أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت15%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333142 / تحميل: 11873
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الكلِم الطيّب

مَن استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعيّة، والأزَمات المعكِّرة لصفو المجتمع، علِم أنّ منشأها في الأغلَب بوادِر اللسان، وتبادل المُهاتَرات الباعثة على توتّر العلائق الاجتماعيّة، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.

مِن أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلِم الطيّب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدَب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع.

فطيبُ الحديث، وحُسنُ المَقال، مِن سِمات النبيل والكمال، ودواعي التقدير والإعزاز، وعوامل الظفَر والنجاح.

وقد دعت الشريعة الإسلاميّة إلى التحلّي بأدَب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً، إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.

قال تعالى:( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) ( الإسراء: ٥٣ ).

وقال سُبحانه:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) ( البقرة: ٨٣ ).

وقال عزّ وجل:( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ

٢٤١

أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ( فُصِّلت: ٣٤ ).

وقال تعالى:( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) ( لقمان: ١٩ ).

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

وقال رجلٌ لأبي الحسنعليه‌السلام : أوصني. فقال: ( احفظ لسانك تعزّ، ولا تمكّن الناس مِن قيادك فتَذِلّ رقبتك )(١).

وجاء رجلٌ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول اللّه، أوصِني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ، ويحَك وهل يُكبّ الناسُ على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم !!)(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام لعبّاد بن كثير البصري الصوفي: ( ويحَك يا عبّاد، غرّك أنّ عُفّ بطنُك وفرجُك، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

إنّه لا يتقبّل اللّه منك شيئاً حتّى تقول قولاً عدْلاً )(٣).

وقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : ( القول الحسَن يثري المال، وينمّي الرزق، وينسئ في الأجل، ويُحبّب إلى الأهل، ويُدخِل الجنّة )(٤).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٤ عن الكافي.

(٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن الخصال أمالي الصدوق.

٢٤٢

ويُنسب للصادقعليه‌السلام هذا البيت:

عوّد لسانَك قول الخير تحظَ به

إنّ اللسان لِما عوّدت معتادُ

وعن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( رحم اللّه عبداً قال خيراً فغنِم، أو سكَت عن سُوءٍ فسلِم )(١).

ونستجلي من تلك النصوص الموجّهة ضرورةَ التمسُّك بأدَب الحديث، وصَون اللسان عن البَذاء، وتعويدَه على الكلِم الطيِّب، والقَول الحسَن.

فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقْعُه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحبُّ، ويَستديم الودّ، ويمنَع نَزْغ الشيطان، في إفساد علائق الصداقة والمودّة.

وفي الأعداء يلطّف مشاعر العِداء، ويُخفّف مِن إساءتهم وكيدهم.

لذلك نجِد العُظماء يرتاضون على ضبط ألسنتهم، وصيانتها مِن العثَرات والفلَتَات.

فقد قيل أنّه اجتمع أربعة ملوك فتكلّموا:

فقال ملك الفُرس:ما ندِمت على ما لم أقُل مرّة، وندِمت على ما قُلت مراراً .

وقال قيصر:أنا على ردِّ ما لم أقُل أقدَر منّي على ردّ ما قُلت .

وقال ملك الصين:ما لَم أتكلّم بكلمةٍ ملكتها، فإذا تكلّمت بها ملكتني .

وقال ملك الهند:العجَب ممّن يتكلّم بكلمةٍ إنْ رُفعت ضرّت، وإنْ

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٨٨، عن كتاب الإمامة والتبصرة.

٢٤٣

لم تُرفَع لم تنفع(١).

وليس شيءٌ أدلّ على غباء الإنسان، وحماقته، مِن الثرثرة، وفضول القول، وبَذاءة اللسان.

فقد مرّ أمير المؤمنين برجلٍ يتكلّم بفضول الكلام، فوقف عليه فقال: ( يا هذا إنّك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك ودَع ما لا يعنيك )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( مَن كثُر كلامه كثُر خطأه، ومَن كثُر خطأه قلّ حياؤه، ومَن قلّ حياؤه قلّ ورَعُه، ومَن قلّ ورَعُه مات قلبُه، ومَن مات قلبُه دخل النار )(٣).

وعن سليمان بن مهران قال: دخلتُ على الصادقعليه‌السلام وعنده نفرٌ مِن الشيعة، فسمعته وهو يقول: ( معاشِر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول )(٤).

وتوقّياً مِن بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثّت النصوص على الصمت، وعفّة اللسان، ليأمن المرء كبوَتَه وعثَرَاته المدمّرة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( الصمتٌ كنزٌ وافر، وزينُ الحليم،

_____________________

(١) مجاني الأدب.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٨٧ عن النهج.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن أمالي الصدوق.

٢٤٤

وسِترُ الجاهل )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( كان أبو ذر يقول: يا مُبتغي العِلم إنّ هذا اللسان مفتاح خيرٍ، ومفتاح شرٍّ، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهَبك ووَرَقِك )(٢).

ونُقِل أنّه اجتمع قس بن ساعدة وأكثَم بن صيفي، فقال أحدُهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم مِن العيوب ؟ فقال: هي أكثر مِن أنْ تُحصَر، وقد وجدت خصلةً إنْ استعملها الإنسان ستَرَت العُيوب كلّها. قال: ما هي ؟ قال: حِفظ اللسان.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

٢٤٥

غوائل الذنوب

إنّ بين الأمراض الصحيّة التي يعانيها الإنسان، وبين الذنوب التي يقترفها شبَهاً قويّاً في نشأتهما، وسُوء مغبّتهما عليه.

فكما تنشأ أغلَب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحيّة التي وضَعها الأطباء، وقايةً وعلاجاً للأبدان، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهيّة، والنُظُم السماويّة، التي شرّعها اللّه تعالى لإصلاح البشَر وإسعادهم.

وكما يختصّ كلّ مرضٍ بأضرارٍ خاصّة، وآثارٍ سيّئة، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المَرَضيّة، كذلك الذنوب، فإنّ لكلّ نوعٍ منها مغبّةً سيّئة، وضرراً فادحاً، وآثاراً خطيرة، تُسبّب للإنسان ألوان المآسي والشقاء.

ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الإساءة والأذى، فإنّ الذنوب أشدّ نكايةً، وأسوأ أثراً من الأمراض، لسهولة معالجة الأجسام، وصعوبة مباشرة النفوس.

لذلك كانت الذنوب سموماً مُهلكة، وجراثيم فاتكة، تعيث في الإنسان فساداً، وتُعرّضه لصُنوف الأخطار والمهالك.

انظر كيف يَعرض القرآن الكريم صوَراً رهيبةً مِن غوائل الذنوب،

٢٤٦

وأخطارها الماحقة في سلسلةٍ مِن آياته الكريمة:

قال تعالى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) ( الإسراء: ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) ( الأنعام: ٦ ).

وقال تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف: ٩٦ ).

وقال تعالى:( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الأنفال: ٥٣ ).

وقال تعالى:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) ( الشورى: ٣٠ ).

وقال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم: ٤١ ).

وهكذا جاءت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مُحَذِّرةً غوائل الذنوب، ومآسيها العامّة، وأوضحَت أنّ ما يُعانيه الفرد والمجتمع، مِن ضروب الأزَمَات، والمِحَن، كشيوع المظالم، وانتشار الأمراض، وشُحّ الأرزاق، كلّ ذلك ناشئ مِن مقارفة الذنوب والآثام، وإليك طرَفاً منها:

عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه

٢٤٧

عليه وآله ): عجِبتُ لِمَن يحتمي مِن الطعام مخافة الدّاء، كيف لا يحتمي مِن الذنوب مخافة النار ؟!!)(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول اللّه تبارك وتعالى: يابن آدم ما تنصفني، أتَحَبّب إليك بالنِّعَم، وتَتَمَقّت إليّ بالمعاصي، خيري عليك مُنزَل، وشرّك إليَّ صاعد، ولا يزال ملَكٌ كريمٌ يأتيني عنك في كلّ يومٍ وليلة بعملٍ قبيحٍ، يابن آدم لو سمِعْت وصفَك مِن غيرك، وأنت لا تعلَم مَن الموصوف، لسارعت إلى مقته )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبِه نكتةً سَوداء، فإنْ تاب انمَحَت، وإنْ زاد زادَت، حتّى تَغلِب على قلبِه فلا يُفلِح بعدها أبداً )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ العبدَ يسأل اللّه الحاجة، فيكون مِن شأنه قضاؤها إلى أجلٍ قريب أو إلى وقتٍ بطيء، فيذنب العبدُ ذنباً، فيقول اللّه تبارك وتعالى للمَلَك: لا تقضِ حاجته، واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخَطي، واستوجَب الحرمان منّي )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كان أبيعليه‌السلام يقول: إنّ اللّه قضى قضاءً حتماً ألاّ يُنعِم على العبدِ بنعمةٍ فيسلُبها إيّاه، حتّى يُحدِث

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٥ عن أمالي الصدوق.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٦ عن عيون أخبار الرضا للصدوق.

(٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

٢٤٨

العبدُ ذنباً يستحقّ بذلك النقمة )(١) .

وقال الرضاعليه‌السلام : ( كلّما أحدَث العِباد مِن الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدَث اللّه لهُم مِن البلاء ما لَم يكونوا يعرفون )(٢).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إذا غضِب اللّه عزّ وجل على أُمّةٍ، ولَم يُنزِل بها العذاب، غلَت أسعارها، وقَصُرت أعمارها، ولَم يربَح تِجّارُها، ولَم تَزكُ ثِمارها، ولم تَغزَر أنهارها، وحُبِس عنها أمطارها، وسلّط عليها شرارها )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( وجدنا في كتاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا ظهر الزنا مِن بعدي كثُر موتُ الفجأة، وإذا طُفِّفَ المِكيال والميزان، أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة، مَنعَتْ الأرضُ برَكَتها مِن الزرع والثمار والمعادن كلّها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوّهم، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهَوا عن المنكر، ولم يتّبعوا الأخيار مِن أهل بيتي، سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يُستجاب لهم )(٤).

وعن المفضّل قال: قال الصادقعليه‌السلام : ( يا مفضل، إيّاك

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن التهذيب والفقيه.

(٤) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

٢٤٩

والذنوب، وحذِّرها شيعتنا، فواللّه ما هي إلى أحدٍ أسرع منها إليكم، إنّ أحدَكم لتُصيبه المَعَرّة مِن السلطان، وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليصيبه السقَم وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُحبَس عنه الرزق وما هو إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُشدّد عليه عند الموت وما هو إلاّ بذنوبه، حتّى يقول مَن حضر: لقد غُمّ بالموت ).

فلمّا رأى ما قد دخلني، قال: ( أتدري لم ذاك يا مفضل ؟ ) قلتُ: لا أدري جُعلت فداك.

قال: ( ذاك واللّه أنّكم لا تؤاخَذون بها في الآخرة، وعُجّلت لكم في الدنيا )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( توقّوا الذنوب، فما مِن بليّةٍ، ولا نقصِ رِزقٍ، إلاّ بذنبٍ، حتّى الخَدْش، والكبوَة، والمصيبة، قال اللّه عزّ وجل:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) )(٢).

وربّما لبّس الشيطان على بعضٍ الأغراء، بأنّ الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة، لأشقّت المنهمكين عليها، السادرين في اقترافه ا، وهُم رَغم ذلك في أرغَد عيش وأسعَدِ حياة.

وخفِيَ عليهم أنّ اللّه عزَّ وجل لا يُعجزه الدرك، ولا يخاف الفوت، وإنّما يُمهِل العُصاة، ويُؤخّر عقابهم، رعايةً لمصالحهم، عسى أنْ يثوبوا إلى الطاعة والرشد، أو يُمهَلَهم إشفاقاً على الأبرياء والضُّعَفاء مِمّن تضرّهم

_____________________

(١) البحار عن علل الشرائع.

(٢) البحار عن الخصال.

٢٥٠

معاجلةُ المذنبين وهُم بُرَءاءُ مِن الذنوب.

أو يُصابِر المجرمين استدراجاً لهم، ليزدادوا طُغياناً وإثماً، فيأخُذهم بالعقاب الصارم، والعذاب الأليم، كما صرّحت بذلك الآيات والروايات.

قال اللّه تعالى:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( آل عمران: ١٧٨ ).

وقال سُبحانه:( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ( فاطر: ٤٥ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أرادَ اللّهُ بعبدٍ خيراً، فأذنَب ذنباً، أتبَعهُ بنقمةٍ، ويُذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبدٍ شراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنعمةٍ، ليُنسيه الاستغفار، ويتمادى بها، وهو قول اللّه تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( القلم: ٤٤ ) بالنِّعَم عند المعاصي )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام : ( إنّ للّه عزّ وجل في كلِّ يومٍ وليلة مُنادِياً يُنادي: مهلاً مهلاً، عبادَ اللّه عن معاصي اللّه، فلولا بهائمٌ رُتّع، وصبيةٌ رُضّع، وشيوخٌ ركّع، لصُبّ عليكم العذاب صبّاً، تُرَضّون به رضّاً )(٢).

وقد يختلِج في الذهن أنّ الأنبياء والأوصياء معصومون مِن اقتراف الذنوب والآثام، فكيف يؤاخذون بها، ويعانون صنوف المِحَن والأرزاء ؟

وتوجيه ذلك: أنّ الذنوب تختلف، وتتفاوَت باختلاف الأشخاص،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

٢٥١

ومبلغ إيمانهم، وأبعاد طاعتهم وعبوديّتهم للّه عزَّ وجل.

فرُبّ متعةٍ بريئة، يتعاطاها فردان: يحسبها الأوّل طيّبةً مباحة، ويحسبُها الثاني جريرةً وذنباً، حيث ألهته عمّا يتعشّقه مِن ذكر اللّه عزّ وجل وعبادته.

وحيث كان الأنبياءعليهم‌السلام هُم المَثل الأعلى في الإيمان باللّه، والتفاني في طاعته والتولّه بعبادته، أعتُبر تركُ الأولى منهم ذنباً وتقصيراً، كما قيل:( حسَنات الأبرار سيّئات المقربّين ) .

هذا إلى أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.

وقد تكون المحن والأرزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتَحن، وجَلَده على طاعة اللّه، ونافذ قَدَرِه ومشيئته، وقد تكون وسيلةً لمضاعفة أجر المبتلى، وجزيل ثوابه، بصبره على تلك المعاناة، وتفويض أمره إلى اللّه عزّ وجل.

٢٥٢

التوبة

لقد عرَفتَ في البحث السابق غوائل الذنوب، وأضرارها الماديّة والروحيّة، والتشابه بينهما وبين الأمراض الجسميّة في فداحتها، وسوء آثارها على الإنسان.

فكما تجدرُ المسارعة إلى عِلاج الجِسم مِن جراثيم الأمراض قبل استفحالها، وضعف الجسم عن مكافحتها، كذلك تجِب المبادرة إلى تصفية النفس، وتطهيرها مِن أوضار الذنوب، ودنَس الآثام، قبل تفاقم غوائلها، وعِسرِ تداركها.

وكما تُعالَج الأمراض الصحيّة بتجرّع العقاقير الكريهة، والاحتماء عن المطاعم الشهيّة الضّارة، كذلك تعالَج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة، والإقلاع عن الشهَوات العارمة، والأهواء الجامحة، ليأمن التائب أخطارها ومآسيها الدنيويّة والأخرويّة.

حقيقة التوبة:

لا تتحقّق التوبة الصادقة النصوح، إلاّ بعد تبلورها، واجتيازها

٢٥٣

أطواراً ثلاثة:

فالطور الأوّل: هو طور يَقظَة الضمير، وشعور المذنب بالأسى والندَم على معصية اللّه تعالى، وتعرّضه لسخَطِه وعِقابه، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى:

الطور الثاني: وهو طور الإنابة إلى اللّه عزَّ وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ عصيانه، فإذا ما أنس بذلك تحوّل إلى:

الطور الثالث: وهو طور تصفية النفس مِن رواسِب الذنوب، وتلافي سيّئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسَنَات، وتلاشي السيّئات، وبذلك تتحقّق التوبة الصادقة النصوح.

وليست التوبةُ هزلاً عابثاً، ولقلقة يتشدَّق بها اللسان، وإنّما هي: الإنابة الصادقة إلى اللّه تعالى، ومجافاة عصيانه بعزمٍ وتصميم قويّين، والمستغفِر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهترٌ كذّاب، كما قال الإمام الرضاعليه‌السلام :

( المُستغفِر مِن ذنبٍ ويفعلُه كالمستهزئ بربِّه ).

فضائل التوبة:

للتوبة فضائل جمّة، ومآثر جليلة، صَوّرها القرآن الكريم، وأعربَت عنها آثار أهل البيتعليهم‌السلام .

وناهيك في فضلها أنّها بلسَمُ الذنوب، وسفينة النجاة، وصمّام الأمن

٢٥٤

مَن سُخطِ اللّه تعالى وعِقابه.

وقد أبَت العناية الإلهيّة أنْ تُهمِل العُصاة يتخبّطون في دياجير الذنوب، ومجاهل العِصيان، دون أنْ يسَعَهم بعطفه السامي، وعفوه الكريم، فشوّقهم إلى الإنابة، ومهّد لهم التوبة، فقال سُبحانه:

( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الأنعام: ٥٤).

وقال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وقال تعالى حاكياً:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ) (نوح: ١٠ - ١٢ ).

وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا تابَ العبد توبةً نصوحاً، أحبّه اللّه تعالى فستَر عليه في الدنيا والآخرة ).

قال الراوي: وكيف يستر اللّه عليه ؟ قال: ( ينسي ملَكَيه ما كَتَبَا عليه مِن الذنوب، ثمّ يُوحي اللّه إلى جوارِحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بِقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك مِن الذنوب، فيَلْقى اللّه تعالى حين يلقاه، وليس شيءٌ يشهدُ

٢٥٥

عليه بشيءٍ مِن الذنوب )(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : التائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له ).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثٍ آخر: ( ليس شيءٌ أحبُّ إلى اللّه مِن مؤمنٍ تائب، أو مؤمنةٍ تائبة )(٢).

وعن أبي عبد اللّه أو عن أبي جعفرعليهما‌السلام قال: ( إنّ آدم قال: يا ربِّ، سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مجرى الدم منّي فاجعل لي شيئاً.

فقال: يا آدم، جعلتُ لك أنّ مَن همّ مِن ذرّيتك بسيّئة لم يُكتَب عليه شيء، فإنْ عملها كُتِبَت عليه سيّئة، ومَن همّ منهم بحسنةٍ فإنْ لم يعملها كُتِبَت له حسنة، فإنْ هو عمِلَها كُتِبت له عشراً.

قال: يا رب زدني. قال: جعلتُ لك أنّ مَن عمِل منهم سيّئة ثمّ استغفرني غفرت له.

قال: يا ربّ، زدني. قال: جَعلتُ لهم التوبة، حتّى يبلغ النفس هذه. قال: يا ربّ حسبي )(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله اللّه سبْعَ ساعات، فإنْ استغفر اللّه لم يُكتَب عليه، وإنْ مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيّئة، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ٩٨ عن عيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٨٤ عن الكافي.

٢٥٦

يستغفر ربّه فيغفر له، وإنّ الكافر لينساه مِن ساعته )(١).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن مؤمنٍ يُقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم: ( أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيّوم، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، وأسأله أنْ يُصلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ، وأنْ يتوب عليّ ) إلاّ غفرها اللّه له، ولا خير فيمن يُقارف في يومه أكثر مِن أربعين كبيرة )(٢).

وجوب التوبة وفوريّتها:

لا ريبَ في وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها:

أمّا العقل: فمن بديهيّاته ضرورة التوقّي والتحرّز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الإنسان وهلاكه. لذلك وجَب التحصّن بالتوبة، والتحرّز بها مِن غوائل الذنوب وآثارها السيّئة، في عاجل الحياة وآجلها.

وأمّا النقل: فقد فرضتها أوامر القرآن والسنّة فرضاً محتّماً، وشوّقت إليها بألوان التشويق والتيسير.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تاب قبل موته بسنة قّبِل اللّه توبته )، ثمّ قال: ( إنّ السنةَ

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٢ عن الكافي.

٢٥٧

لكثير، مَن تاب قبل موتِه بشهرٍ قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الشهرَ لكثير، مَن تاب قبل موتِه بجُمعة قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الجُمعة لكثير، مَن تاب قَبل موته بيومٍ قبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: إنّ يوماً لكثير، مَن تابَ قَبل أنْ يُعايَن قبِل اللّه توبته )(١).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ للّه عزَّ وجل فضولاً مِن رِزقه، يُنحله مَن يشاء مِن خلقه، واللّه باسطٌ يدَيه عند كلّ فجر لمذنبٍ الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يدَيه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له )(٢).

تجديد التوبة:

مِن الناس مَن يهتدي بعد ضلال، ويستقيم بعد انحراف، فيتدارك آثامه بالتوبة والإنابة، مُلبّياً داعي الإيمان، ونِداء الضمير الحُر.

بَيد أنّ الإنسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة، وتسترقّه بأهوائها ومغرياتها، فيُقارف المعاصي مِن جديد، منجَرفاً بتيّارها العَرم ِ، وهكذا يعيش صِراعاً عنيفاً بين العقل والشهَوات، ينتصر عليها تارة، وتنتصر عليه أُخرى، وهكذا دواليك.

وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة خَشية النكول

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ١٠٠ عن ثواب الأعمال للصدوق (ره).

٢٥٨

عنها، فيظلّون سادرين في المعاصي والآثام.

فعلى هؤلاء أنْ يعلموا أنّ الإنسان عرضةً لأغواء الشيطان، وتسويلاته الآثمة، ولا ينجو منها إلاّ المعصومون مِن الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، وأنّ الأجدر بهم إذا ما استزلّهم بخِدَعِه ومغرياته، أنْ يُجدّدوا عهد التوبة والإنابة بنيّةٍ صادقة، وتصميمٍ جازم، فإنْ زاغوا وانحرفوا فلا يُقنطَهم ذلك عن تجديدها كذلك، مُستشعِرين قول اللّه عزّ وجل:

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وهكذا شجّعت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام على تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة، إنقاذاً لصرعى الآثام مِن الانغماس فيها، والانجراف بها، وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة.

فعن محمّد بن مسلم قال: قال الباقرعليه‌السلام : ( يا محمّد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورةٌ له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان ).

قلت: فإنْ عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة.

فقال: ( يا محمّد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثمّ لا يقبل اللّه توبته!! قلتُ: فإنّه فعل ذلك مراراً، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر. فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفورٌ رحيم، يقبل التوبة، ويعفو عن السيّئات،

٢٥٩

فإيّاك أنْ تُقنّط المؤمنين مِن رحمة اللّه تعالى )(١).

وعن أبي بصير قال: ( قلتُ لأبي عبد اللّهعليه‌السلام :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) ( التحريم: ٨ ) ؟ قال: ( هو الذنب الذي لا يعود إليه أبداً ). قلت: وأيّنا لم يعد.

فقال: ( يا أبا محمّد، إنّ اللّه يُحبّ مِن عباده المفتن التوّاب )(٢).

المراد بالمفتن التوّاب: هو مَن كان كثير الذنب كثير التوبة.

ولا بدع أنْ يحبّ اللّه تعالى المفتن التوّاب، فإنّ الإصرار على مقارفة الذنوب، وعدم ملافاتها بالتوبة، دليلٌ صارخٌ على موت الضمير وتلاشي الإيمان، والاستهتار بطاعة اللّه عزّ وجل، وذلك من دواعي سخَطِه وعقابه.

منهاج التوبة:

ولا بدّ للتائب أنْ يعرف أساليب التوبة، وكيفيّة التخلّص مِن تبِعات الذنوب، ومسؤوليّاتها الخطيرة، ليكفّر عن كلّ جريرةٍ بما يلائمها مِن الطاعة والإنابة.

فللذنوب صور وجوانب مختلفة:

منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم، وهي قِسمان: تركُ الواجبات، وفِعل المحرّمات.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

النقص الحادث في المبيع ، فكذلك عدم المشروط. ولأنّ الإعسار يثبت به فسخ البيع بغير شرطٍ ، ولا يثبت مثل ذلك في الحوالة ، فاختلفا(١) .

ونمنع كون الإعسار لا يردّ الحوالة إذا لم يشترط ، وقد سبق. ونمنع الملازمة بين ثبوته بالشرط وبعدمه ، ونحن لا ندّعي مساواة الحوالة للبيع في جميع أحكامه.

تذنيب : لو كان المحال عليه معسراً ولم يعلم المحتال ثمّ تجدّد اليسار وعلم سبق الفقر ، احتُمل ثبوت الخيار ؛ للاستصحاب‌. وعدمُه ؛ لزوال المقتضي.

مسألة ٦٠٢ : إذا حصلت الحوالة مستجمعة الشرائط ، انتقل المال إلى ذمّة المحال عليه ، وبرئ المحيل‌ ، سواء أبرأه المحتال أو لا - وهو قول عامّة الفقهاء(٢) - لأنّ الحوالة مأخوذة من التحويل للحقّ ، وإنّما يتحقّق هذا المعنى لو انتقل المال من ذمّةٍ إلى أُخرى ، وليس هنا إلّا ذمّة المحيل والمحال عليه ، فإذا تحوّل الحقّ من ذمّة أحدهما إلى الآخَر مع اليسار أو علم الإعسار ، لم يعد الحقّ إليه ؛ لعدم المقتضي.

وقال شيخنارحمه‌الله في النهاية : ومَنْ كان له على غيره مالٌ فأحال به على غيره ، وكان الـمُحال عليه مليّاً به في الحال وقَبِل الحوالة وأبرأه منه ، لم يكن له الرجوعُ عليه ، ضمن ذلك المـُحال به عليه أو لم يضمن بعد أن يكون قد قَبِل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة إلاّ بعد ضمان المـُحال عليه ولم يضمن مَنْ أُحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة الـمُحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة ، فإن انكشف لصاحب المال أنّ الذي أُحيل به عليه غير ملي بالمال ، بطلت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٣ ، المغني ٥ : ٦٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦٢.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

٤٤١

الحوالة ، وكان له الرجوعُ على المديون بحقّه عليه ، ومتى لم يُبرئ الـمُحال له بالمال الـمُحيل في حال ما يُحيله ، كان له أيضاً الرجوعُ عليه في أيّ وقت شاء(١) .

وكان الحسن البصري أيضاً لا يرى الحوالة مبرئةً إلّا أن يُبرئه(٢) .

واحتجّ الشيخرحمه‌الله بما رواه زرارة - في الحسن - عن الصادق أو الباقرعليهما‌السلام : في الرجل يحيل الرجل بمالٍ كان له على رجلٍ [ آخَر ] ، فيقول له الذي احتال : برئت ممّا لي عليك ، قال : « إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه ، وإن لم يُبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله »(٣) .

وهذه الرواية لا بأس بها ؛ لصحّة السند ، لكنّ المشهور عند الأصحاب والعامّة البراءة بمجرّد الحوالة ، فلابدَّ من حمل الرواية على شي‌ء ، وليس ببعيدٍ من الصواب حملها على ما إذا شرط المحيل البراءة ، فإنّه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه ، أو نقول : إذا لم يُبرئه ، فله أن يرجع على الذي أحاله إذا تبيّن له إعساره وقت الحوالة.

النظر الثاني : في الرضا بالحوالة.

مسألة ٦٠٣ : يشترط في الحوالة رضا المحيل - وهو الذي عليه الحقّ - إجماعاً‌ ، فلو أُكره على أن يحيل فأحال بالإكراه ، لم تصحّ الحوالة ، ولا نعرف فيه خلافاً ؛ لأنّ مَنْ عليه الحقّ مخيَّر في جهات القضاء ، فله أن يقضي من أيّ جهة شاء ، فلا يُعيَّن عليه بعض الجهات قهراً ، فلا يلزمه‌

____________________

(١) النهاية : ٣١٦.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٠٤ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢١١ - ٢١٢ / ٤٩٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٤٤٢

أداؤه من جهة الدَّيْن الذي له على المحال عليه ، إلّا في صورةٍ واحدة لا يُعتبر فيها رضا المحيل ، وهي ما إذا جوّزنا الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه لو قال للمستحقّ : أحلت بالدَّيْن الذي لك على فلان على نفسي ، فقَبِل ، صحّت الحوالة ، فإذَنْ لا يشترط هنا رضا المحيل ، بل رضا المحتال والمحال عليه خاصّةً.

مسألة ٦٠٤ : يشترط رضا المحتال عند علمائنا أجمع‌ - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) - لأنّ حقّه ثابت في ذمّة المحيل ، فلا يلزمه نقله إلى ذمّةٍ أُخرى ، إلّا برضاه ، كما أنّه لا يجوز أن يُجبر على أن يأخذ بالدَّيْن عوضاً ، وكما إذا ثبت حقّه في عينٍ ، لا يملك نقله إلى غيرها بغير رضاه. وقال داوُد وأحمد : لا يعتبر رضاه إذا كان المحال عليه مليّاً ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٢) والأمر للوجوب(٣) .

ونحن نمنع الوجوب ، بل المراد به الإرشاد.

مسألة ٦٠٥ : يشترط عندنا رضا المحال عليه‌ ، فلو لم يرض المحال عليه أو لم يُعلم هل رضي أم لا؟ لم تصحّ الحوالة ، وبه قال أبو حنيفة والزهري والمزني(٤) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٢٢٥ ، ضمن ح ٩٦٥٥.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٨ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

٤٤٣

وقال أبو العبّاس ابن القاص : نصّ الشافعي في الإملاء على أنّها تفتقر إلى رضا المحال عليه - وإليه ذهب أبو سعيد الاصطخري من الشافعيّة - لأنّه أحد مَنْ تتمّ به الحوالة ، فأشبه المحتال والمحيل. ولأنّ الناس يختلفون في الاقتضاء والاستيفاء سهولةً وصعوبةً. ولأنّ الأصل بقاء الحقّ في ذمّة المحال عليه للمحيل ، فيستصحب إلى أن يظهر المعارض.

وأصحّ القولين عند الشافعي : أنّه لا يعتبر رضا المحال عليه إذا كانت الحوالة على مَنْ عليه دَيْنٌ للمحيل - وبه قال مالك وأحمد - لأنّ المحيل أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة ، فلم يفتقر إلى رضا مَنْ عليه الحقّ ، كما لو كان وكيلاً في قبضه ، بخلاف المحتال ، فإنّه ينتقل حقّه ، وتبرأ ذمّته منه. ولأنّ المحال عليه محلّ الحقّ والتصرّف ، فلا يعتبر رضاه ، كما لو باع عبداً ، لا يعتبر رضاه(١) .

وبنوا الوجهين على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ إن قلنا بالأوّل ، فلا يشترط ؛ لأنّه حقٌّ للمحيل ، فلا يحتاج فيه إلى رضا الغير. وإن قلنا بالثاني ، يشترط ؛ لتعذّر إقراضه من غير رضاه(٢) .

وإن كانت الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم تصحّ عند الشافعي إلّا برضا المحال عليه ؛ لأنّا لو صحّحناه ، لألزمناه قضاء دَيْن الغير قهراً. وإن رضي ، ففي صحّة الحوالة وجهان بناهما الجمهور على الأصل المذكور(٣)

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، التلقين ٢ : ٤٤٣ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٩ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٤

وسيأتي(١) .

فقد ظهر من هذا الإجماعُ على اعتبار رضا المحيل إلّا في الصورة التي ذكرناها في أوّل النظر ، وأنّ أصحابنا اشترطوا رضا الثلاثة : المحيل والمحتال والمحال عليه.

النظر الثالث : في الدَّيْن.

مسألة ٦٠٦ : إذا أحال زيد عمراً على بكر بألف ، فلا يخلو إمّا أن تكون ذمّة زيدٍ(٢) مشغولةً بالألف لعمرو ، أو لا‌ ، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون بكر بري‌ء الذمّة منها أو مشغولها ، فالأقسام أربعة :

أ - أن تكون ذمّة زيدٍ وبكرٍ مشغولتين ، ولا خلاف هنا في صحّة الحوالة.

ب - قسيم هذا ، وهو أن تكون ذمّتهما بريئةً ، فإذا أحال زيد - وهو بري‌ء الذمّة - عمراً - ولا دَيْن له عليه - على بكر ، وهو بري الذمّة ، لم يكن ذلك إحالةً صحيحة ؛ لأنّ الحوالة إنّما تكون بدَيْنٍ ، وهنا لم يوجد ، بل يكون ذلك وكالةً في اقتراضٍ ، وإنّما جازت الوكالة هنا بلفظ الحوالة ؛ لاشتراكهما في المعنى ، وهو استحقاق الوكيل أن يفعل ما أمره الموكّل من الاقتراض ، وأن يطالبه من المحال عليه ، كما يستحقّ المحتال مطالبة المحال عليه.

ج - أن يكون المحيلُ بري‌ءَ الذمّة والمحالُ عليه مشغولَها ، ( فيحيل‌

____________________

(١) في ص ٤٤٥ ، القسم « د » من الأقسام المذكورة في المسألة ٦٠٦.

(٢) في « ج » : « ذمّته » بدل « ذمّة زيد ».

٤٤٥

مَنْ لا دَيْن عليه مَنْ لا دَيْن له على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ )(١) بقبضه ، فلا يكون ذلك أيضاً حوالةً ؛ لأنّ الحوالة مأخوذة من تحوّل الحقّ وانتقاله ، ولا حقّ [ هاهنا ](٢) ينتقل ويتحوّل ، بل يكون ذلك في الحقيقة وكالةً في الاستيفاء ؛ لاشتراكهما في استحقاق الوكيل مطالبة مَنْ عليه الدَّيْن ، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه ، وتحوّل ذلك إلى الوكيل كتحوّله إلى المحيل.

د - أن يكون المحيل مشغولَ الذمّة والمحالُ عليه برئَ الذمّة.

وفي صحّة هذه الحوالة إشكال أقربه : الصحّة - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه(٣) - لأنّ المحال عليه إذا قَبِلها ، صار كأنّه قضى دَيْن غيره بذمّته ؛ لأنّ الحوالة بمنزلة الحقّ المقبوض ، وإذا قبض حقّاً من غيره ، صحّ وسقط عن غيره ، كذا هنا ، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ فإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تصحّ ؛ لأنّه ليس له على المحال عليه شي‌ء نجعله عوضاً عن حقّ المحتال. وإن قلنا : إنّها استيفاء حقٍّ ، صحّت(٤) ، كأنّه أخذ المحتال حقّه وأقرضه من المحال عليه(٥) .

قال الجويني : الصحيح عندي تخريج الخلاف على الخلاف في أنّه‌

____________________

(١) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : « فيحيل مَنْ لا دَيْن له عليه على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ ». وكذا في « ر » بإسقاط « له » من « لا دَيْن له عليه ».

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع : فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٧٣ و ٧٤ ، وبدائع الصنائع ٦ : ١٦.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « صحّ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٦

هل يصحّ الضمان بشرط براءة الأصيل؟ بل هذه(١) الصورة غير(٢) تلك الصورة ؛ فإنّ الحوالة تقتضي براءة المحيل ، فإذا قَبِل الحوالة ، فقد التزم على أن يُبرئ المحيل(٣) .

وهذا ذهابٌ منه إلى براءة المحيل وجَعْلها أصلاً مفروغاً عنه.

لكن للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يبرأ على قياس الحوالات.

والثاني - وبه قال أكثرهم - : أنّه لا يبرأ ، وقبول الحوالة ممّن لا دَيْن عليه ضمانٌ مجرّد(٤) .

ثمّ فرّعوا فقالوا : إن قلنا : لا تصحّ هذه الحوالة ، فلا شي‌ء على المحال عليه ، فإن تطوّع وأدّاه ، كان كما لو قضى دَيْنَ الغير. وإن قلنا : تصحّ ، فهو كما لو ضمنه ، فيرجع على المحيل إن أدّى بإذنه(٥) .

وكذا إن أدّى بغير إذنه عندنا وعلى أظهر الوجهين عند الشافعيّة(٦) ؛ لجريان الحوالة بإذنه.

وللمحال عليه الرجوع على المحيل هنا قبل الأداء - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٧) - لأنّ المحيل يبرأ ، فينتقل الحقّ إلى ذمّة المحال عليه بمجرّد الحوالة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « هنا » بدل « هذه ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر « عين » بدل « غير ». وفي « ر » : « على غير ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ - ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٧

والثاني : ليس له ذلك بناءً على أنّ المحيل لا يبرأ ، كما أنّ الضامن لا يرجع على المضمون عنه قبل الأداء(١) .

وإذا طالبه المحتال بالأداء ، فله مطالبة المحيل بتخليصه.

وهل له ذلك قبل مطالبة المحتال؟ الأقوى عندي : ذلك.

وللشافعيّة وجهان كالوجهين في مطالبة الضامن(٢) .

ولو أبرأه المحتال ، لم يرجع على المحيل بشي‌ء.

ولو قبضه المحتال ثمّ وهبه منه ، فالأقوى : الرجوع ؛ لأنّه قد غرم عنه ، وإنّما عاد المال إليه بعقدٍ مستأنف.

وللشافعيّة وجهان يُنظر في أحدهما إلى أنّ الغُرْم لم يستقر عليه ، فلم يغرم عنه في الحقيقة شيئاً. وفي الثاني إلى أنّه عاد إليه بتصرّفٍ مبتدأ(٣) .

وهُما مأخوذان من القولين فيما إذا وهبت منه الصداق بعد القبض ثمّ طلّقها قبل الدخول.

ولو ضمن عنه ضامنٌ ، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال المالَ منه أو من ضامنه.

ولو أحال المحتال على غيره ، نُظر إن أحاله على مَنْ عليه دَينٌ ، رجع على محيله بنفس الحوالة ؛ لحصول الأداء بها. وإن أحال على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم يرجع عليه الذي أحاله عليه.

مسألة ٦٠٧ : الأقوى عندي أنّه لا يشترط في الدَّيْن المحال به اللزومُ‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٨

- وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - كما لو أحال بالثمن في مدّة الخيار بأن يحيل المشتري البائعَ على رجلٍ أو يحيل البائع رجلاً على المشتري. ولأنّه صائرٌ إلى اللزوم ، والخيار عارضٌ فيه ، فيعطى حكم اللازم.

والثاني لهم : المنع ؛ لأنّه ليس بلازم(٢) .

وهو مصادرة على المطلوب.

قال بعض الشافعيّة : هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الحوالة معاوضة أو استيفاء؟ إن قلنا معاوضة ، فهي كالتصرّف في المبيع في زمان الخيار. وإن قلنا : استيفاء ، فتجوز(٣) .

قالوا : فإن قلنا بالمنع ، ففي انقطاع الخيار وجهان :

أحدهما : أنّه لا ينقطع ؛ لحكمنا ببطلانه ، وتنزيلنا إيّاه منزلة العدم.

والثاني : نعم ؛ لأنّ التصرّف في عوض العقد يتضمّن الرضا بإبطال الخيار(٤) .

وإن قلنا بالجواز ، لم يبطل الخيار عند بعضهم(٥) .

وقال آخَرون : يبطل ؛ لأنّ قضيّة الحوالة اللزوم ، ولو بقي الخيار لما صادفت الحوالة مقتضاها ، وكانت هذه الحوالة كالحوالة على النجوم(٦) .

والأقوى : بقاء الخيار.

مسألة ٦٠٨ : إذا وقعت الحوالة بالثمن المتزلزل بالخيار ثمّ انفسخ البيع‌

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، الوسيط ٣ : ٢٢٢ - ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩.

(٤ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٤٩

بفسخ صاحب الخيار ، بطل الثمن ، وبطلت الحوالة المترتّبة عليه ، فلو أحال البائع على المشتري بالثمن رجلاً له عليه دَيْنٌ ثمّ فسخ المشتري بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لأنّها فرع البيع ، والبيع قد بطل.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ البيع لم يبطل من أصله ، وإنّما تجدّد له البطلان ، فلا يؤثّر في الحوالة التي جرت منهما.

ولو أحال المشتري البائعَ على غيره ثمّ فسخ البيع بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لترتّبها على البيع ، والبيع قد بطل.

ويُحتمل قويّاً عدم بطلان الحوالة.

وعلى قول الشافعيّة ببطلان الخيار لو أحال المشتري البائعَ على ثالثٍ ، يبطل خيارهما جميعاً ؛ لتراضيهما. ولو أحال البائع رجلاً على المشتري ، لم يبطل خيار المشتري ، إلاّ أن يقبل ويرضى بالحوالة(١) .

مسألة ٦٠٩ : لو أحال زيد على عمرو بكراً بمالٍ فأدّاه عمرو - بعد قبول الثلاثة الحوالة - إلى بكر‌ ، ثمّ جاء عمرو يطالب زيداً بما أدّاه بحوالته إلى بكر ، فادّعى زيد أنّه إنّما أحال بما لَه عليه ، وأنكر عمرو ذلك وأنّه احتال ولا شي‌ء لزيد عليه ، كان القولُ قولَ عمرو ؛ لأصالة براءة ذمّته.

ويُحتمل أن يقال : إن قلنا بصحّة الحوالة على مَنْ لا مال عليه ، كان القولُ قولَ المحال عليه قطعاً. وإن قلنا : إنّها لا تصحّ ، كان القولُ قولَ المحيل ؛ لاعترافهما بالحوالة ، وادّعاء المحال عليه بطلانها ، والأصل الصحّة.

مسألة ٦١٠ : لو أحال السيّد على مكاتَبه بمال النجوم‌ ، فإن كان بعد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٥٠

حلوله ، صحّ ؛ لثبوته في ذمّة المكاتَب. وإن كان قبل الحلول ، فكذلك على الأقوى.

ويجي‌ء على قول الشيخرحمه‌الله المنع(١) ؛ لأنّ مال الكتابة غير واجبٍ - عنده(٢) - على المكاتَب ؛ إذ له أن يُعجّز نفسه ، فله أن يمتنع من أدائه.

وللشافعيّة وجهان فيما إذا أحال السيّد غيره على مكاتَبه بالنجوم.

أحدهما : الجواز - كما قلناه - لأنّ النجوم دَيْنٌ ثابت على المكاتَب ، فأشبه سائر الديون.

وأصحّهما عندهم : المنع ؛ لأنّ النجوم غير لازمة على المكاتَب ، وله إسقاطها متى شاء ، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال(٣) .

وعلى ما اخترناه - من صحّة الحوالة - لو أعتق السيّد عبده المكاتَب ، بطلت الكتابة ، ولم يسقط عن المكاتَب مال الحوالة ؛ لأنّ المال بقبوله الحوالة صار لازماً له للمحتال ، ولا يضمن السيّد ما يغرمه من مال الحوالة.

ولو كان للسيّد عليه دَيْنُ معاملةٍ غير مال الكتابة ، صحّت الحوالة به قطعاً ؛ لأنّ حكمه حكم الأحرار في المداينات.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه مبنيّ على أنّ المكاتَب لو عجّز نفسه ، هل يسقط ذلك الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، لم تصح الحوالة ، وإلّا صحّت(٤) .

والمعتمد ما قلناه ، وهو قول أكثر الشافعيّة وقول أكثر العامّة(٥) .

ولو أحال المكاتَبُ السيّدَ على إنسانٍ بمال الكتابة ، صحّت الحوالة‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٢١.

(٢) الخلاف ٦ : ٣٩٣ ، المسألة ١٧ ، المبسوط - للطوسي - ٦ : ٧٣ و ٨٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ - ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٥) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

٤٥١

عندنا وعند أكثر الشافعيّة وأكثر المانعين من حوالة السيّد عليه بالنجوم(١) ، وتبرأ ذمّة المكاتَب من مال الكتابة ، ويتحرّر ، ويكون ذلك بمنزلة الأداء ، سواء أدّى المحال عليه أو مات مفلساً ؛ لأنّ ما أحاله عليه مستقرّ ، والكتابة لازمة من جهة السيّد ، فمتى أدّى المحال عليه وجب على السيّد القبول أو الإبراء.

وقال بعض الشافعيّة : لا تصحّ هذه الحوالة أيضاً(٢) .

فللشافعيّة إذَنْ ثلاثة أقوال في الجمع بين الصورتين :

أحدها : جواز إحالة المكاتَب بالنجوم ، وإحالة السيّد على النجوم ، وهو قول ابن سريج.

والثاني : منعهما جميعاً.

والثالث : أظهرها عندهم ، وهو : جواز إحالة المكاتَب بها ، ومنع إحالة السيّد عليها(٣) .

ولو أحال السيّد بأكثر مال الكتابة ثمّ أعتقه ، سقط عن المكاتَب الباقي ، ولم تبطل الحوالة.

مسألة ٦١١ : مال الجُعْل في الجُعالة إن استحقّ بالعمل ، صحّت الحوالة به إجماعاً.

وإن لم يشرع في العمل ، فالأقرب : الجواز ؛ لأنّا نجوّز الحوالة على بري‌ء الذمّة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) الوسيط ٣ : ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠.

٤٥٢

وقياس الشافعيّة أنّه يجي‌ء في الحوالة به وعليه الخلافُ المذكور في الرهن به وفي ضمانه(١) .

وقال بعض الشافعيّة : تجوز الحوالة به وعليه بعد العمل ، لا قبله(٢) .

ولو أحال مَنْ عليه الزكاة الساعيَ على إنسانٍ بالزكاة ، جاز ، سواء قلنا : إنّ الحوالة استيفاء أو اعتياض ؛ لأنّه دَيْنٌ ثابت في الذمّة ، فجازت الحوالة.

وعندنا يجوز دفع قيمة الزكاة عن عينها ، فجاز الاعتياض فيها.

أمّا الشافعيّة فإنّهم منعوا من دفع القيمة في الزكاة ومن الاعتياض عنها(٣) ، فهنا قالوا : إن قلنا : إنّ الحوالة استيفاء ، صحّت الحوالة هنا. وإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تجز ؛ لامتناع أخذ العوض عن الزكاة(٤) .

ولو أحال الفقير المديون صاحبَ دَيْنه بالزكاة على مَنْ وجبت عليه ، لم تصح ؛ لأنّها لم تتعيّن له إلّا بالدفع إليه.

ولو قَبِل مَنْ وجبت عليه ، صحّ ، ولزمه الدفع إلى المحتال.

مسألة ٦١٢ : تجوز الحوالة بكلّ مالٍ لازمٍ ثابتٍ في الذمّة معلومٍ‌ ؛ لأنّها إمّا اعتياض ، فلا تصحّ على المجهول ، كما لا يصحّ بيعه ، وإمّا استيفاء ، وإنّما يمكن استيفاء المعلوم ، أمّا المجهول فلا. ولاشتماله على الغرر.

فلو قال : أحلتك بكلّ ما لك عَلَيَّ ، فقَبِل ، لم تصح.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٢) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٥٧ ، المجموع ٥ : ٤٢٨ - ٤٢٩ ، و ٦ : ١٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٦٥ ، المغني ٢ : ٦٧١ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢١.

(٤) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٣

ويحتمل الصحّة ، ويكون على المحال عليه للمحتال كلّ ما تقوم به البيّنة ، كما قلناه في الضمان.

ولا يشترط اتّفاق الدَّيْنين في سبب الوجوب ، فلو كان أحدهما ثمناً والآخَر أُجرةً أو قرضاً أو بدلَ متلفٍ أو أرشَ جنايةٍ وما أشبهه ، جازت الحوالة ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٦١٣ : تصحّ الحوالة بكلّ دَيْنٍ ثابتٍ في الذمّة‌ ، سواء كان مثليّاً ، كالذهب والفضّة والحبوب والأدهان ، أو من ذوات القِيَم ، كالثياب والحيوان وغيرهما - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه حقٌّ لازمٌ ثابتٌ في الذمّة ، فأشبه ما لَه مِثْلٌ.

والثاني : المنع ؛ لأنّ الغرض من الحوالة إيصال الحقّ إلى مستحقّه من غير تفاوتٍ ، وهذا الغرض لا يتحقّق فيما لا مِثْل له ؛ لأنّ المثل لا يتحرّز(٢) ، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف(٣) .

والأوّل أصحّ. والوصول إلى الحقّ قد يكون بالمثل ، وقد يكون بالقيمة ، وكما يجوز إبراء المديون منه بالأداء ، كذا المحال عليه.

ولو كان المال ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه ، ففي جواز الحوالة به إشكال أقربه : الجواز ؛ لأنّ الواجب في الذمّة حينئذٍ القيمة ، وتلك العين لا تثبت في الذمّة ، فلا تقع الحوالة بها ولا بمثلها ؛ لعدمه ، بل بالقيمة.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « لا يتحرّر » بالراءين المهملتين.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٤

ولو كان عليه خمس من الإبل أرش الموضحة مثلاً ، وله على آخَر مثلها ، فأحاله بها ، فالأقرب : الصحّة ؛ لأنّها تنحصر بأقلّ ما يقع عليه الاسم في السنّ والقيمة وسائر الصفات ، وهو أحد قولَي الشافعي(١) .

والثاني : لا تجوز ؛ لأنّ صفاتها مجهولة(٢) .

وهو ممنوع.

وقال بعض الشافعيّة : إذا أحال بإبل الدية وعليها وفرّعنا على جواز الحوالة في المتقوّمات ، فوجهان أو قولان مبنيّان على جواز المصالحة والاعتياض عنها.

والأصحّ عندهم : المنع ؛ للجهل بصفاتها(٣) .

ولو كان الحيوان صداقاً ودخل بها ، جازت الحوالة عند بعض الشافعيّة ؛ لأنّه لا يكون مجهولاً(٤) .

ومَنَعه بعضهم ؛ لأنّه لا تجوز المعاوضة معها(٥) .

النظر الرابع : في تساوي الجنسين.

مسألة ٦١٤ : من مشاهير الفقهاء(٦) وجوب تساوي الدَّيْنين‌ - أعني الدَّيْن الذي للمحتال على المحيل ، والذي للمحيل على المحال عليه - جنساً ووصفاً ، فلو كان له دنانير على شخصٍ فأحال عليه بدراهم ، لم تصحّ ؛ لأنّ الحوالة إن جعلناها استيفاءً ، فلأنّ مستحقّ الدراهم إذا‌

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، ولاحظ : حلية العلماء ٥ : ٣٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٤ و ٥) راجع : التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢.

(٦) بداية المجتهد ٢ : ٣٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦ ، المغني ٥ : ٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٥٥

استوفاها وأقرضها فمحال أن ينتقل حقّه إلى الدنانير.

وإن جعلناها معاوضةً ، فلأنّها وإن كانت معاوضةً فليست هي على حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مالٍ أو زيادة قدرٍ أو صفة ، وإنّما هي معاوضة إرفاقٍ ومسامحة للحاجة ، فاشترط فيها التجانس والتساوي في القدر والصفة ؛ لئلّا يتسلّط على المحال عليه ، كما في القرض.

ولأنّا نجبر المحال عليه عند مَنْ لا يشترط رضاه ، ولا يمكن إجباره مع الاختلاف.

ولأنّ الحوالة لا يُطلب بها الفضل ، ولهذا جازت دَيْناً بدَيْن ، ألا ترى أنّه لا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فلو جوّزنا الإحالة مع الاختلاف في الجنس أو الوصف ، لكان بيعَ الدَّيْن بالدَّيْن.

ومع هذا فقد قال المشترطون للتساوي : إنّه تصحّ الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، والأحرى جواز الإحالة على مَنْ عليه دَيْن مخالف. لكنّ الغرض بقولهم : « إذا تغاير الدَّيْنان جنساً أو وصفاً أو قدراً ، لم تصحّ الحوالة » أنّ الحقّ لا يتحوّل بها من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس ، لكنّها إذا جرت فهي حوالة على مَنْ لا دَيْن له عليه ، وحكمه ما تقدّم(١) .

مسألة ٦١٥ : لو كان عليه إبل من الدية وله على آخَر مثلها قرضاً ، فأحاله صاحب القرض على المقترض بإبل الدية‌ ، فإن قلنا : يردّ في القرض مثلها ، صحّت الحوالة ؛ لأنّه يمكن استيفاء الحقّ على صفته من المحال عليه. ولأنّ الخيرة في التسليم إلى مَنْ عليه الدَّيْن ، وقد رضي بتسليم ما لَه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٦

في ذمّة المقترض ، وهو مثل الحقّ ، فكانت الحوالة صحيحةً.

وإن قلنا : إنّه يردّ في القرض القيمة ، لم تصحّ الحوالة ؛ لاختلاف الجنس.

وكذا ما يثبت في الذمّة قيمته في القرض - كالجواهر واللآلئ وغيرهما ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه - لا تصحّ الحوالة به.

ولو احتال المقرض بإبل الدية ، لم تصح ؛ لأنّا إن قلنا : تجب القيمة في القرض ، فقد اختلف الجنس. وإن قلنا : يجب المثل ، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته ، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك.

مسألة ٦١٦ : يجب تساوي الدَّيْنين في القدر‌ ، فلا يحال بخمسة على عشرة ، ولا بعشرة على خمسة ؛ لما قلنا من أنّ هذا العقد للإرفاق ، ولإيصال كلّ حقٍّ إلى مستحقّه ، ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حطّ شي‌ء.

والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس ، وإلّا فلو كان له عشرة فأحال بخمسة منها ، أو كان له خمسة فأحال بها وبخمسةٍ أُخرى ، فإنّه تصحّ.

وللشافعيّة وجهٌ في الإحالة بالقليل على الكثير : أنّها جائزة ، وكأنّ المحيل تبرّع بالزيادة(١) .

وقال أبو العباس ابن سريج : الحوالة بيع إلّا أنّه غير مبنيّ على المكايسة والمغابنة وطلب الربح والفضل ، بل جُعل رفقاً ، كالقرض ، وإن كان نوعَ معاوضةٍ ، فلا تجوز إلّا مع اتّفاق الجنس جنساً وقدراً وصفةً ، وقد قال الشافعي في كتاب البيوع في باب الطعام قبل أن يستوفى : وإن حلّ عليه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٧

طعام فأحال به على رجل له عليه طعام أسلفه إيّاه ، لم تجز من قِبَل أنّ هذا الطعام لـمّا لم يجز بيعه لم تجز الحوالة به ؛ لأنّه بيع ، وهذا نصٌّ منه(١) .

وقيل : ليست بيعاً(٢) - وهو ما اخترناه نحن أوّلاً - لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ندب إليها ، فقال : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٣) . ولأنّها لا تصحّ بلفظ البيع ، ولا تجوز الزيادة فيها ولا النقصان ، ولما جازت في النقود إلّا مع التقابض في المجلس ، إلّا أنّ هذا القائل لا يجوّز الحوالة بالـمُسْلَم فيه ، وهذا تشمير(٤) لقول مَنْ قال : إنّه بيع.

لا يقال : لو كان بيعاً ، لكان على المحيل تسليمه إلى المحال عليه ؛ لأنّه عوض من جهته ، كما إذا باع شيئاً في يد غيره ، فإنّه يطالبهما به المشتري.

لأنّا نقول : أجاب مَنْ قال : « إنّه بيع » : بأنّه لـمّا استحقّ مطالبة المحال عليه به لم يستحقّ مطالبة المحيل ؛ لأنّه لو استحقّ مطالبتهما ، لكان قد حصل له بالحوالة زيادة في حقّ المطالبة ، وقد ثبت أنّ الحوالة مبنيّة على أنّه لا يستحقّ بها إلّا مثل ما كان يستحقّه ، بخلاف البيع ؛ لأنّه تجوز فيه الزيادة.

وفائدة الاختلاف : ثبوت خيار المجلس إن قلنا : إنّها بيع.

والحقّ ما تقدّم ، والاعتذار باطل ؛ لأنّ تخلّف لازم البيع يقضي بانتفائه.

____________________

(١) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦ ، وراجع : الأُم ٣ : ٧٣.

(٢) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦.

(٣) المصنّف - لابن أبي شيبة - ٧ : ٧٩ / ٢٤٤٥.

(٤) التشمير : التقليص والإرسال. لسان العرب ٤ : ٤٢٨ « شمر ».

٤٥٨

مسألة ٦١٧ : الأقرب : أنّه لا يشترط تساوي المالَيْن في الحلول والتأجيل‌ ، فيجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّ للمحيل أن يُعجّل ما عليه ، فإذا أحال به على الحالّ فقد عجّل.

وكذا يجوز أن يحيل بالحالّ على المؤجَّل.

ثمّ إن رضي المحال عليه بالدفع معجَّلاً ، جاز ، وإلاّ لم يجز ، ووجب على المحتال الصبر ، كما لو احتال مؤجّلاً.

وللشافعيّة قولان :

أصحّهما عندهم : أنّه يشترط التساوي في الحلول والتأجيل ؛ إلحاقاً للوصف بالقدر.

والثاني : أنّه يجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز العكس ؛ لأنّ حقّ المحتال حالٌّ ، وتأجيل الحالّ لا يلزم(١) .

ونحن نمنع عدم اللزوم مطلقاً ، بل إذا تبرّع به ، لم يلزم ، أمّا إذا شرطه في عقدٍ لازم ، فإنّه يلزم ، والحوالة عقد لازم ، والمحيل إنّما أحال بالمؤجَّل ، والمحال عليه إنّما قَبِل على ذلك ، فلم يكن للمحتال الطلبُ معجَّلاً.

فروع :

أ - لو كان الدَّيْنان مؤجَّلين ، فإن تساويا في الأجل ، صحّت الحوالة قطعاً.

وإن اختلفا ، صحّت عندنا أيضاً.

وللشافعيّة وجهان بناءً على الوجهين في الحالّ والمؤجَّل ، فإن منعناه هناك ، منعناه هنا. وإن جوّزناه هناك ، جاز هنا على حدّ ما جاز هناك على معنى أنّه يجوز أن يحال بالأبعد على الأقرب ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٩

العكس ؛ لأنّه تأجيل الحالّ(١) .

ب - لو كان أحدهما صحيحاً والآخَر مكسَّراً‌ ، قالت الشافعيّة : لم تجز الحوالة بينهما على الوجه الأوّل ، وعلى الثاني يحال بالمكسَّر على الصحيح ، ويكون المحيل متبرّعاً بصفة الصحّة ، ولا يحال بالصحيح على المكسَّر ، إلَّا إذا كان المحتال تاركاً لصفة الصحّة ، ويرضى بالمكسَّرة رشوةً ليحيله المحيل.

ج - يُخرّج على هذا الخلاف عندهم حوالة الأردأ على الأجود في كلّ جنسٍ ، وبالعكس‌(٢) .

والأقرب عندي : جواز ذلك كلّه.

د - لو أدّى المحال عليه الأجود إلى المحتال ، وجب القبول‌. وكذا الصحيح عوض المكسَّر.

أمّا تعجيل المؤجَّل فلا يُجبر عليه ، خلافاً للشافعيّة ، فإنّهم أوجبوه(٣) ، حيث يجبر المستحقّ على القبول(٤) .

وهذا يتفرّع على الصحيح في أنّ المديون إذا جاء بأجود ممّا عليه من ذلك النوع ، يُجبر المستحقّ على قبوله ، ولا يكون ذلك معاوضةً؟(٥) .

ه- لو كان الدَّيْنان حالَّيْن فشرط في الحوالة أنّ المحتال يقبض حقّه أو بعضه بعد شهرٍ ، صحّ عندنا‌ - خلافاً لأحمد(٦) - لعموم قولهعليه‌السلام :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ - ١٣٢.

(٣) في النسخ الخطّيّة : « جوّزوه » بدل « أوجبوه ».

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٢.

(٦) المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517