي ؟ فأخبره، فبكىصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: ( غيّب وجهك عنّي )(١) .

وهكذا كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أحلَم الناس وأصفحهم عن المُسيء:

ظفر بعبد اللّه بن الزبير، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وهُم ألدّ أعدائه، والمؤلّبين عليه، فعفا عنهم، ولم يتعقّبهم بسوء.

وظفَر بعمرو بن العاص، وهو أخطَر عليه مِن جيش ذي عدّة، فأعرض عنه، وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأَته اتّقاءً لضربته.

وحال جند معاوية بينه وبين الماء، في معركة صفّين، وهُم يقولون له ولا قطرة حتّى تموت عطشاً، فلمّا حمل عليهم، وأجلاهم عنه، سوّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده.

وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل، وودعها أكرم وداع، وسار في ركابها أميالاً، وأرسل معها مَن يخدمها ويحفّ بها(٢) .

وكان الحسن بن عليّعليه‌السلام على سرّ أبيه وجدّه صلوات اللّه عليهم أجمعين:

فمن حلمه ما رواه المبرّد، وابن عائشة: أنّ شاميّاً رآه راكباً،

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١.

(٢) عبقريّة الإمام للعقّاد بتصرّف.

٣٩

فجعل يلعنه، والحسن لا يردّ، فلما فرغ، أقبل الحسنعليه‌السلام فسلّم عليه، وضحك، فقال: ( أيّها الشيخ أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإنْ كنت جائعاً أشبعناك، وإنْ كنت عرياناً كسوناك، وإنْ كنت محتاجاً أغنيناك، وإنْ كنت طريداً آويناك، وإنْ كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعوَد عليك ؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً ).

فلمّا سمِع الرجل كلامه بكى، ثُمّ قال: أشهد أنّك خليفة اللّه في أرضه، اللّه أعلَم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللّه إليّ، والآن أنت أحبُّ خلق اللّه إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أنْ ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم(١).

وهكذا كان الحسين بن عليّعليهما‌السلام : جنى غلام للحسينعليه‌السلام جنايةً تُوجِب العقاب عليه، فأمر به أنْ يُضرَب، فقال: يا مولاي، والكاظمين الغيظ. قال: ( خلّوا عنه ). قال: يا مولاي، والعافين عن الناس. قال: ( قد عفوت عنك ). قال: واللّه يحبُّ المحسنين، قال: ( أنت حرٌّ لوجه اللّه، ولك ضعف ما كنت أعطيك )(٢).

وإنّي استقرأت سيرة أهل البيتعليهم‌السلام فوجدتها نمطاً فريداً، ومثلاً عالياً، في دنيا السيَر والأخلاق:

_____________________

(١) البحار مجلّد ٩ ص ٩٥.

(٢) كشف الغمّة للأربلي.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

النقص الحادث في المبيع ، فكذلك عدم المشروط. ولأنّ الإعسار يثبت به فسخ البيع بغير شرطٍ ، ولا يثبت مثل ذلك في الحوالة ، فاختلفا(١) .

ونمنع كون الإعسار لا يردّ الحوالة إذا لم يشترط ، وقد سبق. ونمنع الملازمة بين ثبوته بالشرط وبعدمه ، ونحن لا ندّعي مساواة الحوالة للبيع في جميع أحكامه.

تذنيب : لو كان المحال عليه معسراً ولم يعلم المحتال ثمّ تجدّد اليسار وعلم سبق الفقر ، احتُمل ثبوت الخيار ؛ للاستصحاب‌. وعدمُه ؛ لزوال المقتضي.

مسألة ٦٠٢ : إذا حصلت الحوالة مستجمعة الشرائط ، انتقل المال إلى ذمّة المحال عليه ، وبرئ المحيل‌ ، سواء أبرأه المحتال أو لا - وهو قول عامّة الفقهاء(٢) - لأنّ الحوالة مأخوذة من التحويل للحقّ ، وإنّما يتحقّق هذا المعنى لو انتقل المال من ذمّةٍ إلى أُخرى ، وليس هنا إلّا ذمّة المحيل والمحال عليه ، فإذا تحوّل الحقّ من ذمّة أحدهما إلى الآخَر مع اليسار أو علم الإعسار ، لم يعد الحقّ إليه ؛ لعدم المقتضي.

وقال شيخنارحمه‌الله في النهاية : ومَنْ كان له على غيره مالٌ فأحال به على غيره ، وكان الـمُحال عليه مليّاً به في الحال وقَبِل الحوالة وأبرأه منه ، لم يكن له الرجوعُ عليه ، ضمن ذلك المـُحال به عليه أو لم يضمن بعد أن يكون قد قَبِل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة إلاّ بعد ضمان المـُحال عليه ولم يضمن مَنْ أُحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة الـمُحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة ، فإن انكشف لصاحب المال أنّ الذي أُحيل به عليه غير ملي بالمال ، بطلت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٣ ، المغني ٥ : ٦٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦٢.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

٤٤١

الحوالة ، وكان له الرجوعُ على المديون بحقّه عليه ، ومتى لم يُبرئ الـمُحال له بالمال الـمُحيل في حال ما يُحيله ، كان له أيضاً الرجوعُ عليه في أيّ وقت شاء(١) .

وكان الحسن البصري أيضاً لا يرى الحوالة مبرئةً إلّا أن يُبرئه(٢) .

واحتجّ الشيخرحمه‌الله بما رواه زرارة - في الحسن - عن الصادق أو الباقرعليهما‌السلام : في الرجل يحيل الرجل بمالٍ كان له على رجلٍ [ آخَر ] ، فيقول له الذي احتال : برئت ممّا لي عليك ، قال : « إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه ، وإن لم يُبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله »(٣) .

وهذه الرواية لا بأس بها ؛ لصحّة السند ، لكنّ المشهور عند الأصحاب والعامّة البراءة بمجرّد الحوالة ، فلابدَّ من حمل الرواية على شي‌ء ، وليس ببعيدٍ من الصواب حملها على ما إذا شرط المحيل البراءة ، فإنّه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه ، أو نقول : إذا لم يُبرئه ، فله أن يرجع على الذي أحاله إذا تبيّن له إعساره وقت الحوالة.

النظر الثاني : في الرضا بالحوالة.

مسألة ٦٠٣ : يشترط في الحوالة رضا المحيل - وهو الذي عليه الحقّ - إجماعاً‌ ، فلو أُكره على أن يحيل فأحال بالإكراه ، لم تصحّ الحوالة ، ولا نعرف فيه خلافاً ؛ لأنّ مَنْ عليه الحقّ مخيَّر في جهات القضاء ، فله أن يقضي من أيّ جهة شاء ، فلا يُعيَّن عليه بعض الجهات قهراً ، فلا يلزمه‌

____________________

(١) النهاية : ٣١٦.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٠٤ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢١١ - ٢١٢ / ٤٩٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٤٤٢

أداؤه من جهة الدَّيْن الذي له على المحال عليه ، إلّا في صورةٍ واحدة لا يُعتبر فيها رضا المحيل ، وهي ما إذا جوّزنا الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه لو قال للمستحقّ : أحلت بالدَّيْن الذي لك على فلان على نفسي ، فقَبِل ، صحّت الحوالة ، فإذَنْ لا يشترط هنا رضا المحيل ، بل رضا المحتال والمحال عليه خاصّةً.

مسألة ٦٠٤ : يشترط رضا المحتال عند علمائنا أجمع‌ - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) - لأنّ حقّه ثابت في ذمّة المحيل ، فلا يلزمه نقله إلى ذمّةٍ أُخرى ، إلّا برضاه ، كما أنّه لا يجوز أن يُجبر على أن يأخذ بالدَّيْن عوضاً ، وكما إذا ثبت حقّه في عينٍ ، لا يملك نقله إلى غيرها بغير رضاه. وقال داوُد وأحمد : لا يعتبر رضاه إذا كان المحال عليه مليّاً ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٢) والأمر للوجوب(٣) .

ونحن نمنع الوجوب ، بل المراد به الإرشاد.

مسألة ٦٠٥ : يشترط عندنا رضا المحال عليه‌ ، فلو لم يرض المحال عليه أو لم يُعلم هل رضي أم لا؟ لم تصحّ الحوالة ، وبه قال أبو حنيفة والزهري والمزني(٤) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٢٢٥ ، ضمن ح ٩٦٥٥.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٨ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

٤٤٣

وقال أبو العبّاس ابن القاص : نصّ الشافعي في الإملاء على أنّها تفتقر إلى رضا المحال عليه - وإليه ذهب أبو سعيد الاصطخري من الشافعيّة - لأنّه أحد مَنْ تتمّ به الحوالة ، فأشبه المحتال والمحيل. ولأنّ الناس يختلفون في الاقتضاء والاستيفاء سهولةً وصعوبةً. ولأنّ الأصل بقاء الحقّ في ذمّة المحال عليه للمحيل ، فيستصحب إلى أن يظهر المعارض.

وأصحّ القولين عند الشافعي : أنّه لا يعتبر رضا المحال عليه إذا كانت الحوالة على مَنْ عليه دَيْنٌ للمحيل - وبه قال مالك وأحمد - لأنّ المحيل أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة ، فلم يفتقر إلى رضا مَنْ عليه الحقّ ، كما لو كان وكيلاً في قبضه ، بخلاف المحتال ، فإنّه ينتقل حقّه ، وتبرأ ذمّته منه. ولأنّ المحال عليه محلّ الحقّ والتصرّف ، فلا يعتبر رضاه ، كما لو باع عبداً ، لا يعتبر رضاه(١) .

وبنوا الوجهين على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ إن قلنا بالأوّل ، فلا يشترط ؛ لأنّه حقٌّ للمحيل ، فلا يحتاج فيه إلى رضا الغير. وإن قلنا بالثاني ، يشترط ؛ لتعذّر إقراضه من غير رضاه(٢) .

وإن كانت الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم تصحّ عند الشافعي إلّا برضا المحال عليه ؛ لأنّا لو صحّحناه ، لألزمناه قضاء دَيْن الغير قهراً. وإن رضي ، ففي صحّة الحوالة وجهان بناهما الجمهور على الأصل المذكور(٣)

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، التلقين ٢ : ٤٤٣ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٩ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٤

وسيأتي(١) .

فقد ظهر من هذا الإجماعُ على اعتبار رضا المحيل إلّا في الصورة التي ذكرناها في أوّل النظر ، وأنّ أصحابنا اشترطوا رضا الثلاثة : المحيل والمحتال والمحال عليه.

النظر الثالث : في الدَّيْن.

مسألة ٦٠٦ : إذا أحال زيد عمراً على بكر بألف ، فلا يخلو إمّا أن تكون ذمّة زيدٍ(٢) مشغولةً بالألف لعمرو ، أو لا‌ ، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون بكر بري‌ء الذمّة منها أو مشغولها ، فالأقسام أربعة :

أ - أن تكون ذمّة زيدٍ وبكرٍ مشغولتين ، ولا خلاف هنا في صحّة الحوالة.

ب - قسيم هذا ، وهو أن تكون ذمّتهما بريئةً ، فإذا أحال زيد - وهو بري‌ء الذمّة - عمراً - ولا دَيْن له عليه - على بكر ، وهو بري الذمّة ، لم يكن ذلك إحالةً صحيحة ؛ لأنّ الحوالة إنّما تكون بدَيْنٍ ، وهنا لم يوجد ، بل يكون ذلك وكالةً في اقتراضٍ ، وإنّما جازت الوكالة هنا بلفظ الحوالة ؛ لاشتراكهما في المعنى ، وهو استحقاق الوكيل أن يفعل ما أمره الموكّل من الاقتراض ، وأن يطالبه من المحال عليه ، كما يستحقّ المحتال مطالبة المحال عليه.

ج - أن يكون المحيلُ بري‌ءَ الذمّة والمحالُ عليه مشغولَها ، ( فيحيل‌

____________________

(١) في ص ٤٤٥ ، القسم « د » من الأقسام المذكورة في المسألة ٦٠٦.

(٢) في « ج » : « ذمّته » بدل « ذمّة زيد ».

٤٤٥

مَنْ لا دَيْن عليه مَنْ لا دَيْن له على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ )(١) بقبضه ، فلا يكون ذلك أيضاً حوالةً ؛ لأنّ الحوالة مأخوذة من تحوّل الحقّ وانتقاله ، ولا حقّ [ هاهنا ](٢) ينتقل ويتحوّل ، بل يكون ذلك في الحقيقة وكالةً في الاستيفاء ؛ لاشتراكهما في استحقاق الوكيل مطالبة مَنْ عليه الدَّيْن ، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه ، وتحوّل ذلك إلى الوكيل كتحوّله إلى المحيل.

د - أن يكون المحيل مشغولَ الذمّة والمحالُ عليه برئَ الذمّة.

وفي صحّة هذه الحوالة إشكال أقربه : الصحّة - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه(٣) - لأنّ المحال عليه إذا قَبِلها ، صار كأنّه قضى دَيْن غيره بذمّته ؛ لأنّ الحوالة بمنزلة الحقّ المقبوض ، وإذا قبض حقّاً من غيره ، صحّ وسقط عن غيره ، كذا هنا ، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ فإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تصحّ ؛ لأنّه ليس له على المحال عليه شي‌ء نجعله عوضاً عن حقّ المحتال. وإن قلنا : إنّها استيفاء حقٍّ ، صحّت(٤) ، كأنّه أخذ المحتال حقّه وأقرضه من المحال عليه(٥) .

قال الجويني : الصحيح عندي تخريج الخلاف على الخلاف في أنّه‌

____________________

(١) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : « فيحيل مَنْ لا دَيْن له عليه على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ ». وكذا في « ر » بإسقاط « له » من « لا دَيْن له عليه ».

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع : فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٧٣ و ٧٤ ، وبدائع الصنائع ٦ : ١٦.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « صحّ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٦

هل يصحّ الضمان بشرط براءة الأصيل؟ بل هذه(١) الصورة غير(٢) تلك الصورة ؛ فإنّ الحوالة تقتضي براءة المحيل ، فإذا قَبِل الحوالة ، فقد التزم على أن يُبرئ المحيل(٣) .

وهذا ذهابٌ منه إلى براءة المحيل وجَعْلها أصلاً مفروغاً عنه.

لكن للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يبرأ على قياس الحوالات.

والثاني - وبه قال أكثرهم - : أنّه لا يبرأ ، وقبول الحوالة ممّن لا دَيْن عليه ضمانٌ مجرّد(٤) .

ثمّ فرّعوا فقالوا : إن قلنا : لا تصحّ هذه الحوالة ، فلا شي‌ء على المحال عليه ، فإن تطوّع وأدّاه ، كان كما لو قضى دَيْنَ الغير. وإن قلنا : تصحّ ، فهو كما لو ضمنه ، فيرجع على المحيل إن أدّى بإذنه(٥) .

وكذا إن أدّى بغير إذنه عندنا وعلى أظهر الوجهين عند الشافعيّة(٦) ؛ لجريان الحوالة بإذنه.

وللمحال عليه الرجوع على المحيل هنا قبل الأداء - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٧) - لأنّ المحيل يبرأ ، فينتقل الحقّ إلى ذمّة المحال عليه بمجرّد الحوالة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « هنا » بدل « هذه ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر « عين » بدل « غير ». وفي « ر » : « على غير ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ - ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٧

والثاني : ليس له ذلك بناءً على أنّ المحيل لا يبرأ ، كما أنّ الضامن لا يرجع على المضمون عنه قبل الأداء(١) .

وإذا طالبه المحتال بالأداء ، فله مطالبة المحيل بتخليصه.

وهل له ذلك قبل مطالبة المحتال؟ الأقوى عندي : ذلك.

وللشافعيّة وجهان كالوجهين في مطالبة الضامن(٢) .

ولو أبرأه المحتال ، لم يرجع على المحيل بشي‌ء.

ولو قبضه المحتال ثمّ وهبه منه ، فالأقوى : الرجوع ؛ لأنّه قد غرم عنه ، وإنّما عاد المال إليه بعقدٍ مستأنف.

وللشافعيّة وجهان يُنظر في أحدهما إلى أنّ الغُرْم لم يستقر عليه ، فلم يغرم عنه في الحقيقة شيئاً. وفي الثاني إلى أنّه عاد إليه بتصرّفٍ مبتدأ(٣) .

وهُما مأخوذان من القولين فيما إذا وهبت منه الصداق بعد القبض ثمّ طلّقها قبل الدخول.

ولو ضمن عنه ضامنٌ ، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال المالَ منه أو من ضامنه.

ولو أحال المحتال على غيره ، نُظر إن أحاله على مَنْ عليه دَينٌ ، رجع على محيله بنفس الحوالة ؛ لحصول الأداء بها. وإن أحال على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم يرجع عليه الذي أحاله عليه.

مسألة ٦٠٧ : الأقوى عندي أنّه لا يشترط في الدَّيْن المحال به اللزومُ‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٨

- وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - كما لو أحال بالثمن في مدّة الخيار بأن يحيل المشتري البائعَ على رجلٍ أو يحيل البائع رجلاً على المشتري. ولأنّه صائرٌ إلى اللزوم ، والخيار عارضٌ فيه ، فيعطى حكم اللازم.

والثاني لهم : المنع ؛ لأنّه ليس بلازم(٢) .

وهو مصادرة على المطلوب.

قال بعض الشافعيّة : هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الحوالة معاوضة أو استيفاء؟ إن قلنا معاوضة ، فهي كالتصرّف في المبيع في زمان الخيار. وإن قلنا : استيفاء ، فتجوز(٣) .

قالوا : فإن قلنا بالمنع ، ففي انقطاع الخيار وجهان :

أحدهما : أنّه لا ينقطع ؛ لحكمنا ببطلانه ، وتنزيلنا إيّاه منزلة العدم.

والثاني : نعم ؛ لأنّ التصرّف في عوض العقد يتضمّن الرضا بإبطال الخيار(٤) .

وإن قلنا بالجواز ، لم يبطل الخيار عند بعضهم(٥) .

وقال آخَرون : يبطل ؛ لأنّ قضيّة الحوالة اللزوم ، ولو بقي الخيار لما صادفت الحوالة مقتضاها ، وكانت هذه الحوالة كالحوالة على النجوم(٦) .

والأقوى : بقاء الخيار.

مسألة ٦٠٨ : إذا وقعت الحوالة بالثمن المتزلزل بالخيار ثمّ انفسخ البيع‌

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، الوسيط ٣ : ٢٢٢ - ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩.

(٤ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٤٩

بفسخ صاحب الخيار ، بطل الثمن ، وبطلت الحوالة المترتّبة عليه ، فلو أحال البائع على المشتري بالثمن رجلاً له عليه دَيْنٌ ثمّ فسخ المشتري بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لأنّها فرع البيع ، والبيع قد بطل.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ البيع لم يبطل من أصله ، وإنّما تجدّد له البطلان ، فلا يؤثّر في الحوالة التي جرت منهما.

ولو أحال المشتري البائعَ على غيره ثمّ فسخ البيع بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لترتّبها على البيع ، والبيع قد بطل.

ويُحتمل قويّاً عدم بطلان الحوالة.

وعلى قول الشافعيّة ببطلان الخيار لو أحال المشتري البائعَ على ثالثٍ ، يبطل خيارهما جميعاً ؛ لتراضيهما. ولو أحال البائع رجلاً على المشتري ، لم يبطل خيار المشتري ، إلاّ أن يقبل ويرضى بالحوالة(١) .

مسألة ٦٠٩ : لو أحال زيد على عمرو بكراً بمالٍ فأدّاه عمرو - بعد قبول الثلاثة الحوالة - إلى بكر‌ ، ثمّ جاء عمرو يطالب زيداً بما أدّاه بحوالته إلى بكر ، فادّعى زيد أنّه إنّما أحال بما لَه عليه ، وأنكر عمرو ذلك وأنّه احتال ولا شي‌ء لزيد عليه ، كان القولُ قولَ عمرو ؛ لأصالة براءة ذمّته.

ويُحتمل أن يقال : إن قلنا بصحّة الحوالة على مَنْ لا مال عليه ، كان القولُ قولَ المحال عليه قطعاً. وإن قلنا : إنّها لا تصحّ ، كان القولُ قولَ المحيل ؛ لاعترافهما بالحوالة ، وادّعاء المحال عليه بطلانها ، والأصل الصحّة.

مسألة ٦١٠ : لو أحال السيّد على مكاتَبه بمال النجوم‌ ، فإن كان بعد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٥٠

حلوله ، صحّ ؛ لثبوته في ذمّة المكاتَب. وإن كان قبل الحلول ، فكذلك على الأقوى.

ويجي‌ء على قول الشيخرحمه‌الله المنع(١) ؛ لأنّ مال الكتابة غير واجبٍ - عنده(٢) - على المكاتَب ؛ إذ له أن يُعجّز نفسه ، فله أن يمتنع من أدائه.

وللشافعيّة وجهان فيما إذا أحال السيّد غيره على مكاتَبه بالنجوم.

أحدهما : الجواز - كما قلناه - لأنّ النجوم دَيْنٌ ثابت على المكاتَب ، فأشبه سائر الديون.

وأصحّهما عندهم : المنع ؛ لأنّ النجوم غير لازمة على المكاتَب ، وله إسقاطها متى شاء ، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال(٣) .

وعلى ما اخترناه - من صحّة الحوالة - لو أعتق السيّد عبده المكاتَب ، بطلت الكتابة ، ولم يسقط عن المكاتَب مال الحوالة ؛ لأنّ المال بقبوله الحوالة صار لازماً له للمحتال ، ولا يضمن السيّد ما يغرمه من مال الحوالة.

ولو كان للسيّد عليه دَيْنُ معاملةٍ غير مال الكتابة ، صحّت الحوالة به قطعاً ؛ لأنّ حكمه حكم الأحرار في المداينات.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه مبنيّ على أنّ المكاتَب لو عجّز نفسه ، هل يسقط ذلك الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، لم تصح الحوالة ، وإلّا صحّت(٤) .

والمعتمد ما قلناه ، وهو قول أكثر الشافعيّة وقول أكثر العامّة(٥) .

ولو أحال المكاتَبُ السيّدَ على إنسانٍ بمال الكتابة ، صحّت الحوالة‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٢١.

(٢) الخلاف ٦ : ٣٩٣ ، المسألة ١٧ ، المبسوط - للطوسي - ٦ : ٧٣ و ٨٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ - ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٥) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

٤٥١

عندنا وعند أكثر الشافعيّة وأكثر المانعين من حوالة السيّد عليه بالنجوم(١) ، وتبرأ ذمّة المكاتَب من مال الكتابة ، ويتحرّر ، ويكون ذلك بمنزلة الأداء ، سواء أدّى المحال عليه أو مات مفلساً ؛ لأنّ ما أحاله عليه مستقرّ ، والكتابة لازمة من جهة السيّد ، فمتى أدّى المحال عليه وجب على السيّد القبول أو الإبراء.

وقال بعض الشافعيّة : لا تصحّ هذه الحوالة أيضاً(٢) .

فللشافعيّة إذَنْ ثلاثة أقوال في الجمع بين الصورتين :

أحدها : جواز إحالة المكاتَب بالنجوم ، وإحالة السيّد على النجوم ، وهو قول ابن سريج.

والثاني : منعهما جميعاً.

والثالث : أظهرها عندهم ، وهو : جواز إحالة المكاتَب بها ، ومنع إحالة السيّد عليها(٣) .

ولو أحال السيّد بأكثر مال الكتابة ثمّ أعتقه ، سقط عن المكاتَب الباقي ، ولم تبطل الحوالة.

مسألة ٦١١ : مال الجُعْل في الجُعالة إن استحقّ بالعمل ، صحّت الحوالة به إجماعاً.

وإن لم يشرع في العمل ، فالأقرب : الجواز ؛ لأنّا نجوّز الحوالة على بري‌ء الذمّة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) الوسيط ٣ : ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠.

٤٥٢

وقياس الشافعيّة أنّه يجي‌ء في الحوالة به وعليه الخلافُ المذكور في الرهن به وفي ضمانه(١) .

وقال بعض الشافعيّة : تجوز الحوالة به وعليه بعد العمل ، لا قبله(٢) .

ولو أحال مَنْ عليه الزكاة الساعيَ على إنسانٍ بالزكاة ، جاز ، سواء قلنا : إنّ الحوالة استيفاء أو اعتياض ؛ لأنّه دَيْنٌ ثابت في الذمّة ، فجازت الحوالة.

وعندنا يجوز دفع قيمة الزكاة عن عينها ، فجاز الاعتياض فيها.

أمّا الشافعيّة فإنّهم منعوا من دفع القيمة في الزكاة ومن الاعتياض عنها(٣) ، فهنا قالوا : إن قلنا : إنّ الحوالة استيفاء ، صحّت الحوالة هنا. وإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تجز ؛ لامتناع أخذ العوض عن الزكاة(٤) .

ولو أحال الفقير المديون صاحبَ دَيْنه بالزكاة على مَنْ وجبت عليه ، لم تصح ؛ لأنّها لم تتعيّن له إلّا بالدفع إليه.

ولو قَبِل مَنْ وجبت عليه ، صحّ ، ولزمه الدفع إلى المحتال.

مسألة ٦١٢ : تجوز الحوالة بكلّ مالٍ لازمٍ ثابتٍ في الذمّة معلومٍ‌ ؛ لأنّها إمّا اعتياض ، فلا تصحّ على المجهول ، كما لا يصحّ بيعه ، وإمّا استيفاء ، وإنّما يمكن استيفاء المعلوم ، أمّا المجهول فلا. ولاشتماله على الغرر.

فلو قال : أحلتك بكلّ ما لك عَلَيَّ ، فقَبِل ، لم تصح.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٢) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٥٧ ، المجموع ٥ : ٤٢٨ - ٤٢٩ ، و ٦ : ١٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٦٥ ، المغني ٢ : ٦٧١ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢١.

(٤) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٣

ويحتمل الصحّة ، ويكون على المحال عليه للمحتال كلّ ما تقوم به البيّنة ، كما قلناه في الضمان.

ولا يشترط اتّفاق الدَّيْنين في سبب الوجوب ، فلو كان أحدهما ثمناً والآخَر أُجرةً أو قرضاً أو بدلَ متلفٍ أو أرشَ جنايةٍ وما أشبهه ، جازت الحوالة ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٦١٣ : تصحّ الحوالة بكلّ دَيْنٍ ثابتٍ في الذمّة‌ ، سواء كان مثليّاً ، كالذهب والفضّة والحبوب والأدهان ، أو من ذوات القِيَم ، كالثياب والحيوان وغيرهما - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه حقٌّ لازمٌ ثابتٌ في الذمّة ، فأشبه ما لَه مِثْلٌ.

والثاني : المنع ؛ لأنّ الغرض من الحوالة إيصال الحقّ إلى مستحقّه من غير تفاوتٍ ، وهذا الغرض لا يتحقّق فيما لا مِثْل له ؛ لأنّ المثل لا يتحرّز(٢) ، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف(٣) .

والأوّل أصحّ. والوصول إلى الحقّ قد يكون بالمثل ، وقد يكون بالقيمة ، وكما يجوز إبراء المديون منه بالأداء ، كذا المحال عليه.

ولو كان المال ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه ، ففي جواز الحوالة به إشكال أقربه : الجواز ؛ لأنّ الواجب في الذمّة حينئذٍ القيمة ، وتلك العين لا تثبت في الذمّة ، فلا تقع الحوالة بها ولا بمثلها ؛ لعدمه ، بل بالقيمة.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « لا يتحرّر » بالراءين المهملتين.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٤

ولو كان عليه خمس من الإبل أرش الموضحة مثلاً ، وله على آخَر مثلها ، فأحاله بها ، فالأقرب : الصحّة ؛ لأنّها تنحصر بأقلّ ما يقع عليه الاسم في السنّ والقيمة وسائر الصفات ، وهو أحد قولَي الشافعي(١) .

والثاني : لا تجوز ؛ لأنّ صفاتها مجهولة(٢) .

وهو ممنوع.

وقال بعض الشافعيّة : إذا أحال بإبل الدية وعليها وفرّعنا على جواز الحوالة في المتقوّمات ، فوجهان أو قولان مبنيّان على جواز المصالحة والاعتياض عنها.

والأصحّ عندهم : المنع ؛ للجهل بصفاتها(٣) .

ولو كان الحيوان صداقاً ودخل بها ، جازت الحوالة عند بعض الشافعيّة ؛ لأنّه لا يكون مجهولاً(٤) .

ومَنَعه بعضهم ؛ لأنّه لا تجوز المعاوضة معها(٥) .

النظر الرابع : في تساوي الجنسين.

مسألة ٦١٤ : من مشاهير الفقهاء(٦) وجوب تساوي الدَّيْنين‌ - أعني الدَّيْن الذي للمحتال على المحيل ، والذي للمحيل على المحال عليه - جنساً ووصفاً ، فلو كان له دنانير على شخصٍ فأحال عليه بدراهم ، لم تصحّ ؛ لأنّ الحوالة إن جعلناها استيفاءً ، فلأنّ مستحقّ الدراهم إذا‌

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، ولاحظ : حلية العلماء ٥ : ٣٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٤ و ٥) راجع : التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢.

(٦) بداية المجتهد ٢ : ٣٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦ ، المغني ٥ : ٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٥٥

استوفاها وأقرضها فمحال أن ينتقل حقّه إلى الدنانير.

وإن جعلناها معاوضةً ، فلأنّها وإن كانت معاوضةً فليست هي على حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مالٍ أو زيادة قدرٍ أو صفة ، وإنّما هي معاوضة إرفاقٍ ومسامحة للحاجة ، فاشترط فيها التجانس والتساوي في القدر والصفة ؛ لئلّا يتسلّط على المحال عليه ، كما في القرض.

ولأنّا نجبر المحال عليه عند مَنْ لا يشترط رضاه ، ولا يمكن إجباره مع الاختلاف.

ولأنّ الحوالة لا يُطلب بها الفضل ، ولهذا جازت دَيْناً بدَيْن ، ألا ترى أنّه لا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فلو جوّزنا الإحالة مع الاختلاف في الجنس أو الوصف ، لكان بيعَ الدَّيْن بالدَّيْن.

ومع هذا فقد قال المشترطون للتساوي : إنّه تصحّ الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، والأحرى جواز الإحالة على مَنْ عليه دَيْن مخالف. لكنّ الغرض بقولهم : « إذا تغاير الدَّيْنان جنساً أو وصفاً أو قدراً ، لم تصحّ الحوالة » أنّ الحقّ لا يتحوّل بها من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس ، لكنّها إذا جرت فهي حوالة على مَنْ لا دَيْن له عليه ، وحكمه ما تقدّم(١) .

مسألة ٦١٥ : لو كان عليه إبل من الدية وله على آخَر مثلها قرضاً ، فأحاله صاحب القرض على المقترض بإبل الدية‌ ، فإن قلنا : يردّ في القرض مثلها ، صحّت الحوالة ؛ لأنّه يمكن استيفاء الحقّ على صفته من المحال عليه. ولأنّ الخيرة في التسليم إلى مَنْ عليه الدَّيْن ، وقد رضي بتسليم ما لَه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٦

في ذمّة المقترض ، وهو مثل الحقّ ، فكانت الحوالة صحيحةً.

وإن قلنا : إنّه يردّ في القرض القيمة ، لم تصحّ الحوالة ؛ لاختلاف الجنس.

وكذا ما يثبت في الذمّة قيمته في القرض - كالجواهر واللآلئ وغيرهما ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه - لا تصحّ الحوالة به.

ولو احتال المقرض بإبل الدية ، لم تصح ؛ لأنّا إن قلنا : تجب القيمة في القرض ، فقد اختلف الجنس. وإن قلنا : يجب المثل ، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته ، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك.

مسألة ٦١٦ : يجب تساوي الدَّيْنين في القدر‌ ، فلا يحال بخمسة على عشرة ، ولا بعشرة على خمسة ؛ لما قلنا من أنّ هذا العقد للإرفاق ، ولإيصال كلّ حقٍّ إلى مستحقّه ، ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حطّ شي‌ء.

والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس ، وإلّا فلو كان له عشرة فأحال بخمسة منها ، أو كان له خمسة فأحال بها وبخمسةٍ أُخرى ، فإنّه تصحّ.

وللشافعيّة وجهٌ في الإحالة بالقليل على الكثير : أنّها جائزة ، وكأنّ المحيل تبرّع بالزيادة(١) .

وقال أبو العباس ابن سريج : الحوالة بيع إلّا أنّه غير مبنيّ على المكايسة والمغابنة وطلب الربح والفضل ، بل جُعل رفقاً ، كالقرض ، وإن كان نوعَ معاوضةٍ ، فلا تجوز إلّا مع اتّفاق الجنس جنساً وقدراً وصفةً ، وقد قال الشافعي في كتاب البيوع في باب الطعام قبل أن يستوفى : وإن حلّ عليه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٧

طعام فأحال به على رجل له عليه طعام أسلفه إيّاه ، لم تجز من قِبَل أنّ هذا الطعام لـمّا لم يجز بيعه لم تجز الحوالة به ؛ لأنّه بيع ، وهذا نصٌّ منه(١) .

وقيل : ليست بيعاً(٢) - وهو ما اخترناه نحن أوّلاً - لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ندب إليها ، فقال : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٣) . ولأنّها لا تصحّ بلفظ البيع ، ولا تجوز الزيادة فيها ولا النقصان ، ولما جازت في النقود إلّا مع التقابض في المجلس ، إلّا أنّ هذا القائل لا يجوّز الحوالة بالـمُسْلَم فيه ، وهذا تشمير(٤) لقول مَنْ قال : إنّه بيع.

لا يقال : لو كان بيعاً ، لكان على المحيل تسليمه إلى المحال عليه ؛ لأنّه عوض من جهته ، كما إذا باع شيئاً في يد غيره ، فإنّه يطالبهما به المشتري.

لأنّا نقول : أجاب مَنْ قال : « إنّه بيع » : بأنّه لـمّا استحقّ مطالبة المحال عليه به لم يستحقّ مطالبة المحيل ؛ لأنّه لو استحقّ مطالبتهما ، لكان قد حصل له بالحوالة زيادة في حقّ المطالبة ، وقد ثبت أنّ الحوالة مبنيّة على أنّه لا يستحقّ بها إلّا مثل ما كان يستحقّه ، بخلاف البيع ؛ لأنّه تجوز فيه الزيادة.

وفائدة الاختلاف : ثبوت خيار المجلس إن قلنا : إنّها بيع.

والحقّ ما تقدّم ، والاعتذار باطل ؛ لأنّ تخلّف لازم البيع يقضي بانتفائه.

____________________

(١) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦ ، وراجع : الأُم ٣ : ٧٣.

(٢) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦.

(٣) المصنّف - لابن أبي شيبة - ٧ : ٧٩ / ٢٤٤٥.

(٤) التشمير : التقليص والإرسال. لسان العرب ٤ : ٤٢٨ « شمر ».

٤٥٨

مسألة ٦١٧ : الأقرب : أنّه لا يشترط تساوي المالَيْن في الحلول والتأجيل‌ ، فيجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّ للمحيل أن يُعجّل ما عليه ، فإذا أحال به على الحالّ فقد عجّل.

وكذا يجوز أن يحيل بالحالّ على المؤجَّل.

ثمّ إن رضي المحال عليه بالدفع معجَّلاً ، جاز ، وإلاّ لم يجز ، ووجب على المحتال الصبر ، كما لو احتال مؤجّلاً.

وللشافعيّة قولان :

أصحّهما عندهم : أنّه يشترط التساوي في الحلول والتأجيل ؛ إلحاقاً للوصف بالقدر.

والثاني : أنّه يجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز العكس ؛ لأنّ حقّ المحتال حالٌّ ، وتأجيل الحالّ لا يلزم(١) .

ونحن نمنع عدم اللزوم مطلقاً ، بل إذا تبرّع به ، لم يلزم ، أمّا إذا شرطه في عقدٍ لازم ، فإنّه يلزم ، والحوالة عقد لازم ، والمحيل إنّما أحال بالمؤجَّل ، والمحال عليه إنّما قَبِل على ذلك ، فلم يكن للمحتال الطلبُ معجَّلاً.

فروع :

أ - لو كان الدَّيْنان مؤجَّلين ، فإن تساويا في الأجل ، صحّت الحوالة قطعاً.

وإن اختلفا ، صحّت عندنا أيضاً.

وللشافعيّة وجهان بناءً على الوجهين في الحالّ والمؤجَّل ، فإن منعناه هناك ، منعناه هنا. وإن جوّزناه هناك ، جاز هنا على حدّ ما جاز هناك على معنى أنّه يجوز أن يحال بالأبعد على الأقرب ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٩

العكس ؛ لأنّه تأجيل الحالّ(١) .

ب - لو كان أحدهما صحيحاً والآخَر مكسَّراً‌ ، قالت الشافعيّة : لم تجز الحوالة بينهما على الوجه الأوّل ، وعلى الثاني يحال بالمكسَّر على الصحيح ، ويكون المحيل متبرّعاً بصفة الصحّة ، ولا يحال بالصحيح على المكسَّر ، إلَّا إذا كان المحتال تاركاً لصفة الصحّة ، ويرضى بالمكسَّرة رشوةً ليحيله المحيل.

ج - يُخرّج على هذا الخلاف عندهم حوالة الأردأ على الأجود في كلّ جنسٍ ، وبالعكس‌(٢) .

والأقرب عندي : جواز ذلك كلّه.

د - لو أدّى المحال عليه الأجود إلى المحتال ، وجب القبول‌. وكذا الصحيح عوض المكسَّر.

أمّا تعجيل المؤجَّل فلا يُجبر عليه ، خلافاً للشافعيّة ، فإنّهم أوجبوه(٣) ، حيث يجبر المستحقّ على القبول(٤) .

وهذا يتفرّع على الصحيح في أنّ المديون إذا جاء بأجود ممّا عليه من ذلك النوع ، يُجبر المستحقّ على قبوله ، ولا يكون ذلك معاوضةً؟(٥) .

ه- لو كان الدَّيْنان حالَّيْن فشرط في الحوالة أنّ المحتال يقبض حقّه أو بعضه بعد شهرٍ ، صحّ عندنا‌ - خلافاً لأحمد(٦) - لعموم قولهعليه‌السلام :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ - ١٣٢.

(٣) في النسخ الخطّيّة : « جوّزوه » بدل « أوجبوه ».

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٢.

(٦) المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517