أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333433 / تحميل: 11882
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تخصيص الفعل بالإيجاد في وقت دون آخر أو بإيقاعه على وجه دونَ وجه.

ويدلّ على ثبوت الإرادة له - تعالى - بالمعنى المطلق أنّ العالم حادث، فتخصيصُ إيجاده بوقتٍ دونَ ما قبله وما بعده، مع جوازهما، يفتقرُ إلى المخصّص، وليس القدرة، لتساوي نسبتها، ولا العلم لتبعيته، فهو الإرادةُ، ولأنّ تخصيص ما وجد بالإيجاد دونَ غيره من المقدورات يستدعي مخصّصاً هو الإرادةُ.

ويدلّ على إثبات إرادة الفعل منّا أمرُه بالطّاعة، ونهيه عن المعصية، وهما يستلزمان الإرادة والكراهة، خلافاً للأشعريّة الّذين أثبتوا الطلبَ مغايراً للإرادة، لعدم تعقّله، وإلزامُهم بتمهيد عذر السيّد الضّارب عبده للمخالفة إذا أمره مشتركٌ.

المطلب السّادس: في أنّه - تعالى - مُدرِكٌ

اتّفق المسلمون على أنّه - تعالى - سميع بصيرٌ، واختلفوا، فقال أبو الحسين والكعبيّ والأوائل: إنّ معناه علمه بالمسموعات والمبصرات، لاستحالة أن يكونَ هو الإحساسَ بالحواس ولا ما عداه غير العلم، لأنّه غيرُ معقول، وسيأتي أنّه - تعالى - عالم بكلّ معلوم، وللسّمع.

وأثبت الجُبائيّان والأشعريّ والسّيّد المرتضى والخوارزميّ أمراً زائداً على العلم، لأنّ إدراكنا زائدٌ على علمنا؛ للفرق بينَ العلم عندَ المشاهدة وبينه

١٤١

عندَ عدمها. والمقتضي لذلك كونُ المدرك حيّاً، والله - تعالى - حيٌّ، فإدراكه زائد، والمقدّماتُ ضعيفةٌ.

ثمّ استدلّوا على ثبوته بأنّه - تعالى - حيّ، فيصحُّ أن يتّصف بالسّمع والبصر، وكلّ من صحّ اتّصافه بصفة وجب أن يتّصف بها أو بضدّها، وضدّها نقصٌ، وهو على الله - تعالى - مُحال.

والحقّ استنادُ ذلك إلى النّقل، ولا يجبُ صحّةُ اتّصاف الحيّ بالسّمع والبصر، فإنّ أكثرَ الهوامّ والسّمك لا سمعَ لها، والعقربُ والخُلَدُ (1) لا بصرَ لهما. والدّيدان (2) وكثيرٌ من الهوامّ لا سمَ لها ولا بصرَ. فلو لم يمتنع اتّصاف تلك الأنواع بالسّمع والبصر لما خلا جميعُ أشخاصها منهما. (3)

وإذا جاز أن يكونَ بعضُ فصول الأنواع مزيلاً لتلك الصّحة بطلت الكليّة. ولا يجبُ اتّصاف الشّيء بأحد الضّدّين كالشّفاف. نعم يجبُ أن يتصف القابل للصّفة بها أو بعدمها، ونمنع كونَ ضدّهما نقصاً في حقّه تعالى.

والقياسُ باطلٌ، على أنّ حياته - تعالى - مخالفةٌ لحياتنا. ولا يجبُ العموميّةُ، لانتفاء القابليّة، كما أنّ حياتنا مصحّحةٌ للشهوة والنّفرة دونَ حياته تعالى.

____________________

(1) ج: الجراد.

(2) ج: الدّيران.

(3) ج: منها.

١٤٢

المطلب السّابع: في أنّه - تعالى - متكلّمٌ

اتّفق المسلمون على ذلك، لقوله تعالى، ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً ) (1) ، ولا دورَ؛ لأنه إثباتٌ لكلامه - تعالى - بإخبار الرّسول المعلوم صدقه بالمعجزة، ولأنّه قادرٌ على كلّ مقدور.

واختلفوا، فعندَ المعتزلة، أنّه خلق في أجسام جماديّة أصواتاً دالّةً على معان مخصوصة، فهو متكلّمٌ بهذا المعنى.

والأشاعرة جوّزوا ذلك، لكن اثبتوا معنىً نفسانيّاً قائماً بذات المتكلّم مغايراً للعلم والإرادة. يدلُّ عليه هذه الحروف والأصواتُ وأنّه قديمٌ في حقّه - تعالى - واحدٌ ليس بأمر ولا نهي ولا خبر؛ لأنّه حيّ يصحّ اتّصافه بالكلام. فلو لم يكن موصوفاً به كان متّصفاً بضدّه، وهو نقصٌ.

ولأنّ أفعاله - تعالى - لمّا جاز عليها التّقدّم والتّأخّرُ أثبتنا الإرادةَ المخصّصةَ، (2) وأفعالُ العباد متردّدةٌ بينَ الحظر والإباحة وغيرهما من الأحكام فلابدّ من مخصّص غير الإرادة، لأنّه قد يأمر بما لا يريدُ وبالعكس، فهو الكلام الّذي هو الطلبُ النّفسانيّ، ولأنّه مَلِك مُطاعٌ، فله الأمرُ والنّهيُ.

اعترضت (3) المعتزلة: بأنّ الاستدلال على الإثبات (4) فرع تصوّر المستدل عليه. وما ذكرتموه غيرُ متصور ويمنع صحة اتّصافه تعالى به،

____________________

(1) النساء: 4/162.

(2) ج: اثبت إرادة مخصوصة.

(3) ألف: اعترض.

(4) ج: إتيان/ ب: إثبات ممنوع وما التزموه.

١٤٣

ويمنع وجوب الاتّصاف بأحدهما وكون الضّدّ نقصاً، بل ثبوته نقصٌ، إذ أمرُ المعدوم ونهيُه وإخباره سفهٌ. والأحكام عقليّةٌ لا سمعيّةٌ فالمُخصّص إمّا الصّفات أو الوجوه والاعتبارات الّتي تقع عليها الأفعال، ويقبح الأمر بما لا يريدُ.

وتمهيدُ العذر في قتل العبد بإيجاد صورةٍ، الأمر، وهو مشترك بين الطلب والإرادة. والمُطاعُ إن عنوا به نفوذَ قدرته في جميع الممكنات فهو حقٌّ، وإن عنوا ما طلبوه منعناه.

المطلب الثّامنُ: في أحكام هذه الصّفات وهي إحدى عشر بحثاً

ألف - ذهب جماعة من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ هذه الصّفات وجوديّةٌ وإلاّ لصحّ حملُها على المعدوم. والملازمةُ ممنوعةٌ، فإنّ كثيراً من العدميّات يمتنعُ حملهُ على المعدوم، وعندَ الأوائل وأبي الحسين أنّها ليست وجوديّةً. وإلاّ لزم تعدّدُ القدماء.

ب - هي نفسُ الذّات في الخارج وإن كانت زائدةً في التّعقّل، وهو اختيارُ الأوائل وأبي الحسين، لما تقدّم، ولأنّ الوجود لو كان زائداً كان ممكناً، لأنّه وصفٌ للماهيّة، فلا يكونُ واجباً، هذا خُلفٌ. ولأنّ مؤثّره إمّا الماهيّةُ لا بشرط الوجود، فالمعدومُ مؤثّر في الموجود أو بشرطه، (1) فيتسلسل (2) أو يدور أو غيرها، فيفتقر إلى الغير.

____________________

(1) ج: لشرطه.

(2) ألف: فتسلسل.

١٤٤

وعندَ جماعة من المعتزلة والأشاعرة أنّها زائدةٌ، للمغايرة بينَ قولنا: واجب الوجود موجودٌ، وبين قولنا: إنّه قادرٌ. وللاستفادة بكلّ منهما، بخلاف قولنا: واجبُ الوجود واجبُ الوجود؛ ولأنّا قد نعلمُ الذّات ونشكّ (1) في الصّفات، وكلّ ذلك يدلٌّ على المغايرة الذّهنيّة.

ج - هذه الصّفات أزليّةٌ وإلاّ لافتقرت إلى مؤثّر، فإن كان ذاته دار، وإن كان غيره افتقر إلى غيره، ولأنّ تأثيره في غيره يستلزم ثبوتها، فهي ثابتة قبل علّتها.

د - هذه الصّفات ذاتيّةٌ عندَ المعتزلة والأوائل، لامتناع استنادها إلى غير ذاته، لما تقدّم، وعندَ الأشعريّة أنّها معلّلةٌ بالمعاني، فهو قادرٌ بقدرة، عالمٌ بعلم، حيّ بحياة، إلى غير ذلك من الصّفات.

قال نفاةُ (الأحوال) منهم إنّ العلمَ نفس العالميّة، والقدرة نفس القادريّة، وهما صفتان زائدتان على الذات وقال مثبتوها: إنّ عالميّته - تعالى - صفةٌ معلّلةٌ بمعنى قائم به، وهو العلم.

هـ - إرادته إمّا نفسُ الدّاعي، كما تقدّم، أو أمرٌ زائدٌ عليه مستندٌ إلى ذاته، كاختيار النّجّار، (2) خلافاً للجمهور. وعند الجبّائيين أنّه مريدٌ بإرادةٍ حادثةٍ لا في محلّ؛ إذ لو كان مريداً لذاته لعمّت إرادته، كالعلم، فيريدُ الضّدّين، أو لإرادةٍ قديمةٍ لزم ثبوتُ القدماء، أو لإرادة حادثة في ذاته كان محلاًّ

____________________

(1) ألف: نشكّل.

(2) ب: كاختيار المختار.

١٤٥

للحوادث، أو في غيره. فإن كان حيّاً رجع حكمها إليه، وإلاّ استحال حلولها فيه، ووجودُ إرادة لا في محلّ غيرُ معقول.

و - خبره - تعالى - صدقٌ، لقبح الكذب عقلاً، فلا يصدر عنه، ولأنّ الكذبَ إن كان قديماً استحال منه الصّدق، والتّالي باطل، للعلم بإمكان صدور الصّدق من العالم بالشّيء. والأخيرُ دليل الأشاعرة ولا يتمّ، لبنائه على أنّ الكلامَ القديمَ هو عين الخبر، وأنّه خبرٌ واحدٌ، ولعدم دلالته على صدق الألفاظ.

ز - قدرته - تعالى - تتعلّقُ بكلّ مقدور، للتّساوي في العلّة الّتي هي الإمكانُ. ومنع الأوائل من صدور اثنين عنه، لأنّه بسيط، ولا يتأتّى في القادر لو صح. ومنع الثّنويّةُ والمجوس من صدور الشّرّ عنه، وإلاّ كان (1) شرّيراً. فعند المجوس فاعلُ الخير يزدانُ وفاعل الشّرّ أهرمن. وعنوا بهما ملكاً وشيطاناً، واللهُ - منزّهٌ عن فعل الخير والشرّ. والمانويّةُ تسند ذلك (2) إلى النّور والظّلمة وكذا الدّيصانيّة.

وعند جميعهم أنّ الخيّر هو الّذي يكون جميع أفعاله خيراً، والشّرّيرَ هو الّذي يكون جميع أفعاله شرّاً. والخيرُ والشّرّ لا يكونان لذاتهما خيراً وشرّاً، بل بالإضافة إلى غيرهما. وإذا أمكن أن يكون شيء واحد بالقياس إلى واحد خيراً وبالقياس إلى غيره شرّاً أمكن أن يكونَ فاعل ذلك الشّيء واحداً.

____________________

(1) ج: لكان.

(2) ج: يستندونهما/ ب: يستند وكذا.

١٤٦

ومنع النّظامُ من قدرته على القبيح، لأنّه محالٌ، لدلالته على الجهل أو الحاجة. والاستحالة من جهة الدّاعي، لا من حيث القدرة.

ومنع عَبّاد من قدرته على ما علم وقوعه أو عدمه لوجوبه أو امتناعه وهو ينفي القدرة، والعلمُ تابعٌ.

ومنع البلخيُّ من قدرته على مثل مقدور العبد؛ لأنه إمّا طاعةٌ أو سفهٌ، وهما وصفان لا يقتضيان المخالفة الذّاتيّة.

ومنع الجُبائيّان من قدرته على عين مقدور العبد، لامتناع اجتماع قدرتين على مقدور واحد؛ لأنّه إن وقع بهما استغنى بكلّ منهما عن الآخر، وإن لم يقع بهما كان المانعُ هو وقوعه بالآخر، فيقع بهما حال ما لا يقعُ بهما وإن وقع بأحدهما لم يكن الآخر قادراً، والأخيرة ممنوعةٌ.

ح - علمُه - تعالى - متعلّقٌ بكلّ معلوم، لأنّه حيّ، فيصحّ أن يعلم كلّ معلوم. فلو اختصّ تعلقه بالبعض افتقر إلى مخصّص، وهو محال ولأنّه يصحُّ أن يعلم كلّ معلوم، فيجب، لأنّها صفةٌ نفسيّةٌ متى صحّت وجبت.

وبيانُ المقدّم، أنّه حيٌّ، وهو يصحّ أن يعلم كلّ معلوم، لأنّ الحيّ هو الّذي لا يستحيل أن يعلم. ونسبةُ الصّحّة إلى الكلّ واحدةٌ.

وبعض الأوائل منع من علمه بذاته، لأنّه إضافةٌ فيستدعي المغايرة. وينتقضُ بعلمنا بأنفسنا.

ومنهم من منع علمه بغيره، لاستحالة حلول صور في ذاته. ويُنتقضُ

١٤٧

بعلم الواحد بنفسه، ولأنّه إضافةٌ، لا صورةٌ، ولأنّ الصّدور (1) عنه أبلغ في الحصول من الصّورة المنتزعة الصّادرة عن العاقل لمشاركة المعقول، ثم تلك الصّورة تعلمُ بذاتها، فهنا أولى.

ومنهم من منع من علمه بالجزئيّات من حيث هي متغيّرةٌ إلاّ على وجه كلّيّ، فلا يعلم أنّ المتغيّر وقع أو سيقع؛ لأنّه عند عدمه إن بقى العلمُ لزم الجهل، وإلاّ كان متغيّراً.

وأجاب بعضهم بأنّ العلم بأنّ الشّيء سيوجد هو غير العلم بالوجود حينَ الوجود.

وهو غلطٌ، لاستدعاء العلم المطابقةَ، بل الحقُّ أنّ التّغيّرَ في الإضافات كتغيّر المقدور المستلزم تغيّر إضافة القدرة، لا القدرة.

ط - وجوبُ وجوده لذاته يقتضي امتناعَ عدمه في وقتٍ مّا. فهو قديمٌ أزليّ باقٍ سرمديٌّ. وبقاؤه لذاته لا لبقاء يقوم به، خلافاً للأشعريّ، وإلاّ افتقر في وجوده إلى غيره، هذا خُلفٌ. ولأنّ بقاءه باق فيتسلسل أو يدور إن بقى بالغير أو بالذّات، وإن بقى لذاته كان أولى بالذّاتيّة.

والتّحقيق أنّ البقاء يراد به امتناع خروج الذّات الثّابتة عن ثبوتها (2) ومفارقة الوجود لأكثر من زمان واحد بعدَ الزّمان الأوّل، والأوّل ثابتٌ في حقّه تعالى، لا زائدَ عليها. والثّاني منتفٍ، (3) لأنّه لا يعقلُ فيما لا يكونُ فانياً. (4)

____________________

(1) ج: المصدور.

(2) ج: ثباتها.

(3) ب: مفتقرٌ.

(4) ب، ج: زمانياً.

١٤٨

كما أنّ الحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء لا يمكن وقوعه في زمان أو في جميع الأزمنة، كما لا يقال إنّه واقعٌ في مكان أو في جميع الأمكنة. وهو بناءً على أنّ التّغيّر يستدعي الزّمان.

ي - قدرتُه، علمه؛ وإرادته كافيةٌ في الإيجاد، لوجوبه عند اجتماعهما، خلافاً لبعض الحنفيّة، حيث أثبتوا التّكوين صفة أزليّة لله تعالى. والمكوّن محدث، لقوله تعالى: ( إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) فـ (كن) متقدّمٌ على (الكون)، وهو المسمّى بالأمر، والكلمة والتّكوين والاختراع والإيجاد والخلق، ولأنّ القدرة مؤثّرةٌ في صحّة وجود المقدور، والتّكوين مؤثّر في نفس وجوده.

وهو غلطٌ، لأنّ التّكوين إن كان قديماً لزم قدم الأثر، لأنّه نسبةٌ، وإن كان محدثاً تسلسل. وقوله (كن) لا يدلّ على إثبات صفة زائدة على القدرة، والقدرةُ لا تأثيرَ لها في صحّة الوجود، لأنّها ذاتيّةٌ للممكن.

يا - أثبت الأشعري (اليد) صفةً وراء القدرة، و(الوجه) صفةً وراء الوجود، و(الاستواء) صفةً أُخرى. وأثبت القاضي (2) إدراكَ الشّمّ والذّوق واللّمس ثلاثَ صفاتٍ. وأثبت عبد الله بن سعيد (القدم) صفةً مغايرةً للبقاء، و

____________________

(1) يس: 36/82.

(2) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد المعروف بقاضي القضاة، من أئمة المعتزلة، له مصنّفات منها: شرح الأُصول الخمسة، تنزيه القرآن من المطاعن، المغني، مات سنة 415هـ. الأعلام: 3/273.

١٤٩

(الرّحمة) و(الكرم) و(الرّضا) صفاتٍ غيرَ الإرادة. ولا دليل على شيء من ذلك.

وجزم آخرون بنفي ما زاد على السّبعة، لأنّا كلّفنا بالمعرفة، وإنّما تحصل بمعرفة الصّفات، فلابُدّ من طريق، وليس إلاّ الاستدلال بالآثار والتّنزيه عن النّقصان، وإنّما يدلاّن على السّبعة، ونمنع من التّكليف بكمال المعرفة.

١٥٠

الفصل الثّاني

في الصّفات السّلبيّة

وفيه مطالبُ [اثنا عشر]:

[المطلب] الأوّل: في أنّه - تعالى - ليس بمتحيّز

اتّفق العقلاء عليه، خلافاً للمجسّمة، لأنّ كلّ متحيّز لا ينفكّ عن الحركة أو السّكون، فيكون مُحدَثاً، ولأنّه حينئذ إمّا جسمٌ فيكون مركّباً فيكون حادثاً أو جزءاً لا يتجزّأ، وهو غير معقول، لامتناع اتّصاف مثل ذلك بالقدرة والعلم غير المتناهيين، ولأنّه لو كان جسماً لكان مركّباً. فالعلمُ الحاصل لأحد الجزأين ليس هو الحاصل للآخر، فيتعدد الآلهةُ. والظواهر متأوّلةٌ، وعجزُ الوهم لا يعارضُ القطع العقليّ.

المطلب الثّاني: في أنّه - تعالى - لا يحلّ في غيره

المعقول من الحلول قيامُ موجود بموجود آخر على سبيل التّبعيّة بشرط امتناع قيامه بذاته. وهو محالٌ في حقّ واجب الوجود، ولقضاء العقل بأنّ الغنيّ عن المحلّ يستحيلُ حلوله فيه. فإن كان حالاًّ في الأزل لزم قدم المحلّ، وإن لم يكن تجدّدت الحاجة، ولأنّ حلول الشّيء في غيره إنّما

١٥١

يتصوّر لو كان الحالُّ إنّما يتعيّنُ بواسطة المحلّ، وواجب الوجود لا يتعيّنُ بغيره.

وعندَ بعض النّصارى، أنّه - تعالى - حالٌّ في المسيح. وعند الصّوفيّة أنّه - تعالى - حالٌّ في (1) العارفين. والكلّ محالٌّ، فهو إذن ليس بعرض ولا صورة، لافتقارهما إلى المحلّ.

المطلب الثّالث: في أنّه - تعالى - مخالفٌ لغيره لذاته

ذهب أبو هاشم إلى أنّ ذاته - تعالى - مساويةٌ لسائر الذّوات في الذّاتيّة، ويخالفها بحالة توجبُ الأحوال الأربعة، أعني الحييّة والعالميّة والقادريّة والموجوديّة. وهي الحالة الإلهيّة لأنّ مفهومَ الذّات هو ما يصحّ أن يعلم ويُخبر عنه. وهو غلطٌ؛ لأنّ هذا المفهوم (2) أمرٌ اعتباريٌّ ليس نفسَ الحقائق الثّابتة في الأعيان، بل من المعقولات الثّانية.

ولا يمكن تساوي كلّ الذّوات، لأنّ اختصاصَ بعضها بما يوجب المخالفة إن لم يكن لمرجّح كان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن، لا لمرجّح، وإلاّ تسلسل.

____________________

(1) ج: حالٌّ في الأبدان العارفين.

(2) ج: هذا المفهوم ليس أمر اعتباري.

١٥٢

المطلب الرّابع: في أنّه - تعالى - غيرُ مركّب

كلُّ مركّب ممكنٌ، لأنّه يفتقرُ (1) إلى جزئه، وجزؤه غيره، وكلّ مفتقرٍ ممكنٌ، وواجبُ الوجود ليس بممكن، فليس له أجزاءُ ماهيّة، أعني المادّة والصّورة، ولا عقليّة، أعني الجنس والفصل، ولا مقداريّة؛ ولا يتركّب عنه غيره، فليس جنساً ولا فصلاً ولا نوعاً يندرج تحته أفرادٌ، ولا يتركّب عنه غيره، إذ يستحيل أن ينفعل عن غيره.

المطلب الخامس: في أنّه - تعالى - لا يتحدُ بغيره

اتفق العقلاء من المتكلّمين والحكماء إلى (2) امتناع الاتّحاد، إلاّ فرفوريوس والرّئيس في بعض كتبه، لأنّ الشّيئين بعدَ الاتّحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحدٌ، وإن عُدما فلا اتّحادَ، بل حدث ثالثٌ، وإن عُدم أحدهما لم يتّحد المعدوم بالموجود. وهذا حكمٌ عامٌّ في كلّ الماهيّات. نعم قد يقال: الاتّحادُ بالمجاز على صيرورة شيء شيئاً آخر بأن يخلعُ صورته ويلبس الأخرى، كما يقال: صار الماء هواءً؛ أو بأن يحدث للأجزاء مزاج (3) وهيئة زائدة على الآخر كما يقال: صار العفصُ والزّاجُ حِبراً، وهو منفيٌّ (4) عن واجب الوجود - تعالى -؛ لاستحالة خروجه عن

____________________

(1) ج: مفتقر.

(2) ج: على.

(3) ب، ج: امتزاجاً.

(4) ج: منتفٍ.

١٥٣

حقيقته وعدم أمر زائد عليها وامتناع تركّبه من غيره أو معه.

وقالت النّصارى باتّحاد الأقانيم الثّلاثة: الأب والابن وروح القدس، واتّحد ناسوتُ المسيح باللاّهوت.

والصّوفيّةُ قالوا: أنّه - تعالى - يتّحدُ بالعارفين. والكلُّ غيرُ معقول.

المطلب السادس: في أنّه - تعالى - ليس في جهة

اتفق العقلاء عليه إلاّ المجسّمة والكرّاميّة، لأنّه ليس بمتحيّز ولا حالّ في المتحيّز، فلا يكون في جهة بالضّرورة، ولأنّ الكائن في الجهة لا ينفكّ عن الأكوان بالضّرورة، فيكون مُحدَثاً، وواجبُ الوجود ليس بمُحدَث؛ ولأنّ مكانه مساو لسائر الأمكنة، فاختصاصه به ترجيحٌ عن غير مرجّح، ويلزمُ قِدَم المكان أو حلول المجرّد في مكان بعدَ إن لم يكن. وهو غير معقول.

وأصحابُ أبي عبد الله ابن الكرّام ذهب بعضهم إلى أنّه في جهةٍ فوق العرش لا نهاية لها، والبُعد بينه وبينَ العرش غيرُ متناه أيضاً. وقال بعضهم متناهٍ. والكلّ خطأٌ، لما تقدّم، ولأنّ العالم كرةٌ.

المطلب السابع: في استحالة الألم واللذّة عليه تعالى

اتفق العقلاء على استحالة الألم عليه، لأنّه إدراك منافٍ، ولا منافي له تعالى. أمّا اللذّةُ فقد اتفق المسلمون على استحالتها عليه، لأنّ اللذة والألمَ

١٥٤

من توابع اعتدال المزاج وتنافره، ولا مزاجَ له - تعالى -، ولأنّ اللّذّة إن كانت قديمةً وهي داعيةٌ إلى فعل الملتذّ به وجب وجوده قبل وجوده لوجود الدّاعي وانتفاء المانع، وإن كانت حادثةً كان محلاًّ للحوادث. وفيه نظرٌ، لجواز اتّحاد داعي اللذّة والإيجاد.

والأوائل أثبتوا له لذّةً عقليّةً لا بفعله، بل باعتبار علمه بكماله، فإنّ كلّ من تصوّر في نفسه كمالاً ابتهج، كما أنّ من تصوّر نقصاناً في نفسه تألّمَ. ولمّا كان كماله - تعالى - أعظمَ الكمالات، وعلمه بكماله أتمّ العلوم استلزم ذلك أعظمَ اللّذات.

والصّغرى ممنوعةٌ والقياسُ على الشّاهد ضعيفٌ، والإجماع ينفيه.

تذنيبٌ

يستحيل اتّصافه بكلّ كيفيّة مشروطة بالوضع، كالألوان والطّعوم والرّوائح وغيرها في (1) الأعراض، لامتناع انفعاله تعالى.

المطلب الثّامن: في أنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث

اتّفق الأكثرُ عليه، خلافاً للكرّاميّة، لامتناع انفعاله في ذاته، فيمتنع التّغيّرُ عليه، ولأنّ الحادث إن كان صفةَ كمال استحال خلوّه عنها أزلاً، (2) وإلاّ

____________________

(1) ج، ب: من.

(2) ب: أوّلاً.

١٥٥

استحال اتّصافُه بها، ولأنّه لو صحّ اتّصافُه به كانت تلك الصّحّةُ لازمةً لذاته، لاستحالة عروضها، (1) وإلاّ تسلسل، فتكونُ أزليّةً. وصحّةُ الاتّصاف بالحادث تستدعي صحّة وجود الحادث أزلاً، (2) وهو محالٌ.

المطلب التاسع: في أنّه - تعالى - غنيُّ

هذا من أظهر المطالب، لأنّه واجب من جميع الجهات، وكلّ ما عداه ممكنٌ محتاجٌ إليه، فلا يُعقل احتياجُه - تعالى - إلى غيره، ولأنّ ذاتَه واجبةٌ، وصفاته نفسُ حقيقته، فيستغني في ذاته وصفاته، ولأنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث، وغيره حادثٌ، والإضافات ليست وجوديّةً.

المطلب العاشر: في أنّه غيرُ معلوم للبشر

هذا مذهبُ ضرار والغزاليّ (3) وجميع الأوائل، لأنّ المعلوم منه - تعالى - ليس إلاّ السّلوبَ، مثلُ أنّه ليس بجسم ولا عرض، أو الإضافات مثل أنّه قادرٌ عالمٌ خالقٌ رازقٌ. والحقيقةُ مغايرةٌ لذلك بالضّرورة. وعندَ جماهير المعتزلة والأشاعرة، أنّه - تعالى - معلومٌ، لأنّ وجوده معلوم، وهو نفس حقيقته، ونمنع الصّغرى.

____________________

(1) ج: عدمها.

(2) ب: أوّلاً.

(3) هو أبو حامد محمد بن محمد المعروف بالغزالي، المتوفّى 505هـ.

١٥٦

المطلب الحادي عشر: في استحالة الرّؤية عليه تعالى

الأشاعرة خالفوا جميعَ الفرق في ذلك.

أمّا المعتزلةُ والفلاسفة فظاهرٌ.

وأمّا المجسّمة، فلأنّه لو كان مجرّداً لاستحال رؤيته عندهم.

واتفق العقلاء إلاّ المجسّمة على انتفاء الرّؤية، بسبب الانطباع أو الشّعاع، عنه - تعالى -.

والأشاعرةُ قالوا، إنّا نفرقُ بينَ علمنا حالةَ فتح العين وتغميضها، وليس بالانطباع ولا الشّعاع، فهو راجعٌ إلى حالةٍ أُخرى ثابتةٍ في حقّه تعالى.

والضّرورةُ قاضيةٌ ببطلانه، لانتفاء الجهة، وكلّ مرئيّ (1) مقابلٌ أو في حكمه، ولأنّه لو كان مرئيّاً لرأيناه الآن، لانتفاء الموانع ووجود الشّرائط، إذ ليست هنا إلاّ صحّة كونه مرئيّاً وسلامة الحاسّة، ولقوله تعالى: ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (2) تمدّح به، لتخلّله بين مدحين، فإثباته نقصٌ، وهو مُحالٌ عليه تعالى، ولقوله: ( لَنْ تَرَانِي ) (3) و(لن) لنفي الأبد، وإذا انتفت في حقّ موسى (عليه السلام) فكذا غيره.

____________________

(1) ألف: كل مراى.

(2) الأنعام: 6/103.

(3) الأعراف: 7/143.

١٥٧

احتجّوا بأنّ الجوهرَ والعرضَ مرئيّان، والحكمَ المشترك لابُدّ له من علّة مشتركة، وليس إلاّ الوجود والحدوث، والأخير لا يصلحُ للعلّيّة، لأنّ جزءه عدميّ، ولقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَى‏ رَبّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ولأنّه - تعالى - علّقها على استقرار الجبل الممكن، لأنّه جسمٌ ولأنّ موسى (عليه السلام) سألها.

والجوابُ: وجودُه - تعالى - حقيقته، وهو مخالفٌ لوجودنا، فلا يجب تساويهما في الأحكام. ونمنعُ احتياج صحّة الرّؤية إلى علّة، إذ لو وجب تعليل كلّ حكمٍ تسلسل، ولأنّها عدميّةٌ، ونمنعُ تساوي صحّة رؤية الجوهر وصحّة رؤية العرض، ويجوز تعليل المشترك بعلّتين مختلفتين، ونمنع الحصرَ بوجود الإمكان، فيجوزُ أن يكونَ علّةً لإمكان الرؤية وإن كان عدميّاً.

والحدوث هو الوجودُ المسبوق، ولا يلزمُ من وجود العلّة وجود المعلول، لجواز التّوقّف على شرط أو حصول مانع. و(إلى) واحدُ (الآلاء)، أو أنّ فيها إضماراً، تقديره: (إلى نِعَم ربّها) والتّعليق على الاستقرار حالةَ الحركة، وهو محال، والسّؤالُ وقع لقوم موسى، لقوله تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى‏ أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) (2) .

____________________

(1) القيامة: 75/22 - 23.

(2) النساء: 4/53.

١٥٨

المطلب الثاني عشر: في أنّه - تعالى - واحدٌ

لو كان في الوجود واجبا الوجودِ لكانا مشتركين في هذا المعنى، فإمّا أن يكونَ ذاتياً لهما، أو لأحدهما، أو عارضاً لهما. والأوّلُ يستلزم تركّبَ كلّ منهما، فيكون ممكناً. والثّاني والثالث يستلزم كلّ منهما أن لا يكونَ معروضه في ذاته واجباً.

ولا يجوز أن يكونَ الواجبُ لذاته هو المعنى المشترك خاصّةً، إذ لا وجودَ له في الخارج إلاّ مخصّصاً.

ولا يجوز أن يكونَ المخصّص سلبيّاً، فإنّ سلبَ الغير لا يتحصّلُ إلاّ بعدَ حصول الغير؛ ولأنّ المخالفةَ ممكنةٌ، لأنّ كلّ واحد منهما قادرٌ على جميع المقدورات، فيصحّ أن يقصد أحدهما إلى ضدّ ما قصد (1) الآخرُ، فإن حصل المُرادان، اجتمع الضّدّان، وهو محال، وان عدما كان المانع من مُراد كلّ منهما وجودَ مراد الآخر، فيلزمُ وجودهما وإن وُجِدَ أحدهما فهو الإله؛ وللسّمع.

وقالت الثّنويّةُ بقدم النّور والظلمة وكلّ خير في العالم فمن النّور، وكلّ شر فمن الظلمة، وكلٌّ منهما لا نهايةَ له في الجهات الخمس. والنّورُ حيٌّ عالمٌ والظلمةُ حيّةٌ جاهلةٌ. وسببُ حدوث العالم اختلاط أجزاء من النّور

____________________

(1) ب، ج: قصده.

١٥٩

بأجزاء من الظلمة. وأراد النّورُ الأعظم استخلاصَ تلك الأجزاء من الظلمة. فلم يمكنه إلاّ بخلق هذا العالم وخلق الأجسام النّيّرة فيه، بحيث تستخلصُ بنورها تلك الأجزاء النّورانيّة من الظلمة. فإذا خلصت فنى (1) العالم.

وهذا الكلامُ كلّه خطأ، فإنّ النّورَ عرضٌ لا يقومُ بذاته، والظلمةَ عدميّةٌ، وعدمُ التّناهي مُحالٌ، لما تقدّم.

وقال المجوسُ: إنّ للعالم صانعاً قادراً عالماً حيّاً حكيماً، سمّوه يزدان، وكلّ خير في العالم منه، وأنّه أفكر (2) لو كان لي ضدٌّ في الملك كيف تكونُ حالي معه، فحدث الشّيطانُ من تلك الفكرة، وكلّ شرّ في العالم منه، واسمه اهرمن. وبعضهم قال بقدم الشّيطان وهو ظاهر الفساد أيضاً.

وقالت النّصارى: الباري - تعالى - جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وهو وجوده، وأُقنومُ الابن وهو علمه، واقنومُ روح القدس، وهو حياته.

فإن أرادوا الصّفات فلا منازعةَ إلاّ في اللّفظ، وإلاّ فهو خطأ، لما تقدّم.

____________________

(1) ج: نفى.

(2) ج: فكر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فترْك الواجبات: كترْك الصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها مِن الواجبات. وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جُهدَ المستطاع.

وأمّا فعل المحرّمات: كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها مِن المحرّمات، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها، والعزم الصادق على تركها.

ومِن الذنوب: ما تكون جرائرها بين المرء والناس، وهي أشدّها تبعةً ومسؤوليّة، وأعسرها تلافياً، كغصبِ الأموال، وقتل النفوس البريئة المحرّمة، وهتك المؤمنين بالسبِّ والضرب والنمّ والاغتياب.

والتوبة منها بإرضاء الخصوم، وأداء الظُّلامات إلى أهلها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإنْ عجَز عن ذلك فعليه بالاستغفار، وتوفير رصيد حسَنَاته، والتضرّع إلى الله عزَّ وجل أنْ يرضيهم عنه يوم الحساب.

قبول التوبة:

لا ريب أنّ التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالإجماع، لدلالة القرآن والسنّة عليها:

قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) ( الشورى: ٢٥ ).

وقال تعالى:( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) ( غافر: ٣ ).

وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً مِن الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة، وفوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالى، وكريم عفوه، وجزيل آلائه.

٢٦١

وأصدَقُ شاهدٍ على ذلك ما جاء في معرض حديث للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال: ( لولا أنّكم تذنبون فتستغفرون اللّه، لخلق اللّه خلقاً، حتّى يذنبوا ثمّ يستغفروا اللّه فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتنٌ توّاب، أما سمِعت قول اللّه:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) )( البقرة: ٢٢٢ )(١) .

أشواق التوبة:

تََتلخّص النصائح الباعثة على التوبة والمشوّقة إليها فيما يلي:

١ - أنْ يتذكّر المُذنب ما صوَّرته الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، مِن غوائل الذنوب، ومآسيها الماديّة والروحيّة، في عاجل الحياة وآجلها، وما توعّد اللّه عليها مِن صنوف التأديب وألوان العِقاب.

٢ - أن يستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبين، وما حباهم اللّه به من كريم العفو، وجزيل الأجر، وسمو العناية واللطف، وقد مرّ ذلك في بداية هذا البحث.

وكفى بهاتين النصيحتين تشويقاً إلى التوبة، وتحريضاً عليها، ولا يرغب عنها إلا أحمق بليد، أو ضعيف الايمان والبصيرة.

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

٢٦٢

محاسبة النفس ومراقبتها

المحاسبة هي: محاسبة النفس كلّ يوم عمّا عمِلته مِن الطاعات والمبرّات، أو اقترفته من المعاصي والآثام، فإنْ رجُحت كفّة الطاعات على المعاصي، والحسَنات على السيّئات، فعلى المحاسِب أنْ يشكُر اللّه تعالى على ما وفّقه إليه وشرّفه به مِن جميل طاعته وشرف رضاه.

وإنْ رجُحت المعاصي، فعليه أنْ يؤدّب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن طاعة اللّه تعالى.

وأمّا المراقبة: فهي ضبطُ النفس وصيانتها عن الإخلال بالواجبات ومقارفة المحرّمات.

وجديرٌ بالعاقل المُستنير بالإيمان واليقين، أنْ يروّض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنّها ( أمّارة بالسوء ): متى أُهمِلَت زاغت عن الحقّ، وانجرفت في الآثام والشهَوات، وأودَت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك، ومتى أُخِذَت بالتوجيه والتهذيب، أشرقت بالفضائل، وازدهرت بالمكارم، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ( الشمس: ٧ - ١٠ ).

٢٦٣

هذا إلى أنّ للمحاسبة، والمراقبة أهميّة كُبرى في تأهّب المؤمن، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة، وأهواله الرهيبة، ومِن ثمّ اهتمامه بالتزوّد مِن أعمال البِر والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه.

لذلك طفِقَت النصوص تُشوّق، وتحرّض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : ( إذا أراد أحدكم أنْ لا يسأل ربَّه شيئاً إلاّ أعطاه، فلِيَيأس مِن الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلاّ مِن عند اللّه تعالى، فإذا علِم اللّه تعالى ذلك مِن قلبهِ لم يسأل شيئاً إلاّ أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسَبوا عليها، فإنّ للقيامة خمسين موقفاً، كلّ موقفٍ مقام ألف سنة، ثمّ تلا:( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج: ٤ )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ( ليس منّا مَن لم يُحاسِب نفسه في كل ّيوم، فإنْ عمِل حسنةً استزاد اللّه تعالى، وإنْ عمِل سيّئةً استغفر اللّه تعالى منها وتاب إليه )(٢).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( إنّ رجُلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: يا رسول اللّه، أوصني.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فهل أنت مستوصٍ إنْ أنا أوصيتك ؟ حتّى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلّها يقول له الرجل: نعم

_____________________

(١) الوافي الجزء الثالث ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

٢٦٤

يا رسول اللّه.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنّي أوصيك، إذا أنت همَمْتَ بأمرٍ فتدبّر عاقبته، فإنْ يكُ رُشداً فأمضِه، وإنْ يكُ غيّاً فانته عنه )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام لرجلٍ: ( إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّن لك الدَّاء، وعُرّفت آية الصحّة، ودُلِلْتَ على الدواء، فانظر كيف قياسك على نفسك )(٢) .

وعن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام قال:

( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سريّة، فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقيَ عليهم الجهاد الأكبر.

قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر ؟ قال: جهاد النفس. ثمّ قال: أفضل الجهاد مَن جاهد نفسه التي بين جنبيه )(٣).

دستور المحاسبة:

لقد ذكر المعنيّون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأُسلوب مفصّل، ربّما يشقّ على البعض تنفيذه، بيد أنّي أعرضه مُجملاً ومُيسّراً في

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٤٠ عن معاني الأخبار وأمالي الصدوق.

٢٦٥

أمرين هامّين:

١ - أوّل ما يجدر محاسبةُ النفس عليه، أداء الفرائض التي أوجَبها اللّه تعالى على الناس، كالصلاة والصيام والحجِّ والزكاة ونحوها من الفرائض، فإنْ أدّاها المرء على الوجه المطلوب، شكَر اللّه تعالى على ذلك ورجّى نفسه فيما أعدَّ اللّه للمطيعين مِن كرَم الثواب وجزيل الأجر.

وإنْ أغفلها وفرّط في أدائها خوّف نفسه بما توعّد اللّه العُصاة والمتمرّدين عن عباده بالعقاب الأليم، وجدّ في قضائها وتلافيها.

٢ - محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات، وذلك: بزجرها زجراً قاسياً، وتأنيبها على ما فرّط مِن سيّئاتها، ثمّ الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه، والتوبة الصادقة منه.

ولقد ضرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أرفع مثَل لمحاسبة النفس، والتحذير مِن صغائر الذنوب ومحُقَّراتها:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّه نزَل بأرضٍ قَرعاء، فقال لأصحابه: ائتونا بحطب. فقالوا: يا رسول اللّه، نحن بأرضٍ قَرعاء ما بها من حطب. قال: فليأت كلّ إنسانٍ بما قدَر عليه، فجاءوا به حتّى رموا بين يدَيه بعضه على بعض، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هكذا تجتمع الذنوب.

ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات مِن الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وأنّ طالبها يكتب:

٢٦٦

(... مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) )( يس: ١٢ )(١) .

وكان بعض الأولياء يُحاسب نفسه بأُسلوبٍ يستثير الدهشة والإكبار:

من ذلك ما نُقِل عن توبة بن الصمّة، وكان مُحاسباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يوماً ما مضى مِن عمره، فإذا هو ستّون سنة، فحسِب أيّامها فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمِئة يوم، فقال: يا ويلتاه !!، ألقى مالكاً بإحدى وعشرين ألف ذنب، ثمّ صُعِق صَعقةً كانت فيها نفسه(٢).

وما أحلى هذا البيت:

إذا المرء أعطى نفسه كلَّ شهوةٍ

ولم ينهها تاقت إلى كلِّ باطلٍ

اغتنام فرصة العمر:

لو وازن الإنسان بين جميع مُتَع الحياة ومباهجها، وبين عمره وحياته لوَجد أنّ العمر أغلى وأنفس منها جميعاً، وأنّه لا يعدله شيء مِن نفائس الحياة وأشواقها الكُثر، إذ من المُمكن اكتسابها أو استرجاع ما نفَر منها.

أمّا العمر فإنّه الوقت المُحدّد الذي لا يستطيع الإنسان إطالة أمده، وتمديد أجلِه المقدّر المحتوم:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف: ٣٤ ).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤٨٨.

٢٦٧

كما يستحيل استرداد ما تصرّم مِن العمر، ولو بذَل المرء في سبيل ذلك جميع مقتنيات الحياة.

وحيث كان الإنسان غفولاً عن قِيَم العمر وجلالة قدره، فهو يُسرِف عابثاً في تَضييعه وإبادته، غير آبهٍ لما تصرّم منه، ولا مُغتنِم فرصته السانحة.

مِن أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيتعليهم‌السلام موضّحة نفاسة العمر، وضرورة استغلاله وصرفه فيما يوجِب سعادة الإنسان ورخائه في حياته العاجلة والآجلة.

قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّته لأبي ذر: ( يا أبا ذر، كُن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّما الدنيا ثلاثة أيّام: يومٌ مضى بما فيه فليس بعائد، ويومٌ أنت فيه فحقّ عليك اغتنامه، ويومٌ لا تدري أنت مِن أهله، ولعلك راحل فيه.

أمّا اليوم الماضي فحكيم مُؤدّب، وأمّا اليوم الذي أنت فيه فصديقٌ مودّع، وأمّا غد فإنّما في يديك منه الأمل ).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن يومٍ يمرُّ على ابن آدم، إلاّ قال له ذلك اليوم: أنا يومٌ جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيّ خيراً، واعمل

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٦٨

فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة، فإنّك لنْ تراني بعد هذا أبداً )(١).

وروي أنّه جاء رجلٌ إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام يشكو إليه حاله، فقال: ( مسكينٌ ابن آدم، له في كلّ يومٍ ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدةٍ منهنّ، ولو اعتبَر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا:

فأمّا المصيبة الأُولى: فاليوم الذي ينقص من عمره. قال: وإنْ ناله نُقصان في ماله اغتمّ به، والدهر يخلف عنه والعمر لا يردّه شيء.

والثانية: أنّه يستوفي رزقه، فإنْ كان حلالاً حُوسِبَ عليه، وإنْ كان حراماً عوقِب.

قال: والثالثة أعظم من ذلك.

قيل: وما هي ؟ قال: ما مِن يومٍ يمسي إلاّ وقد دنا مِن الآخرة مرحلة، لا يدري على جنّةٍ أم على نار ).

وقال: ( أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد مِن أمّه ).

( قالت الحُكَماء ما سبَقه إلى هذا أحد )(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنّك قد اغتبطت )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( لا يغرّنك الناس من نفسك،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الفقيه.

(٢) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد.

(٣) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٦٩

فإنّ الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا، فإنّ معك مَن يحفِظ عليك عملك، فأحسن فإنّي لم أرَ شيئاً أحسن درَكاً، ولا أسرَع طلَباً، مِن حسنةٍ محدّثة لذنب قديم )(١) .

وعن جعفر بن محمّد، عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( بادر بأربَع قبل أربَع، بشبابك قبل هرَمك، وصحّتك قبل سقمك، وغِناك قَبل فقرك، وحياتك قَبل موتك )(٢).

وعن الباقرعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ( لا يزولُ قدمَ ( قدما ) عبدٍ يوم القيامة مِن بين يدَي اللّه، حتّى يسأله عن أربَع خِصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك مِن أين اكتسبته وأين وضَعته، وعن حبّنا أهل البيت ؟)(٣).

وقال بعض الحكماء: إنّ الإنسان مسافر، ومنازله ستّة، وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة:

فالتي قطعها: -

١ - مِن كتم العدَم إلى صُلب الأب وترائب الأُم.

٢ - رحِم الأُم.

٣ - مِن الرحم إلى فضاء الدنيا.

وأمّا التي لم يقطعها: -

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ص ١٦٥ عن كتاب كمال الدين للصدوق.

(٣) البحار م ٧ ص ٣٨٩ عن مجالس الشيخ المفيد.

٢٧٠

فأوّلها القبر. وثانيها فضاء المحشَر. وثالثها الجنّة أو النار.

ونحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث، ومدّة قطعها مدّة عمرنا، فأيّامنا فراسخ، وساعاتنا أميال، وأنفاسنا خُطوات.

فكم مِن شخصٍ بقي له فراسخ، وآخر بقيَ له أميال، وآخر بقيَ له خُطوات.

وما أروع قول الشاعر:

دقّات قلبِ المرء قائلةٌ له

إنّ الحياةَ دقائقٌ وثَواني

٢٧١

العمل الصالح

لقد عرَفت في البحث السالِف نَفاسَة الوقت، وجلالة العُمر، وأنّه أعزَّ ذخائر الحياة وأنفسها.

وحيثُ كان الوقت كذلك، وجَب على العاقل أنْ يستغلّه فيما يليق به، ويكافئه عزةً ونفاسة مِن الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجِبة لسعادته ورخائه المادّي والروحي، الدنيوي والأُخروي، كما قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو لذّة في غير محرم )(١) .

فهذه هي الأهداف السامية، والغايات الكريمة التي يجدر صَرْف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها.

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام .

٢٧٢

وحيث كان الإنسان مدفوعاً بغرائزه وأهدافه وأهوائه إلى كسب المعاش، ونيل المُتَع واللذائذ الماديّة، والتهالك عليها، ممّا يصرفه ويُلهيه عن الأعمال الصالحة، والتأهّب للحياة الآخرة، وتوفير موجبات السعادة والهناء فيها. لذلك جاءت الآيات والأخبار مشوّقة إلى الاهتمام بالآخرة، والتزوّد لها مِن العمل الصالح.

قال تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة: ٧ - ٨ ).

وقال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( النحل: ٩٧ ).

وقال تعالي:( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( غافر: ٤٠ ).

وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( الجاثية: ١٥ ).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا أبا ذر، إنّك في ممرِّ الليل والنهار، في آجالٍ منقوصة، وأعمالٍ محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومَن يزرع خيراً يوشَك أنْ يحصِد خيراً، ومَن يزرع شرَّاً يوشِك أنْ يحصدَ ندامة، ولكلّ زارعٍ مثل ما زرَع )(١).

وقال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة مِن بني تميم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت: يا نبيّ اللّه، عِظنا موعظةً ننتفع بها، فإنّا قومٌ

_____________________

(١) الوافي في موعظة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٧٣

نعمّر في البرّية.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا قيس، إنّ مع العزِّ ذُلاًّ، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيء حسيباً، وعلى كلِّ شيءٍ رقيباً، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً، ولكلّ سيّئة عقاباً، ولكلِّ أجلٍ كتاباً. وإنّه لا بدَّ لك يا قيس من قرينٍ يُدفَن معك وهو حيّ، وتدفَنُ معه وأنت ميّت، فإنّ كان كريماً أكرمك، وإنْ كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلاّ معك، ولا تُبعث إلاّ معه، ولا تُسأل إلاّ عنه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنّه إنْ صلُح أُنست به، وإنْ فسُد لم تستوحش إلاّ منه، وهو فعلك )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّ العبد إذا كان في آخر يوم مِن أيّام الدنيا، وأوّل يوم مِن أيّام الآخرة، مُثّل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت إلى ماله، فيقول: واللّه إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك ؟ فيقول: خذ منّي كفنك.

قال: فيلتفت إلى ولده فيقول: واللّه إنّي كنت لكم محبّاً، وإنّي كنت عليكم محامياً، فمالي عندكم ؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك فنواريك فيها

قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: واللّه إنّي كنت فيك لزاهداً، وإنّك كنت عليّ لثقيلاً، فمالي عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٦٣ عن معاني الأخبار والخِصال وأمالي الصدوق.

٢٧٤

نشرك، حتّى أُعرض أنا وأنت على ربّك )(١).

قال: ( فإنْ كان للّه وليّاً، أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنّة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: مَن أنت ؟ فيقول: أنا عملُك الصالح، ارتحل مِن الدنيا إلى الجنّة...)(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا وضع الميت في قبره، مُثّل له شخص، فقال له: يا هذا، كنّا ثلاثة: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك )(٣).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أحسَن فيما بقي من عمره، لم يُؤخَذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر ).

وقد أحسن الشاعر بقوله:

والناس همهم الحياة ولا أرى

طول الحياة يزيد غير خيال

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد

ذخراً يدوم كصالح الأعمال

_____________________

(١) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٣ ص ٩٤ عن الكافي.

٢٧٥

طاعة اللّه وتقواه:

الإنسان عنصر أصيل مِن عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثُر، بل هو أجلّها قدراً، وأرفعها شأناً، وذلك بما حباه اللّه عزّ وجل، وشرّفه بصنوف الخصائص والهِبات التي ميّزته على سائر الخلق:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (الإسراء: ٧٠ ).

وكان مِن أبرز مظاهر العناية الإلهيّة بالإنسان، ودلائل تكريمه له: أنْ استخلفه في الأرض، واصطفى مِن عيون نوعه وخاصّتهم رُسُلاً وأنبياءً، بعثهم إلى العباد بالشرائع والمبادئ الموجِبة لتنظيم حياتهم، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.

ولكنّ أغلب البشر، وا أسفاه ! تستعبدهم الأهواء والشهَوات، وتطفي عليهم نوازع التنكّر والتمرّد على النُظُم الإلهيّة، وتشريعها الهادف البنّاء، فيتيهون في مجاهل العصيان، ويتعسّفون طُرُق الغواية والضلال، ومِن ثمّ يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء، ولو أنّهم استجابوا لطاعة اللّه تعالى، وساروا على هدي نظمه ودساتيره، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ

٢٧٦

السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ).

أرأيت كيف انتظم الكون، واتّسقت عناصره، واستتبّ نظامه ملايين الأجيال والأحقاب ؟! بخضوعه للّه عزَّ وجل، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه ؟!

أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء، واستقامت بجريها على وفق مشيئة اللّه تعالى، وحكمة نظامه وتدبيره ؟!!.

أرأيت كيف يُطبِّق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكيّة ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه ؟!

أرأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء، ويعانون مشقّة العلاج ومرارة الحمية، توخّياً للبرء والشفاء ؟!.

فلِمَ لا يطيع الإنسان خالقه العظيم، ومدبّره الحكيم، الخبير بدخائله وأسراره، ومنافعه ومضارّه ؟!.

إنّه يستحيل على الإنسان أنْ ينال ما يَصبو إليه مِن سعادة وسلام، وطمأنينة ورخاء، إلاّ بطاعة اللّه تعالى، وانتهاج شريعته وقوانينه.

أنظر كيف يشوّق اللّه عزّ وجل، عباده إلى طاعته وتقواه، ويحذّرهم مغبّة التمرّد والعصيان، وهو الغنيّ المُطلق عنهم.

قال تعالى:( وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) ( الأحزاب: ٦١ ).

وقال سُبحانه:( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ) ( الفتح: ١٧ ).

٢٧٧

وأمّا التقوى، فقد علّق اللّه خير الدنيا والآخرة، وأناط بها أعزَّ الأماني والآمال، وإليك بعضها:

١ - المحبّة مِن اللّه تعالى، فقال سُبحانه:( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ( التوبة: ٤ ).

٢ - النجاة مِن الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق، فقال:( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ( الطلاق: ٢ - ٣ ).

٣ - النصر والتأييد، قال تعالى:( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) ( النحل: ١٢٨ ).

٤ - صلاح الأعمال وقبولها، فقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ )

وقال:( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ).

٥ - البشارة عند الموت، قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ *، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ( يونس:٦٣ - ٦٤ ).

٦ - النجاة من النار، قال تعالى:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ) ( مريم: ٧٢ ).

٧ - الخلود في الجنّة، قال تعالى:( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران: ١٣٣).

فتجلّى مِن هذا العرض، أنّ التقوى هي الكنز العظيم، الحاوي لصنوف الأماني والآمال الماديّة والروحيّة، الدينيّة والدنيويّة.

٢٧٨

حقيقة الطاعة والتقوى:

والطاعة: هي الخضوع للّه عزّ وجل، وامتثال أوامره ونواهيه.

والتقوى: مِن الوقاية، وهي صيانة النفس عمّا يضرّها في الآخرة، وقصرها على ما ينفعها فيها.

وهكذا تواترت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام حاثّة ومرغّبةً على طاعة اللّه تعالى وتقواه، ومحذّرة مِن عِصيانه ومخالفته.

قال الإمام الحسن الزكيعليه‌السلام في موعظته الشهيرة لجُنادة: ( اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج مِن ذُلّ معصية اللّه إلى عزِّ طاعة اللّه عزَّ وجل ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنّك قد اغتبطت )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة يقوم عنُقٌ مِن الناس، فيأتون باب الجنّة فيضربونه، فيُقال لهم: مَن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيُقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٧٩

ونصبر عن معاصي اللّه. فيقول اللّه عزَّ وجل: صدقوا، أدخلوهم الجنّة، وهو قول اللّه عزّ وجل:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) )( الزمر: ١٠)(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إذا أردت أنْ تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبِك، فإنْ كان يُحبُّ أهل طاعة اللّه عزّ وجل، ويَبغض أهل معصيته ففيك خير، واللّه يُحبُّك.

وإنْ كان يَبغض أهل طاعة اللّه، ويُحِبّ أهل معصيته فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع مَن أحب )(٢).

وقالعليه‌السلام : ما عرَف اللّه مَن عصاه، وأنشد:

تَعصي الإله وأنتَ تُظهر حُبّه

هذا لعمرك في الفِعال بديعُ

لو كان حُبّك صادقاً لأطَعته

إنّ المحبّ لِمن أحبّ مطيع

وعن الحسن بن موسى الوّشا البغدادي قال: كنت بخُراسان مع عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام في مجلسه، وزيد بن موسى حاضر، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول: نحن ونحن، وأبو الحسن مُقبلٌ على قومٍ يحدّثهم، فسمِع مقالة زيد، فالتفت إليه.

فقال: ( يا زيد، أغرّك قولُ بقّاليّ الكوفة، إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذرّيتها على النار، واللّه ما ذلك إلاّ للحسن والحسين، وولد بطنها خاصّة، فأمّا أنْ يكون موسى بن جعفر يطيع اللّه، ويصوم نهاره، ويقوم ليله،

_____________________

(١) البحار م ٥ ص ٢ ص ٤٩ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ١ ص ٢٨٣ عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517