أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت0%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد مهدي الصدر
تصنيف: الصفحات: 517
المشاهدات: 318608
تحميل: 11083

توضيحات:

أخلاق أهل البيت
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 318608 / تحميل: 11083
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الكلِم الطيّب

مَن استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعيّة، والأزَمات المعكِّرة لصفو المجتمع، علِم أنّ منشأها في الأغلَب بوادِر اللسان، وتبادل المُهاتَرات الباعثة على توتّر العلائق الاجتماعيّة، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.

مِن أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلِم الطيّب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدَب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع.

فطيبُ الحديث، وحُسنُ المَقال، مِن سِمات النبيل والكمال، ودواعي التقدير والإعزاز، وعوامل الظفَر والنجاح.

وقد دعت الشريعة الإسلاميّة إلى التحلّي بأدَب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً، إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.

قال تعالى:( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) ( الإسراء: ٥٣ ).

وقال سُبحانه:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) ( البقرة: ٨٣ ).

وقال عزّ وجل:( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ

٢٤١

أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ( فُصِّلت: ٣٤ ).

وقال تعالى:( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) ( لقمان: ١٩ ).

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

وقال رجلٌ لأبي الحسنعليه‌السلام : أوصني. فقال: ( احفظ لسانك تعزّ، ولا تمكّن الناس مِن قيادك فتَذِلّ رقبتك )(١).

وجاء رجلٌ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول اللّه، أوصِني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ، ويحَك وهل يُكبّ الناسُ على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم !!)(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام لعبّاد بن كثير البصري الصوفي: ( ويحَك يا عبّاد، غرّك أنّ عُفّ بطنُك وفرجُك، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

إنّه لا يتقبّل اللّه منك شيئاً حتّى تقول قولاً عدْلاً )(٣).

وقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : ( القول الحسَن يثري المال، وينمّي الرزق، وينسئ في الأجل، ويُحبّب إلى الأهل، ويُدخِل الجنّة )(٤).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٤ عن الكافي.

(٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن الخصال أمالي الصدوق.

٢٤٢

ويُنسب للصادقعليه‌السلام هذا البيت:

عوّد لسانَك قول الخير تحظَ به

إنّ اللسان لِما عوّدت معتادُ

وعن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( رحم اللّه عبداً قال خيراً فغنِم، أو سكَت عن سُوءٍ فسلِم )(١).

ونستجلي من تلك النصوص الموجّهة ضرورةَ التمسُّك بأدَب الحديث، وصَون اللسان عن البَذاء، وتعويدَه على الكلِم الطيِّب، والقَول الحسَن.

فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقْعُه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحبُّ، ويَستديم الودّ، ويمنَع نَزْغ الشيطان، في إفساد علائق الصداقة والمودّة.

وفي الأعداء يلطّف مشاعر العِداء، ويُخفّف مِن إساءتهم وكيدهم.

لذلك نجِد العُظماء يرتاضون على ضبط ألسنتهم، وصيانتها مِن العثَرات والفلَتَات.

فقد قيل أنّه اجتمع أربعة ملوك فتكلّموا:

فقال ملك الفُرس:ما ندِمت على ما لم أقُل مرّة، وندِمت على ما قُلت مراراً .

وقال قيصر:أنا على ردِّ ما لم أقُل أقدَر منّي على ردّ ما قُلت .

وقال ملك الصين:ما لَم أتكلّم بكلمةٍ ملكتها، فإذا تكلّمت بها ملكتني .

وقال ملك الهند:العجَب ممّن يتكلّم بكلمةٍ إنْ رُفعت ضرّت، وإنْ

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٨٨، عن كتاب الإمامة والتبصرة.

٢٤٣

لم تُرفَع لم تنفع(١).

وليس شيءٌ أدلّ على غباء الإنسان، وحماقته، مِن الثرثرة، وفضول القول، وبَذاءة اللسان.

فقد مرّ أمير المؤمنين برجلٍ يتكلّم بفضول الكلام، فوقف عليه فقال: ( يا هذا إنّك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك ودَع ما لا يعنيك )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( مَن كثُر كلامه كثُر خطأه، ومَن كثُر خطأه قلّ حياؤه، ومَن قلّ حياؤه قلّ ورَعُه، ومَن قلّ ورَعُه مات قلبُه، ومَن مات قلبُه دخل النار )(٣).

وعن سليمان بن مهران قال: دخلتُ على الصادقعليه‌السلام وعنده نفرٌ مِن الشيعة، فسمعته وهو يقول: ( معاشِر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول )(٤).

وتوقّياً مِن بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثّت النصوص على الصمت، وعفّة اللسان، ليأمن المرء كبوَتَه وعثَرَاته المدمّرة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( الصمتٌ كنزٌ وافر، وزينُ الحليم،

_____________________

(١) مجاني الأدب.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٨٧ عن النهج.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن أمالي الصدوق.

٢٤٤

وسِترُ الجاهل )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( كان أبو ذر يقول: يا مُبتغي العِلم إنّ هذا اللسان مفتاح خيرٍ، ومفتاح شرٍّ، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهَبك ووَرَقِك )(٢).

ونُقِل أنّه اجتمع قس بن ساعدة وأكثَم بن صيفي، فقال أحدُهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم مِن العيوب ؟ فقال: هي أكثر مِن أنْ تُحصَر، وقد وجدت خصلةً إنْ استعملها الإنسان ستَرَت العُيوب كلّها. قال: ما هي ؟ قال: حِفظ اللسان.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

٢٤٥

غوائل الذنوب

إنّ بين الأمراض الصحيّة التي يعانيها الإنسان، وبين الذنوب التي يقترفها شبَهاً قويّاً في نشأتهما، وسُوء مغبّتهما عليه.

فكما تنشأ أغلَب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحيّة التي وضَعها الأطباء، وقايةً وعلاجاً للأبدان، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهيّة، والنُظُم السماويّة، التي شرّعها اللّه تعالى لإصلاح البشَر وإسعادهم.

وكما يختصّ كلّ مرضٍ بأضرارٍ خاصّة، وآثارٍ سيّئة، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المَرَضيّة، كذلك الذنوب، فإنّ لكلّ نوعٍ منها مغبّةً سيّئة، وضرراً فادحاً، وآثاراً خطيرة، تُسبّب للإنسان ألوان المآسي والشقاء.

ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الإساءة والأذى، فإنّ الذنوب أشدّ نكايةً، وأسوأ أثراً من الأمراض، لسهولة معالجة الأجسام، وصعوبة مباشرة النفوس.

لذلك كانت الذنوب سموماً مُهلكة، وجراثيم فاتكة، تعيث في الإنسان فساداً، وتُعرّضه لصُنوف الأخطار والمهالك.

انظر كيف يَعرض القرآن الكريم صوَراً رهيبةً مِن غوائل الذنوب،

٢٤٦

وأخطارها الماحقة في سلسلةٍ مِن آياته الكريمة:

قال تعالى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) ( الإسراء: ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) ( الأنعام: ٦ ).

وقال تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف: ٩٦ ).

وقال تعالى:( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الأنفال: ٥٣ ).

وقال تعالى:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) ( الشورى: ٣٠ ).

وقال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم: ٤١ ).

وهكذا جاءت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مُحَذِّرةً غوائل الذنوب، ومآسيها العامّة، وأوضحَت أنّ ما يُعانيه الفرد والمجتمع، مِن ضروب الأزَمَات، والمِحَن، كشيوع المظالم، وانتشار الأمراض، وشُحّ الأرزاق، كلّ ذلك ناشئ مِن مقارفة الذنوب والآثام، وإليك طرَفاً منها:

عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه

٢٤٧

عليه وآله ): عجِبتُ لِمَن يحتمي مِن الطعام مخافة الدّاء، كيف لا يحتمي مِن الذنوب مخافة النار ؟!!)(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول اللّه تبارك وتعالى: يابن آدم ما تنصفني، أتَحَبّب إليك بالنِّعَم، وتَتَمَقّت إليّ بالمعاصي، خيري عليك مُنزَل، وشرّك إليَّ صاعد، ولا يزال ملَكٌ كريمٌ يأتيني عنك في كلّ يومٍ وليلة بعملٍ قبيحٍ، يابن آدم لو سمِعْت وصفَك مِن غيرك، وأنت لا تعلَم مَن الموصوف، لسارعت إلى مقته )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبِه نكتةً سَوداء، فإنْ تاب انمَحَت، وإنْ زاد زادَت، حتّى تَغلِب على قلبِه فلا يُفلِح بعدها أبداً )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ العبدَ يسأل اللّه الحاجة، فيكون مِن شأنه قضاؤها إلى أجلٍ قريب أو إلى وقتٍ بطيء، فيذنب العبدُ ذنباً، فيقول اللّه تبارك وتعالى للمَلَك: لا تقضِ حاجته، واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخَطي، واستوجَب الحرمان منّي )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كان أبيعليه‌السلام يقول: إنّ اللّه قضى قضاءً حتماً ألاّ يُنعِم على العبدِ بنعمةٍ فيسلُبها إيّاه، حتّى يُحدِث

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٥ عن أمالي الصدوق.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٦ عن عيون أخبار الرضا للصدوق.

(٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

٢٤٨

العبدُ ذنباً يستحقّ بذلك النقمة )(١) .

وقال الرضاعليه‌السلام : ( كلّما أحدَث العِباد مِن الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدَث اللّه لهُم مِن البلاء ما لَم يكونوا يعرفون )(٢).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إذا غضِب اللّه عزّ وجل على أُمّةٍ، ولَم يُنزِل بها العذاب، غلَت أسعارها، وقَصُرت أعمارها، ولَم يربَح تِجّارُها، ولَم تَزكُ ثِمارها، ولم تَغزَر أنهارها، وحُبِس عنها أمطارها، وسلّط عليها شرارها )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( وجدنا في كتاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا ظهر الزنا مِن بعدي كثُر موتُ الفجأة، وإذا طُفِّفَ المِكيال والميزان، أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة، مَنعَتْ الأرضُ برَكَتها مِن الزرع والثمار والمعادن كلّها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوّهم، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهَوا عن المنكر، ولم يتّبعوا الأخيار مِن أهل بيتي، سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يُستجاب لهم )(٤).

وعن المفضّل قال: قال الصادقعليه‌السلام : ( يا مفضل، إيّاك

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن التهذيب والفقيه.

(٤) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

٢٤٩

والذنوب، وحذِّرها شيعتنا، فواللّه ما هي إلى أحدٍ أسرع منها إليكم، إنّ أحدَكم لتُصيبه المَعَرّة مِن السلطان، وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليصيبه السقَم وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُحبَس عنه الرزق وما هو إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُشدّد عليه عند الموت وما هو إلاّ بذنوبه، حتّى يقول مَن حضر: لقد غُمّ بالموت ).

فلمّا رأى ما قد دخلني، قال: ( أتدري لم ذاك يا مفضل ؟ ) قلتُ: لا أدري جُعلت فداك.

قال: ( ذاك واللّه أنّكم لا تؤاخَذون بها في الآخرة، وعُجّلت لكم في الدنيا )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( توقّوا الذنوب، فما مِن بليّةٍ، ولا نقصِ رِزقٍ، إلاّ بذنبٍ، حتّى الخَدْش، والكبوَة، والمصيبة، قال اللّه عزّ وجل:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) )(٢).

وربّما لبّس الشيطان على بعضٍ الأغراء، بأنّ الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة، لأشقّت المنهمكين عليها، السادرين في اقترافه ا، وهُم رَغم ذلك في أرغَد عيش وأسعَدِ حياة.

وخفِيَ عليهم أنّ اللّه عزَّ وجل لا يُعجزه الدرك، ولا يخاف الفوت، وإنّما يُمهِل العُصاة، ويُؤخّر عقابهم، رعايةً لمصالحهم، عسى أنْ يثوبوا إلى الطاعة والرشد، أو يُمهَلَهم إشفاقاً على الأبرياء والضُّعَفاء مِمّن تضرّهم

_____________________

(١) البحار عن علل الشرائع.

(٢) البحار عن الخصال.

٢٥٠

معاجلةُ المذنبين وهُم بُرَءاءُ مِن الذنوب.

أو يُصابِر المجرمين استدراجاً لهم، ليزدادوا طُغياناً وإثماً، فيأخُذهم بالعقاب الصارم، والعذاب الأليم، كما صرّحت بذلك الآيات والروايات.

قال اللّه تعالى:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( آل عمران: ١٧٨ ).

وقال سُبحانه:( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ( فاطر: ٤٥ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أرادَ اللّهُ بعبدٍ خيراً، فأذنَب ذنباً، أتبَعهُ بنقمةٍ، ويُذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبدٍ شراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنعمةٍ، ليُنسيه الاستغفار، ويتمادى بها، وهو قول اللّه تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( القلم: ٤٤ ) بالنِّعَم عند المعاصي )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام : ( إنّ للّه عزّ وجل في كلِّ يومٍ وليلة مُنادِياً يُنادي: مهلاً مهلاً، عبادَ اللّه عن معاصي اللّه، فلولا بهائمٌ رُتّع، وصبيةٌ رُضّع، وشيوخٌ ركّع، لصُبّ عليكم العذاب صبّاً، تُرَضّون به رضّاً )(٢).

وقد يختلِج في الذهن أنّ الأنبياء والأوصياء معصومون مِن اقتراف الذنوب والآثام، فكيف يؤاخذون بها، ويعانون صنوف المِحَن والأرزاء ؟

وتوجيه ذلك: أنّ الذنوب تختلف، وتتفاوَت باختلاف الأشخاص،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

٢٥١

ومبلغ إيمانهم، وأبعاد طاعتهم وعبوديّتهم للّه عزَّ وجل.

فرُبّ متعةٍ بريئة، يتعاطاها فردان: يحسبها الأوّل طيّبةً مباحة، ويحسبُها الثاني جريرةً وذنباً، حيث ألهته عمّا يتعشّقه مِن ذكر اللّه عزّ وجل وعبادته.

وحيث كان الأنبياءعليهم‌السلام هُم المَثل الأعلى في الإيمان باللّه، والتفاني في طاعته والتولّه بعبادته، أعتُبر تركُ الأولى منهم ذنباً وتقصيراً، كما قيل:( حسَنات الأبرار سيّئات المقربّين ) .

هذا إلى أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.

وقد تكون المحن والأرزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتَحن، وجَلَده على طاعة اللّه، ونافذ قَدَرِه ومشيئته، وقد تكون وسيلةً لمضاعفة أجر المبتلى، وجزيل ثوابه، بصبره على تلك المعاناة، وتفويض أمره إلى اللّه عزّ وجل.

٢٥٢

التوبة

لقد عرَفتَ في البحث السابق غوائل الذنوب، وأضرارها الماديّة والروحيّة، والتشابه بينهما وبين الأمراض الجسميّة في فداحتها، وسوء آثارها على الإنسان.

فكما تجدرُ المسارعة إلى عِلاج الجِسم مِن جراثيم الأمراض قبل استفحالها، وضعف الجسم عن مكافحتها، كذلك تجِب المبادرة إلى تصفية النفس، وتطهيرها مِن أوضار الذنوب، ودنَس الآثام، قبل تفاقم غوائلها، وعِسرِ تداركها.

وكما تُعالَج الأمراض الصحيّة بتجرّع العقاقير الكريهة، والاحتماء عن المطاعم الشهيّة الضّارة، كذلك تعالَج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة، والإقلاع عن الشهَوات العارمة، والأهواء الجامحة، ليأمن التائب أخطارها ومآسيها الدنيويّة والأخرويّة.

حقيقة التوبة:

لا تتحقّق التوبة الصادقة النصوح، إلاّ بعد تبلورها، واجتيازها

٢٥٣

أطواراً ثلاثة:

فالطور الأوّل: هو طور يَقظَة الضمير، وشعور المذنب بالأسى والندَم على معصية اللّه تعالى، وتعرّضه لسخَطِه وعِقابه، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى:

الطور الثاني: وهو طور الإنابة إلى اللّه عزَّ وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ عصيانه، فإذا ما أنس بذلك تحوّل إلى:

الطور الثالث: وهو طور تصفية النفس مِن رواسِب الذنوب، وتلافي سيّئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسَنَات، وتلاشي السيّئات، وبذلك تتحقّق التوبة الصادقة النصوح.

وليست التوبةُ هزلاً عابثاً، ولقلقة يتشدَّق بها اللسان، وإنّما هي: الإنابة الصادقة إلى اللّه تعالى، ومجافاة عصيانه بعزمٍ وتصميم قويّين، والمستغفِر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهترٌ كذّاب، كما قال الإمام الرضاعليه‌السلام :

( المُستغفِر مِن ذنبٍ ويفعلُه كالمستهزئ بربِّه ).

فضائل التوبة:

للتوبة فضائل جمّة، ومآثر جليلة، صَوّرها القرآن الكريم، وأعربَت عنها آثار أهل البيتعليهم‌السلام .

وناهيك في فضلها أنّها بلسَمُ الذنوب، وسفينة النجاة، وصمّام الأمن

٢٥٤

مَن سُخطِ اللّه تعالى وعِقابه.

وقد أبَت العناية الإلهيّة أنْ تُهمِل العُصاة يتخبّطون في دياجير الذنوب، ومجاهل العِصيان، دون أنْ يسَعَهم بعطفه السامي، وعفوه الكريم، فشوّقهم إلى الإنابة، ومهّد لهم التوبة، فقال سُبحانه:

( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الأنعام: ٥٤).

وقال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وقال تعالى حاكياً:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ) (نوح: ١٠ - ١٢ ).

وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا تابَ العبد توبةً نصوحاً، أحبّه اللّه تعالى فستَر عليه في الدنيا والآخرة ).

قال الراوي: وكيف يستر اللّه عليه ؟ قال: ( ينسي ملَكَيه ما كَتَبَا عليه مِن الذنوب، ثمّ يُوحي اللّه إلى جوارِحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بِقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك مِن الذنوب، فيَلْقى اللّه تعالى حين يلقاه، وليس شيءٌ يشهدُ

٢٥٥

عليه بشيءٍ مِن الذنوب )(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : التائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له ).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثٍ آخر: ( ليس شيءٌ أحبُّ إلى اللّه مِن مؤمنٍ تائب، أو مؤمنةٍ تائبة )(٢).

وعن أبي عبد اللّه أو عن أبي جعفرعليهما‌السلام قال: ( إنّ آدم قال: يا ربِّ، سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مجرى الدم منّي فاجعل لي شيئاً.

فقال: يا آدم، جعلتُ لك أنّ مَن همّ مِن ذرّيتك بسيّئة لم يُكتَب عليه شيء، فإنْ عملها كُتِبَت عليه سيّئة، ومَن همّ منهم بحسنةٍ فإنْ لم يعملها كُتِبَت له حسنة، فإنْ هو عمِلَها كُتِبت له عشراً.

قال: يا رب زدني. قال: جعلتُ لك أنّ مَن عمِل منهم سيّئة ثمّ استغفرني غفرت له.

قال: يا ربّ، زدني. قال: جَعلتُ لهم التوبة، حتّى يبلغ النفس هذه. قال: يا ربّ حسبي )(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله اللّه سبْعَ ساعات، فإنْ استغفر اللّه لم يُكتَب عليه، وإنْ مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيّئة، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ٩٨ عن عيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٨٤ عن الكافي.

٢٥٦

يستغفر ربّه فيغفر له، وإنّ الكافر لينساه مِن ساعته )(١).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن مؤمنٍ يُقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم: ( أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيّوم، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، وأسأله أنْ يُصلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ، وأنْ يتوب عليّ ) إلاّ غفرها اللّه له، ولا خير فيمن يُقارف في يومه أكثر مِن أربعين كبيرة )(٢).

وجوب التوبة وفوريّتها:

لا ريبَ في وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها:

أمّا العقل: فمن بديهيّاته ضرورة التوقّي والتحرّز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الإنسان وهلاكه. لذلك وجَب التحصّن بالتوبة، والتحرّز بها مِن غوائل الذنوب وآثارها السيّئة، في عاجل الحياة وآجلها.

وأمّا النقل: فقد فرضتها أوامر القرآن والسنّة فرضاً محتّماً، وشوّقت إليها بألوان التشويق والتيسير.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تاب قبل موته بسنة قّبِل اللّه توبته )، ثمّ قال: ( إنّ السنةَ

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٢ عن الكافي.

٢٥٧

لكثير، مَن تاب قبل موتِه بشهرٍ قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الشهرَ لكثير، مَن تاب قبل موتِه بجُمعة قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الجُمعة لكثير، مَن تاب قَبل موته بيومٍ قبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: إنّ يوماً لكثير، مَن تابَ قَبل أنْ يُعايَن قبِل اللّه توبته )(١).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ للّه عزَّ وجل فضولاً مِن رِزقه، يُنحله مَن يشاء مِن خلقه، واللّه باسطٌ يدَيه عند كلّ فجر لمذنبٍ الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يدَيه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له )(٢).

تجديد التوبة:

مِن الناس مَن يهتدي بعد ضلال، ويستقيم بعد انحراف، فيتدارك آثامه بالتوبة والإنابة، مُلبّياً داعي الإيمان، ونِداء الضمير الحُر.

بَيد أنّ الإنسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة، وتسترقّه بأهوائها ومغرياتها، فيُقارف المعاصي مِن جديد، منجَرفاً بتيّارها العَرم ِ، وهكذا يعيش صِراعاً عنيفاً بين العقل والشهَوات، ينتصر عليها تارة، وتنتصر عليه أُخرى، وهكذا دواليك.

وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة خَشية النكول

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ١٠٠ عن ثواب الأعمال للصدوق (ره).

٢٥٨

عنها، فيظلّون سادرين في المعاصي والآثام.

فعلى هؤلاء أنْ يعلموا أنّ الإنسان عرضةً لأغواء الشيطان، وتسويلاته الآثمة، ولا ينجو منها إلاّ المعصومون مِن الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، وأنّ الأجدر بهم إذا ما استزلّهم بخِدَعِه ومغرياته، أنْ يُجدّدوا عهد التوبة والإنابة بنيّةٍ صادقة، وتصميمٍ جازم، فإنْ زاغوا وانحرفوا فلا يُقنطَهم ذلك عن تجديدها كذلك، مُستشعِرين قول اللّه عزّ وجل:

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وهكذا شجّعت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام على تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة، إنقاذاً لصرعى الآثام مِن الانغماس فيها، والانجراف بها، وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة.

فعن محمّد بن مسلم قال: قال الباقرعليه‌السلام : ( يا محمّد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورةٌ له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان ).

قلت: فإنْ عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة.

فقال: ( يا محمّد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثمّ لا يقبل اللّه توبته!! قلتُ: فإنّه فعل ذلك مراراً، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر. فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفورٌ رحيم، يقبل التوبة، ويعفو عن السيّئات،

٢٥٩

فإيّاك أنْ تُقنّط المؤمنين مِن رحمة اللّه تعالى )(١).

وعن أبي بصير قال: ( قلتُ لأبي عبد اللّهعليه‌السلام :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) ( التحريم: ٨ ) ؟ قال: ( هو الذنب الذي لا يعود إليه أبداً ). قلت: وأيّنا لم يعد.

فقال: ( يا أبا محمّد، إنّ اللّه يُحبّ مِن عباده المفتن التوّاب )(٢).

المراد بالمفتن التوّاب: هو مَن كان كثير الذنب كثير التوبة.

ولا بدع أنْ يحبّ اللّه تعالى المفتن التوّاب، فإنّ الإصرار على مقارفة الذنوب، وعدم ملافاتها بالتوبة، دليلٌ صارخٌ على موت الضمير وتلاشي الإيمان، والاستهتار بطاعة اللّه عزّ وجل، وذلك من دواعي سخَطِه وعقابه.

منهاج التوبة:

ولا بدّ للتائب أنْ يعرف أساليب التوبة، وكيفيّة التخلّص مِن تبِعات الذنوب، ومسؤوليّاتها الخطيرة، ليكفّر عن كلّ جريرةٍ بما يلائمها مِن الطاعة والإنابة.

فللذنوب صور وجوانب مختلفة:

منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم، وهي قِسمان: تركُ الواجبات، وفِعل المحرّمات.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

٢٦٠