أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333453 / تحميل: 11884
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وتعصيه أنت، ثمّ تجيئان يوم القيامة سَواء، لأنتَ أعزّ على اللّه منه ! إنّ عليّ بن الحسين كان يقول: ( لمُحسِننا كِفلان مِن الأجر، ولمُسيئنا ضِعفان مِن العذاب ).

قال الحسن بن الوشّا: ثمّ التفت إليّ وقال: يا حسن، كيف تقرأون هذه الآية ؟:( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) )( هود: ٤٦ ).

فقلت: مِن الناس مَن يقرأ:( عَمِلَ غيرَ صالح ) ، ومنهم مَن يقرأ:( عَمَلَ غيرَ صالح ) نَفاهُ عن أبيه.

فقالعليه‌السلام : ( كلا لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى اللّه عزَّ وجل، نفاه اللّه عن أبيه، كذا مَن كان مِنّا ولم يُطِع اللّه فليس منّا، وأنت إذا أطَعت اللّه فأنت منّا أهل البيت )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الصفا، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المُطّلب، إنّي رسول اللّه إليكم، وإنّي شفيقٌ عليكم، وإنّ لي عملي، ولكلِّ رجلٍ منكم عمله، لا تقولوا إنّ محمّداً منّا وسنُدخَل مُدخله، فلا واللّه ما أوليائي منكم ولا مِن غيركم، يا بني عبد المطّلب، إلاّ المتّقون، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة، تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا إنّي قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين اللّه تعالى فيكم )(٢) .

وعن جابر قال: قال الباقرعليه‌السلام : ( يا جابر، أيكتفي مَن انتحل

_____________________

(١) البحار عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٠ عن الكافي.

٢٨١

التشيّع، أنْ يقول بحبّنا أهل البيت ؟! فو اللّه ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى اللّه وأطاعه - إلى أنْ قال: فاتّقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى اللّه تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم، وأعملهم بطاعته.

يا جابر، واللّه ما يُتَقرّب إلى اللّه إلاّ بالطاعة، ما معنى براءة من النار، ولا على اللّه لأحدٍ مِن حجّة، مَن كان للّه مطيعاً فهو لنا وليّ، ومَن كان للّه عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورَع )(١) .

وعن المفضّل بن عُمر قال: كنت عند أبي عبد اللّهعليه‌السلام فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي. فقال: ( مه ؟! استغفر اللّه ).

ثمّ قال: ( إنّ قليلَ العمل مع التقوى خيرٌ مِن كثيرٍ بلا تقوى ). قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى ؟

قال: ( نعم، مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب مِن الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى. ويكون الآخر ليس عنده شيء، فإذا ارتفع له الباب مِن الحرام لم يدخل فيه )(٢) .

قال الشاعر:

ليس من يقطع طريقاً بطلا

إنّما مَن يتّق اللّه البطل

فاتق اللّه فتقوى اللّه ما

جاورت قلب امرئ إلا وصل

_____________________

(١) الوفي ج ٣ ص ٦٠ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦١ عن الكافي.

٢٨٢

الثبات على المبدأ

للنُظم والمبادئ أهميّةٌ كُبرى، وأثرٌ بالغ في حياة الأُمَم والشعوب، فهي مصدر الإشعاع والتوجيه في الأُمّة، ومظهر رُقيّها أو تخلّفها، وكلّما سمَت مبادئ الأُمّة، ونُظمِها الإصلاحيّة، كان ذلك برهاناً على تحضّرها وازدهارها.

وكلّما هزُلَت وسخفت المبادئ، كان دليلاً على جهل ذويها وتخلّفهم

وخير المبادئ وأشرفها هو: ما ينظّم حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، ويصون حرّيته وكرامته، ويُحقّق أمنه ورخاءه، ويوفّر له وسائل السعادة والسلام في مجالَي الدين والدنيا.

وبديهيّ أنّ المبادئ مهما سمَت، وزخرت بجلائل المزايا والخلال، فإنّها لا تُحقّق أماني الأُمّة وآماله، ولا تفيء عليها بالخير المأمول، إلاّ إذا اعتنقتها وحرَصت على حمايتها وتنفيذها في مختلف مجالات الحياة، وإلاّ كانت عديمة الجدوى والنفع.

لذلك كان الثبات على المبدأ الحق مِن أقدس واجبات الأُمّة وفروضها الحتميّة، فهو الذي يرفع معنويّاتها، ويُعزّز قيمتها، ويحقّق أهدافها وأمانيها.

ولم تعرف البشريّة في تاريخها المديد، أكمل وأفضل مِن المبادئ

٢٨٣

الإسلاميّة الحائزة على جميع الخصائص والفضائل التي أهلتها للخلود، وبوّأتها قمّة الشرائع والمبادئ.

فهي المبادئ الوحيدة التي تلائم الفِطَر السليمة، وتؤلّف بين القِيَم الماديّة والروحيّة، وتكفُل لمعتنقيها سعادة الدين والدنيا.

ناهيك في جلالتها إنّها إستطاعت أنْ تحقّق في أقلِّ مِن رُبع قرن مِن فتوحات الإيمان، ومعاجز الإصلاح، ما عجزت عن تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ.

وأنشأت من الأُمّة العربيّة المُتخلّفة في جاهليّتها خير أُمّةٍ أُخرِجت للناس، حضارةً ومجداً وعِلماً وأخلاقاً.

وما ساد المسلمون الأوّلون وانفردوا بحضارتهم وزعامتهم العلميّة، إلاّ بثباتهم على مبادئهم الخالدة، وتفانيهم في حمايتها ونصرتها.

وما فُجِع المسلمون اليوم، وانتابتهم النكسات المُتتالية، إلاّ بإغفال مبادئهم، وانحرافهم عنها.

أنظر كيف يُمجّد القرآن الكريم المسلمين الثابتين على مبادئهم الرفيعة، المُستمسكين بقِيَم الإيمان ومُثُله العليا:

( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ) ( فصّلت: ٣٠ - ٣٢ )

ولقد كان الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرون، المثل الأعلى في الثبات على المبدأ وحمايته والتضحية في سبيله، بأعزّ النفوس والأرواح.

٢٨٤

كانصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما اكفهرّت في وجهه أعاصير المِحن، وتألّبت عليه قِوى الكُفر والطغيان ازداد صموداً ومُضيّاً على نشر رسالته، ضارباً في سبيل ذلك أرفع الأمثال: ( لو وضِعَت الشمسُ في يميني، والقمر في يساري ما تركتُ هذا الأمر حتّى يُظهره اللّه، أو أهلك في طلبه ).

وبهذا الصمود والشموخ انهارت قِوى الشرك، واستسلَمت صاغرةً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام على سرّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومثاليّته في الثبات على المبدأ والاعتصام به، عُرِضَت عليه الخلافة مشروطةً بكتاب اللّه وسنّة رسوله وسيرة الشيخين، فأبى معتدّاً بمبدئه السامي، ورأيه الأصيل قائلاً: ( بل على كتاب اللّه، وسنّة رسوله، واجتهاد رأيي ).

وألحّ عليه نفرٌ من خاصّته ومواليه أنْ يستميل مَن أغوتهم زخارف الأطماع فسئموا عدل الإمام ومساواته، واستهواهم إغراء معاوية ونواله الرخيص ( يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرَب وقريش على الموالي والعجَم، ومَن تخاف عليه مِن الناس فراره إلى معاوية ).

فقالعليه‌السلام لهم وهو يُعرِب عن ثباته وتمسّكه بدستور الإسلام، وترفّعه عن الوسائل الاستغلاليّة الآثمة: ( أتأمروني أنْ أطلب النصر بالجور ؟! لا واللّه، ما أفعل ما طلَعت شمسٌ ولاح في السماء نجم، واللّه لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنّما هي أموالهم ؟! ).

٢٨٥

وهكذا سرَت مثاليّة الإمامعليه‌السلام إلى الصفوة المختارة مِن أصحابه وحواريه، فكانوا نماذج فذّة، وأنماطاً فريدةً في الثبات على المبدأ والتمسّك بالحقّ، والذود عنه، رغم معاناتها ضروب الإرهاب والتنكيل.

وقد ازدانت أسفار السيَر بطرائف أمجادهم، وطيب ذكراهم، ممّا خلّدت مآثرهم عِبر القرون والأجيال، وإليك طرفاً منها:

قال الحجّاج بن يوسف الثقفي ذات يوم: أحبّ أنْ أصيب رجلاً مِن أصحاب أبي تراب فأتقرّب إلى اللّه بدمه. فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صُحبةً لأبي تراب من قنبر مولاه. فبَعث في طلبه فأُتي به، فقال له: أنت قنبر ؟ قال: نعم. قال: أبو همدان. قال: نعم. قال: مولى عليّ بن أبي طالب. قال: ( الله مولاي وأمير المؤمنين عليّ وليّ نعمتي ).

قال: ابرأ من دينه، قال: فإذا برئت مِن دينه تدلّني على دينٍ غيره أفضل منه. قال: إنّي قاتلك، فاختر أيّ قتلةٍ أحبّ إليك. قال: صيّرت ذلك إليك. قال: ولِم ؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلاّ قتلتك مثلها، وقد أخبرني أمير المؤمنين أنّ منيّتي تكون ذبحاً، ظُلماً بغير حقّ.

قال: فأمر به فذُبِح(١).

ورُوي أنّ معاوية أرسل إلى أبي الأسود الدُّؤَلـي هديةً منها حَلواء، يُريد بذلك استمالته وصرفه عن حبِّ عليّ بن أبي طالب، فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة مِن تلك الحلواء وجعلتها في فمها، فقال لها أبو

_____________________

(١) البحار م ٩ ص ٦٣٠.

٢٨٦

الأسود: يا بنتي، ألقيه فإنّه سُمّ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويردّنا عن محبّة أهل البيت. فقالت الصبيّة: قبّحه اللّه، يخدعنا عن السيّد المُطهّر بالشهد المُزعفَر ! تبّاً لمُرسِله وآكله، فعالَجت نفسها، حتّى قاءت ما أكلتها، ثمّ قالت:

أبا لِشَهد المزعفر يابن هندٍ

نبيع عليك أحساباً(إسلاما-خ‌ل)ودينا

معاذَ اللّه كيف يكون هذا

ومولانا أميرُ المؤمنينا(١)

وكان رشيد الهَجَري من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين، أُتِيَ به إلى زياد لعنه اللّه.

فقال زياد: ما قال لك خليلُك أنّا فاعلون بك ؟ قال: تقطعون يدَيّ ورجلَيّ وتصلبونني.

فقال زياد: أما واللّه لأُكذبنّ حديثه، خلّوا سبيله. فلمّا أراد أنْ يخرج، قال: رُدّوه لا نجد لك شيئاً أصلح ممّا قال صاحبُك، إنّك لن تزال تبغي سوءاً إنْ بقيت، اقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلّم، وقال: أُصلبوه خنقاً في عنقه(٢).

ولنستمع إلى كلمات أصحاب الإمام الخالدة، والمُعرِبة عن شدّة حبّهم للإمامعليه‌السلام ، وثباتهم على موالاته، وتفانيهم في سبيله:

فهذا عمرو بن الحمق يُخاطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فيقول: ( والله يا أمير المؤمنين، إنّي ما أجبتك ولا بايعتك على قرابةٍ بيني وبينك،

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦٦٩.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٥٢٢.

٢٨٧

ولا إرادة مالٍ تؤتينه، ولا إرادة سُلطانٍ ترفع به ذِكري، ولكنّي أجبتك بخصالٍ خمس:

إنّك ابن عمّ رسول اللّه، وأوّل مَن آمن به، وزوج سيّدة نِساء الأُمّة فاطمة بنت محمّد، ووصيّه، وأبو الذريّة التي بقيَت فينا من رسول اللّه، وأسبق الناس إلى الإسلام، وأعظم المهاجرين سهماً في الجهاد.

فلو أنّي كُلّفت نقلَ الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي، حتّى يؤتى عليّ في أمرٍ أُقوّي به وليّك، وأهينُ به عدوّك، ما رأيت أنّي قد أدّيت فيه كلّ الذي يحقّ عليّ مِن حقّك.

فقال عليّعليه‌السلام : ( اللهم نوّر قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم، ليت أنّ في جندي مِئةً مثلك )، فقال حجر: إذاً واللّه يا أمير المؤمنين، صحّ جندك، وقلّ فيهم مَن يغشك(١).

ورُوي أنّ أمير المؤمنين قال لحِجر بن عَدِي الطائي: ( كيف بك إذا دُعيت إلى البراءة منّي، فما عساك أنْ تقول ؟) فقال: واللّه يا أمير المؤمنين، لو قُطّعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرمت لي النار وألقيت فيها، لآثرت ذلك على البراءة منك. فقال: ( وُفّقت لكلِّ خيرٍ يا حِجر، جزاك اللّه خيراً عن أهل بيت نبيّك )(٢).

وقال هاشم المرقال، وكان على ميسرةِ أمير المؤمنين بصفّين: واللّه ما أحبّ أنّ لي ما على الأرض ممّا أقلّت، وما تحت السماء ممّا أظلّت،

_____________________

(١) البحار م ٨ ص ٤٧٥.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٢٢٦.

٢٨٨

وإنّي واليت عدوّاً لك أو عاديت وليّاً لك.

فقال له أمير المؤمنين: ( اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك، والمرافقة لنبيّك )(١).

ورُوي أنّ أسوَداً دخل على عليّعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين * إنّي سرقت فطهّرني.

فقال: لعلّك سرقت مِن غير حِرز ونحّى رأسه عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت مِن حِرزٍ فطهّرني. فقالعليه‌السلام : لعلّك سرقت غير نصاب، ونحّى رأسه عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت نصاباً، فلمّا أقرّ ثلاث مرّات قطعه أمير المؤمنين، فذهب وجعل يقول في الطريق: قطعني أميرُ المؤمنين، وإمام المُتّقين، وقائد الغرّ المُحجّلين، ويعسوب الدين، وسيّد الوصيّين، وجعل يمدحه. فسمِع ذلك منه الحسن والحسين وقد استقبلا فدخلا على أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالا: ( رأينا أسوَداً يمدحك في الطريق )، فبعث أمير المؤمنينعليه‌السلام مَن أعاده إلى عنده، فقالعليه‌السلام : ( قطعتك وأنت تمدحني ). فقال: يا أمير المؤمنين، إنّك طهّرتني، وإنّ حبّك قد خالط لحمي وعظمي، فلو قطّعتني إرباً إرباً لما ذهب حبّك مِن قلبي. فدعا له أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ووضَع المقطوع إلى موضعه فصحّ وصلح كما كان(٢).

ولقد سما الحسينعليه‌السلام وأهل بيته الطاهرون وأصحابه الأكرمون

_____________________

(١) سفينة البحار ج ٢ ص ٧١٦.

(٢) البحار م ٩ ص ٥٥٧.

٢٨٩

إلى أوجّ رفيع، تنحطّ دونه الهِمم والآمال في الثبات على المبدأ والتمسّك بالحقّ، رغم حراجة الموقف، ومعاناة أفدح الخطوب والأهوال.

وقف الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء، وقد أحاط به ثلاثون ألف مقاتل، يبغون إذلاله وقتله، فصرَخ في وجوههم صرخته المدوّية، وأعلن عن إبائه وشموخه بكلماته الخالدة المُجلجلة في مسمع الدهر، والتي لا تزال دستوراً حيّاً يُقدّسه الأباة والأحرار:

( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركَز بين اثنتين، بين السِّلة والذّلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة، مِن أنْ نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ).

ويؤكّد الحسينعليه‌السلام ثباته على المبدأ مؤثراً في سبيله القتل والفداء على الحياة الخانعة الذليلة: ( واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد ).

( إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برَماً ).

وهكذا اقتفى أصحاب الحسينعليهم‌السلام نهجه ومثاليّته في الصمود والثبات على المبدأ، ومُفاداته بأعزّ النفوس والأرواح. خطبهم الحسينعليه‌السلام خطبةً مِلؤها الحبّ والإعجاب والإشفاق:

( أمّا بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً مِن أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل ولا أفضل مِن أهل بيتي، فجزاكم اللّه عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يوماً لنا مِن هؤلاء الأعداء، ألا وإنّي قد أذنت لكم

٢٩٠

فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل قد غًشِيَكم فاتّخذوه جملاً، ثمّ ليأخذ كلّ رجلٍ منكم يدَ رجلٍ مِن أهل بيتي، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يُفرّج اللّه، فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو قد أصابوني لَلَهوا عن طلبِ غيري ).

فقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلّي عنك !! ولمّا نعذر إلى اللّه في أداء حقّك، أما واللّه حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي، ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة، واللّه لا نخلّيك حتّى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا عيبة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك.

واللّه لو علمت أنّي أُقتل، ثُمّ أُحيى، ثمّ أُقتل، ثمّ أحرق، ثمّ أذرى، ثمّ يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك، حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة العظمى التي لا انقضاء لها أبداً.

وقام إليه زهير بن القين فقال: واللّه لوددت أنّي قُتلت، ثمّ انتشرت، ثمّ قُتلت، حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة، وأنّ اللّه جلّ وعزّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ونفوس هؤلاء الفتيان مِن أهل بيتك.

وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً، فقالوا: واللّه لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفّينا وقضينا ما علينا(١).

_____________________

(١) عن نفس المهموم للمرحوم الحجّة الشيخ عبّاس القمّي ص ١٢١ بتصرّفٍ بسيط.

٢٩١

وهكذا طفق أصحاب الحسينعليه‌السلام يُعربون عن ثباتهم وتفانيهم في ولائه ونُصرته والذبّ عنه، بأروَع مفاهيم البطولة والفداء.

وما أحوَج المسلمين اليوم أنْ يستلهموا جهاد أولئك العظماء الأفذاذ، ويقتفوا آثارهم، في التمسّك بالدين، والثبات على المبدأ، والتفاني في نصرة الحقّ، ليستردّوا مجدهم الضائع، وعزّهم السليب، وينقذوا أنفسهم مِن هوان الهزائم الفاضحة والنكسات المتتالية، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم.

٢٩٢

القسم الثاني - في الحقوق والواجبات

٢٩٣

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

( الحقُّ أوسَع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحدٍ إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له، ولو كان لأحدٍ أنْ يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً للّه سُبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كلّ ما جرت عليه صروف قضائه. ولكن جعل حقّه على العباد أنْ يطيعوه، وجعل جزاءهم عليها مضاعفة الثواب تفضّلاً منه، وتوسّعاً بما هو مِن المزيد أهله. ثُمّ جعل سُبحانه مِن حقوقه حقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجِب بعضها بعضاً، ولا يستوجِب بعضها إلاّ ببعض ).

٢٩٤

تمهيد

٢٩٥

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد:

فإنّ الإنسان مدنيٌّ بالطبع، لا يستغني عن أبناء جنسه، ولا يستطيع اعتزالهم والتخلّف عن مُسايرة ركبهم، فإنّه متى انفرد عنهم أحسَّ بالوحشة والغُربة، واستشعر الوهن والخذلان، إزاء طوارئ الأقدار وملمّات الحياة، وعجَز عن تحقيق ما يصبو إليه مِن أماني وآمال، لا يتسنّى له تحقيقها إلاّ بالتضامن والتآزر الاجتماعيّين.

فهو فرعٌ من دوحةٍ أسريّة وشجت على الآباء، وتفرّعت عن الأبناء، فالأعمام والأخوال، وامتدّت أغصانها حتّى انتضمت سائر الأقرباء والأرحام.

وهو عنصرٌ مِن عناصر المجتمع، ولبنةٌ في كيانه، تتجاذبه أواصرٌ شتّى وصِلاتٌ مختلفة: من العقيدة، والصداقة، والثقافة، والمهنة، وغيرها من الصِلات الكُثر.

٢٩٦

وهذا الترابط الاجتماعي، أو المجتمع المترابط، لا بدّ له من دستورٍ ينظّم حياته، ويوثق أواصره، ويحقّق العدل الاجتماعي في ظلاله، بما يرسمه من حقوقٍ وواجبات، فرديّة واجتماعيّة، تضمن صالح المجتمع، وتصون حقوقه وحرماته المقدّسة.

وبذلك يغدو المجتمع زاهراً، سعيداً بالوئام والسلام، والخير والجمال. وبإغفال ذلك يغدو المجتمع بائساً شقيّاً، تسوده الفوضى، ويشيع فيه التسيّب، وتنخر في كيانه عوامل التخلّف والانهيار.

وقد حوت الشريعة الإسلاميّة - فيما حوَته مِن ضروب المعجزات الإصلاحية - أنّها جاءت بدستورٍ أخلاقيٍّ هادف بنّاء، يُنظّم حياة الفرد وحياة المجتمع أفضل وأكمل تنظيم، بما يرسم له مِن حقوقٍ وآدابٍ اجتماعيّة في مختلف الحقول والمجالات، ما يحقّق للمسلمين مفاهيم السلام والرخاء، ويكفل إسعادهم أدبيّاً وماديّاً.

مِن أجل ذلك كان لزاماً على المسلم أنْ يستلهم ذلك الدستور، ويعرف ماله وعليه من الواجبات والحقوق، ويعنى بتطبيقه والسير على هُداه، ليكون مثَلاً رفيعاً في جمال السيرة وحُسن السلوك، ورعاية حقوق مَن ينتسب إليهم، ويرتبط بهم من صنوف الروابط والصلات الاجتماعيّة، وليُحقّق بذلك ما يهفو إليه مِن توقير وحبٍّ وثناء.

وهذا ما حداني إلى وضع هذا الكتاب، الذي خططته ورسمت مفاهيمه على ضوء القرآن الكريم، وأخلاق أهل البيتعليهم‌السلام ووصاياهم الحكيمة الجليلة. وعرضت فيه طائفة مِن أهمّ الحقوق، وأبلغها أثراً في حياة الفرد

٢٩٧

والمجتمع، مبتدئاً فيه بحقوق اللّه على العباد، فحقوق رسوله الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحقوق الأئمّة المعصومين من آلهعليهم‌السلام . ثمّ استعرضت الحقوق واحداً إثر آخر، متدرجاً من حقوق العلماء إلى حقوق الأساتذة والطلاب، فالوالدين والأولاد، والزوجيّة والرحميّة، إلى الحقوق الاجتماعيّة الأُخرى التي يجدها المُطالع في حقول الكتاب.

وأملي أنْ يجد فيه المؤمنون رائد خير، وداعيةَ صلاح، ومنار هداية. وأنْ يحظى بشرف قبول اللّه تعالى، وجميل رضوانه، وواسع لُطفه ورحمته، إنّه قريب مجيب.

٢٩٨

الحقوق الإلهيّة

تتفاوت الحقوق بتفاوت أربابها، وقِيم عطفهم وفضلهم على المحسنين إليهم.

فللصديق حقٌّ معلوم، ولكنّه دون حقّ الشقيق البار العطوف، الذي جمع بين آصرة القربى وجمال اللطف والحنان.

وحقّ الشقيق دون حقّ الوالدين، لجلالة فضلهما على الولد وتفوقه على كلّ فضل.

وبهذا التقييم ندرك عظمة الحقوق الإلهيّة، وتفوّقها على سائر الحقوق، فهو المنعم الأعظم الذي خلق الإنسان، وحباه مِن صنوف النِّعَم والمواهب ما يعجز عن وصفه وتعداده:( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ( لقمان: ٢٠ ).

( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) (ابراهيم: ٣٤).

فكيف يستطيع الإنسان حدّ تلك الحقوق وعرضها، والاضطلاع بواجب شكرها، إلاّ بعون اللّه تعالى وتوفيقه.

فلا مناص من الإشارة إلى بعضها والتلويح عن واجباتها، وهي بعد إحراز الإيمان باللّه، والاعتقاد بوحدانيّته، واتّصافه بجميع صِفات الكمال وتنزيهه عمّا لا يليق بجلال إلوهيّته.

٢٩٩

١ - العبادة:

قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ( فأمّا حقُّ اللّه الأكبر فإنّك تعبدُه، لا تُشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص، جعل لك على نفسه أنْ يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحبُّ منها )(١).

والعبادة لغةً: هي غاية التذلّل والخضوع، لذلك لا يستحقّها إلاّ المُنعم الأعظم الذي له غاية الأفضال والإنعام، وهو اللّه عزَّ وجل.

واصطلاحاً هي: المواظبة على فعل المأمور به.

وناهيك في عظمة العبادة وجليل آثارها وخصائصها في حياة البشر:

إنّ اللّه عزَّ وجل جعلها الغاية الكُبرى من خلقهم وإيجادهم، حيث قال: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ( الذاريات: ٥٦ - ٥٨ ).

وبديهي أنّ اللّه تعالى غنيٌّ عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم، ولا تضرّه معصية العصاة وتمرّدهم، وإنّما فرض عبادته على الناس لينتفعوا بخصائصها وآثارها العظيمة، الموجبة لتكاملهم وإسعادهم.

فمِن خصائص العبادة: أنّها مِن أقوى الأسباب والبواعث على تركيز العقيدة ورسوخ الإيمان في المؤمن، لتذكيرها باللّه عزَّ وجل ورجاء ثوابه، والخوف مِن عقابه، وتذكيرها بالرسول الأعظم، فلا ينساه ولا ينحرف عنه.

_____________________

(١) رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام .

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

لأنّه قد أوجد الأحكام المسبقة الخاطئة عنده ، وسمح للأهواء النفسية والتعصبات العمياء المتطرفة أن تتغلب على توجهه ، ووقع في أسر الذات والغرور ، ولوث صفاء قلبه وطهارة روحه بأمور قد جعلها موانع أمام فهم وإدراك الحقائق.

وجاء في الحديث الشريف : «لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات».

فأوّل شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس وامتلاك التقوى ، وبدون ذلك يقع الإنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق.

ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة ب( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

وكم من أناس طلبوا آيات القرآن بتعصب وعناد وأحكام مسبقة (فردية أو اجتماعية) وحملوا القرآن بما يريدون لا بما يريده القرآن ، فازدادوا ضلالا بدلا من أن يكون القرآن هاديا لهم (وطبيعي أنّ القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا يكون وسيلة للإضلال ، ولكنّ أهواءهم وعنادهم هو الذي جرّهم لذلك) والآيتان (124 و 125) من سورة التوبة تبيّن لنا هذه الحالة بكل وضوح :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

فالمقصود بالآية عدم الاكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بل ينبغي أن نجعل من هذا الذكر فكرا ، ومن الفكر حالة داخلية ، وعند ما نقرأ آيّة نستعيذ بالله من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا ، أو أن تحول بيننا وبين كلام الله جل وعلا.

2 ـ لما ذا يكون التعوذ «من الشيطان الرجيم»؟

«الرجيم» : من (رجم) ، بمعنى الطرد ، وهو في الأصل بمعنى الرمي بالحجر ثمّ استعمل في الطرد.

٣٢١

ونلاحظ ذكر صفة طرد الشيطان من دون جميع صفاته ، للتذكير بتكبّره على أمر الله حين أمره بالسجود والخضوع لآدم ، وإنّ ذلك التكبّر الذي دخل الشيطان بات بمثابة حجاب بينه وبين إدراك الحقائق ، حتى سولت له نفسه أن يعتقد بأفضليته على آدم وقال :( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .

فكان ذلك العناد والغرور سببا لتمرده على أمر اللهعزوجل ممّا أدى لكفره ومن ثمّ طرده من الجنّة.

وكأنّ القرآن الكريم يريد أن يفهمنا باستخدامه كلمة «الرجيم» بضرورة الاحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبّر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات الله الحكيم ، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل ، فنهوى في وحل الكفر بدلا من إدراك وفهم الحقائق القرآنية.

3 ـ بين لوائي الحقّ والباطل

قسمت الآيات أعلاه الناس إلى قسمين : قسم يرزح تحت سلطة الشيطان وقسم خارج عن هذه السلطة ، وبيّنت صفتين لكلّ من هذين القسمين :

فالذين هم خارج سلطة الشيطان : مؤمنون ومتوكلون على اللهعزوجل ، أي أنّهم من الناحية الاعتقادية عباد لله ، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل شيء سوى الله، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات.

أمّا الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان ، فقائدهم الشيطان( يَتَوَلَّوْنَهُ ) وهو مشركون ، لأنّ أعمالهم تشير إلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل وعلا.

وثمة من يسعى لأن يكون من القسم الأوّل ، ولكنّ ابتعاده عن المربّين الإلهيين ، أو الضياع في محيط فاسد ، أو أيّ أسباب أخرى ، تؤدي الى سقوطه في وحل القسم الثّاني.

وعلى أيّة حال ، فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إجبارية على

٣٢٢

الإنسان ، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهد الإنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه ، ويعطيه إجازة المرور من بوابة قلبه.

4 ـ آداب تلاوة القرآن :

كل شيء يحتاج الى برنامج معين ولا يستثنى كتاب عظيم ـ كالقرآن الكريم ـ من هذه القاعدة ، لذلك فقد ذكر في القرآن بعض الآداب والشروط لتلاوة كلام الله والاستفادة من آياته :

1 ـ يقول تعالى أوّلا :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، ويمكن أن يشير هذا التعبير إلى الطهارة الظاهرية ، كأن يكون مس كتابة القرآن مشروط بالطهارة والوضوء ، وكذا الإشارة إلى إمكان تيسر الوصول لفهم محتوى آيات القرآن من خلال تطهير النفس من الرذائل الأخلاقية ، لأنّ الصفات القبيحة تمنع من مشاهدة جمال الحق باعتبارها حجابا مظلما بين الإنسان والحقائق.

2 ـ يجب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات الله( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) .

وعند ما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريقة العمل بهذا القول ، يروى أنّه قال : «قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم».

وفي رواية أخرى ، عند تلاوتهعليه‌السلام لسورة الحمد قال : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون».

وكما قلنا ، فإنّ التلفظ ـ فقط ـ في الاستعاذة لا يغني من الحق شيئا ، ما لم تنفذ الاستعاذة إلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإنسان عند التلاوة عن إرادة الشيطان ، ويقترب من الصفات الإلهية ، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق ، وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.

فالاستعاذة بالله من الشيطان ـ إذن ـ لازمة قبل الشروع بالتلاوة ، ومستمرّة

٣٢٣

مع التلاوة إلى آخرها وإن لم يكن ذلك باللسان.

3 ـ تجب القراءة ترتيلا ، أي مع التفكّر والتأمّل( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (1) .

وفي تفسير هذه الآية روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ القرآن لا يقرأ هزرمة ولكن يرتل ترتيلا ، إذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النّار»(2) .

4 ـ وقد ورد الأمر بالتدبّر والتفكّر في القرآن إضافة إلى الترتيل. حيث جاء في الآية (82) من سورة النساء :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) .

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(4) . (ولكنّ ذوي الضمائر الحيّة والعلماء المؤمنين ، يستطيعون رؤية جماله المتجلّي في كلامه جل وعلا).

5 ـ على الذين يستمعون إلى تلاوة القرآن أن ينصتوا إليه بتفكّر وتأمّل( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (5) .

وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن ، لما له من فعل مؤثر في تحسّس مفاهيمه ، ولكنّ المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك(6) .

* * *

__________________

(1) سورة المزمل ، 4.

(2) بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 106.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 107.

(5) الأعراف ، 204.

(6) مزيد من الاطلاع راجع بحار الأنوار ، ج 9 ، ص 190 وما بعدها.

٣٢٤

الآيات

( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) )

سبب النّزول

يقول ابن عباس : (كانوا يقولون : يسخر محمّد بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وغدا يأمرهم بأمر ، وإنّه لكاذب ، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).

التّفسير

الافتراء

تحدثت الآيات السابقة أسلوب الاستفادة من القرآن الكريم ، وتتناول

٣٢٥

الآيات مورد البحث جوانب أخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن ، وتبتدئ ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة ، فتقول :( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة الله ، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل ، ولكن المشركين لجهلهم( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

وحقيقة الأمر أنّ المشركين لم يتوصلوا بعد لإدراك وظيفة القرآن وما يحمل من رسالة ، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية نعم ، فأكثرهم لا يعلمون.

فبديهي والحال هذه أن يطرأ على وصفة الدواء الإلهي لنجاة هؤلاء المرضى التغيير والتبديل تدرجا مع ما يعيشونه ، فما يعطون اليوم يكمله الغد وهكذا حتى تتمّ الوصفة الشاملة.

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن ، دفعهم للاعتقاد بأنّ أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل بين ثناياها التناقض أو الافتراء على اللهعزوجل ! وإلّا لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلّا به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة انتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات العملية والواقعية ، فالتحول والانتقال بالناس من مرحلة إلى أخرى لا يتم دفعة واحدة ، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل انتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أو ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

٣٢٦

وبعد الإجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إلّا أن نقول : ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل انتقالية.

(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة ـ فراجع).

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع ، وللتأكيد عليه تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ) .

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين» ، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزّل بأمر الله تعالى على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق ، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإنسان ضمن التربية الرّبانية له،وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا ، جاء في تكملة الآية المباركة :( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

يقول صاحب تفسير الميزان : إنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق ، فالإيمان للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان ، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنّة والسعادة.

وعلى أيّة حال ، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لا بدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة ، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي الثابت محلها ، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.

وبعد أن فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أخرى ، أو على الأصح لذكر افتراء آخر لمخالفي نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ

٣٢٧

يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) .

اختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي ادّعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فعن ابن عباس : أنّه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكّة : وهو من أصل رومي وكان نصرانيا.

واعتبره بعضهم : غلاما روميا لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش) وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال آخرون : إنّ معلّمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر (جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأخرى بصوت عال.

واحتمل بعضهم : أنّه (سلمان الفارسي) ، في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وأسلم على يديه هناك ، وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة ، أضف إلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنيا.

وعلى أيّة حال ، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون ، بقوله :( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ (1) إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ (2) وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

فإن كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ معلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئا فهذا في منتهى السفه ، إذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم ، حتى أنّ القرآن تحداهم بإتيان سورة من مثله فما

__________________

(1) يلحدون : من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل ، وقد يطلق على أيّ انحراف ، والمراد هنا : إنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنّه معلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

(2) الإعجام والعجمة لغة : بمعنى الإبهام ، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم ، وباعتبر أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

٣٢٨

استطاعوا ناهيك عن عدد الآيات؟! وإن كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر ، إذ أن المحتوى القرآني قد صبّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة بحيث خضع لبلاغته وإعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب ، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيّ إنسان ، وليس لذلك أهلا سوى اللهعزوجل وسبحانه عمّا يشركون.

وبنظرة تأمّلية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إثبات عقائده ، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإنسان وقوانينه الاجتماعية المتكاملة ، وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّا ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون ، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إلّا.

والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم من ينسبون إليه القرآن ، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إليه القرآن ، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.

أضف إلى ذلك كله أن تاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر ، وإن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجودا ألا يستلزم ذلك اتصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به وباستمرار؟ إنّهم حاولوا التشبث لا أكثر ، وكما قيل : (الغريق يتشبّث بكل حشيش).

إنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإعجازي أمر واضح ، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإنساني ، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر.

٣٢٩

نعم ، فمع كل ما وصلت إليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى.

وذكر سيد قطب في تفسيره : أنّ جمعا من الماديين في روسيا عند ما أرادوا الانتقاض من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن ينتج من ذهن إنسان واحد «محمّد» بل يجب أن يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعا من جزيرة العرب ، وإنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة(1) .

ولقد كانوا يبحثون ـ وفقا لمنطقهم الإلحادي ـ عن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إشراقة عقلية لإنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى ، ممّا اضطرّهم لأن يطرحوا تفسيرا مضحكا وهو : اشتراك جمع كثير من الناس ـ في تأليف القرآن ـ من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها!! على أنّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إليه جملة وتفصيلا.

وعلى أيّة حال ، فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون ، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة ـ فراجع).

وبلهجة المهدد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الاتهامات والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلّا العذاب الإلهي ، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

__________________

(1) في ضلال القرآن ، ج 5 ، ص 282.

٣٣٠

وفي آخر الآية يقول : إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء الله هم الكفار :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) ، فهم الكاذبون وليس أنت يا محمّد ، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة واضحة ولكنّهم يستمرون في إطلاق الافتراءات والأكاذيب.

فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق!

* * *

بحوث

1 ـ قبح الكذب في المنظور الإسلامي

الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف ، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.

ومع أنّ موضوع الآية هو الكذب والافتراء على الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الآية تناولت قبح الكذب بصورة إجمالية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصّة لمسألة الصدق والنهي عن الكذب ، وإليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع :

الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإنسان ، حتى أنّ دلالتهما على الإيمان أرقى من دلالة الصلاة.

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيء قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1) .

__________________

(1) سفينة البحار ، مادة (صدق) ، نقلا عن الكافي.

٣٣١

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد ، وما الصدق إلّا الأمانة في الحديث ، وما الأمانة إلّا الصدق في العمل.

2 ـ الكذب منشأ جميع الذنوب :

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنّة»(1) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهعزوجل جعل للبشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب»(2) .

وعن الإمام العسكريعليه‌السلام أنّه قال : «جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب»(3) .

فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجبا لفضحه ، فتراه يتوسّل بالكذب عادة لتغطية آثار ذنوبه.

وبعبارة أخرى : إنّ الكذب يطلق العنان للإنسان للوقوع في الذنوب ، والصدق يحدّه.

وقد جسد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الحقيقة بكل وضوح عند ما جاءه رجل وقال له : يا رسول الله ، إنّي لا أصلي وأرتكب القبائح وأكذب ، فأيّها أترك أوّلا؟.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكذب» ، فتعهد الرجل للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يكذب أبدا.

فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه : إن سألني رسول الله غدا عن أمري، ما ذا أقول له! فإن أنكرت كان كاذبا ، وإن صدقت جرى عليّ الحد. وهكذا

__________________

(1) مشكاة الأنوار للطبرسي ، ص 157.

(2) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 254.

(3) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 233.

٣٣٢

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورّع عنها جميعا.

ولذا فترك الكذب طريق لترك الذنوب.

3 ـ الكذب منشأ للنفاق :

لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب ، في حين أنّ الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب ، وما النفاق إلّا الاختلاف بين الظاهر والباطن.

والآية (77) من سورة التوبة تبيّن لنا ذلك بوضوح :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

4 ـ لا انسجام بين الكذب والإيمان :

وإضافة إلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة الجليّة

فقد روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : يكون المؤمن جبانا؟ قال : «نعم» ، قيل:ويكون بخيلا؟ قال : «نعم» ، قيل : يكون كذّابا؟ قال : «لا»(1) .

ذلك لأنّ الكذب من علائم النفاق ، وهو لا يتفق مع الإيمان.

وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه أشار لهذا المعنى واستدل عليه بالآية مورد البحث.

5 ـ الكذب يرفع الاطمئنان :

إنّ وجود الثقة والاطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم ، والكذب من الأمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشبعه من خيانة وتقلب ،

__________________

(1) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 322.

٣٣٣

ولذلك كان تأكيد الإسلام على أهمية الالتزام بالصدق وترك الكذب.

ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّةعليهم‌السلام عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس ، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إيّاك ومصادقة الكذّاب ، فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب»(1) .

والحديث عن قبح الكذب وفلسفته ، والأسباب الداعية إليه من الناحية النفسية ، وطرق مكافحته ، كل ذلك يحتاج إلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا استيعابه ، ولمزيد من الاطلاع راجع كتب الأخلاق(2) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، قم 37.

(2) راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).

٣٣٤

الآيات

( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى من هذه الآيات أنّها : نزلت في جماعة أكرهوا ـ وهو : عمار وأبوه ياسر وأمّة سمية وصهيب وبلال وخبّاب ـ عذّبوا وقتل أبو عمار وأمّه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ، ثمّ أخبر سبحانه

٣٣٥

بذلك رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال قوم : كفر عمّار. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلا : «إنّ عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه» وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما وراءك»؟ فقال : شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ، فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإسلام :

تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به ، فتتناول الآيات فئة أخرى من الكفرة وهم المرتدون.

حيث تقول الآية الأولى :( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وتشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم :

النوع الأوّل : هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه ، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه من أعداء الإسلام ، فيعلنون براءتهم من الإسلام وولاءهم للكفر ، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان ، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإيمان.

فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإلهي بلا ريب ، بل لم يصدر منهم ذنب ، لأنّهم قد ما رسوا التقية التي أحلها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة منها في طريق خدمة دين اللهعزوجل .

النوع الثّاني : هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقة ، ويغيّرون

٣٣٦

مسيرتهم ويتخلّون عن إيمانهم ، فهؤلاء يشملهم غضب اللهعزوجل وعذابه العظيم.

ويمكن أن يكون «غضب الله» إشارة إلى حرمانهم من الرحمة الإلهية والهداية في الحياة الدنيا ، و «العذاب العظيم» إشارة إلى عقابهم في الحياة الأخرى وعلى أيّة حال ، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية الشدة.

وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال : حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدّة حبّهم لدنياهم ، وعادوا خاسئين إلى كفرهم.

وبديهي أن من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه ، لا تشمله الهداية الإلهية ، لأنّ الهداية تحتاج إلى مقدمات كالسعي للحصول على رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله ، وهذا مصداق لقولهعزوجل في آخر سورة العنكبوت :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) .

وتأتي الآية الأخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) بحيث أنّهم حرموا من نعمة الرؤية والسمع وادراك الحقائق :( وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

وكما قلنا سابقا فإنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة ، وتدريجيا يسلب منه سلامة الفكر ، وكلما ازداد في غيه كلّما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره ، حتى يؤول به المآل إلى أن يصبح ذا عين ولكن لا يرى بها ، وذا أذن وكأنّه لا يسمع

٣٣٧

بها ، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة ، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة على التمييز ، والتي تعتبر من النعم الإلهي العالية.

«الطبع» هنا : بمعنى «الختم» ، وهو إشارة إلى حالة الإحكام المطلق ، فلو أراد شخص مثلا أن يغلق صندوقا معينا بشكل محكم كي لا تصل إليه الأيدي فإنّه يقوم بربطه بالحبال وغيرها ، ومن ثمّ يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق للاطمئنان من عبث العابثين.

ثمّ تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم ، فتقول :( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته وامكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين ، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإيمان ، والذين ينقلبون إلى الكفر مرّة أخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم ، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدعون في دينهم ، فتقول :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد ، ولكنّ الآية تشير إلى من كان مشركا في البداية ثم أسلم ، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملّي) وليس (المرتد الفطري).(2)

وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيرا عاما بقولها :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ

__________________

(1) ضمير «بعدها» ـ وكما يقول كثير من المفسرين ـ يعود إلى «الفتنة» ، في حين ذهب البعض من المفسرين إلى أنه يعود إلى الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقا.

(2) المرتد الفطري : هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثم يرتد عن الإسلام بعد قبوله إياه ، والمرتد الملي : يطلق على من انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثم قبل الإسلام ، وارتد عنه بعد ذلك.

٣٣٨

نَفْسِها ) (1) لتنقذها من العقاب والعذاب.

فالمذنبون أحيانا ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إنكارا تاما فرارا من الجزاء والعقاب ، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، وعند ما لا يلمسون أيّة فائدة لإنكارهم يتجهون بإلقاء اللوم على أئمتهم وقادتهم ، ويقولون :( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) (2) .

ولكن لا فائدة من كل ذلك( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

* * *

بحثان

1 ـ التقية وفلسفتها :

امتاز المسلمون الأوائل الذين تربّوا على يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بروح مقاومة عظيمة أمام أعدائهم ، وسجل لنا التأريخ صورا فريدة للصمود والتحدي ، وها هو «ياسر» لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء ، وما تلفظ حتى بعبارة خالية من أيّ أثر على قلبه ممّا يطمخ الأعداء أن يسمعوها منه ، مع أنّ قلبه مملوءا ولاء وإيمانا بالله تعالى وحبّا وإخلاصا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبر على حاله رغم مرارتها فنال شرف الشهادة ، ورحلت روحه الطاهرة إلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه ظلم وجور أعداء دين الله.

وها هو ولدة «عمّار» الذي خرجت منه كلمة بين صفير الأسواط وشدّة الآلام تنم عن حالة الضعف ظاهرا ، وبالرغم من اطمئنانه بإيمانه وتصديقه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا

__________________

(1) اختلاف القول بخصوص متعلق «يوم» جار بين المفسّرين فبعضهم يذهب إلى أنّه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو «ذكرهم يوم القيامة» ، واعتبره آخرون متعلقا بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من «الغفور الرحيم» في الآية السابقة ، (ولكنّنا نرجح التّفسير الاحتمال الأوّل لشموله).

(2) الأعراف ، 38.

٣٣٩

أنّه اغتمّ كثيرا وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلّيّة ما فعل به حفظا للنفس ، فهذا.

ويطالعنا تأريخ (بلال) عند ما اعتنق الإسلام راح يدعو له ويدافع عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشدّ عليه المشركون حتى أنّهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس الحارقة ، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره وهو بتلك الحال ، وطلبوا منه أن يكفر بالله ولكنّه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد : أحد أحد ، ثمّ قال : أقسم بالله لو علمت قولا أشد عليكم من هذا لقلته.

ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنّه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله : هل تشهد أنّ محمّدا رسول الله؟

قال : نعم.

ثمّ سأله : أتشهد أنّي رسول الله؟

فأجابه ساخرا : إنّي لا أسمع ما تقول! فقطعوه إربا إربا(1) .

والتأريخ الإسلامي حافل بصور كهذه ، خصوصا تأريخ المسلمين الأوائل وتأريخ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام .

ولهذا قال المحققون : إنّ ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه ، عمل جائز حتى لو أدى الأمر إلى الشهادة ، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد وإعلاء كملة الإسلام ، وخاصة في بداية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان لهذا الأمر أهمية خاصّة.

ومع هذا ، فالتقية جائزة في موارد ، وواجبة في موارد أخرى ، وخلافا لما يعتقده البعض فإنّ التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف ، ولا هي مؤشر للخوف من تسلط الأعداء ، ولا هي تسليم لهم بقدر ما هي نوع من

__________________

(1) في ظلال القرآن ، ج 5 ، ص 284.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517