أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت15%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333443 / تحميل: 11883
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الكلِم الطيّب

مَن استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعيّة، والأزَمات المعكِّرة لصفو المجتمع، علِم أنّ منشأها في الأغلَب بوادِر اللسان، وتبادل المُهاتَرات الباعثة على توتّر العلائق الاجتماعيّة، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.

مِن أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلِم الطيّب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدَب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع.

فطيبُ الحديث، وحُسنُ المَقال، مِن سِمات النبيل والكمال، ودواعي التقدير والإعزاز، وعوامل الظفَر والنجاح.

وقد دعت الشريعة الإسلاميّة إلى التحلّي بأدَب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً، إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.

قال تعالى:( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) ( الإسراء: ٥٣ ).

وقال سُبحانه:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) ( البقرة: ٨٣ ).

وقال عزّ وجل:( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ

٢٤١

أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ( فُصِّلت: ٣٤ ).

وقال تعالى:( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) ( لقمان: ١٩ ).

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

وقال رجلٌ لأبي الحسنعليه‌السلام : أوصني. فقال: ( احفظ لسانك تعزّ، ولا تمكّن الناس مِن قيادك فتَذِلّ رقبتك )(١).

وجاء رجلٌ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول اللّه، أوصِني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ، ويحَك وهل يُكبّ الناسُ على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم !!)(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام لعبّاد بن كثير البصري الصوفي: ( ويحَك يا عبّاد، غرّك أنّ عُفّ بطنُك وفرجُك، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

إنّه لا يتقبّل اللّه منك شيئاً حتّى تقول قولاً عدْلاً )(٣).

وقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : ( القول الحسَن يثري المال، وينمّي الرزق، وينسئ في الأجل، ويُحبّب إلى الأهل، ويُدخِل الجنّة )(٤).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٤ عن الكافي.

(٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن الخصال أمالي الصدوق.

٢٤٢

ويُنسب للصادقعليه‌السلام هذا البيت:

عوّد لسانَك قول الخير تحظَ به

إنّ اللسان لِما عوّدت معتادُ

وعن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( رحم اللّه عبداً قال خيراً فغنِم، أو سكَت عن سُوءٍ فسلِم )(١).

ونستجلي من تلك النصوص الموجّهة ضرورةَ التمسُّك بأدَب الحديث، وصَون اللسان عن البَذاء، وتعويدَه على الكلِم الطيِّب، والقَول الحسَن.

فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقْعُه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحبُّ، ويَستديم الودّ، ويمنَع نَزْغ الشيطان، في إفساد علائق الصداقة والمودّة.

وفي الأعداء يلطّف مشاعر العِداء، ويُخفّف مِن إساءتهم وكيدهم.

لذلك نجِد العُظماء يرتاضون على ضبط ألسنتهم، وصيانتها مِن العثَرات والفلَتَات.

فقد قيل أنّه اجتمع أربعة ملوك فتكلّموا:

فقال ملك الفُرس:ما ندِمت على ما لم أقُل مرّة، وندِمت على ما قُلت مراراً .

وقال قيصر:أنا على ردِّ ما لم أقُل أقدَر منّي على ردّ ما قُلت .

وقال ملك الصين:ما لَم أتكلّم بكلمةٍ ملكتها، فإذا تكلّمت بها ملكتني .

وقال ملك الهند:العجَب ممّن يتكلّم بكلمةٍ إنْ رُفعت ضرّت، وإنْ

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٨٨، عن كتاب الإمامة والتبصرة.

٢٤٣

لم تُرفَع لم تنفع(١).

وليس شيءٌ أدلّ على غباء الإنسان، وحماقته، مِن الثرثرة، وفضول القول، وبَذاءة اللسان.

فقد مرّ أمير المؤمنين برجلٍ يتكلّم بفضول الكلام، فوقف عليه فقال: ( يا هذا إنّك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك ودَع ما لا يعنيك )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( مَن كثُر كلامه كثُر خطأه، ومَن كثُر خطأه قلّ حياؤه، ومَن قلّ حياؤه قلّ ورَعُه، ومَن قلّ ورَعُه مات قلبُه، ومَن مات قلبُه دخل النار )(٣).

وعن سليمان بن مهران قال: دخلتُ على الصادقعليه‌السلام وعنده نفرٌ مِن الشيعة، فسمعته وهو يقول: ( معاشِر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول )(٤).

وتوقّياً مِن بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثّت النصوص على الصمت، وعفّة اللسان، ليأمن المرء كبوَتَه وعثَرَاته المدمّرة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( الصمتٌ كنزٌ وافر، وزينُ الحليم،

_____________________

(١) مجاني الأدب.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٨٧ عن النهج.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن أمالي الصدوق.

٢٤٤

وسِترُ الجاهل )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( كان أبو ذر يقول: يا مُبتغي العِلم إنّ هذا اللسان مفتاح خيرٍ، ومفتاح شرٍّ، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهَبك ووَرَقِك )(٢).

ونُقِل أنّه اجتمع قس بن ساعدة وأكثَم بن صيفي، فقال أحدُهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم مِن العيوب ؟ فقال: هي أكثر مِن أنْ تُحصَر، وقد وجدت خصلةً إنْ استعملها الإنسان ستَرَت العُيوب كلّها. قال: ما هي ؟ قال: حِفظ اللسان.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

٢٤٥

غوائل الذنوب

إنّ بين الأمراض الصحيّة التي يعانيها الإنسان، وبين الذنوب التي يقترفها شبَهاً قويّاً في نشأتهما، وسُوء مغبّتهما عليه.

فكما تنشأ أغلَب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحيّة التي وضَعها الأطباء، وقايةً وعلاجاً للأبدان، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهيّة، والنُظُم السماويّة، التي شرّعها اللّه تعالى لإصلاح البشَر وإسعادهم.

وكما يختصّ كلّ مرضٍ بأضرارٍ خاصّة، وآثارٍ سيّئة، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المَرَضيّة، كذلك الذنوب، فإنّ لكلّ نوعٍ منها مغبّةً سيّئة، وضرراً فادحاً، وآثاراً خطيرة، تُسبّب للإنسان ألوان المآسي والشقاء.

ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الإساءة والأذى، فإنّ الذنوب أشدّ نكايةً، وأسوأ أثراً من الأمراض، لسهولة معالجة الأجسام، وصعوبة مباشرة النفوس.

لذلك كانت الذنوب سموماً مُهلكة، وجراثيم فاتكة، تعيث في الإنسان فساداً، وتُعرّضه لصُنوف الأخطار والمهالك.

انظر كيف يَعرض القرآن الكريم صوَراً رهيبةً مِن غوائل الذنوب،

٢٤٦

وأخطارها الماحقة في سلسلةٍ مِن آياته الكريمة:

قال تعالى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) ( الإسراء: ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) ( الأنعام: ٦ ).

وقال تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف: ٩٦ ).

وقال تعالى:( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الأنفال: ٥٣ ).

وقال تعالى:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) ( الشورى: ٣٠ ).

وقال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم: ٤١ ).

وهكذا جاءت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مُحَذِّرةً غوائل الذنوب، ومآسيها العامّة، وأوضحَت أنّ ما يُعانيه الفرد والمجتمع، مِن ضروب الأزَمَات، والمِحَن، كشيوع المظالم، وانتشار الأمراض، وشُحّ الأرزاق، كلّ ذلك ناشئ مِن مقارفة الذنوب والآثام، وإليك طرَفاً منها:

عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه

٢٤٧

عليه وآله ): عجِبتُ لِمَن يحتمي مِن الطعام مخافة الدّاء، كيف لا يحتمي مِن الذنوب مخافة النار ؟!!)(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول اللّه تبارك وتعالى: يابن آدم ما تنصفني، أتَحَبّب إليك بالنِّعَم، وتَتَمَقّت إليّ بالمعاصي، خيري عليك مُنزَل، وشرّك إليَّ صاعد، ولا يزال ملَكٌ كريمٌ يأتيني عنك في كلّ يومٍ وليلة بعملٍ قبيحٍ، يابن آدم لو سمِعْت وصفَك مِن غيرك، وأنت لا تعلَم مَن الموصوف، لسارعت إلى مقته )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبِه نكتةً سَوداء، فإنْ تاب انمَحَت، وإنْ زاد زادَت، حتّى تَغلِب على قلبِه فلا يُفلِح بعدها أبداً )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ العبدَ يسأل اللّه الحاجة، فيكون مِن شأنه قضاؤها إلى أجلٍ قريب أو إلى وقتٍ بطيء، فيذنب العبدُ ذنباً، فيقول اللّه تبارك وتعالى للمَلَك: لا تقضِ حاجته، واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخَطي، واستوجَب الحرمان منّي )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كان أبيعليه‌السلام يقول: إنّ اللّه قضى قضاءً حتماً ألاّ يُنعِم على العبدِ بنعمةٍ فيسلُبها إيّاه، حتّى يُحدِث

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٥ عن أمالي الصدوق.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٦ عن عيون أخبار الرضا للصدوق.

(٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

٢٤٨

العبدُ ذنباً يستحقّ بذلك النقمة )(١) .

وقال الرضاعليه‌السلام : ( كلّما أحدَث العِباد مِن الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدَث اللّه لهُم مِن البلاء ما لَم يكونوا يعرفون )(٢).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إذا غضِب اللّه عزّ وجل على أُمّةٍ، ولَم يُنزِل بها العذاب، غلَت أسعارها، وقَصُرت أعمارها، ولَم يربَح تِجّارُها، ولَم تَزكُ ثِمارها، ولم تَغزَر أنهارها، وحُبِس عنها أمطارها، وسلّط عليها شرارها )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( وجدنا في كتاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا ظهر الزنا مِن بعدي كثُر موتُ الفجأة، وإذا طُفِّفَ المِكيال والميزان، أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة، مَنعَتْ الأرضُ برَكَتها مِن الزرع والثمار والمعادن كلّها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوّهم، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهَوا عن المنكر، ولم يتّبعوا الأخيار مِن أهل بيتي، سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يُستجاب لهم )(٤).

وعن المفضّل قال: قال الصادقعليه‌السلام : ( يا مفضل، إيّاك

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن التهذيب والفقيه.

(٤) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

٢٤٩

والذنوب، وحذِّرها شيعتنا، فواللّه ما هي إلى أحدٍ أسرع منها إليكم، إنّ أحدَكم لتُصيبه المَعَرّة مِن السلطان، وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليصيبه السقَم وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُحبَس عنه الرزق وما هو إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُشدّد عليه عند الموت وما هو إلاّ بذنوبه، حتّى يقول مَن حضر: لقد غُمّ بالموت ).

فلمّا رأى ما قد دخلني، قال: ( أتدري لم ذاك يا مفضل ؟ ) قلتُ: لا أدري جُعلت فداك.

قال: ( ذاك واللّه أنّكم لا تؤاخَذون بها في الآخرة، وعُجّلت لكم في الدنيا )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( توقّوا الذنوب، فما مِن بليّةٍ، ولا نقصِ رِزقٍ، إلاّ بذنبٍ، حتّى الخَدْش، والكبوَة، والمصيبة، قال اللّه عزّ وجل:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) )(٢).

وربّما لبّس الشيطان على بعضٍ الأغراء، بأنّ الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة، لأشقّت المنهمكين عليها، السادرين في اقترافه ا، وهُم رَغم ذلك في أرغَد عيش وأسعَدِ حياة.

وخفِيَ عليهم أنّ اللّه عزَّ وجل لا يُعجزه الدرك، ولا يخاف الفوت، وإنّما يُمهِل العُصاة، ويُؤخّر عقابهم، رعايةً لمصالحهم، عسى أنْ يثوبوا إلى الطاعة والرشد، أو يُمهَلَهم إشفاقاً على الأبرياء والضُّعَفاء مِمّن تضرّهم

_____________________

(١) البحار عن علل الشرائع.

(٢) البحار عن الخصال.

٢٥٠

معاجلةُ المذنبين وهُم بُرَءاءُ مِن الذنوب.

أو يُصابِر المجرمين استدراجاً لهم، ليزدادوا طُغياناً وإثماً، فيأخُذهم بالعقاب الصارم، والعذاب الأليم، كما صرّحت بذلك الآيات والروايات.

قال اللّه تعالى:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( آل عمران: ١٧٨ ).

وقال سُبحانه:( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ( فاطر: ٤٥ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أرادَ اللّهُ بعبدٍ خيراً، فأذنَب ذنباً، أتبَعهُ بنقمةٍ، ويُذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبدٍ شراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنعمةٍ، ليُنسيه الاستغفار، ويتمادى بها، وهو قول اللّه تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( القلم: ٤٤ ) بالنِّعَم عند المعاصي )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام : ( إنّ للّه عزّ وجل في كلِّ يومٍ وليلة مُنادِياً يُنادي: مهلاً مهلاً، عبادَ اللّه عن معاصي اللّه، فلولا بهائمٌ رُتّع، وصبيةٌ رُضّع، وشيوخٌ ركّع، لصُبّ عليكم العذاب صبّاً، تُرَضّون به رضّاً )(٢).

وقد يختلِج في الذهن أنّ الأنبياء والأوصياء معصومون مِن اقتراف الذنوب والآثام، فكيف يؤاخذون بها، ويعانون صنوف المِحَن والأرزاء ؟

وتوجيه ذلك: أنّ الذنوب تختلف، وتتفاوَت باختلاف الأشخاص،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

٢٥١

ومبلغ إيمانهم، وأبعاد طاعتهم وعبوديّتهم للّه عزَّ وجل.

فرُبّ متعةٍ بريئة، يتعاطاها فردان: يحسبها الأوّل طيّبةً مباحة، ويحسبُها الثاني جريرةً وذنباً، حيث ألهته عمّا يتعشّقه مِن ذكر اللّه عزّ وجل وعبادته.

وحيث كان الأنبياءعليهم‌السلام هُم المَثل الأعلى في الإيمان باللّه، والتفاني في طاعته والتولّه بعبادته، أعتُبر تركُ الأولى منهم ذنباً وتقصيراً، كما قيل:( حسَنات الأبرار سيّئات المقربّين ) .

هذا إلى أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.

وقد تكون المحن والأرزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتَحن، وجَلَده على طاعة اللّه، ونافذ قَدَرِه ومشيئته، وقد تكون وسيلةً لمضاعفة أجر المبتلى، وجزيل ثوابه، بصبره على تلك المعاناة، وتفويض أمره إلى اللّه عزّ وجل.

٢٥٢

التوبة

لقد عرَفتَ في البحث السابق غوائل الذنوب، وأضرارها الماديّة والروحيّة، والتشابه بينهما وبين الأمراض الجسميّة في فداحتها، وسوء آثارها على الإنسان.

فكما تجدرُ المسارعة إلى عِلاج الجِسم مِن جراثيم الأمراض قبل استفحالها، وضعف الجسم عن مكافحتها، كذلك تجِب المبادرة إلى تصفية النفس، وتطهيرها مِن أوضار الذنوب، ودنَس الآثام، قبل تفاقم غوائلها، وعِسرِ تداركها.

وكما تُعالَج الأمراض الصحيّة بتجرّع العقاقير الكريهة، والاحتماء عن المطاعم الشهيّة الضّارة، كذلك تعالَج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة، والإقلاع عن الشهَوات العارمة، والأهواء الجامحة، ليأمن التائب أخطارها ومآسيها الدنيويّة والأخرويّة.

حقيقة التوبة:

لا تتحقّق التوبة الصادقة النصوح، إلاّ بعد تبلورها، واجتيازها

٢٥٣

أطواراً ثلاثة:

فالطور الأوّل: هو طور يَقظَة الضمير، وشعور المذنب بالأسى والندَم على معصية اللّه تعالى، وتعرّضه لسخَطِه وعِقابه، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى:

الطور الثاني: وهو طور الإنابة إلى اللّه عزَّ وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ عصيانه، فإذا ما أنس بذلك تحوّل إلى:

الطور الثالث: وهو طور تصفية النفس مِن رواسِب الذنوب، وتلافي سيّئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسَنَات، وتلاشي السيّئات، وبذلك تتحقّق التوبة الصادقة النصوح.

وليست التوبةُ هزلاً عابثاً، ولقلقة يتشدَّق بها اللسان، وإنّما هي: الإنابة الصادقة إلى اللّه تعالى، ومجافاة عصيانه بعزمٍ وتصميم قويّين، والمستغفِر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهترٌ كذّاب، كما قال الإمام الرضاعليه‌السلام :

( المُستغفِر مِن ذنبٍ ويفعلُه كالمستهزئ بربِّه ).

فضائل التوبة:

للتوبة فضائل جمّة، ومآثر جليلة، صَوّرها القرآن الكريم، وأعربَت عنها آثار أهل البيتعليهم‌السلام .

وناهيك في فضلها أنّها بلسَمُ الذنوب، وسفينة النجاة، وصمّام الأمن

٢٥٤

مَن سُخطِ اللّه تعالى وعِقابه.

وقد أبَت العناية الإلهيّة أنْ تُهمِل العُصاة يتخبّطون في دياجير الذنوب، ومجاهل العِصيان، دون أنْ يسَعَهم بعطفه السامي، وعفوه الكريم، فشوّقهم إلى الإنابة، ومهّد لهم التوبة، فقال سُبحانه:

( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الأنعام: ٥٤).

وقال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وقال تعالى حاكياً:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ) (نوح: ١٠ - ١٢ ).

وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا تابَ العبد توبةً نصوحاً، أحبّه اللّه تعالى فستَر عليه في الدنيا والآخرة ).

قال الراوي: وكيف يستر اللّه عليه ؟ قال: ( ينسي ملَكَيه ما كَتَبَا عليه مِن الذنوب، ثمّ يُوحي اللّه إلى جوارِحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بِقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك مِن الذنوب، فيَلْقى اللّه تعالى حين يلقاه، وليس شيءٌ يشهدُ

٢٥٥

عليه بشيءٍ مِن الذنوب )(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : التائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له ).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثٍ آخر: ( ليس شيءٌ أحبُّ إلى اللّه مِن مؤمنٍ تائب، أو مؤمنةٍ تائبة )(٢).

وعن أبي عبد اللّه أو عن أبي جعفرعليهما‌السلام قال: ( إنّ آدم قال: يا ربِّ، سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مجرى الدم منّي فاجعل لي شيئاً.

فقال: يا آدم، جعلتُ لك أنّ مَن همّ مِن ذرّيتك بسيّئة لم يُكتَب عليه شيء، فإنْ عملها كُتِبَت عليه سيّئة، ومَن همّ منهم بحسنةٍ فإنْ لم يعملها كُتِبَت له حسنة، فإنْ هو عمِلَها كُتِبت له عشراً.

قال: يا رب زدني. قال: جعلتُ لك أنّ مَن عمِل منهم سيّئة ثمّ استغفرني غفرت له.

قال: يا ربّ، زدني. قال: جَعلتُ لهم التوبة، حتّى يبلغ النفس هذه. قال: يا ربّ حسبي )(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله اللّه سبْعَ ساعات، فإنْ استغفر اللّه لم يُكتَب عليه، وإنْ مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيّئة، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ٩٨ عن عيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٨٤ عن الكافي.

٢٥٦

يستغفر ربّه فيغفر له، وإنّ الكافر لينساه مِن ساعته )(١).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن مؤمنٍ يُقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم: ( أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيّوم، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، وأسأله أنْ يُصلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ، وأنْ يتوب عليّ ) إلاّ غفرها اللّه له، ولا خير فيمن يُقارف في يومه أكثر مِن أربعين كبيرة )(٢).

وجوب التوبة وفوريّتها:

لا ريبَ في وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها:

أمّا العقل: فمن بديهيّاته ضرورة التوقّي والتحرّز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الإنسان وهلاكه. لذلك وجَب التحصّن بالتوبة، والتحرّز بها مِن غوائل الذنوب وآثارها السيّئة، في عاجل الحياة وآجلها.

وأمّا النقل: فقد فرضتها أوامر القرآن والسنّة فرضاً محتّماً، وشوّقت إليها بألوان التشويق والتيسير.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تاب قبل موته بسنة قّبِل اللّه توبته )، ثمّ قال: ( إنّ السنةَ

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٢ عن الكافي.

٢٥٧

لكثير، مَن تاب قبل موتِه بشهرٍ قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الشهرَ لكثير، مَن تاب قبل موتِه بجُمعة قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الجُمعة لكثير، مَن تاب قَبل موته بيومٍ قبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: إنّ يوماً لكثير، مَن تابَ قَبل أنْ يُعايَن قبِل اللّه توبته )(١).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ للّه عزَّ وجل فضولاً مِن رِزقه، يُنحله مَن يشاء مِن خلقه، واللّه باسطٌ يدَيه عند كلّ فجر لمذنبٍ الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يدَيه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له )(٢).

تجديد التوبة:

مِن الناس مَن يهتدي بعد ضلال، ويستقيم بعد انحراف، فيتدارك آثامه بالتوبة والإنابة، مُلبّياً داعي الإيمان، ونِداء الضمير الحُر.

بَيد أنّ الإنسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة، وتسترقّه بأهوائها ومغرياتها، فيُقارف المعاصي مِن جديد، منجَرفاً بتيّارها العَرم ِ، وهكذا يعيش صِراعاً عنيفاً بين العقل والشهَوات، ينتصر عليها تارة، وتنتصر عليه أُخرى، وهكذا دواليك.

وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة خَشية النكول

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ١٠٠ عن ثواب الأعمال للصدوق (ره).

٢٥٨

عنها، فيظلّون سادرين في المعاصي والآثام.

فعلى هؤلاء أنْ يعلموا أنّ الإنسان عرضةً لأغواء الشيطان، وتسويلاته الآثمة، ولا ينجو منها إلاّ المعصومون مِن الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، وأنّ الأجدر بهم إذا ما استزلّهم بخِدَعِه ومغرياته، أنْ يُجدّدوا عهد التوبة والإنابة بنيّةٍ صادقة، وتصميمٍ جازم، فإنْ زاغوا وانحرفوا فلا يُقنطَهم ذلك عن تجديدها كذلك، مُستشعِرين قول اللّه عزّ وجل:

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وهكذا شجّعت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام على تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة، إنقاذاً لصرعى الآثام مِن الانغماس فيها، والانجراف بها، وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة.

فعن محمّد بن مسلم قال: قال الباقرعليه‌السلام : ( يا محمّد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورةٌ له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان ).

قلت: فإنْ عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة.

فقال: ( يا محمّد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثمّ لا يقبل اللّه توبته!! قلتُ: فإنّه فعل ذلك مراراً، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر. فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفورٌ رحيم، يقبل التوبة، ويعفو عن السيّئات،

٢٥٩

فإيّاك أنْ تُقنّط المؤمنين مِن رحمة اللّه تعالى )(١).

وعن أبي بصير قال: ( قلتُ لأبي عبد اللّهعليه‌السلام :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) ( التحريم: ٨ ) ؟ قال: ( هو الذنب الذي لا يعود إليه أبداً ). قلت: وأيّنا لم يعد.

فقال: ( يا أبا محمّد، إنّ اللّه يُحبّ مِن عباده المفتن التوّاب )(٢).

المراد بالمفتن التوّاب: هو مَن كان كثير الذنب كثير التوبة.

ولا بدع أنْ يحبّ اللّه تعالى المفتن التوّاب، فإنّ الإصرار على مقارفة الذنوب، وعدم ملافاتها بالتوبة، دليلٌ صارخٌ على موت الضمير وتلاشي الإيمان، والاستهتار بطاعة اللّه عزّ وجل، وذلك من دواعي سخَطِه وعقابه.

منهاج التوبة:

ولا بدّ للتائب أنْ يعرف أساليب التوبة، وكيفيّة التخلّص مِن تبِعات الذنوب، ومسؤوليّاتها الخطيرة، ليكفّر عن كلّ جريرةٍ بما يلائمها مِن الطاعة والإنابة.

فللذنوب صور وجوانب مختلفة:

منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم، وهي قِسمان: تركُ الواجبات، وفِعل المحرّمات.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفا ، أو أنّها إشارة إلى القرآن ، لأنّه ورد التعبير عنه بـ «الحديث» في بعض الآيات كما في الآية ٣٤ من سورة الطور ، أو أنّ المراد من «الحديث» هو ما جاء من القصص عن هلاك الأمم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثمّ يقول مخاطبا :( وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ) أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا ، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل ، بل ينبغي أن يبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة ، والمعاصي المرتكبة ، وأخيرا فلا بدّ من التوبة والرجوع إلى ظلّ الله ورحمته!

وكلمة سامدون مشتقّة من سمود على وزن جمود ـ ومعناه اللهو والانشغال ورفع الرأس للأعلى تكبّرا وغرورا ، وهي في أصل استعمالها تطلق على البعير حين يرفل في سيره ويرفع رأسه غير مكترث بمن حوله.

فهؤلاء المتكبّرون المغرورون كالحيوانات همّهم الأكل والنوم ، وهم غارقون باللذائذ جاهلون عمّا يحدق بهم من الخطر والعواقب الوخيمة والجزاء الشديد الذي سينالهم.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث ـ وهي آخر آية من سورة النجم أيضا ـ بعد أن بيّن أبحاثا متعدّدة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك :( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) .

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحقّ فاسجدوا لذاته المقدّسة فحسب ، إذ لله وحده تنتهي الخطوط في عالم الوجود ، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الأمم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب الله ، فاعبدوا الله وحده.

الذي يجلب النظر ـ كما جاء في روايات متعدّدة ـ أنّ النّبي عند ما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعا.

٢٨١

ووفقا لبعض الرّوايات أن الوحيد الذي لم يسجد لهذه الآية عند سماعها هو «الوليد بن المغيرة» [لعلّه لم يستطع أن ينحني للسجود] فأخذ قبضة من التراب ووضعها على جبهته فكان سجوده بهذه الصورة.

ولا مكان للتعجّب أن يسجد لهذه الآية حتى المشركون وعبدة الأصنام ، لأنّ لحن الآيات البليغ من جهة ، ومحتواها المؤثّر من جهة اخرى وما فيها من تهديد للمشركين من جهة ثالثة ، وتلاوة هذه الآيات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الاولى من نزول الآيات عن لسان الوحي من جهة رابعة كلّ هذه الأمور كان لها دور في التأثير والنفوذ إلى القلوب حتّى أنّه لم يبق أيّ قلب إلّا اهتزّ لجلال آيات الله وألقى عنه. ستار الضلال وحجب العناد ـ ولو مؤقتا ـ ودخله نور التوحيد المشعّ!.

وإذا تلونا الآية ـ بأنفسنا ـ وأنعمنا النظر فيها بكلّ دقّة وتأمّل وحضور قلب وتصوّرنا أنفسنا أمام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي جوّ نزول الآيات وبقطع النظر ـ عن اعتقادنا الإسلامي ـ نجد أنفسنا ملزمين على السجود عند تلاوتنا لهذه الآية وأنّ نحني رؤوسنا إجلالا لربّ الجلال!

وليست هذه هي المرّة الاولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون اختيارهم ، إذ ورد في قصّة «الوليد بن المغيرة» أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النّبي (في قوله) إلى الآية :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

فبناء على هذا ، لا حاجة أن نقول بأنّ جماعة من الشياطين أو جماعة من المشركين الخبثاء حضروا عند النّبي ولمّا سمعوا النّبي يتلو الآية :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) بسطوا ألسنتهم وقالوا : تلك الغرانيق العلى!! ولذلك انجذب المشركون لهذه الآيات فسجدوا أيضا عند تلاوة النّبي آية السجدة!

٢٨٢

لأنّنا كما أشرنا آنفا في تفسير هذه الآيات. انّ الآيات التي تلت هذه الآيات عنّفت المشركين ولم تدع مجالا للشكّ والتردّد والخطأ لأي أحد (في مفهوم الآية) [لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآيتين ١٩ و٢٠ من هذه السورة].

وينبغي الالتفات أيضا إلى أنّ الآية الآنفة يجب السجود عند تلاوتها ، ولحن الآية التي جاءت مبتدئة بصيغة الأمر ـ والأمر دالّ على الوجوب ـ شاهد على هذا المعنى.

وهكذا فإنّ هذه السورة ثالثة السور الوارد فيها سجود واجب ، أي هي بعد سورة الم السجدة ، وحم السجدة وإن كان بعضهم يرى بأنّ أوّل سورة فيها سجود واجب نزلت على النّبي من الناحية التاريخية ـ هي هذه السورة.

اللهمّ أنر قلوبنا بأنوار معرفتك لئلّا نعبد سواك شيئا ولا نسجد إلّا لك.

اللهمّ إنّ مفاتيح الرحمة والخير كلّها بيد قدرتك ، فارزقنا من خير مواهبك وعطاياك ، أي رضاك يا ربّ العالمين.

اللهمّ ارزقنا بصيرة في العبر ـ لنعتبر بالأمم السالفة وعاقبة ظلمها وأن نحذر الاقتفاء على آثارهم

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

انتهت سورة النجّم

٢٨٣
٢٨٤

سورة

القمر

مكّية

وعدد آياتها خمس وخمسون آية

٢٨٥
٢٨٦

«سورة القمر»

محتوى السورة :

تحوي هذه السّورة خصوصيات السور المكيّة التي تتناول الأبحاث الأساسيّة حول المبدأ والمعاد ، وخصوصا العقوبات التي نزلت بالأمم السالفة ، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد ممّا أدّى بها الواحدة تلو الاخرى إلى الابتلاء بالعذاب الإلهي الشديد ، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) وذلك بعد كلّ مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالأمم لكي يكون درسا وعظة للمسلمين والكفّار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي :

١ ـ تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة ، وموضوع شقّ القمر ، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهيّة.

٢ ـ والقسم الثاني يبحث بتركيز واختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهيّة ، وهم قوم نوح ، وكيفيّة نزول البلاء عليهم.

٣ ـ أمّا القسم الثالث فإنّه يتعرّض إلى قصّة قوم «عاد» وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

٤ ـ وفي القسم الرابع تتحدّث الآيات عن قوم «ثمود» ومعارضتهم لنبيّهم صالحعليه‌السلام وبيان معجزة الناقة ، وأخيرا ابتلاؤهم بالصيحة السماوية.

٥ ـ تتطرّق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم «لوط» ضمن بيان واف

٢٨٧

لانحرافهم الأخلاقي ثمّ عن السخط الإلهي عليهم وابتلائهم بالعقاب الرّباني.

٦ ـ وفي القسم السادس تركّز الآيات الكريمة ـ بصورة موجزة ـ الحديث عن آل فرعون ، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

٧ ـ وفي القسم الأخير تعرض مقارنة بين هذه الأمم ومشركي مكّة ومخالفي الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكّة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهيّة.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين ، وجزاء وأجر المؤمنين والمتّقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة بـ (سورة القمر) لأنّ الآية الاولى منها تتحدّث عن شقّ القمر.

فضيلة تلاوة سورة القمر :

ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

«من قرأ سورة اقتربت الساعة في كلّ غبّ بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ، ومن قرأها كلّ ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق»(١) .

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيرا عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمّل والتفكّر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيدا عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبّر في آيات الله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ (بداية سورة القمر).

٢٨٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) )

التّفسير

شقّ القمر!!

يتناول الحديث في الآية الاولى حادثتين مهمّتين :

أحدهما : قرب وقوع يوم القيامة ، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق ، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر ، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا واستيعابنا للمعرفة الكونية.

والحادثة الثانية التي تتحدّث الآية الكريمة عنها هي معجزة انشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة البارئعزوجل المطلقة ، وكذلك تدلّ ـ أيضا ـ على صدق دعوة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى :( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .

٢٨٩

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضا ، ممّا يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عند ما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم ، حينما نتصوّر مجموع عمر عالمنا هذا من جهة ، ومن جهة اخرى عند ما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فانّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ اقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة : «انشقاق القمر واقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة ، كما ذكر ذلك قسم من المفسّرين حيث أنّ ظهور الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو آخر الأنبياء ـ قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين»(١) مشيرا إلى إصبعيه الكريمين.

ومن جهة اخرى ، فإنّ انشقاق القمر دليل على إمكانية اضطراب النظام الكوني ، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم ، حيث اندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد ، استنادا إلى الرّوايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

قال ابن عبّاس : اجتمع المشركون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين ، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فلقتين ورسول الله ينادي : «يا فلان يا فلان ، اشهدوا»(٢) .

ولعلّ التساؤل يثار هنا عن كيفية حصول هذه الظاهرة الكونية : (انشقاق هذا الجرم السماوي العظيم) وعن مدى تأثيره على الكرة الأرضية والمنظومة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩.

(٢) ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير اخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.

٢٩٠

الشمسية ، وكذلك عن طبيعة القوّة الجاذبة التي أعادت فلقتي القمر إلى وضعهما السابق ، وعن كيفيّة حصول مثل هذا الحدث؟ ولماذا لم يتطرّق التاريخ إلى ذكر شيء عنه؟ بالإضافة إلى مجموعة تساؤلات اخرى حول هذا الموضوع والتي سنجيب عليها بصورة تفصيليّة في هذا البحث إن شاء الله.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ بعض المفسّرين الذين تأثّروا بوجهات نظر غير سليمة ، وأنكروا كلّ معجزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدا القرآن الكريم ، عند ما التفتوا إلى وضوح الآية الكريمة محلّ البحث والرّوايات الكثيرة التي وردت في كتب علماء الإسلام في هذا المجال ، واجهوا عناءا في توجيه هذه المعجزة الربّانية ، وحاولوا نفي الظاهرة الإعجازية لهذا الحادث

والحقيقة أنّ مسألة «انشقاق القمر» كانت معجزة ، والآيات اللاحقة تحمل الدلائل الواضحة على صحّة هذا الأمر كما سنرى ذلك إن شاء الله.

لقد كان جديرا بهؤلاء أن يصحّحوا وجهات نظرهم تلك ، ليعلموا أنّ للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة أيضا.

وإذا أريد الاستفادة من الآيات القرآنية لنفي المعجزات فإنّها تنفي المعجزات المقترحة من قبل المشركين المعاندين الذين لم يقصدوا قبول دعوة الحقّ من أوّل الأمر ولم يستجيبوا للرسول الأكرم بعد إنجاز المعجز ، لكن المعجزات التي تطلب من الرّسول من أجل الاطمئنان إلى الحقّ والإيمان به كانت تنجز من قبله ، ولدينا دلائل عديدة على هذا الأمر في تأريخ حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) .

والمراد من قوله تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة ، وشقّ القمر هو استمرار لهذه المعاجز ، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحقّ وذلك بقولهم : إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».

٢٩١

وهنالك بعض المفسّرين من فسّر «مستمر» بمعنى «قوي» كما قالوا : (حبل مرير) أي : محكم ، والبعض فسّرها بمعنى : الطارئ وغير الثابت ، ولكن التّفسير الأنسب هو التّفسير الأوّل.

أمّا قوله تعالى :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تكذيب معاجزه ودلائله ، وكذلك تكذيب يوم القيامة ، هو اتّباع هوى النفس.

إنّ حالة التعصّب والعناد وحبّ الذات لم تسمح لهم بالاستسلام للحقّ ، ومن جهة اخرى فإنّ المشركين ركنوا للملذّات الرخيصة بعيدا عن ضوابط المسؤولية ، وذلك إشباعا لرغباتهم وشهواتهم ، وكذلك فإنّ تلوّث نفوسهم بالآثام حال دون استجابتهم لدعوة الحقّ ، لأنّ قبول هذه الدعوة يفرض عليهم التزامات ومسئوليات الإيمان والاستجابة للتكاليف

نعم إنّ هوى النفس كان وسيبقى السبب الرئيسي في إبعاد الناس عن مسير الحقّ

وبالنسبة لقوله تعالى :( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) ، يعني أنّ كلّ إنسان يجازى بعمله وفعله ، فالصالحون سيكون مستقرّهم صالحا ، والأشرار سيكون مستقرّهم الشرّ.

ويحتمل أن يكون المراد في هذا التعبير هو أنّ كلّ شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول ، فالأعمال الصالحة أو السيّئة تبقى مع الإنسان حتّى يرى جزاء ما فعل.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية السابقة أنّ الأكاذيب والاتّهامات لا تقوى على الاستمرار الأبدي في إطفاء نور الحقّ والتكتّم عليه ، حيث إنّ كلّ شيء (خير أو شرّ) يسير بالاتّجاه الذي يصبّ في المكان الملائم له ، حيث إنّ الحقّ سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه ، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك ، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.

٢٩٢

وهذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها ، حيث يمكن جمعها في مفهوم هذه الآية الكريمة.

* * *

بحوث

١ ـ شقّ القمر معجزة كبيرة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك فإنّ بعض الأشخاص السطحيين يصرّون على إخراج هذا الحادث من حالة الإعجاز ، حيث قالوا : إنّ الآية الكريمة تحدّثنا فقط عن المستقبل وعن أشراط الساعة ، وهي الحوادث التي تسبق وقوع يوم القيامة

لقد غاب عن هؤلاء أنّ الأدلّة العديدة الموجودة في الآية تؤكّد على حدوث هذه المعجزة ، ومن ضمنها ذكر الفعل (انشقّ) بصيغة الماضي ، وهذا يعني أنّ (أشقّ القمر) شيء قد حدث كما أنّ قرب وقوع يوم القيامة قد تحقّق ، وذلك بظهور آخر الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بالإضافة إلى ذلك ، إن لم تكن الآية قد تحدّثت عن وقوع معجزة ، فلا يوجد أي تناسب أو انسجام بينها وبين ما ورد في الآية اللاحقة حول افترائهم على الرّسول بأنّه (ساحر) وكذلك قوله :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) والتي تخبر الآية هنا عن تكذيبهم للرسالة والرّسول ومعاجزه.

إضافة إلى ذلك فإنّ الرّوايات العديدة المذكورة في الكتب الإسلامية ، والتي بلغت حدّ التواتر نقلت وقوع هذه المعجزة ، وبذلك أصبحت غير قابلة للإنكار.

ونشير هنا إلى روايتين منها :

الاولى : أوردها الفخر الرازي أحد المفسّرين السنّة ، والاخرى للعلّامة الطبرسي أحد المفسّرين الشيعة.

يقول الفخر الرازي : «والمفسّرون بأسرهم على أنّ المراد أنّ القمر انشقّ

٢٩٣

وحصل فيه الإنشقاق ، ودلّت الأخبار على حديث الإنشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشكّ فيه ، وقد أخبر عنه الصادق فيجب إعتقاد وقوعه»(١) .

أمّا عن نظرية بطليموس والقائلة بأنّ (الأفلاك السماوية ليس بإمكانها أن تنفصل أو تلتئم) فإنّها باطلة وليس لها أي أساس أو سند علمي ، حيث إنّه ثبت من خلال الأدلّة العقليّة أنّ انفصال الكواكب في السماء أمر ممكن.

ويقول العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) : لقد أجمع المفسّرون والمحدّثون سوى عطاء والحسين والبلخي الذين ذكرهم ذكرا عابرا ، أنّ معجزة شقّ القمر كانت في زمن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونقل أنّ حذيفة ـ وهو أحد الصحابة المعروفين ـ ذكر قصّة شقّ القمر في جمع غفير في مسجد المدائن ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين ، مع العلم أنّ كثيرا منهم قد عاصر زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ونقل هذا الحديث في هامش الآية المذكورة في الدرّ المنثور والقرطبي).

وممّا تقدّم يتّضح جيّدا أنّ مسألة شقّ القمر أمر غير قابل للإنكار ، سواء من الآية نفسها والقرائن الموجودة فيها ، أو من خلال الأحاديث والرّوايات ، أو أقوال المفسّرين ، ومن الطبيعي أن تطرح أسئلة اخرى حول الموضوع سنجيب عنها إن شاء الله فيما بعد.

٢ ـ مسألة شقّ القمر والعلم الحديث :

السؤال المهمّ المطروح في هذا البحث هو : هل أنّ الأجرام السماوية يمكنها أن تنفصل وتنشقّ؟ وما موقف العلم الحديث من ذلك؟

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨ ، أوّل سورة القمر.

٢٩٤

وللإجابة على هذا السؤال وبناء على النتائج التي توصّل إليها العلماء الفلكيون ، فإنّ مثل هذا الأمر في نظرهم ليس بدرجة من التعقيد بحيث يستحيل تصوّره إنّ الاكتشافات العلمية التي توصّل إليها الباحثون تؤكّد أنّ مثل هذه الحوادث مضافا إلى أنّها ليست مستحيلة فقد لوحظت نماذج عديدة من هذا القبيل ولعدّة مرّات مع اختلاف العوامل المؤثّرة في كلّ حالة.

وبعبارة اخرى : فقد لوحظ أنّ مجموعة انفجارات وانشقاقات قد وقعت في المنظومة الشمسية ، بل في سائر الأجرام السماوية.

ويمكن ذكر بعض النماذج كشواهد على هذه الظواهر

أ ـ ظهور المنظومة الشمسية :

إنّ هذه النظرية المقبولة لدى جميع العلماء تقول : إنّ جميع كرات المنظومة الشمسية كانت في الأصل جزءا من الشمس ثمّ انفصلت عنها ، حيث أصبحت كلّ واحدة منها تدور في مدارها الخاصّ بها غاية الأمر هناك كلام في السبب لهذا الانفصال

يعتقد (لا پلاس) أنّ العامل المسبّب لانفصال القطع الصغيرة من الشمس هي : (القوّة الطاردة) التي توجد في المنطقة الإستوائية لها ، حيث أنّ الشمس كانت تعتبر ولحدّ الآن كتلة ملتهبة ، وضمن دورانها حول نفسها فإنّ السرعة الموجودة في المنطقة الإستوائية لها تسبّب تناثر بعض القطع منها في الفضاء ممّا يجعل هذه القطع تدور حول مركزها الأصلي (الشمس).

ولكن العلماء الذين جاءوا بعد (لا پلاس) توصّلوا من خلال تحقيقاتهم إلى فرضية اخرى تقول : إنّ السبب الأساس لحدوث الانفصال في الأجرام السماوية عن الشمس هو حالة المدّ والجزر الشديدين التي حدثت على سطح الشمس نتيجة عبور نجمة عظيمة بالقرب منها.

٢٩٥

الأشخاص المؤيّدون لهذه النظرية الذين يرون أنّ الحركة الوضعية للشمس في ذلك الوقت لا تستطيع أن تعطي الجواب الشافعي لأسباب هذا الانفصال ، قالوا : إنّ حالة المدّ والجزر الحاصلة في الشمس أحدثت أمواجا عظيمة على سطحها. كما في سقوط حجر كبير في مياه المحيط ، وبسبب ذلك تناثرت قطع من الشمس الواحدة تلو الاخرى إلى الخارج ، ودارت ضمن مدار الكرة الامّ (الشمس).

وعلى كلّ حال فإنّ العامل المسبّب لهذا الانفصال أيّا كان لا يمنعنا من الإعتقاد أنّ ظهور المنظومة الشمسية كان عن طريق الإنشقاق والانفصال.

ب ـ (الأستروئيدات):

الأستروئيدات : هي قطع من الصخور السماوية العظيمة تدور حول المنظومة الشمسية ، ويطلق عليها في بعض الأحيان بـ (الكرات الصغيرة) و (شبه الكواكب السيارة) يبلغ قطر كبراها (٢٥) كم ، لكن الغالبية منها أصغر من ذلك.

ويعتقد العلماء أنّ «الأستروئيدات» هي بقايا كوكب عظيم كان يدور في مدار بين مداري المريخ والمشتري تعرّض إلى عوامل غير واضحة ممّا أدّى إلى انفجاره وتناثره.

لقد ثمّ اكتشاف ومشاهدة أكثر من خمسة آلاف من (الأستروئيدات) لحدّ الآن ، وقد تمّ تسمية عدد كثير من هذه القطع الكبيرة ، وتمّ حساب حجمها ومقدار ومدّة حركتها حول الشمس ، ويعلّق علماء الفضاء أهميّة بالغه على الأستروئيدات ، حيث يعتقدون أنّ بالإمكان الاستفادة منها في بعض الأحيان كمحطّات للسفر إلى المناطق الفضائية النائية.

كان هذا نموذج آخر لانشقاق الأجرام السماوية.

٢٩٦

ج ـ الشهب :

الشهب : أحجار سماوية صغيرة جدّا ، حتّى أنّ البعض منها لا يتجاوز حجم (البندقة) ، وهي تسير بسرعة فائقة في مدار خاصّ حول الشمس وقد يتقاطع مسيرها مع مدار الأرض أحيانا فتنجذب إلى الأرض ، ونظرا لسرعتها الخاطفة التي تتميّز بها ـ تصطدم بشدّة مع الهواء المحيط بالأرض ، فترتفع درجة حرارتها بشدّة فتشتعل وتتبيّن لنا كخطّ مضيء وهّاج بين طبقات الجوّ ويسمّى بالشهاب.

وأحيانا نتصوّر أنّ كلّ واحدة منها تمثّل نجمة نائية في حالة سقوط ، إلّا أنّها في الحقيقة عبارة عن شهاب صغير مشتعل على مسافة قريبة يتحوّل فيما بعد إلى رماد.

ويلتقي مداري الشهب والكرة الأرضية في نقطتين هما نقطتا تقاطع المدارين وذلك في شهري (آب وكانون الثاني) حيث يصبح بالإمكان رؤية الشهب بصورة أكثر في هذين الشهرين.

ويقول العلماء : إنّ الشهب هي بقايا نجمة مذنّبة انفجرت وتناثرت أجزاؤها بسبب جملة عوامل غير واضحة وهذا نموذج آخر من الإنشقاق في الأجرام السماوية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإنفجار والإنشقاق في الكرات السماوية ليس بالأمر الجديد ، وليس بالأمر المستحيل من الناحية العلمية ، ومن هنا فلا معنى حينئذ للقول بأنّ الإعجاز لا يمكن أن يتعلّق بالحال.

هذا كلّه عن مسألة الإنشقاق.

أمّا موضوع رجوع القطعتين المنفصلتين إلى وضعهما الطبيعي السابق تحت تأثير قوى الجاذبية التي تربط القطعتين فهو الآخر أمر ممكن.

ورغم أنّ الإعتقاد السائد قديما في علم الهيئة القديم طبق نظرية (بطليموس) واعتقاده بالأفلاك التسعة التي هي بمثابة قشور البصل في تركيبها ـ الواحدة على

٢٩٧

الاخرى ـ فأيّ جسم لا يستطيع أن يخترقها صعودا أو نزولا ، ولذلك فانّ أتباع هذه النظرية ينكرون المعراج الجسماني واختراقه للأفلاك التسعد ، كما أنّه لا يمكن وفقا لهذه النظريات انشقاق القمر ، ومن ثمّ التئامه ، ولذلك أنكروا مسألة شقّ القمر ، ولكن اليوم أصبحت فرضية (بطليموس) أقرب للخيال والأساطير منها للواقع ، ولم يبق أثر للأفلاك التسعة ، وأصبحت الأجواء لا تساعد لتقبّل مثل هذه الآراء.

وغني عن القول أنّ ظاهرة شقّ القمر كانت معجزة ، ولذا فإنّها لم تتأثّر بعامل طبيعي اعتيادي ، والشيء الذي يراد توضيحه هنا هو بيان إمكانية هذه الحادثة ، لأنّ المعجزة لا تتعلّق بالأمر المحال.

٣ ـ شقّ القمر تاريخيّا :

لقد طرح البعض من غير المطّلعين إشكالا آخر على مسألة شقّ القمر ، حيث ذكروا أنّ مسألة شقّ القمر لها أهميّة بالغة ، فإذا كانت حقيقيّة فلما ذا لم تذكر في كتب التأريخ؟

ومن أجل أن تتوضّح أهميّة هذا الإشكال لا بدّ من الإلمام والدراسة الدقيقة لمختلف جوانب هذا الموضوع ، وهو كما يلي :

أ ـ يجب الالتفات إلى أنّ القمر يرى في نصف الكرة الأرضية فقط ، وليس في جميعها ، ولذا فلا بدّ من إسقاط نصف مجموع سكّان الكرة الأرضية من إمكانية رؤية حادثة شقّ القمر وقت حصولها.

ب ـ وفي نصف الكرة الأرضية التي يرى فيها القمر فإنّ أكثر الناس في حالة سبات وذلك لحدوث هذه الظاهرة بعد منتصف الليل.

ج ـ ليس هنالك ما يمنع من أن تكون الغيوم قد حجبت قسما كبيرا من السماء ، وبذلك يتعذّر رؤية القمر لسكّان تلك المناطق.

٢٩٨

د ـ إنّ الحوادث السماوية التي تلفت انتباه الناس تكون غالبا مصحوبة بصوت أو عتمة كما في الصاعقة التي تقترن بصوت شديد أو الخسوف والكسوف الكليين الذي يقترن كلّ منها بانعدام الضوء تقريبا ولمدّة طويلة.

لذلك فإنّ الحالات التي يكون فيها الخسوف جزئيا أو خفيفا نلاحظ أنّ الغالبية من الناس لم تحط به علما ، اللهمّ إلّا عن طريق التنبيه المسبق عنه من قبل المنجّمين ، بل يحدث أحيانا خسوف كلّي وقسم كبير من الناس لا يعلمون به.

لذا فإنّ علماء الفلك الذين يقومون بر صد الكواكب أو الأشخاص الذين يتّفق وقوع نظرهم في السماء وقت الحادث هم الذين يطّلعون على هذا الأمر ويخبرون الآخرين به.

وبناء على هذا ونظرا لقصر مدّة المعجزة (شقّ القمر) فلن يكون بالمقدور أن تلفت الأنظار إليها على الصعيد العالمي ، خصوصا وأنّ غالبية الناس في ذلك الوقت لم تكن مهتّمة بمتابعة الأجرام السماوية.

ه ـ وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الوسائل المستخدمة في تثبيت نشر الحوادث التأريخية في ذلك الوقت ، ومحدودية الطبقة المتعلّمة ، وكذلك طبيعة الكتب الخطيّة التي لم تكن بصورة كافية كما هو الحال في هذا العصر حيث تنشر الحوادث المهمّة بسرعة فائقة بمختلف الوسائل الإعلامية في كلّ أنحاء العالم عن طريق الإذاعة والتلفزيون والصحف كلّ هذه الأمور لا بدّ من أخذها بنظر الإعتبار في محدودية الاطلاع على حادثة (شقّ القمر).

ومع ملاحظة هذا الأمر والأمور الاخرى السابقة فلا عجب أبدا من عدم تثبيت هذه الحادثة في التواريخ غير الإسلامية ، ولا يمكن اعتبار ذلك دليلا على نفيها.

٢٩٩

٤ ـ تأريخ وقوع هذه المعجزة :

من الواضح أنّه لا خلاف بين المفسّرين ورواة الحديث حول حدوث ظاهرة شقّ القمر في مكّة وقبل هجرة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الذي يستفاد من بعض الرّوايات هو أنّ حدوث هذا الأمر كان في بداية بعثة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) . في حين يستفاد من البعض الآخر أنّ حدوث هذا الأمر قد وقع قرب هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي آخر عهده بمكّة ، وكان استجابة لطلب جماعة قدموا من المدينة لمعرفة الحقّ وأتباعه ، إذ أنّهم بعد رؤيتهم لهذه المعجزة آمنوا وبايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة(٢) .

ونقرأ في بعض الرّوايات أيضا أنّ سبب اقتراح شقّ القمر كان من أجل المزيد من الاطمئنان بمعاجز الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّها لم تكن سحرا لأنّ السحر عادة يكون في الأمور الأرضية(٣) . ومع ذلك فإنّ قسما من المتعصّبين والمعاندين لم يؤمنوا برغم مشاهدتهم لهذا الإعجاز ، وتتعلّلوا بأنّهم ينتظرون قوافل الشام واليمن ، فإنّ أيّدوا هذا الحادث ورؤيتهم له آمنوا ومع إخبار المسافرين لهم بذلك ، إلّا أنّهم بقوا مصرّين على الكفر رافضين للإيمان(٤) .

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر أنّ هذه المعجزة العظيمة والكثير من المعاجز الاخرى ذكرت في التواريخ والرّوايات الضعيفة مقترنة ببعض الخرافات والأساطير ، ممّا أدّى إلى حصول تشويش في أذهان العلماء بشأنها ، كما في نزول قطعة من القمر إلى الأرض. لذا فإنّ من الضروري فصل هذه الخرافات وعزلها بدقّة وغربلة الصحيح من غيره ، حتّى تبقى الحقائق بعيدة عن التشويش ومحتفظة بمقوّماتها الموضوعية.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٤ حديث (٨).

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ حديث (١).

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٥ حديث (١٠).

(٤) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٣.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517