أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333303 / تحميل: 11880
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وعنده حقة، أخذت منه، وأعطي معها شاتين أو عشرين درهما. فإن وجبت عليه حقة، وعنده جذعة، أخذت منه، وردّ عليه شاتان أو عشرون درهما.

فأمّا زكاة البقر، فليس في شي‌ء منها زكاة، الى أن تبلغ ثلاثين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها تبيع حولي. ثمَّ ليس فيما زاد عليها شي‌ء، الى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها مسنّة. وكلّ ما زاد على ذلك، كان هذا حكمه: في كلّ ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنّة.

وأمّا الغنم، فليس فيها زكاة، الى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها شاة. ثمَّ ليس فيها شي‌ء، الى أن تبلغ مائة وعشرين. فإذا بلغت ذلك، وزادت واحدة، كان فيها شاتان الى أن تبلغ مائتين. فإذا بلغت وزادت واحدة، كان فيها ثلاث شياه الى أن تبلغ ثلاثمائة. فإذا بلغت ذلك، وزادت واحدة، كان فيها أربع شياه. ثمَّ تترك هذه العبرة فيما زاد عليه، وأخذ من كلّ مائة شاة.

وأمّا الخيل إذا كانت عتاقا كان على كلّ واحدة منها في في كلّ سنة ديناران. وإن كانت براذين كان على كلّ واحدة منها دينار واحد. ومن حصل عنده من كلّ جنس تجب فيه الزّكاة أقلّ من النّصاب الذي فيه الزّكاة، وإن كان لو جمع لكان أكثر من النّصاب والنّصابين، لم يكن عليه شي‌ء، حتى

١٨١

يبلغ كلّ جنس منه، الحدّ الذي تجب فيه الزّكاة. ولو أنّ إنسانا ملك من المواشي ما تجب فيه الزّكاة، وإن كانت في مواضع متفرّقة، وجب عليه فيها الزّكاة. وإن وجد في موضع واحد من المواشي ما تجب فيه الزكاة لملّاك جماعة لم يكن عليهم فيها شي‌ء على حال. ولا بأس أن يخرج الإنسان ما يجب عليه من الزّكاة من غير الجنس الذي يجب عليه فيه بقيمته. وإن أخرج من الجنس، كان أفضل.

باب الوقت الذي تجب فيه الزكاة

لا زكاة في الذّهب والفضّة حتّى يحول عليهما الحول بعد حصولهما في الملك. فان كان مع إنسان مال أقلّ ممّا تجب فيه الزّكاة، ثمَّ أصاب تمام النّصاب في وسط السّنة، فليس عليه فيه الزّكاة حتّى يحول الحول على القدر الذي تجب فيه الزّكاة. وإذا استهلّ هلال الشّهر الثّاني عشر، فقد حال على المال الحول، ووجبت فيه الزّكاة. فإن أخرج الإنسان المال عن ملكه قبل استهلال الثّاني عشر، سقط عنه فرض الزّكاة. وإن أخرجه من ملكه بعد دخول الشّهر الثّاني عشر، وجبت عليه الزّكاة، وكانت في ذمّته الى أن يخرج منه.

وأمّا الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب، فوقت الزّكاة فيها حين حصولها بعد الحصاد والجذاذ والصّرام، ثمَّ ليس فيها

١٨٢

بعد ذلك شي‌ء، وإن حال عليها حول، إلّا أن تباع بذهب أو فضّة، وحال عليهما الحول، فتجب حينئذ فيه الزّكاة.

وأمّا الإبل والبقر والغنم، فليس في شي‌ء منها زكاة، حتّى يحول عليها الحول من يوم يملكها. وكلّ ما لم يحل عليه الحول من صغار الإبل والبقر والغنم، لا تجب فيه الزّكاة. ولا يجوز تقديم الزّكاة قبل حلول وقتها. فإن حضر مستحقّ لها قبل وجوب الزّكاة، جاز أن يعطى شيئا ويجعل قرضا عليه. فإذا جاء الوقت، وهو على تلك الصّفة من استحقاقه لها، احتسب له من الزّكاة. وإن كان قد استغنى، أو تغيّرت صفته التي يستحقّ بها الزّكاة، لم يجزئ ذلك عن الزّكاة، وكان على صاحب المال أن يخرجها من الرأس.

وإذا حال الحول فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه على الفور ولا يؤخّره. فإن عدم المستحقّ له، عزله عن ماله، وانتظر به المستحق. فإن حضرته الوفاة، وصى به أن يخرج عنه. وإذا عزل ما يجب عليه من الزّكاة، فلا بأس أن يفرّقه ما بينه وبين شهر وشهرين، ولا يجعل ذلك أكثر منه. وما روي عنهمعليهم‌السلام ، من الأخبار في جواز تقديم الزّكاة وتأخيرها، فالوجه فيه ما قدّمناه في أنّ ما يقدّم منه يجعل قرضا، ويعتبر فيه ما ذكرناه، وما يؤخّر منه إنّما يؤخّر انتظار المستحق، فأمّا مع وجوده، فالأفضل إخراجه إليه على البدار حسب ما قدّمناه.

١٨٣

باب مستحق الزكاة وأقل ما يعطى وأكثر

الذي يستحق الزّكاة هم الثّمانية أصناف الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن: وهم الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، و( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ ) ، والغارمون،( وَفِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وابن السّبيل.

فأمّا الفقير فهو الذي له بلغة من العيش. والمسكين الذي لا شي‌ء معه. وأمّا العاملون عليها فهم الذين يسعون في جباية الصّدقات.

وأمّا المؤلّفة فهم الذين يتألّفون ويستمالون إلى الجهاد.

(وَفِي الرِّقابِ ) وهم المكاتبون والمماليك الذين يكونون تحت الشّدة العظيمة. وقد روي أنّ من وجبت عليه كفّارة عتق رقبة في ظهار أو قتل خطإ وغير ذلك، ولا يكون عنده، يشترى عنه ويعتق.

والغارمون هم الذين ركبتهم الدّيون في غير معصية ولا فساد.

( وَفِي سَبِيلِ اللهِ ) وهو الجهاد.

وابن السّبيل وهو المنقطع به. وقيل أيضا: إنّه الضّيف الذي ينزل بالإنسان ويكون محتاجا في الحال، وإن كان له يسار في بلده وموطنه.

١٨٤

فإذا كان الإمام ظاهرا، أو من نصبه الإمام حاصلا، فتحمل الزّكاة إليه، ليفرّقها على هذه الثّمانية الأصناف. ويقسم بينهم على حسب ما يراه. ولا يلزمه أن يجعل لكل صنف جزءا من ثمانية، بل يجوز أن يفضّل بعضهم على بعض، إذا كثرت طائفة منهم وقلّت آخرون.

وإذا لم يكن الإمام ظاهرا، ولا من نصبه الإمام حاصلا، فرّقت الزّكاة في خمسة أصناف من الذين ذكرناهم، وهم الفقراء والمساكين( وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ ) وابن السّبيل. ويسقط سهم( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) وسهم السّعاة وسهم الجهاد، لأنّ هؤلاء لا يوجدون إلّا مع ظهور الإمام. لأن الْمُؤَلَّفَةَ( قُلُوبُهُمْ ) إنّما يتألّفهم الإمام ليجاهدوا معه، والسّعاة أيضا إنّما يكونون من قبله في جميع الزّكوات، والجهاد أيضا إنّما يكون به أو بمن نصبه. فإذا لم يكن هو ظاهرا ولا من نصبه، فرّق فيمن عداهم.

والذين يفرّق فيهم الزّكاة ينبغي أن يحصل لهم مع الصّفات التي ذكرناها أن يكونوا عارفين بالحقّ معتقدين له. فإن لم يكونوا كذلك، فلا يجوز أن يعطوا الزّكاة. فمن أعطى زكاته لمن لا يعرف الحق، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. ولو أنّ مخالفا أخرج زكاته الى أهل نحلته، ثمَّ استبصر، كان عليه إعادة الزّكاة. ولا يجوز أن يعطى الزّكاة من أهل المعرفة إلّا أهل السّتر والصّلاح. فأمّا الفسّاق وشرّاب

١٨٥

الخمور فلا يجوز أن يعطوا منها شيئا. ولا بأس أن تعطي الزّكاة أطفال المؤمنين. ولا تعطى أطفال المشركين.

ولا يجوز أن يعطي الإنسان زكاته لمن تلزمه النّفقة عليه مثل الوالدين والولد والجدّ والجدة والزّوجة والمملوك. ولا بأس أن يعطي من عدا هؤلاء من الأهل والقرابات من الأخ والأخت وأولادهما والعمّ والخال والعمّة والخالة وأولادهم.

والأفضل أن لا يعدل بالزّكاة عن القريب مع حاجتهم الى ذلك الى البعيد. فإن جعل للقريب قسط، وللبعيد قسط، كان أفضل.

ومتى لم يجد من تجب عليه الزّكاة مستحقّا لها، عزلها من ماله، وانتظر بها مستحقّها، فإن لم يكن في بلده من يستحقّها فلا بأس أن يبعث بها إلى بلد آخر. فإن أصيبت الزّكاة في الطّريق أو هلكت، فقد أجزأ عنه. وإن كان قد وجد في بلده لها مستحقا، فلم يعطه، وآثر من يكون في بلد آخر، كان ضامنا لها، إن هلكت، ووجب عليه إعادتها.

ومن وصّي بإخراج زكاة، أو أعطي شيئا منها ليفرّقه على مستحقيه، فوجده، ولم يعطه. بل أخّره، ثمَّ هلك، كان ضامنا للمال.

ولا تحلّ الصّدقة الواجبة في الأموال لبني هاشم قاطبة. وهم الذين ينتسبون إلى أمير المؤمنين،عليه‌السلام ، وجعفر

١٨٦

ابن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، وعبّاس بن عبد المطّلب. فامّا ما عدا صدقة الأموال، فلا بأس أن يعطوا إيّاها. ولا بأس أن تعطي صدقة الأموال مواليهم. ولا بأس أن يعطي بعضهم بعضا صدقة الأموال. وإنّما يحرم عليهم صدقة من ليس من نسبهم.

وهذا كلّه إنّما يكون في حال توسّعهم ووصولهم إلى مستحقّهم من الأخماس. فإذا كانوا ممنوعين من ذلك ومحتاجين إلى ما يستعينون به على أحوالهم، فلا بأس أن يعطوا زكاة الأموال رخصة لهم في ذلك عند الاضطرار.

ولا يجوز أن تعطى الزّكاة لمحترف يقدر على اكتساب ما يقوم بأوده وأود عياله. فإن كانت حرفته لا تقوم به، جاز له أن يأخذ ما يتّسع به على أهله. ومن ملك خمسين درهما يقدر أن يتعيّش بها بقدر ما يحتاج إليه في نفقته، لم يجز له أن يأخذ الزكاة. وإن كان معه سبعمائة درهم، وهو لا يحسن أن يتعيّش بها، جاز له أن يقبل الزّكاة، ويخرج هو ما يجب عليه فيما يملكه من الزّكاة، فيتّسع به على عياله. ومن ملك دارا يسكنها وخادما يخدمه، جاز له أن يقبل الزّكاة. فإن كانت داره دار غلّة تكفيه ولعياله، لم يجز له أن يقبل الزّكاة فإن لم يكن له في غلّتها كفاية، جاز له أن يقبل الزّكاة.

وينبغي أن تعطي زكاة الذّهب والفضّة للفقراء والمساكين

١٨٧

المعروفين بذلك، وتعطي زكاة الإبل والبقر والغنم أهل التّجمّل.

فإن عرفت من يستحقّ الزّكاة، وهو يستحيي من التعرّض لذلك، ولا يؤثر إن تعرفه، جاز لك أن تعطيه الزّكاة وإن لم تعرفه أنّه منها، وقد أجزأت عنك.

وإذا كان على إنسان دين، ولا يقدر على قضائه، وهو مستحقّ لها، جاز لك أن تقاصّه من الزّكاة. وكذلك إن كان الدّين على ميّت، جاز لك أن تقاصّه منها. وإن كان على أخيك المؤمن دين، وقد مات، جاز لك أن تقضي عنه من الزّكاة. وكذلك إن كان الدين على والدك أو والدتك أو ولدك، جاز لك أن تقضيه عنهم من الزّكاة.

فإذا لم تجد مستحقا للزّكاة، ووجدت مملوكا يباع، جاز لك أن تشتريه من الزّكاة وتعتقه. فإن أصاب بعد ذلك مالا، ولا وارث له، كان ميراثه لأرباب الزّكاة. وكذلك لا بأس مع وجود المستحقّ أن يشتري مملوكا ويعتقه، إذا كان مؤمنا، وكان في ضرّ وشدّة. فإن كان بخلاف ذلك، لم يجز ذلك على حال.

ومن أعطى غيره زكاة الأموال ليفرقها على مستحقها، وكان مستحقّا للزّكاة، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يعطي غيره. اللهمّ إلّا أن يعيّن له على أقوام بأعيانهم. فإنّه لا يجوز

١٨٨

له حينئذ أن يأخذ منها شيئا، ولا أن يعدل عنهم الى غيرهم.

وأقلّ ما يعطي الفقير من الزّكاة خمسة دراهم أو نصف دينار. وهو أوّل ما يجب في النّصاب الأوّل. فأمّا ما زاد على ذلك، فلا بأس أن يعطى كلّ واحد ما يجب في نصاب نصاب، وهو درهم إن كان من الدراهم، أو عشر دينار إن كان من الدّنانير، وليس لأكثره حد. ولا بأس أن يعطي الرّجل زكاته لواحد يغنيه بذلك.

باب وجوب زكاة الفطرة ومن تجب عليه

الفطرة واجبة على كلّ حر بالغ مالك لما تجب عليه فيه زكاة المال. ويلزمه أن يخرج عنه وعن جميع من يعوله من ولد ووالد وزوجة ومملوك ومملوكة، مسلما كان أو ذمّيّا، صغيرا كان أو كبيرا. فإن كان لزوجته مملوك في عياله، أو يكون عنده ضيف يفطر معه في شهر رمضان، وجب عليه أيضا أن يخرج عنهما الفطرة. وإن رزق ولدا في شهر رمضان، وجب عليه أيضا أن يخرج عنه. فإن ولد المولود ليلة الفطر أو يوم العيد قبل صلاة العيد، لم يجب عليه إخراج الفطرة عنه فرضا واجبا. ويستحبّ له أن يخرج ندبا واستحبابا.

وكذلك من أسلم ليلة الفطر قبل الصّلاة، يستحبّ له أن يخرج زكاة الفطرة، وليس ذلك بفرض. فإن كان إسلامه

١٨٩

قبل ذلك، وجب عليه إخراج الفطرة. ومن لا يملك ما يجب عليه فيه الزّكاة، يستحبّ له أن يخرج زكاة الفطرة أيضا عن نفسه وعن جميع من يعوله. فإن كان ممّن يحلّ له أخذ الفطرة أخذها ثمَّ أخرجها عن نفسه وعن عياله. فإن كان به إليها حاجة، فليدر ذلك على من يعوله. حتّى ينتهي إلى آخرهم، ثمَّ يخرج رأسا واحدا إلى غيرهم، وقد أجزأ عنهم كلّهم.

باب ما يجوز إخراجه في الفطرة ومقدار ما يجب منه

أفضل ما يخرجه الإنسان في زكاة الفطرة التّمر ثمَّ الزّبيب. ويجوز إخراج الحنطة والشّعير والأرزّ والأقط واللّبن. والأصل في ذلك أن يخرج كلّ أحد ممّا يغلب على قوته في أكثر الأحوال.

فأمّا أهل مكّة والمدينة وأطراف الشّام واليمامة والبحرين والعراقين وفارس والأهواز وكرمان، فينبغي لهم أن يخرجوا التّمر. وعلى أوساط الشّام ومرو من خراسان والريّ، أن يخرجوا الزّبيب. وعلى أهل الجزيرة والموصل والجبال كلّها وخراسان، أن يخرجوا الحنطة والشّعير، وعلى أهل طبرستان الأرز، وعلى أهل مصر البرّ. ومن سكن البوادي من الأعراب فعليهم الأقط، فإذا عدموه، كان عليهم اللّبن.

١٩٠

ومن عدم أحد هذه الأصناف التي ذكرناها، أو أراد أن يخرج ثمنها بقيمة الوقت ذهبا أو فضة، لم يكن به بأس. وقد روي رواية أنّه يجوز أن يخرج عن كلّ رأس درهما. وقد روي أيضا أربعة دوانيق. والأحوط ما قدّمناه من أنّه يخرج قيمته بسعر الوقت.

فأمّا القدر الذي يجب إخراجه عن كلّ رأس، فصاع من أحد الأشياء التي قدّمنا ذكرها. وقدره تسعة أرطال بالعراقيّ وستّة أرطال بالمدني. وهو أربعة أمداد. والمدّ مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف. والدرهم ستّة دوانيق. والدّانق ثماني حبّات من أوسط حبّات الشّعير. فأمّا اللّبن فمن يريد إخراجه، أجزأه أربعة أرطال بالمدنيّ أو ستّة بالعراقي.

باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة ومن يستحقها

الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة يوم الفطر قبل صلاة العيد. ولو أن إنسانا أخرجها قبل يوم العيد بيوم أو يومين أو من أوّل الشّهر الى آخره، لم يكن به بأس، غير أن الأفضل ما قدّمناه.

فإذا كان يوم الفطر، فليخرجها، ويسلّمها الى مستحقّيها فإن لم يجد لها مستحقّا، عزلها من ماله، ثمَّ يسلّمها بعد الصّلاة أو من غد يومه الى مستحقّيها. فإن وجد لها أهلا، وأخّرها،

١٩١

كان ضامنا لها، الى أن يسلّمها إلى أربابها. وإن لم يجد لها أهلا، وأخرجها من ماله، لم يكن عليه ضمان.

وينبغي أن تحمل الفطرة الى الإمام ليضعها حيث يراه. فإن لم يكن هناك إمام، حملت الى فقهاء شيعته ليفرقوها في في مواضعها. وإذا أراد الإنسان أن يتولّى ذلك بنفسه، جاز له له ذلك، غير أنّه لا يعطيها إلا لمستحقّيها.

والمستحقّ لها، هو كلّ من كان بالصّفة التي تحلّ له معها الزّكاة. وتحرم على كلّ من تحرم عليه زكاة الأموال.

ولا يجوز حمل الفطرة من بلد الى بلد. وان لم يوجد لها مستحقّ من أهل المعرفة، جاز أن تعطى المستضعفين من غيرهم.

ولا يجوز إعطاؤها لمن لا معرفة له، إلّا عند التقية أو عدم مستحقّيها من أهل المعرفة. والأفضل أن يعطي الإنسان من يخافه من غير الفطرة، ويضع الفطرة في مواضعها.

ولا يجوز أن يعطي أقلّ من زكاة رأس واحد لواحد مع الاختيار. فإن حضر جماعة محتاجون وليس هناك من الأصواع بقدر ما يصيب كلّ واحد منهم صاع، جاز أن يفرّق عليهم. ولا بأس أن يعطي الواحد صاعين أو أصواعا.

والأفضل أن لا يعدل الإنسان بالفطرة إلى الأباعد مع وجود القرابات ولا الى الأقاصي مع وجود الجيران. فإن فعل خلاف ذلك، كان تاركا فضلا، ولم يكن عليه بأس.

١٩٢

باب الجزية وأحكامها

الجزية واجبة على أهل الكتاب ممّن أبى منهم الإسلام وأذعن بها، وهم اليهود والنّصارى. والمجوس حكمهم حكم اليهود والنّصارى. وهي واجبة على جميع الأصناف المذكورة إذا كانوا بشرائط المكلّفين وتسقط عن الصّبيان والمجانين والبله والنّساء منهم. فأمّا ما عدا الأصناف المذكورة من الكفّار، فليس يجوز أن يقبل منهم إلّا الإسلام أو القتل. ومن وجبت عليه الجزية وحلّ الوقت، فأسلم قبل أن يعطيها، سقطت عنه، ولم يلزمه أداؤها.

وكلّ من وجبت عليه الجزية، فالإمام مخيّر بين أن يضعها على رءوسهم أو على أرضيهم. فإن وضعها على رءوسهم، فليس له أن يأخذ من أرضيهم شيئا. وإن وضعها على أرضيهم، فليس له أن يأخذ من رءوسهم شيئا.

وليس للجزية حدّ محدود ولا قدر موقّت. بل يأخذ الإمام منهم على قدر ما يراه من أحوالهم من الغنى والفقر بقدر ما يكونون به صاغرين.

وكان المستحقّ للجزية في عهد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المهاجرين دون غيرهم. وهي اليوم لمن قام مقامهم في نصرة الإسلام والذبّ من سائر المسلمين.

١٩٣

ولا بأس أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب ممّا أخذوه من ثمن الخمور والخنازير والأشياء التي لا يحلّ للمسلمين بيعها والتّصرف فيها.

باب أحكام الأرضين وما يصح التصرف فيه منها بالبيع والشرى والتملك وما لا يصح

الأرضون على أربعة أقسام:

ضرب منها يسلم أهلها عليها طوعا من قبل نفوسهم من غير قتال، فتترك في أيديهم، ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر، وكانت ملكا لهم، يصحّ لهم التّصرّف فيها بالبيع والشّرى والوقف وسائر أنواع التّصرف.

وهذا حكم أرضيهم إذا عمروها وقاموا بعمارتها. فإن تركوا عمارتها، وتركوها خرابا، كانت للمسلمين قاطبة. وعلى الإمام أن يقبّلها ممّن يعمّرها بما يراه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع. وكان على المتقبّل بعد إخراج حقّ القبالة ومئونة الأرض، العشر أو نصف العشر فيما يبقى في حصّته، إذا بلغ الى الحدّ الذي يجب فيه ذلك. وهو خمسة أوسق فصاعدا حسب ما قدّمناه.

والضّرب الآخر من الأرضين، ما أخذ عنوة بالسّيف، فإنّها تكون للمسلمين بأجمعهم. وكان على الإمام أن يقبّلها

١٩٤

لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع. وكان على المتقبّل إخراج ما قد قبل به من حقّ الرّقبة، وفيما يبقى في يده وخاصّه العشر أو نصف العشر.

وهذا الضّرب من الأرضين لا يصحّ التّصرف فيه بالبيع والشرى والتملّك والوقف والصّدقات. وللإمام أن ينقله من متقبّل إلى غيره عند انقضاء مدّة ضمانه، وله التّصرّف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين. وهذه الأرضون للمسلمين قاطبة، وارتفاعها يقسم فيهم كلّهم: المقاتلة، وغيرهم. فإن المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص إلّا ما تحويه العسكر من الغنائم.

والضّرب الثّالث كلّ أرض صالح أهلها عليها، وهي أرض الجزية، يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع، وليس عليهم غير ذلك.

فإذا أسلم أربابها، كان حكم أرضيهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء، ويسقط عنهم الصّلح، لأنه جزية بدل من جزية رءوسهم وأموالهم، وقد سقطت عنهم بالإسلام. وهذا الضّرب من الأرضين يصحّ التّصرّف فيه بالبيع والشّرى والهبة وغير ذلك من أنواع التّصرف، وكان للإمام أن يزيد وينقض ما صالحهم عليه بعد انقضاء مدّة الصّلح حسب ما يراه من زيادة الجزية ونقصانها

١٩٥

والضّرب الرّابع، كلّ أرض انجلى أهلها عنها، أو كانت مواتا فأحييت، أو كانت آجاما وغيرها ممّا لا يزرع فيها، فاستحدثت مزارع.

فإن هذه الأرضين كلّها للإمام خاصة، ليس لأحد معه فيها نصيب، وكان له التّصرّف فيها بالقبض والهبة والبيع والشّرى حسب ما يراه، وكان له أن يقبّلها بما يراه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع، وجاز له أيضا بعد انقضاء مدّة القبالة نزعها من يد من قبّله إيّاها وتقبيلها لغيره، إلّا الأرضين التي أحييت بعد مواتها، فإن الذي أحياها أولى بالتّصرف فيها ما دام يقبلها بما يقبلها غيره. فإن أبى ذلك، كان للإمام أيضا نزعها من يده وتقبيلها لمن يراه. وعلى المتقبّل بعد إخراجه مال القبالة والمؤن فيما يحصل في حصتّه، العشر أو نصف العشر.

باب الخمس والغنائم

الخمس واجب في جميع ما يغنمه الإنسان.

والغنائم كلّ ما أخذ بالسّيف من أهل الحرب الذين أمر الله تعالى بقتالهم من الأموال والسّلاح والكراع والثّياب والمماليك وغيرها ممّا يحويه العسكر وممّا لم يحوه.

ويجب الخمس أيضا في جميع ما يغنمه الإنسان من أرباح

١٩٦

التّجارات والزّراعات وغير ذلك بعد إخراج مئونته ومئونة عياله.

ويجب الخمس أيضا في جميع المعادن من الذّهب والفضّة والحديد والصّفر والملح والرّصاص والنّفط والكبريت وسائر ما يتناوله اسم المعدن على اختلافها.

ويجب أيضا الخمس من الكنوز المذخورة على من وجدها، وفي العنبر وفي الغوص.

وإذا حصل مع الإنسان مال قد اختلط الحلال بالحرام، ولا يتميّز له، وأراد تطهيره، أخرج منه الخمس، وحلّ له التّصرف في الباقي. وإن تميّز له الحرام، وجب عليه إخراجه وردّه الى أربابه. ومن ورث مالا ممّن يعلم أنّه كان يجمعه من وجوه محظورة مثل الرّبا والغضب وما يجري مجراهما، ولم يتميّز له المغصوب منه ولا الرّبا، أخرج منه الخمس، واستعمل الباقي، وحلّ له التّصرف فيه.

والذمّي إذا اشترى من مسلم أرضا، وجب عليه فيها الخمس.

وجميع ما قدّمناه ذكره من الأنواع، يجب فيه الخمس قليلا كان أو كثيرا، إلّا الكنوز ومعادن الذّهب والفضّة، فإنّه لا يجب فيها الخمس إلّا إذا بلغت إلى القدر الذي يجب فيه الزّكاة.

١٩٧

والغوص لا يجب فيه الخمس إلّا إذا بلغ قيمته دينارا.

وأمّا الغلّات والأرباح فإنّه يجب فيها الخمس بعد إخراج حق السّلطان ومئونة الرّجل ومئونة عياله بقدر ما يحتاج اليه على الاقتصاد.

والكنوز إذا كانت دراهم أو دنانير، يجب فيها الخمس فيما وجد منها، إذا بلغ إلى الحدّ الّذي قدّمناه ذكره. وإن كان ممّا يحتاج الى المؤنة والنّفقة عليه، يجب فيه الخمس بعد إخراج المؤنة منه.

باب قسمة الغنائم والأخماس

كلّ ما يغنمه المسلمون من دار الحرب من جميع الأصناف التي قدّمناه ذكرها، ممّا حواه العسكر يخرج منه الخمس. وأربعة أخماس ما يبقى يقسم بين المقاتلة. وما لم يحوه العسكر من الأرضين والعقارات وغيرها من أنواع الغنائم يخرج منه الخمس، والباقي تكون للمسلمين قاطبة: مقاتليهم وغير مقاتليهم، يقسمه الامام بينهم على قدر ما يراه من مئونتهم.

والخمس يأخذه الإمام فيقسمه ستّة أقسام:

قسما لله، وقسما لرسوله، وقسما لذي القربى. فقسم الله وقسم الرّسول وقسم ذي القربى للإمام خاصّة، يصرفه في أمور نفسه وما يلزمه من مئونة غيره.

١٩٨

وسهم ليتامى آل محمّد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم. وليس لغيرهم شي‌ء من الأخماس. وعلى الإمام أن يقسم سهامهم فيهم على قدر كفايتهم ومئونتهم في السّنة على الاقتصاد. فإن فضل من ذلك شي‌ء، كان له خاصّة. وإن نقص كان عليه أن يتمّ من خاصّته.

وهؤلاء الذين يستحقّون الخمس، هم الذين قدّمنا ذكرهم ممّن تحرم عليهم الزّكاة، ذكرا كان أو أنثى. فإن كان هناك من أمّه من غير أولاد المذكورين، وكان أبوه منهم، حلّ له الخمس، ولم تحلّ له الزّكاة. وإن كان ممّن أبوه من غير أولادهم، وأمّه منهم، لم يحلّ له الخمس، وحلّت له الزّكاة.

باب الأنفال

الأنفال كانت لرسول الله خاصّة في حياته، وهي لمن قام مقامه بعده في أمور المسلمين. وهي كلّ أرض خربة قد باد أهلها عنها. وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب أو يسلّمونها هم بغير قتال، ورءوس الجبال وبطون الأودية والآجام والأرضون الموات التي لا أرباب لها، وصوافي الملوك وقطائعهم ممّا كان في أيديهم من غير وجه الغصب، وميراث من لا وارث له.

وله أيضا من الغنائم قبل أن تقسم: الجارية الحسناء،

١٩٩

والفرس الفاره، والثّوب المرتفع، وما أشبه ذلك ممّا لا نظير له من رقيق أو متاع.

وإذا قاتل قوم أهل حرب من غير أمر الإمام، فغنموا، كانت غنيمتهم للإمام خاصّة دون غيره.

وليس لأحد أن يتصرف فيما يستحقّه الإمام من الأنفال والأخماس إلّا بإذنه. فمن تصرّف في شي‌ء من ذلك بغير إذنه، كان عاصيا، وارتفاع ما يتصرّف فيه مردود على الإمام. وإذا تصرّف فيه بأمر الإمام، كان عليه أن يؤدي ما يصالحه الإمام عليه من نصف أو ثلث أو ربع.

هذا في حال ظهور الإمام. فأمّا في حال الغيبة، فقد رخّصوا لشيعتهم التصرّف في حقوقهم ممّا يتعلّق بالأخماس وغيرها فيما لا بدّ لهم منه من المناكح والمتاجر والمساكن. فأمّا ما عدا ذلك، فلا يجوز له التصرّف فيه على حال.

وما يستحقّونه من الأخماس في الكنوز وغيرها في حال الغيبة فقد اختلف قول أصحابنا فيه، وليس فيه نصّ معيّن إلا أنّ كلّ واحد منهم قال قولا يقتضيه الاحتياط.

فقال بعضهم: إنّه جار في حال الاستتار مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر.

وقال قوم: إنّه يجب حفظه ما دام الإنسان حيا. فإذا حضرته الوفاة، وصّى به الى من يثق به من إخوانه المؤمنين

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وتعصيه أنت، ثمّ تجيئان يوم القيامة سَواء، لأنتَ أعزّ على اللّه منه ! إنّ عليّ بن الحسين كان يقول: ( لمُحسِننا كِفلان مِن الأجر، ولمُسيئنا ضِعفان مِن العذاب ).

قال الحسن بن الوشّا: ثمّ التفت إليّ وقال: يا حسن، كيف تقرأون هذه الآية ؟:( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) )( هود: ٤٦ ).

فقلت: مِن الناس مَن يقرأ:( عَمِلَ غيرَ صالح ) ، ومنهم مَن يقرأ:( عَمَلَ غيرَ صالح ) نَفاهُ عن أبيه.

فقالعليه‌السلام : ( كلا لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى اللّه عزَّ وجل، نفاه اللّه عن أبيه، كذا مَن كان مِنّا ولم يُطِع اللّه فليس منّا، وأنت إذا أطَعت اللّه فأنت منّا أهل البيت )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الصفا، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المُطّلب، إنّي رسول اللّه إليكم، وإنّي شفيقٌ عليكم، وإنّ لي عملي، ولكلِّ رجلٍ منكم عمله، لا تقولوا إنّ محمّداً منّا وسنُدخَل مُدخله، فلا واللّه ما أوليائي منكم ولا مِن غيركم، يا بني عبد المطّلب، إلاّ المتّقون، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة، تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا إنّي قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين اللّه تعالى فيكم )(٢) .

وعن جابر قال: قال الباقرعليه‌السلام : ( يا جابر، أيكتفي مَن انتحل

_____________________

(١) البحار عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٠ عن الكافي.

٢٨١

التشيّع، أنْ يقول بحبّنا أهل البيت ؟! فو اللّه ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى اللّه وأطاعه - إلى أنْ قال: فاتّقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى اللّه تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم، وأعملهم بطاعته.

يا جابر، واللّه ما يُتَقرّب إلى اللّه إلاّ بالطاعة، ما معنى براءة من النار، ولا على اللّه لأحدٍ مِن حجّة، مَن كان للّه مطيعاً فهو لنا وليّ، ومَن كان للّه عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورَع )(١) .

وعن المفضّل بن عُمر قال: كنت عند أبي عبد اللّهعليه‌السلام فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي. فقال: ( مه ؟! استغفر اللّه ).

ثمّ قال: ( إنّ قليلَ العمل مع التقوى خيرٌ مِن كثيرٍ بلا تقوى ). قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى ؟

قال: ( نعم، مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب مِن الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى. ويكون الآخر ليس عنده شيء، فإذا ارتفع له الباب مِن الحرام لم يدخل فيه )(٢) .

قال الشاعر:

ليس من يقطع طريقاً بطلا

إنّما مَن يتّق اللّه البطل

فاتق اللّه فتقوى اللّه ما

جاورت قلب امرئ إلا وصل

_____________________

(١) الوفي ج ٣ ص ٦٠ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦١ عن الكافي.

٢٨٢

الثبات على المبدأ

للنُظم والمبادئ أهميّةٌ كُبرى، وأثرٌ بالغ في حياة الأُمَم والشعوب، فهي مصدر الإشعاع والتوجيه في الأُمّة، ومظهر رُقيّها أو تخلّفها، وكلّما سمَت مبادئ الأُمّة، ونُظمِها الإصلاحيّة، كان ذلك برهاناً على تحضّرها وازدهارها.

وكلّما هزُلَت وسخفت المبادئ، كان دليلاً على جهل ذويها وتخلّفهم

وخير المبادئ وأشرفها هو: ما ينظّم حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، ويصون حرّيته وكرامته، ويُحقّق أمنه ورخاءه، ويوفّر له وسائل السعادة والسلام في مجالَي الدين والدنيا.

وبديهيّ أنّ المبادئ مهما سمَت، وزخرت بجلائل المزايا والخلال، فإنّها لا تُحقّق أماني الأُمّة وآماله، ولا تفيء عليها بالخير المأمول، إلاّ إذا اعتنقتها وحرَصت على حمايتها وتنفيذها في مختلف مجالات الحياة، وإلاّ كانت عديمة الجدوى والنفع.

لذلك كان الثبات على المبدأ الحق مِن أقدس واجبات الأُمّة وفروضها الحتميّة، فهو الذي يرفع معنويّاتها، ويُعزّز قيمتها، ويحقّق أهدافها وأمانيها.

ولم تعرف البشريّة في تاريخها المديد، أكمل وأفضل مِن المبادئ

٢٨٣

الإسلاميّة الحائزة على جميع الخصائص والفضائل التي أهلتها للخلود، وبوّأتها قمّة الشرائع والمبادئ.

فهي المبادئ الوحيدة التي تلائم الفِطَر السليمة، وتؤلّف بين القِيَم الماديّة والروحيّة، وتكفُل لمعتنقيها سعادة الدين والدنيا.

ناهيك في جلالتها إنّها إستطاعت أنْ تحقّق في أقلِّ مِن رُبع قرن مِن فتوحات الإيمان، ومعاجز الإصلاح، ما عجزت عن تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ.

وأنشأت من الأُمّة العربيّة المُتخلّفة في جاهليّتها خير أُمّةٍ أُخرِجت للناس، حضارةً ومجداً وعِلماً وأخلاقاً.

وما ساد المسلمون الأوّلون وانفردوا بحضارتهم وزعامتهم العلميّة، إلاّ بثباتهم على مبادئهم الخالدة، وتفانيهم في حمايتها ونصرتها.

وما فُجِع المسلمون اليوم، وانتابتهم النكسات المُتتالية، إلاّ بإغفال مبادئهم، وانحرافهم عنها.

أنظر كيف يُمجّد القرآن الكريم المسلمين الثابتين على مبادئهم الرفيعة، المُستمسكين بقِيَم الإيمان ومُثُله العليا:

( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ) ( فصّلت: ٣٠ - ٣٢ )

ولقد كان الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرون، المثل الأعلى في الثبات على المبدأ وحمايته والتضحية في سبيله، بأعزّ النفوس والأرواح.

٢٨٤

كانصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما اكفهرّت في وجهه أعاصير المِحن، وتألّبت عليه قِوى الكُفر والطغيان ازداد صموداً ومُضيّاً على نشر رسالته، ضارباً في سبيل ذلك أرفع الأمثال: ( لو وضِعَت الشمسُ في يميني، والقمر في يساري ما تركتُ هذا الأمر حتّى يُظهره اللّه، أو أهلك في طلبه ).

وبهذا الصمود والشموخ انهارت قِوى الشرك، واستسلَمت صاغرةً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام على سرّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومثاليّته في الثبات على المبدأ والاعتصام به، عُرِضَت عليه الخلافة مشروطةً بكتاب اللّه وسنّة رسوله وسيرة الشيخين، فأبى معتدّاً بمبدئه السامي، ورأيه الأصيل قائلاً: ( بل على كتاب اللّه، وسنّة رسوله، واجتهاد رأيي ).

وألحّ عليه نفرٌ من خاصّته ومواليه أنْ يستميل مَن أغوتهم زخارف الأطماع فسئموا عدل الإمام ومساواته، واستهواهم إغراء معاوية ونواله الرخيص ( يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرَب وقريش على الموالي والعجَم، ومَن تخاف عليه مِن الناس فراره إلى معاوية ).

فقالعليه‌السلام لهم وهو يُعرِب عن ثباته وتمسّكه بدستور الإسلام، وترفّعه عن الوسائل الاستغلاليّة الآثمة: ( أتأمروني أنْ أطلب النصر بالجور ؟! لا واللّه، ما أفعل ما طلَعت شمسٌ ولاح في السماء نجم، واللّه لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنّما هي أموالهم ؟! ).

٢٨٥

وهكذا سرَت مثاليّة الإمامعليه‌السلام إلى الصفوة المختارة مِن أصحابه وحواريه، فكانوا نماذج فذّة، وأنماطاً فريدةً في الثبات على المبدأ والتمسّك بالحقّ، والذود عنه، رغم معاناتها ضروب الإرهاب والتنكيل.

وقد ازدانت أسفار السيَر بطرائف أمجادهم، وطيب ذكراهم، ممّا خلّدت مآثرهم عِبر القرون والأجيال، وإليك طرفاً منها:

قال الحجّاج بن يوسف الثقفي ذات يوم: أحبّ أنْ أصيب رجلاً مِن أصحاب أبي تراب فأتقرّب إلى اللّه بدمه. فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صُحبةً لأبي تراب من قنبر مولاه. فبَعث في طلبه فأُتي به، فقال له: أنت قنبر ؟ قال: نعم. قال: أبو همدان. قال: نعم. قال: مولى عليّ بن أبي طالب. قال: ( الله مولاي وأمير المؤمنين عليّ وليّ نعمتي ).

قال: ابرأ من دينه، قال: فإذا برئت مِن دينه تدلّني على دينٍ غيره أفضل منه. قال: إنّي قاتلك، فاختر أيّ قتلةٍ أحبّ إليك. قال: صيّرت ذلك إليك. قال: ولِم ؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلاّ قتلتك مثلها، وقد أخبرني أمير المؤمنين أنّ منيّتي تكون ذبحاً، ظُلماً بغير حقّ.

قال: فأمر به فذُبِح(١).

ورُوي أنّ معاوية أرسل إلى أبي الأسود الدُّؤَلـي هديةً منها حَلواء، يُريد بذلك استمالته وصرفه عن حبِّ عليّ بن أبي طالب، فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة مِن تلك الحلواء وجعلتها في فمها، فقال لها أبو

_____________________

(١) البحار م ٩ ص ٦٣٠.

٢٨٦

الأسود: يا بنتي، ألقيه فإنّه سُمّ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويردّنا عن محبّة أهل البيت. فقالت الصبيّة: قبّحه اللّه، يخدعنا عن السيّد المُطهّر بالشهد المُزعفَر ! تبّاً لمُرسِله وآكله، فعالَجت نفسها، حتّى قاءت ما أكلتها، ثمّ قالت:

أبا لِشَهد المزعفر يابن هندٍ

نبيع عليك أحساباً(إسلاما-خ‌ل)ودينا

معاذَ اللّه كيف يكون هذا

ومولانا أميرُ المؤمنينا(١)

وكان رشيد الهَجَري من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين، أُتِيَ به إلى زياد لعنه اللّه.

فقال زياد: ما قال لك خليلُك أنّا فاعلون بك ؟ قال: تقطعون يدَيّ ورجلَيّ وتصلبونني.

فقال زياد: أما واللّه لأُكذبنّ حديثه، خلّوا سبيله. فلمّا أراد أنْ يخرج، قال: رُدّوه لا نجد لك شيئاً أصلح ممّا قال صاحبُك، إنّك لن تزال تبغي سوءاً إنْ بقيت، اقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلّم، وقال: أُصلبوه خنقاً في عنقه(٢).

ولنستمع إلى كلمات أصحاب الإمام الخالدة، والمُعرِبة عن شدّة حبّهم للإمامعليه‌السلام ، وثباتهم على موالاته، وتفانيهم في سبيله:

فهذا عمرو بن الحمق يُخاطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فيقول: ( والله يا أمير المؤمنين، إنّي ما أجبتك ولا بايعتك على قرابةٍ بيني وبينك،

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦٦٩.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٥٢٢.

٢٨٧

ولا إرادة مالٍ تؤتينه، ولا إرادة سُلطانٍ ترفع به ذِكري، ولكنّي أجبتك بخصالٍ خمس:

إنّك ابن عمّ رسول اللّه، وأوّل مَن آمن به، وزوج سيّدة نِساء الأُمّة فاطمة بنت محمّد، ووصيّه، وأبو الذريّة التي بقيَت فينا من رسول اللّه، وأسبق الناس إلى الإسلام، وأعظم المهاجرين سهماً في الجهاد.

فلو أنّي كُلّفت نقلَ الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي، حتّى يؤتى عليّ في أمرٍ أُقوّي به وليّك، وأهينُ به عدوّك، ما رأيت أنّي قد أدّيت فيه كلّ الذي يحقّ عليّ مِن حقّك.

فقال عليّعليه‌السلام : ( اللهم نوّر قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم، ليت أنّ في جندي مِئةً مثلك )، فقال حجر: إذاً واللّه يا أمير المؤمنين، صحّ جندك، وقلّ فيهم مَن يغشك(١).

ورُوي أنّ أمير المؤمنين قال لحِجر بن عَدِي الطائي: ( كيف بك إذا دُعيت إلى البراءة منّي، فما عساك أنْ تقول ؟) فقال: واللّه يا أمير المؤمنين، لو قُطّعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرمت لي النار وألقيت فيها، لآثرت ذلك على البراءة منك. فقال: ( وُفّقت لكلِّ خيرٍ يا حِجر، جزاك اللّه خيراً عن أهل بيت نبيّك )(٢).

وقال هاشم المرقال، وكان على ميسرةِ أمير المؤمنين بصفّين: واللّه ما أحبّ أنّ لي ما على الأرض ممّا أقلّت، وما تحت السماء ممّا أظلّت،

_____________________

(١) البحار م ٨ ص ٤٧٥.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٢٢٦.

٢٨٨

وإنّي واليت عدوّاً لك أو عاديت وليّاً لك.

فقال له أمير المؤمنين: ( اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك، والمرافقة لنبيّك )(١).

ورُوي أنّ أسوَداً دخل على عليّعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين * إنّي سرقت فطهّرني.

فقال: لعلّك سرقت مِن غير حِرز ونحّى رأسه عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت مِن حِرزٍ فطهّرني. فقالعليه‌السلام : لعلّك سرقت غير نصاب، ونحّى رأسه عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت نصاباً، فلمّا أقرّ ثلاث مرّات قطعه أمير المؤمنين، فذهب وجعل يقول في الطريق: قطعني أميرُ المؤمنين، وإمام المُتّقين، وقائد الغرّ المُحجّلين، ويعسوب الدين، وسيّد الوصيّين، وجعل يمدحه. فسمِع ذلك منه الحسن والحسين وقد استقبلا فدخلا على أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالا: ( رأينا أسوَداً يمدحك في الطريق )، فبعث أمير المؤمنينعليه‌السلام مَن أعاده إلى عنده، فقالعليه‌السلام : ( قطعتك وأنت تمدحني ). فقال: يا أمير المؤمنين، إنّك طهّرتني، وإنّ حبّك قد خالط لحمي وعظمي، فلو قطّعتني إرباً إرباً لما ذهب حبّك مِن قلبي. فدعا له أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ووضَع المقطوع إلى موضعه فصحّ وصلح كما كان(٢).

ولقد سما الحسينعليه‌السلام وأهل بيته الطاهرون وأصحابه الأكرمون

_____________________

(١) سفينة البحار ج ٢ ص ٧١٦.

(٢) البحار م ٩ ص ٥٥٧.

٢٨٩

إلى أوجّ رفيع، تنحطّ دونه الهِمم والآمال في الثبات على المبدأ والتمسّك بالحقّ، رغم حراجة الموقف، ومعاناة أفدح الخطوب والأهوال.

وقف الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء، وقد أحاط به ثلاثون ألف مقاتل، يبغون إذلاله وقتله، فصرَخ في وجوههم صرخته المدوّية، وأعلن عن إبائه وشموخه بكلماته الخالدة المُجلجلة في مسمع الدهر، والتي لا تزال دستوراً حيّاً يُقدّسه الأباة والأحرار:

( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركَز بين اثنتين، بين السِّلة والذّلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة، مِن أنْ نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ).

ويؤكّد الحسينعليه‌السلام ثباته على المبدأ مؤثراً في سبيله القتل والفداء على الحياة الخانعة الذليلة: ( واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد ).

( إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برَماً ).

وهكذا اقتفى أصحاب الحسينعليهم‌السلام نهجه ومثاليّته في الصمود والثبات على المبدأ، ومُفاداته بأعزّ النفوس والأرواح. خطبهم الحسينعليه‌السلام خطبةً مِلؤها الحبّ والإعجاب والإشفاق:

( أمّا بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً مِن أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل ولا أفضل مِن أهل بيتي، فجزاكم اللّه عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يوماً لنا مِن هؤلاء الأعداء، ألا وإنّي قد أذنت لكم

٢٩٠

فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل قد غًشِيَكم فاتّخذوه جملاً، ثمّ ليأخذ كلّ رجلٍ منكم يدَ رجلٍ مِن أهل بيتي، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يُفرّج اللّه، فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو قد أصابوني لَلَهوا عن طلبِ غيري ).

فقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلّي عنك !! ولمّا نعذر إلى اللّه في أداء حقّك، أما واللّه حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي، ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة، واللّه لا نخلّيك حتّى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا عيبة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك.

واللّه لو علمت أنّي أُقتل، ثُمّ أُحيى، ثمّ أُقتل، ثمّ أحرق، ثمّ أذرى، ثمّ يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك، حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة العظمى التي لا انقضاء لها أبداً.

وقام إليه زهير بن القين فقال: واللّه لوددت أنّي قُتلت، ثمّ انتشرت، ثمّ قُتلت، حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة، وأنّ اللّه جلّ وعزّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ونفوس هؤلاء الفتيان مِن أهل بيتك.

وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً، فقالوا: واللّه لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفّينا وقضينا ما علينا(١).

_____________________

(١) عن نفس المهموم للمرحوم الحجّة الشيخ عبّاس القمّي ص ١٢١ بتصرّفٍ بسيط.

٢٩١

وهكذا طفق أصحاب الحسينعليه‌السلام يُعربون عن ثباتهم وتفانيهم في ولائه ونُصرته والذبّ عنه، بأروَع مفاهيم البطولة والفداء.

وما أحوَج المسلمين اليوم أنْ يستلهموا جهاد أولئك العظماء الأفذاذ، ويقتفوا آثارهم، في التمسّك بالدين، والثبات على المبدأ، والتفاني في نصرة الحقّ، ليستردّوا مجدهم الضائع، وعزّهم السليب، وينقذوا أنفسهم مِن هوان الهزائم الفاضحة والنكسات المتتالية، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم.

٢٩٢

القسم الثاني - في الحقوق والواجبات

٢٩٣

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

( الحقُّ أوسَع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحدٍ إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له، ولو كان لأحدٍ أنْ يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً للّه سُبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كلّ ما جرت عليه صروف قضائه. ولكن جعل حقّه على العباد أنْ يطيعوه، وجعل جزاءهم عليها مضاعفة الثواب تفضّلاً منه، وتوسّعاً بما هو مِن المزيد أهله. ثُمّ جعل سُبحانه مِن حقوقه حقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجِب بعضها بعضاً، ولا يستوجِب بعضها إلاّ ببعض ).

٢٩٤

تمهيد

٢٩٥

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد:

فإنّ الإنسان مدنيٌّ بالطبع، لا يستغني عن أبناء جنسه، ولا يستطيع اعتزالهم والتخلّف عن مُسايرة ركبهم، فإنّه متى انفرد عنهم أحسَّ بالوحشة والغُربة، واستشعر الوهن والخذلان، إزاء طوارئ الأقدار وملمّات الحياة، وعجَز عن تحقيق ما يصبو إليه مِن أماني وآمال، لا يتسنّى له تحقيقها إلاّ بالتضامن والتآزر الاجتماعيّين.

فهو فرعٌ من دوحةٍ أسريّة وشجت على الآباء، وتفرّعت عن الأبناء، فالأعمام والأخوال، وامتدّت أغصانها حتّى انتضمت سائر الأقرباء والأرحام.

وهو عنصرٌ مِن عناصر المجتمع، ولبنةٌ في كيانه، تتجاذبه أواصرٌ شتّى وصِلاتٌ مختلفة: من العقيدة، والصداقة، والثقافة، والمهنة، وغيرها من الصِلات الكُثر.

٢٩٦

وهذا الترابط الاجتماعي، أو المجتمع المترابط، لا بدّ له من دستورٍ ينظّم حياته، ويوثق أواصره، ويحقّق العدل الاجتماعي في ظلاله، بما يرسمه من حقوقٍ وواجبات، فرديّة واجتماعيّة، تضمن صالح المجتمع، وتصون حقوقه وحرماته المقدّسة.

وبذلك يغدو المجتمع زاهراً، سعيداً بالوئام والسلام، والخير والجمال. وبإغفال ذلك يغدو المجتمع بائساً شقيّاً، تسوده الفوضى، ويشيع فيه التسيّب، وتنخر في كيانه عوامل التخلّف والانهيار.

وقد حوت الشريعة الإسلاميّة - فيما حوَته مِن ضروب المعجزات الإصلاحية - أنّها جاءت بدستورٍ أخلاقيٍّ هادف بنّاء، يُنظّم حياة الفرد وحياة المجتمع أفضل وأكمل تنظيم، بما يرسم له مِن حقوقٍ وآدابٍ اجتماعيّة في مختلف الحقول والمجالات، ما يحقّق للمسلمين مفاهيم السلام والرخاء، ويكفل إسعادهم أدبيّاً وماديّاً.

مِن أجل ذلك كان لزاماً على المسلم أنْ يستلهم ذلك الدستور، ويعرف ماله وعليه من الواجبات والحقوق، ويعنى بتطبيقه والسير على هُداه، ليكون مثَلاً رفيعاً في جمال السيرة وحُسن السلوك، ورعاية حقوق مَن ينتسب إليهم، ويرتبط بهم من صنوف الروابط والصلات الاجتماعيّة، وليُحقّق بذلك ما يهفو إليه مِن توقير وحبٍّ وثناء.

وهذا ما حداني إلى وضع هذا الكتاب، الذي خططته ورسمت مفاهيمه على ضوء القرآن الكريم، وأخلاق أهل البيتعليهم‌السلام ووصاياهم الحكيمة الجليلة. وعرضت فيه طائفة مِن أهمّ الحقوق، وأبلغها أثراً في حياة الفرد

٢٩٧

والمجتمع، مبتدئاً فيه بحقوق اللّه على العباد، فحقوق رسوله الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحقوق الأئمّة المعصومين من آلهعليهم‌السلام . ثمّ استعرضت الحقوق واحداً إثر آخر، متدرجاً من حقوق العلماء إلى حقوق الأساتذة والطلاب، فالوالدين والأولاد، والزوجيّة والرحميّة، إلى الحقوق الاجتماعيّة الأُخرى التي يجدها المُطالع في حقول الكتاب.

وأملي أنْ يجد فيه المؤمنون رائد خير، وداعيةَ صلاح، ومنار هداية. وأنْ يحظى بشرف قبول اللّه تعالى، وجميل رضوانه، وواسع لُطفه ورحمته، إنّه قريب مجيب.

٢٩٨

الحقوق الإلهيّة

تتفاوت الحقوق بتفاوت أربابها، وقِيم عطفهم وفضلهم على المحسنين إليهم.

فللصديق حقٌّ معلوم، ولكنّه دون حقّ الشقيق البار العطوف، الذي جمع بين آصرة القربى وجمال اللطف والحنان.

وحقّ الشقيق دون حقّ الوالدين، لجلالة فضلهما على الولد وتفوقه على كلّ فضل.

وبهذا التقييم ندرك عظمة الحقوق الإلهيّة، وتفوّقها على سائر الحقوق، فهو المنعم الأعظم الذي خلق الإنسان، وحباه مِن صنوف النِّعَم والمواهب ما يعجز عن وصفه وتعداده:( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ( لقمان: ٢٠ ).

( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) (ابراهيم: ٣٤).

فكيف يستطيع الإنسان حدّ تلك الحقوق وعرضها، والاضطلاع بواجب شكرها، إلاّ بعون اللّه تعالى وتوفيقه.

فلا مناص من الإشارة إلى بعضها والتلويح عن واجباتها، وهي بعد إحراز الإيمان باللّه، والاعتقاد بوحدانيّته، واتّصافه بجميع صِفات الكمال وتنزيهه عمّا لا يليق بجلال إلوهيّته.

٢٩٩

١ - العبادة:

قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ( فأمّا حقُّ اللّه الأكبر فإنّك تعبدُه، لا تُشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص، جعل لك على نفسه أنْ يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحبُّ منها )(١).

والعبادة لغةً: هي غاية التذلّل والخضوع، لذلك لا يستحقّها إلاّ المُنعم الأعظم الذي له غاية الأفضال والإنعام، وهو اللّه عزَّ وجل.

واصطلاحاً هي: المواظبة على فعل المأمور به.

وناهيك في عظمة العبادة وجليل آثارها وخصائصها في حياة البشر:

إنّ اللّه عزَّ وجل جعلها الغاية الكُبرى من خلقهم وإيجادهم، حيث قال: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ( الذاريات: ٥٦ - ٥٨ ).

وبديهي أنّ اللّه تعالى غنيٌّ عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم، ولا تضرّه معصية العصاة وتمرّدهم، وإنّما فرض عبادته على الناس لينتفعوا بخصائصها وآثارها العظيمة، الموجبة لتكاملهم وإسعادهم.

فمِن خصائص العبادة: أنّها مِن أقوى الأسباب والبواعث على تركيز العقيدة ورسوخ الإيمان في المؤمن، لتذكيرها باللّه عزَّ وجل ورجاء ثوابه، والخوف مِن عقابه، وتذكيرها بالرسول الأعظم، فلا ينساه ولا ينحرف عنه.

_____________________

(١) رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام .

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517