أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333469 / تحميل: 11886
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

سبب النّزول

ذكر المفسّرون والمحدّثون والمؤرّخون بصورة مفصّلة سبب نزول هذه الآيات ، وخلاصة ما ذكروه هي ما يلي :

كان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم : «بنو النضير» ، و «بنو قريظة» ، و «بنو قينقاع» ، ويذكر أنّهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلا ، وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها ، وذلك لما قرءوه في كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض المدينة ، حيث كانوا بانتظار هذا الظهور العظيم.

وعند ما هاجر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة عقد معهم حلفا بعدم تعرّض كلّ منهما للآخر ، إلّا أنّهم كلّما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهدا في نقض العهد.

ومن جملة ذلك أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة احد ، التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة.

فقد ذهب «كعب بن الأشرف» زعيم قبيلة «بني النضير» مع أربعين فارسا إلى مكّة ، وهنالك عقد مع قريش حلفا لقتال محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجاء أبو سفيان مع أربعين شخصا ، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفرا من اليهود ، ودخلا معا إلى المسجد الحرام ووثقوا العهد في حرم الكعبة ، فعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك عن طريق الوحي.

والمؤامرة الاخرى هي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل يوما مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حي بني النضير ، وذلك بحجّة استقراض مبلغ من المال منهم كديّة لقتيلين من طائفة بني عامر ، قتلهما (عمرو بن اميّة) أحد المسلمين ، وربّما كان الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قرب حتّى لا يباغت المسلمون بذلك.

فبينما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتحدّث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لاغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنادى القوم : إنّكم لا تحصلون على هذا الرجل بمثل هذه الحالة وها هو قد جلس بالقرب من حائطكم ، فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه ، فقام «عمرو بن جحاش» وأبدى

١٦١

استعداده لتنفيذ الأمر ، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي ، إلّا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم عن طريق الوحي بذلك ، فقفل راجعا إلى المدينة دون أن يتحدّث بحديث مع أصحابه ، إلّا أنّ الصحابة تصوّروا أنّ الرّسول سيعود مرّة اخرى ، ولمّا عرفوا فيما بعد أنّ الرّسول في المدينة عاد الصحابة إليها أيضا.

وهنا أصبح من المسلّم لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقض اليهود للعهد ، فأعطى أمرا للاستعداد والتهيّؤ لقتالهم.

وجاء في بعض الروايات أيضا أنّ أحد شعراء بنو النضير هجا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشعر يتضمّن مسّا بكرامة الرّسول وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.

وبدأت خطّة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الاولى أن أمر رسول الله (محمّد بن سلمة) أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود ، إذ كانت له به معرفة ، وقد نفّذ هذا العمل بعد مقدّمات وقتله.

إنّ قتل كعب بن الأشرف أوجد هزّة وتخلخلا في صفوف اليهود ، عند ذلك أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا للمسلمين أن يتحرّكوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة للعهد.

وعند ما علم اليهود بهذا لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القويّة ، وأحكموا الأبواب ، إلّا أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن تقلع أشجار النخيل القريبة من القلاع.

لقد أنجز هذا العمل لأسباب عدّة : منها أنّ حبّ اليهود لأموالهم قد يخرجهم من قلاعهم بعد رؤية تلف ممتلكاتهم ، وبالتالي يكون اشتباك المسلمين معهم مباشرة ، كما يوجد احتمال آخر ، وهو أنّ هذه الأشجار كانت تضايق المسلمين في مناوراتهم مع اليهود قرب قلاعهم وكان لا بدّ من أن تقلع.

وعلى كلّ حال ، فقد ارتفع صوت اليهود عند ما شعروا بالضيق ، وهم محاصرون في حصونهم فقالوا : يا محمّد ، لقد كنت تنهى عن هذا ، فما الذي حدا

١٦٢

بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟

فنزلت الآية (٥) من الآيات محلّ البحث وبيّنت بأنّ هذا العمل هو أمر من اللهعزوجل .

واستمرّت المحاصرة لعدّة أيّام ، ومنعا لسفك الدماء اقترح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة ، فوافقوا على هذا وحملوا مقدارا من أموالهم تاركين القسم الآخر واستقرّ قسم منهم في «أذرعات الشام» ، وقليل منهم في «خيبر» ، وجماعة ثالثة في «الحيرة» ، وتركوا بقيّة أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى خروجهم منها.

وقد حدثت هذه الحادثة بعد غزوة (احد) بستّة أشهر ، إلّا أنّ آخرين قالوا : إنّها وقعت بعد غزوة بدر بستّة أشهر(١) .

* * *

التّفسير

نهاية مؤامرة يهود بني النضير :

بدأت هذه السورة بتنزيه وتسبيح الله وبيان عزّته وحكمته ، يقول سبحانه :( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

وهذه في الحقيقة مقدّمة لبيان قصّة يهود بني النضير ، أولئك الذين انحرفوا عن طريق التوحيد ومعرفة الله وصفاته ، وبالإضافة إلى كونهم مغرورين بإمكاناتهم وقدرتهم وعزّتهم ويتآمرون على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

التسبيح العامّ الوارد في الآية لجميع موجودات الأرض والسماء ، أعمّ من

__________________

(١) مجمع البيان وتفسير علي بن إبراهيم وتفسير القرطبي ونور الثقلين (نهاية الآيات مورد البحث) مقتبس باختصار.

١٦٣

الملائكة والبشر والحيوانات والنباتات والجمادات يمكن أن يكون بلسان «القال» ويمكن أن يكون بلسان «حال» هذه المخلوقات حول دقّة النظام المثير للعجب لها في خلق كلّ ذرّة من ذرّات هذا الوجود ، وهو التسليم المطلق لله سبحانه والاعتراف بعلمه وقدرته وعظمته وحكمته.

ومن جهة اخرى فإنّ قسما من العلماء يعتقدون أنّ كلّ موجود في العالم له نصيب وقدر من العقل والإدراك والشعور ، بالرغم من أنّنا لم ندركه ولم نطلع عليه ، وبهذا الدليل فإنّ هذه المخلوقات تسبّح بلسانها ، بالرغم من أنّ آذاننا ليس لها القدرة على سماعها ، والعالم بأجمعه منشغل بحمد الله وتسبيحه وإن كنّا غير مطّلعين على ذلك.

الأولياء الذين فتحت لهم عين الغيب يتبادلون أسرار الوجود مع كلّ موجودات العالم ، ويسمعون نطق الماء والطين بصورة واضحة ، إذ أنّ هذا النطق محسوس من قبل أهل المعرفة. (وهناك شرح أكثر حول هذا الموضوع في تفسير الآية ٤٤ من سورة الإسراء).

وبعد بيان المقدّمة أعلاه نستعرض أبعاد قصّة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه :( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) .

«حشر» في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك ، والمقصود منه هنا اجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود ، أو اجتماع اليهود لمحاربة المسلمين ، ولأنّ هذا أوّل اجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر ، وهذه بحدّ ذاتها إشارة لطيفة إلى بداية المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.

والعجيب أنّ جمعا من المفسّرين ذكروا احتمالات للآية لا تتناسب أبدا مع محتواها ، ومن جملتها أنّ المقصود بالحشر الأوّل ما يقع مقابل حشر يوم القيامة ،

١٦٤

وهو القيام من القبور إلى الحشر ، والأعجب من ذلك أنّ البعض أخذ هذه الآية دليلا على أنّ حشر يوم القيامة يقع في أرض الشام التي ابعد اليهود إليها ، وهذه الاحتمالات الضعيفة ربّما كان منشؤها من وجود كلمة «الحشر» ، في حين أنّ هذه الكلمة لم تكن تستعمل هذا بمعنى الحشر في القيامة ، بل تطلق على كلّ اجتماع وخروج إلى ميدان ما ، قال تعالى :( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) (١) .

وكذلك ما ورد في الاجتماع العظيم لمشاهدة المحاججة التي خاضها موسىعليه‌السلام مع سحرة فرعون حيث يقول سبحانه :( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (٢) .

ويضيف البارئعزوجل :( ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ) لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة ، وقدرتهم الماديّة الظاهرية. إنّ التعبير الذي ورد في الآية يوضّح لنا أنّ يهود بني النضير كانوا يتمتّعون بإمكانات واسعة وتجهيزات وعدد كثيرة في المدينة ، بحيث أنّهم لم يصدّقوا أنّهم سيغلبون بهذه السهولة ، وذلك ظنّ الآخرين أيضا.

ولأنّ الله سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته ، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب ، هو دليل على قدرته سبحانه ، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من الله.

ولذلك يضيف ـ استمرارا للبحث الذي ورد في الآية ـ قوله تعالى :( فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) نعم ، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين ، وقد خيّم على قلوبهم ، وسلب منهم قدرة

__________________

(١) النمل ، الآية ١٧.

(٢) سورة طه ، الآية ٥٩.

١٦٥

الحركة والمقاومة ، لقد جهّزوا وهيّئوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى ، حيث يرسل لهم جيشا من داخلهم ويجعلهم في مأزق حرج إلى حدّ ينهمكون فيه على تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم من المسلمين.

صحيح أنّ مقتل زعيمهم «كعب بن الأشرف» ـ قبل الهجوم على قلاعهم وحصونهم ـ كان سببا في إرباكهم واضطراب صفوفهم ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ مقصود الآية غير ما تصوّره بعض المفسّرين ، فإنّ ما حدث كان نوعا من الإمداد الإلهي للمسلمين الذين حصل لهم مرّات عديدة حين جهادهم ضدّ الكفّار والمشركين.

والطريف هنا أنّ المسلمين كانوا يخرّبون الحصون من الخارج ليدخلوا إلى عمق قلاعهم ، واليهود كانوا يخرّبونها من الداخل حتّى لا يقع شيء مفيد منها بأيدي المسلمين ، ونتيجة لهذا فقد عمّ الخراب التامّ جميع قلاعهم وحصونهم.

وذكرت لهذه الآية تفاسير اخرى أيضا منها : أنّ اليهود كانوا يخربونها من الداخل لينهزموا ، أمّا المسلمون فتخريبهم لها من الخارج ليظفروا باليهود ويجهّزوا عليهم (إلّا أنّ هذا الاحتمال مستبعد).

أو يقال إنّ لهذه الآية معنى كنائي ، وذلك كقولنا : إنّ الشخص الفلاني هدم بيته وحياته بيده ، يعني أنّه بسبب جهله وتعنّته دمّر حياته.

أو أنّ المقصود من تخريب اليهود لبعض البيوت ، هو من أجل إغلاق الأزقّة الموجودة داخل القلاع ومنع المسلمين من التقدّم ولكي لا يستطيعوا السكن فيها.

أو أنّهم هدموا قسما من البيوت داخل القلعة حتّى إذا ما تحوّلت الحرب إلى داخلها يكون هنا لك مكان كاف للمناورة والحرب.

أو أنّ مواد بناء بعض البيوت كان ثمينا فخرّبوها لكي يحملوا ما هو مناسب منها ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب من الجميع.

وفي نهاية الآية ـ بعنوان استنتاج كلّي ـ يقول تعالى :( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي

١٦٦

الْأَبْصارِ ) .

«اعتبروا» من مادّة (اعتبار) وفي الأصل مأخوذة من العبور ، أي العبور من شيء إلى شيء آخر ، ويقال لدمع العين «عبرة» بسبب عبور قطرات الدموع من العين ، وكذلك يقال (عبارة) لهذا السبب ، حيث أنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر ، وإطلاق «تعبير المنام» على تفسير محتواه ، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه.

وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات (عبر) لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكلية وتنقله من موضوع إلى آخر.

والتعبير بـ «اولي الأبصار» إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.

كلمة (بصر) تقال دائما للعين الباصرة ، و «البصيرة» تقال للإدراك والوعي الداخلي(١) .

وفي الحقيقة أنّ «أولي الأبصار» هم أشخاص لهم القابلية على الاستفادة من (العبر) ، لذلك فإنّ القرآن الكريم يلفت نظرتهم للاستفادة من هذه الحادثة والاتّعاظ بها.

وممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود من الإعتبار هو مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل ، كمقارنة حال الكفّار مع حال ناقضي العهد من يهود بني النضير ، إلّا أنّ هذه الجملة لا ترتبط أبدا بـ «القياسات الظنّية» التي يستفيد منها البعض في استنباط الأحكام الدينيّة.

والعجيب هنا أنّ بعض فقهاء أهل السنّة استفادوا من الآية أعلاه لإثبات هذا المقصود ، بالرغم من أنّ البعض الآخر لم يرتضوا ذلك.

__________________

(١) المفردات للراغب.

١٦٧

والخلاصة أنّ المقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الانتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر ، وليس العمل على أساس التصوّر والخيال.

وعلى كلّ حال فإنّ مصير طائفة «بني النضير» بتلك القدرة والعظمة والشوكة ، وبتلك الصورة من الاستحكامات القويّة ، صار موضع (عبرة) حيث أنّهم استسلموا لجماعة من المسلمين لا تقارن قوّاتها بقوّاتهم ، وبدون مواجهة مسلّحة ، بحيث كانوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم وتركوا بقيّة أموالهم للمسلمين المحتاجين ، وتفرّقوا في بقاع عديدة من العالم ، في حين أنّ اليهود سكنوا في المدينة من أجل أن يدركوا النبي الموعود الذي ورد في كتبهم ، ويكونوا في الصفّ الأوّل من أعوانه كما ذكر المؤرّخون ذلك.

وبهذا الصدد نقرأ حديثا ورد عن الإمام الصادق حيث يقول : «كان أكثر عبادة أبي ذرّرحمه‌الله التفكّر والإعتبار»(١) .

ومع الأسف فإنّ كثير من الناس يفضّلون تجربة الشدائد والمحن والمصائب بأنفسهم ويذوقوا مرارة الخسائر شخصيّا ، ولا يعتبرون ولا يتّعظون بوضع الآخرين وما يواجهونه في أمثال هذه الموارد ، ويقول الإمام عليعليه‌السلام «السعيد من وعظ بغيره»(٢) .

وتضيف الآية اللاحقة( وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا ) .

وبدون شكّ فإنّ الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهدا بليغا في الحصول عليها ، هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم ، وبناء على هذا فإنّ مراد الآية أعلاه أنّه لو لم يحلّ بهم هذا العذاب ، فإنّ بانتظار هم عذابا آخر هو القتل أو الأسر بيد المسلمين إلّا أنّ الله سبحانه أراد لهم التيه في الأرض

__________________

(١) كتاب الخصال مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ص ٢٧٤.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ٨٦.

١٦٨

والتشرّد في العالم ، لأنّ هذا أشدّ ألما وأسى على نفوسهم ، إذ كلّما تذكّروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين. وكيف أنّهم شردوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تضاعف وخاصّة على المستوى النفسي.

نعم ، إنّ الله أراد لهذه الطائفة المغرورة والخائنة ، أن تبتلى بمثل هذا المصير البائس.

وكان هذا عذابا دنيويا لهم ، إلّا أنّ لهم جولة اخرى مع عذاب أشدّ وأخزى ، ذلك هو عذاب الآخرة ، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية( وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ) .

هذه عاقبتهم في الدنيا والآخرة ، وهي درس بليغ لكلّ من أعرض عن الحقّ والعدل وركب هواه ، وغرّته الدنيا وأعماه حبّ ذاته.

وبما أنّ ذكر هذه الحادثة مضافا إلى تجسيد قدرة الله وصدق الدعوة المحمّدية ، فهي في نفس الوقت تمثّل إنذارا وتنبيها لكلّ من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير ، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (١) .

«شاقّوا» من مادّة (شقاق) وهي في الأصل بمعنى الشقّ والفصل بين شيئين ، وبما أنّ العدو يكون دائما في الطرف المقابل ، فإنّ كلمة (شقاق) تطلق على هذا العمل.

وجاء مضمون هذه الآية باختلاف جزئي جدّا في سورة الأنفال الآية ١٣ ، وذلك بعد غزوة بدر وانكسار شوكة المشركين ، والتي تبيّن عمومية محتواها من كلّ جهة ، في قوله تعالى :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ

__________________

(١) «من» شرطية وجزاؤها محذوف وتقديره : ومن يشاقق الله يعاقبه فإن الله شديد العقاب.

١٦٩

فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

والشيء الجدير بالملاحظة أنّ بداية الآية الكريمة طرحت مسألة العداء لله ورسوله ، إلّا أنّ الحديث في ذيل الآية اقتصر عن العداء لله سبحانه فقط ، وهو إشارة إلى أنّ العداء لرسول الله هو عداء لله أيضا.

والتعبير بـ( شَدِيدُ الْعِقابِ ) لا يتنافى مع كون الله «أرحم الراحمين» لأنّه في موضع العفو والرحمة فالله أرحم الراحمين ، وفي موضع العقاب والعذاب فإنّ الله هو أشدّ المعاقبين ، كما جاء ذلك في الدعاء : «وأيقنت أنّك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة»(١) .

وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جوابا على اعتراض يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم ـ كما ورد في شأن النزول ـ بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم ، فيضطرّوا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة وقد أثار هذا العمل غضب اليهود وحنقهم ، فقالوا : يا محمّد ، ألم تكن الناهي عن مثل هذه الأعمال؟ فنزلت الآية الكريمة مبيّنة لهم أنّ ذلك من أمر الله سبحانه حيث يقول البارئ :( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ) (٢) ( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) .

«لينة» من مادّة (لون) تقال لنوع جيّد من النخل ، وقال آخرون : إنّها من مادّة (لين) بمعنى الليونة التي تطلق على نوع من النخل ، والتي لها أغصان ليّنة قريبة من الأرض وثمارها ليّنة ولذيذة.

وتفسّر (ليّنة) أحيانا بألوان وأنواع مختلفة من شجر النخيل ، أو النخل الكريم ، والتي جميعها ترجع إلى شيء واحد تقريبا.

__________________

(١) دعاء الافتتاح (من أدعية شهر رمضان المبارك).

(٢) «ما» في الآية أعلاه شرطية وجزاؤها (فبإذن الله).

١٧٠

وعلى كلّ حال فإنّ قسما من المسلمين أقدموا على قطع بعض نخيل بني النضير ، في الوقت الذي خالف البعض الآخر ذلك ، وهنا نزلت الآية أعلاه وفصلت نزاعهم في هذا الموضوع(١) .

وقال البعض الآخر : إنّ الآية دالّة على عمل شخصين من الصحابة ، وقد كان أحدهم يقوم بقطع الجيّد من شجر النخل ليغضب اليهود ويخرجهم من قلاعهم ، والآخر يقوم بقطع الرديء من الأشجار كي يبقي ما هو جيّد ومفيد ، وحصل خلاف بينهم في ذلك ، فنزلت الآية حيث أخبرت أنّ عملهما بإذن الله(٢) .

ولكن ظاهر الآية يدلّ على أنّ المسلمين قطعوا بعض نخل (اللينة) وهي نوع جيّد من النخل ، وتركوا قسما آخر ، ممّا أثار هذا العمل اليهود ، فأجابهم القرآن الكريم بأنّ هذا العمل لم يكن عن هوى نفس ، بل عن أمر إلهي صدر في هذا المجال ، وفي دائرة محدودة لكي لا تكون الخسائر فادحة.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا العمل كان استثناء من الأحكام الإسلامية الأوّلية التي تنهي عن قطع الأشجار وقتل الحيوانات وتدمير وحرق المزارع والعمل أعلاه كان مرتبطا بمورد معيّن حيث أريد إخراج العدو من القلعة وجرّه إلى موقع أنسب للقتال وما إلى ذلك ـ وعادة توجد استثناءات جزئيّة في كلّ قانون ، كما في جواز أكل لحم الميّت عند الضرورة القصوى والإجبار.

جملة( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) ترينا على الأقل أنّ أحد أهداف هذا العمل هو خزي ناقضي العهد هؤلاء ، وكسر لشوكتهم وتمزيق لروحيّتهم.

* * *

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٩٣ ، وجاء هذا المعنى في الدرّ المنثور ، ج ٩ ، ص ١٨٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨٣.

١٧١

بحثان

١ ـ الجيوش الإلهيّة اللامرئية :

في الوقت الذي تعتبر القوى الماديّة أكبر سلاح لتحقيق الإنتصار من وجهة نظر الماديين ، فإنّ اعتماد المؤمنين يتمركز حول محورين (القيم المعنوية والإمكانات المادية) والذي قرأنا نموذجا منه في قصّة اندحار بني النضير كما بيّنت ذلك الآيات السابقة.

ونقرأ في هذه الآية أحد العوامل المؤثّرة في هذا الإنتصار حيث ألقى الله سبحانه الرعب في قلوب اليهود ، بحيث أخذوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم ، وتخلّوا عن ديارهم وأموالهم مقابل السماح لهم بالخروج من المدينة.

وقد ورد هذا المعنى بصورة متكرّرة في القرآن الكريم ، منها ما ورد في قصّة اخرى حول قسم آخر من اليهود وهم (بنو قريظة). حيث اشتبكوا اشتباكا شديدا مع المسلمين بعد غزوة الأحزاب ، وفي هذا المعنى يقول سبحانه :( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ) .

وجاء هذا المعنى في غزوة بدر حيث يقول تعالى :( سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) .

وبعض هذا الخوف الذي هو عبارة عن جيش إلهي غير مرئي يكاد يكون أمرا طبيعيّا ، ولكن بعضه يمثّل سرّا من الأسرار غير الواضحة لنا ، أمّا الطبيعي منه فانّ المؤمنين يرون أنفسهم منتصرين سواء قتل أو تغلّب على العدوّ. والشخص الذي يؤمن بهذا الإعتقاد لا يجد الخوف طريقا إليه ، ومثل هذا الإنسان سيكون أعجوبة في صموده وثباته كما يكون ـ أيضا ـ مصدر خوف وقلق لأعدائه ، والذي نلاحظه في عالم اليوم أنّ بلدانا عديدة تملك قدرات هائلة من الإمكانات العسكرية المتطورة والمادية الكبيرة ، تخشى من ثلّة من المؤمنين الصادقين

١٧٢

الذائدين عن الحقّ ، ويحاولون دائما تحاشي مواجهتهم.

وفي حديث حول هذا المعنى يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهر»(١) .

يعني أنّ الرعب لم يصب الأعداء في خطّ المواجهة فحسب ، بل أصاب من كان من الأعداء على مسافة شهر واحد من جيش الإسلام.

وحول جيوش الإمام المهديعليه‌السلام نقرأ أنّ ثلاثة جيوش تحت أمره وهم : (الملائكة ، والمؤمنون ، والرعب)(٢) .

وفي الحقيقة ، إنّ الأعداء يبدلّون كافّة إمكاناتهم لتجنّب الضربة من الخارج ، إلّا أنّهم غفلوا عن أنّ الله سبحانه يهزمهم داخليّا ، حيث أنّ الضربة الداخلية أوجع للنفس ، ولا يمكن تداركها بسهولة ، حتّى لو وضعت تحت تصرّفهم كلّ الأسلحة والجيوش ، فإنّها غير قادرة على أن تحقّق النصر مع فقدان المعنوية العالية والروحية المؤهّلة لخوض القتال ، وبالتالي فإنّ الفشل والخسران أمر متوقّع جدّا لأمثال هؤلاء.

٢ ـ مؤامرات اليهود المعاصرة

إنّ التاريخ الإسلامي اقترن منذ البداية بمؤامرات اليهود ، ففي كثير من الحوادث الأليمة والفجائع الدامية ترى أصابعهم مشهودة بشكل مباشر أو غير مباشر. والعجيب أنّ هؤلاء نزحوا إلى ديار الحجاز طمعا في أن يكونوا في الصفّ الأوّل من أصحاب النبي الموعود إلّا أنّهم بعد ظهوره أصبحوا من ألدّ أعدائه.

وعند ما نستقرئ حالتهم المعاصرة فإنّنا نلاحظ أيضا أنّهم متورّطون في أغلب المؤامرات المدبّرة ضدّ الإسلام ، ويتجسّد موقفهم هذا في داخل الأحداث

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٥١٩ ، (نهاية الآية ١٥١ / آل عمران).

(٢) إثبات الهداة ، ج ٧ ، ص ١٢٤.

١٧٣

تارة ومن خارجها اخرى ، وفي الحقيقة فإنّ هذا هو موضع تأمّل واعتبار لمن كان له قلب وبصيرة.

والطريق الوحيد لكسر شوكتهم كما يؤكّده تاريخ صدر الإسلام ، هو التعامل الحدّي والجدّي معهم ، خصوصا مع الصهاينة الذين لا يتعاملون بمبادئ العدل والحقّ أبدا ، بل منطقهم القوّة ، وبغيرها لا يمكن التفاهم معهم ، ومع هذا فإنّ خوفهم الحقيقي هو من المؤمنين الصادقين.

وإذا كان المسلمون المعاصرون مسلّحين بالإيمان والاستقامة المبدئية ـ كأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فإنّ الرعب سيستحوذ على قلوب اليهود ونفوسهم ، وبالإمكان عندئذ إخراجهم من الأرض الإسلامية التي اغتصبوها بهذا الجيش الإلهي.

وهذا درس علّمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه قبل أربعة عشر قرنا.

* * *

١٧٤

الآيتان

( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) )

سبب النّزول

بما أنّ هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدّث عن اندحار يهود بني النضير ، لذا فإنّ سبب نزولها هو استمرار لنفس أسباب نزول الآيات السابقة. والتوضيح كما يلي :

بعد خروج يهود بني النضير من المدينة بقيت بساتينهم وأراضيهم وبيوتهم

١٧٥

وقسم من أموالهم في المدينة ، فأشار بعض شيوخ المسلمين على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تماشيا مع سنّة جاهلية ـ حيث قالوا له خذ الصفوة من أموالهم وربع ممتلكاتهم ، واترك لنا المتبقّي كي نقسّمه بيننا ، فنزلت الآيات أعلاه حيث أعلنت صراحة أنّ هذه الغنائم التي لم تكن بسبب قتال ، ولم تكن نتيجة حرب ، فإنّها جميعا من مختصات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية ، ويتصرّف بها كما يشاء ، وفقا لما يقدره من المصلحة في ذلك.

وسنلاحظ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في المدينة ، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة(١) .

التّفسير

حكم الغنائم بغير الحرب :

إنّ هذه الآيات ـ كما ذكر سابقا ـ تبيّن حكم غنائم بني النضير ، كما أنّها في نفس الوقت توضّح حكما عاما حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب ، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفيء).

يقول الله تعالى :( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) (٢) .

«أفاء» من مادّة (فيء) على وزن شيء ـ وهي في الأصل بمعنى الرجوع ، وإطلاق كلمة (فيء) على هذا اللون من الغنائم لعلّه باعتبار أنّ الله سبحانه قد خلق هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين ، وعلى رأسهم

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الآيات مورد البحث وتفاسير اخرى.

(٢) «ما» في (ما أفاء الله ورسوله) موصولة في محلّ رفع مبتدأ وما في( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ) نافية ، ومجموع هذه الجملة خبر ، وهنالك احتمال ثان : وهو أنّ (ما) في (ما أفاء) شرطية ، (وما) الثانية مع جملتها تكون جوابا للشرط ومجيء (الفاء) في صدر جملة الخبر حينما تكون فيها شبهة بالشرط ، فلا إشكال فيه.

١٧٦

الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أشرف الكائنات ، وبناء على هذا فإنّ الجاحدين لوجود الله والعاصين له بالرغم من امتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد الشرعية والعرفية ، إلّا أنّهم يعتبرون غاصبين لها ، ولذلك فإنّ عودة هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمّى (فيئا) في الحقيقة.

«أوجفتم» من مادّة (إيجاف) بمعنى السّوق السريع الذي يحدث غالبا في الحروب.

«خيل» بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول)(١) .

«ركاب» من مادّة (ركوب) وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.

والهدف من مجموع الجملة أنّ جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها غنائم ، فإنّها لا توزّع بين المقاتلين ، وتوضع بصورة تامّة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لا حقا.

ثمّ يضيف سبحانه أنّ الانتصارات لا تكون غالبا لكم( وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

نعم ، لقد تحقّق الإنتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك بالمدد الإلهي الغيبي ، ولتعلموا أنّ الله قادر على كلّ شيء ، ويستطيع سبحانه بلحظة واحدة أن يذلّ الأقوياء ، ويسلّط عليهم فئة قليلة توجّه لهم ضربات موجعة وتسلب جميع إمكاناتهم.

ولا بدّ للمسلمين أن يتعلّموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية ، ويلاحظوا علائم حقّانية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويلتزموا منهج الإخلاص والتوكّل على الذات الإلهية المقدّسة

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : إنّ الخيل في الأصل من مادّة (خيال) بمعنى التصوّرات الذهنية ، وخيلاء بمعنى التكبّر والتعالي على الآخرين لأنّه ناتج من تخيّل الفضيلة ، ولأنّ ركوب الإنسان على الحصان يشعر بالإحساس بنوع من الفخر والزهو غالبا ، لذلك أطلق لفظ الخيل على الحصان ، والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ خيل تطلق على الحصان وكذلك على راكبيه.

١٧٧

في جميع ممارساتهم.

وهنا قد يتبادر سؤال وهو : إنّ الحصول على غنائم بني النضير لم يتمّ بدون حرب ، بل إنّ المسلمين زحفوا بجيشهم نحو قلاعهم وحاصروها ، وقيل أنّ اشتباكا مسلّحا قد حصل في حدود ضيّقة بين الطرفين.

وفي مقام الجواب نقول : بأنّ قلاع بني النضير ـ كما ذكروا ـ لم تكن بعيدة عن المدينة ، وذكر بعض المفسّرين أنّ المسافة بين المدينة والقلاع ميلان وأنّ المسلمين ذهبوا إليها سيرا على أقدامهم ، وبناء على هذا فلم يواجهوا مشقّة حقيقية. أمّا بالنسبة لموضوع الاشتباك المسلّح فإنّه لم يثبت من الناحية التأريخية ، كما أنّ الحصار لم يستمرّ طويلا ، وبناء على هذا فإنّنا نستطيع القول بأنّه لم يحدث شيء يمكن أن نسمّيه قتالا ، ولم يرق دم على الأرض.

والآية اللاحقة تبيّن بوضوح مورد صرف (الفيء) الوارد في الآية السابقة وتقول بشكل قاعدة كليّة :( ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) .

وهذا يعني أنّ هذه الغنائم ليست كباقي الغنائم الحربية التي يكون خمس منها فقط تحت تصرّف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر المحتاجين ، والأربعة الأخماس الاخرى للمقاتلين.

وإذا ما صرّحت الآية السابقة برجوع جميع الغنائم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يفهم من ذلك أن يصرفها جميعا في موارده الشخصية ، وإنّما أعطيت له لكونه رئيسا للدولة الإسلامية ، وخاصّة كونه المتصدّي لتغطية حاجات المعوزين ، لذا فإنّ القسم الأكبر يصرف في هذا المجال.

وقد ذكر في هذه الآية بصورة عامّة ستّ مصارف للفيء.

١ ـ سهم لله ، ومن البديهي أنّ الله تعالى مالك كلّ شيء ، وفي نفس الوقت غير محتاج لأي شيء ، وهذا نوع من النسبة التشريفية ، حتّى لا يحسّ بقيّة الأصناف

١٧٨

اللاحقة بالحقارة والذلّة ، بل يرون سهمهم مرادفا لسهم اللهعزوجل ، فلا ينقص من قدرهم شيء أمام الناس.

٢ ـ سهم الرّسول : ومن الطبيعي أن يصرف لتأمين احتياجاته الشخصيةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يحتاجه لمقامه المقدّس وتوقّعات الناس منه.

٣ ـ سهم ذوي القربى : والمقصود بهم هنا وبدون شكّ أقرباء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبني هاشم ، حيث أنّهم مستثنون من أخذ الزكاة والتي هي جزء من الأموال العامّة للمسلمين(١) .

وأساسا لا دليل على أنّ المقصود من ذوي القربى هم أقرباء الناس جميعا ، لأنّه في هذه الحالة ستشمل جميع المسلمين ، لأنّ الناس بعضهم أقرباء بعض.

ولكن هل هناك شرط يقضي أن يكون ذوو القربى من المحتاجين والفقراء أو لا يشترط ذلك؟ لقد اختلف المفسّرون في ذلك بالرغم من أنّ القرائن الموجودة في نهاية هذه الآية والآية اللاحقة توضّح لزوم شرط الحاجة.

(٤ ، ٥ ، ٦) : «سهم اليتامى» و «المساكين» و «أبناء السبيل» ، وهل أنّ جميع هؤلاء يلزم أن يكونوا هاشميين أو أنّها تشمل عموم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، ففقهاء أهل السنّة ومفسّروهم يعتقدون أنّ هذا الأمر يشمل العموم ، في الوقت الذي اختلفت الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المجال ، إذ يستفاد من قسم منها أنّ هذه الأسهم الثلاثة تخصّ اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم فقط ، في حين صرّحت روايات اخرى بعمومية هذا الحكم ، ونقل أنّ الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «كان أبي يقول : لنا سهم رسول

__________________

(١) هذا التّفسير لم يأت به الشيعة فقط ، حيث جاء ذكره في تفاسير أهل السنّة أيضا ، كما ذكر ذلك الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، والبرسوني في روح البيان ، وسيّد قطب في ظلال القرآن ، والمراغي في تفسيره والآلوسي في روح المعاني.

١٧٩

الله ، وسهم ذي القربى ونحن شركاء الناس فيما بقي»(١) .

والآيات الثامنة والتاسعة من هذه السورة ، التي هي توضيح لهذه الآية ، تؤيّد أيضا أنّ هذا السهم لا يختّص ببني هاشم ، لأنّ الحديث دالّ على عموم فقراء المسلمين من المهاجرين والأنصار.

وبالإضافة إلى ذلك ، فقد نقل المفسّرون أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حادثة بني النضير قسّم الأموال المتبقية بين المهاجرين من ذوي الحاجة والمسكنة ، وعلى ثلاثة أشخاص من طائفة الأنصار ، وهذا دليل آخر على عمومية مفهوم الآية. وإذا لم تكن بعض الروايات متناسبة معها ، فينبغي ترجيح ظاهر القرآن(٢) .

ثمّ يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى :( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) فيتداول الأغنياء الثروات فيما بينهم ويحرم منها الفقراء(٣) .

وذكر بعض المفسّرين سببا لنزول هذه الجملة بشكل خاصّ ، وأشير له بشكل إجمالي في السابق ، وهو أنّ مجموعة من زعماء المسلمين قد جاؤوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد واقعة بني النضير ، وقالوا له : خذ المنتخب وربع هذه الغنائم ، ودع الباقي لنا نقتسمه بيننا ، كما كان ذلك في زمن الجاهلية. فنزلت الآية أعلاه تحذّرهم من تداول هذه الأموال بين الأغنياء فقط.

والمفهوم الذي ورد في هذه الآية يوضّح أصلا أساسيّا في الإقتصاد الإسلامي وهو : وجوب التأكيد في الإقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات بيد فئة محدودة وطبقة معيّنة تتداولها فيما بينها ، مع كامل الاحترام للملكية

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦١ ، ووسائل الشيعة ، ج ، ص ٣٦٨ ، حديث ١٢ وباب واحد من أبواب الأنفال.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٥٦ ، (حديث ٤ ، باب واحد من أبواب الأنفال).

(٣) (دولة) بفتح الدال وضمّها بمعنى واحد ، وفرّق البعض بين الإثنين وذكر أنّ (دولة) بفتح الدال تعني الأموال ، أمّا بضمّها فتعني الحرب والمقام ، وقيل أنّ الأوّل اسم مصدر ، والثاني مصدر ، وعلى كلّ حال فإنّ لها أصلا مشتركا من مادّة «تداول» بمعنى التعامل من يد إلى اخرى.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بالمسلمين أنْ يستهدوا بهم ويجتنوا ثمرات علومهم، ليكونوا على بصيرةٍ من عقيدتهم وشريعتهم، ويتفادوا دعايات الغاوين والمُضلّلين مِن أعداء الإسلام.

فإذا ما تنكّروا للعلماء المخلصين، واستهانوا بتوجيههم وإرشادهم... جهلوا واقع دينهم ومبادئه وأحكامه، وغدوا عرضةً للزيغ والانحراف.

أنظروا كيف يحرض أهل البيتعليهم‌السلام على مجالسة العلماء، والتزوّد من علومهم وآدابهم، في نصوص عديدة:

فعن الصادق، عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة )(١) والمراد بأهل الدين، علماء الدين العارفون بمبادئه، العاملون بأحكامه.

وجاء في حديث الرضا عن آبائهعليهم‌السلام ، قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مجالسة العلماء عبادة )(٢).

وقال لقمان لابنه:( يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنّ اللّه عزّ وجل يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السماء ) (٣) .

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : العلم خزائن، ومفتاحه (مفتاحها خ ل) السؤال، فاسألوا

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٦٢، عن ثواب الأعمال، وأمالي الصدوق.

(٢) البحار م ١ ص ٦٤، عن كشف الغمّة.

(٣) البحار م ١ ص ٦٤، عن روضة الواعظين.

٣٤١

يرحمكم اللّه، فإنّه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمحبّ لهم )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون )(٢).

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٦٢، عن صحيفة الرضاعليه‌السلام وعيون أخبار الرضا.

(٢) الوافي ج ١ ص ٤٦، عن الكافي.

٣٤٢

حقوق الأساتذة والطلاب

الأساتذة المخلصون، المتحلّون بالإيمان والخلق الكريم، لهم مكانة سامية، وفضلٌ كبير على المجتمع، بما يسدون إليه مِن جهودٍ مشكورة في تربية أبنائهم، وتثقيفهم بالعلوم والآداب. فهم رواد الثقافة، ودعاة العلم، وبناة الحضارة، وموجهو الجيل الجديد.

لذلك كان للأساتذة على طلابهم حقوق جديرة بالرعاية والاهتمام. وأوّل حقوقهم على الطلاب، أنْ يوقّروهم ويحترموهم احترام الآباء، مكافأة لهم على تأديبهم، وتنويرهم بالعلم، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح. كما قيل للإسكندر: إنّك تعظّم معلّمك أكثر مِن تعظيمك لأبيك !!! فقال: لأنّ أبي سبب حياتي الفانية، ومؤدّبي سبب الحياة الباقية.

قم للمعلّم وفّه التبجيلا

كاد المعلّم أنْ يكون رسولا

أرأيت أكرم أو أجلّ مِن الذي

يبني ويُنشئ أنفساً وعُقولا

وحسبُك في فضل المعلّم المُخلص وأجره الجزيل، ما أعربت عنه نصوص أهل البيتعليهم‌السلام :

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يجيء الرجل يوم القيامة، وله مِن الحسنات كالسحاب الركام،

٣٤٣

أو الجبال الراوسي. فيقول: يا ربِّ، أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول: هذا علمك الذي علمته الناس، يعمل به من بعدك )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( مَن علّم بابَ هدىً فله مثل أجرِ مَن عمِل به، ولا ينقص أولئك مِن أُجورهم شيئاً، ومَن علّم بابَ ضلالٍ كان عليه مثل أوزار مَن عمِل به، ولا ينقص مِن أوزارهم شيئاً )(٢).

ومِن حقوق الأساتذة على الطلاّب: تقدير جهودهم ومكافأتهم عليها بالشكر الجزيل، وجميل الحفاوة والتكريم، واتّباع نصائحهم العلميّة، كاستيعاب الدروس وإنجاز الواجبات المدرسيّة.

ومِن حقوقهم كذلك: التسامح والإغضاء عمّا يبدر منهم مِن صرامة أو غلظة تأديبيّة، تهدف إلى تثقيف الطالب وتهذيب أخلاقه.

وأبلغ وأجمع ما أُثر في حقوق الأساتذة المربّين، قول الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام : ( وحقّ سايسك بالعلم: التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، وأنْ لا ترفع عليه صوتك، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتّى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدّث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأنْ تدفع عنه إذا ذُكر عندك بسوء، وأنْ تستر عيوبه، وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدوّاً، ولا تعادِ له وليّاً. فإذا فعلت ذلك، شهد لك ملائكة اللّه بأنّك قصدته، وتعلّمت علمه للّه جلّ اسمه، لا للناس )(١).

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٧٥، عن بصائر الدرجات للشيخ محمّد بن الحسن الصفّار.

(٢) الوافي ج ١ ص ٤٢، عن الكافي.

(٣) رسالة الحقوق للإمام السجّادعليه‌السلام .

٣٤٤

حقوق الطلاّب

لطلاّب العلم فضلهم وكرامتهم، باجتهادهم في تحصيل العِلم، وحفظ تراثه، ونقله للأجيال الصاعدة، ليبقى الرصيد العلمي زاخراً نامياً مدى القرون والأجيال.

من أجل ذلك، نوّهت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام بفضل طلاب العلم، وشرف أقدارهم وجزيل أجرهم.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : طالب العِلم بين الجهّال كالحيّ بين الأموات )(١) .

وعن أبي عبد اللّه، قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن سلَك طريقاً يطلب فيه عِلماً، سلَك اللّه به طريقاً إلى الجنّة. وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العِلم رضاً به، وإنّه ليستغفر لطالب العلم مَن في السماء ومَن في الأرض حتّى الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر )(٢).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٥٨، عن أمالي الشيخ أبي علي ابن الشيخ الطوسي.

(٢) الوافي ج ١ ص ٤٢، عن الكافي.

٣٤٥

( طلب العِلم فريضة على كلّ مسلمٍ، ألاّ إنّ اللّه يحبّ بُغاة العلم )(١).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : العالم والمتعلّم شريكان في الأجر، للعالم أجران وللمتعلّم أجرٌ، ولا خيرَ في سِوى ذلك )(٢).

ومِن الواضح أنّ تلك الخصائص الرفيعة، والمزايا المشرّفة، لا ينالها إلاّ طلاّب العلم المخلصون، المتذرّعون بطلبه إلى تزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم، وكسب معرفة اللّه عزَّ وجل وشرف طاعته ورضاه، فإذا ما تجرّدوا مِن تلك الخصائص والغايات، حُرِموا تلك المآثر الخالدة، ولم يجنوا إلاّ المآرب الماديّة الزائلة.

وإليك مجملاً مِن حقوق الطلاّب:

١ - يجدر بأولياء الطلاّب والمعنيّون بتربيتهم وتعليمهم، أنْ يختاروا لهم أساتذة أكفّاء، متحلّين بالإيمان وحُسن الخُلق، ليكونوا قدوةً صالحة ونموذجاً حسناً لتلامذتهم.

فالطالب شديد التأثّر والمحاكاة لأساتذته ومربّيه، سرعان ما تنعكس في نفسه صفاتهم وأخلاقهم، ومِن هنا وجب اختيار المدرّسين المتّصفين بالاستقامة والصلاح.

٢ - ومن حقوق الطلاب: أنْ يستشعروا مِن أساتذتهم اللطف والإشفاق، فيُعامَلون معاملة الأبناء، ويتفادون جهدهم عن احتقارهم واضطهادهم ؛ لأنّ ذلك يحدث ردّ فعلٍ سيّئٍ فيهم، يوشك أنْ ينفّرهم مِن

_____________________

(١) الوافي ج ١ ص ٣٦، عن الكافي.

(٢) البحار م ١ ص ٥٦، عن بصائر الدرجات.

٣٤٦

تحصيل العلم.

لذلك كان مِن الحكمة في تهذيب الطلاّب وتشجيعهم على الدرس، مكافأة المُحسن بالمدح والثناء، وزجر المقصّر منهم بالتأنيب والتقريع، الذي لا يجرح العاطفة ويهدر الكرامة ويُحدث ردّ فعلٍ في الطالب.

انظر كيف يوصي الإمام زين العابدين بالمتعلّمين، في رسالته الحقوقيّة، فيقولعليه‌السلام : ( وأمّا حقّ رعيتك بالعلم، فإنّ تعلّم أنّ اللّه عزَّ وجل إنّما جعلك قيّماً لهم فيما أتاك من العلم، وفتح لك مِن خزائنه، فإنْ أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم، ولم تضجر عليهم، زادك اللّه مِن فضله، وإن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك، كان حقّاً على اللّه عزّ وجل أنْ يسلبك العلم وبهاءه، ويسقط من القلوب محلك ).

٣ - وهكذا يجدر بالأساتذة أنْ يُراعوا استعداد الطالب ومستواه الفكري، فيتدرّجوا به في مراقي العِلم حسب طاقته ومؤهّلاته الفكريّة، فلا يطلعونهم على ما يسمو على أفهامهم، وتقصر عنه مداركهم. مراعين إلى ذلك اتّجاه الطالب ورغبته فيما يختار مِن العلوم، حيث لا يحسن قسرِه على علم لا يرغب فيه، ولا يميل إليه.

٤ - ويحقّ للطلاّب على أساتذتهم أنْ يتعاهدوهم بالتوجيه والإرشاد، في المجالات العلميّة وغيرها من آداب السيرة والسلوك، لينشأ الطلاّب نشأةً مثاليّة، ويكونوا نموذجاً رائعاً في الاستقامة والصلاح.

وألزم النصائح وأجدرها بالإتّباع، أنْ يعلم الطالب اللبيب أنّه يجب أنْ تكون الغاية مِن طلب العلم هي - كما أشرنا إليه - تزكية النفس،

٣٤٧

وتهذيب الضمير، والتوصّل إلى شرف طاعة اللّه تعالى ورضاه. وكسب السعادة الأبديّة الخالدة.

فإنْ لم يستهدف الطالب تلك الغايات السامية، كان ماديّاً هزيل الغاية والمأرب، لم يستثمر العلم استثماراً واعياً.

وأصدق شاهد على ذلك، الأُمم المتحضّرة اليوم، فإنّها رغم سبقها وتفوّقها في ميادين العلم والاكتشاف، تعيش حياة مزرية مِن تفسّخ الأخلاق، وتسيّب القِيَم الروحيّة، وطغيان الشرور فيها لنزعتها الماديّة، وتجرّدها مِن الدين والأخلاق، وغدت مِن جرّاء ذلك تتبارى بأفتك الأسلحة للقضاء على خصومها ومنافسيها، ممّا صيّر العالم بركاناً يُنذر البشريّة بالدمار والهلاك.

هذه لمحات خاطفة من حقوق الأساتذة والطلاّب، ومَن شاء التوسّع فيها فليرجع إلى ما كتبه علماء الأخلاق في آداب المعلّمين والمتعلّمين، وحقوق كلٍّ منهما على الآخر.

٣٤٨

حقوق الوالدين والأولاد

حقوق الوالدين

كيف يستطيع هذا القلم أنْ يصوّر جلالة الأبوين، وفضلهما على الأولاد، فهما سبب وجودهم، وعماد حياتهم، وقوام فضلهم، ونجاحهم في الحياة.

وقد جهد الوالدان ما استطاعا في رعاية أبنائهما ماديّاً ومعنويّاً، وتحمّلا في سبيلهم أشدّ المتاعب والمشاقّ. فاضطلعت الأُمّ بأعباء الحمل، وعناء الوضع، ومشقّة الإرضاع، وجهد التربية والمداراة.

واضطلع الأب بأعباء الجهاد، والسعي في توفير وسائل العَيش لأبنائه، وتثقيفهم وتأديبهم، وإعدادهم للحياة السعيدة الهانئة.

تحمّل الأبوان تلك الجهود الضخمة، فرحين مغتبطين، لا يريدان مِن أولادهما ثناءً ولا أجراً.

وناهيك في رأفة الوالدين وحنانهما الجمّ، أنّهما يُؤثران تفوّق أولادهم عليهم في مجالات الفضل والكمال، ليكونوا مثاراً للإعجاب ومدعاةً للفخر والاعتزاز، خلافاً لما طبع عليه الإنسان مِن حبّ الظهور والتفوّق على غيره.

من أجل ذلك كان فضل الوالدين على الولد عظيماً وحقّهما جسيماً، سما على كلّ فضل وحقٌّ، بعد فضل اللّه عزّ وجل وحقّه.

٣٤٩

برّ الوالدين:

وهذا ما يحتّم على الأبناء النُّبلاء أنْ يُقدّروا فضل آبائهم وعظيم إحسانهم، فيجازونهم بما يستحقّونه مِن حُسن الوفاء، وجميل التوقير والإجلال، ولطف البرّ والإحسان، وسموّ الرعاية والتكريم، أدبيّاً وماديّاً.

أنظر كيف يعظم القرآن الكريم شأن الأبوين، ويحضّ على إجلالها ومصاحبتهما بالبرّ والمعروف، حيث قال:( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) ( لقمان: ١٤ - ١٥ ).

وقال تعالى:( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) ( الإسراء: ٢٣ - ٢٤ ).

فقد أعربت هاتان الآيتان عن فضل الوالدين ومقامهما الرفيع، وضرورة مكافأتهما بالشكر الجزيل، والبرِّ والإحسان اللائقين بهما، فأمرت الآية الأُولى بشكرهما بعد شكر اللّه تعالى، وقرنت الثانية الإحسان إليهما بعبادته عزّ وجل، وهذا غاية التعزيز والتكريم.

وعلى هدي القرآن وضَوئه تواترت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام :

٣٥٠

قال الباقرعليه‌السلام : ( ثلاث لم يجعل اللّه تعالى فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البَرِّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبَرِّ والفاجر، وبرّ الوالدين بريّن كانا أو فاجرين )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رجُلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: يا رسول اللّه، أوصني. فقال: لا تشرك باللّه شيئاً، وإنْ حُرِقت بالنار وعذّبت إلاّ وقلبك مطمئنٌّ بالإيمان. ووالديك، فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين، وإنْ أمَراك أنْ تخرج مِن أهلِك ومالك فافعل، فإنّ ذلك من الإيمان )(٢).

وعن أبي الحسنعليه‌السلام قال ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كن بارّاً، واقتصر على الجنّة، وإنْ كنت عاقّاً فاقتصر على النار )

وعنهعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : نظر الولد إلى والدَيه حبّاً لهما عبادة )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن أحبّ أنْ يُخفّف اللّه عزّ وجل عنه سكَرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه بارّاً، فإذا كان كذلك هوّن اللّه عليه سكَرات الموت، ولم يُصبه في حياته فقرٌ أبداً )(٥).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٩٣، عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩١ - ٩٢، عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٥٥، عن الكافي.

(٤) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢٤، عن كشف الغمّة الأربلي.

(٥) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢١، عن أمالي الشيخ الصدوق، وأمالي ابن الشيخ الطوسي.

٣٥١

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتته أُختٌ له مِن الرضاعة، فلمّا نظر إليها سرّ بها وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثمّ أقبل يُحدّثها ويضحك في وجهها. ثمّ قامت فذهبت، وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنّع بها. فقيل له: يا رسول اللّه، صنعت بأُخته ما لم تصنع به، وهو رجل ! فقال: ( لأنّها كانت أبرّ بوالديها منه )(١) .

* * *

وفي الوقت الذي أوصت الشريعة الإسلامية ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما، فقد آثرت الأُمّ بالقسط الأوفر مِن الرعاية والبر، نظراً لما انفردت به مِن جهودٍ جبّارة وأتعابٍ مُضنية في سبيل أبنائها، كالحمل والرضاع، ونحوهما مِن وظائف الأُمومة وواجباتها المُرهقة.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( جاء رجلٌ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول اللّه، مَن أبرّ ؟ قال: أُمّك. قال: ثمّ مَن ؟ قال: أُمّك. قال: ثمّ مَن ؟ قال: أُمّك. قال: ثمّ مَن ؟ قال: أباك )(٢).

وعن إبراهيم بن مهزم قال: خرجت مِن عند أبي عبد اللّهعليه‌السلام ليلةً ممسياً، فأتيت منزلي في المدينة، وكانت أُمّي معي. فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها. فلمّا كان مِن الغد، صلّيت الغداة، وأتيت أبا عبد اللّهعليه‌السلام ، فلمّا دخلت عليه، قال لي مبتدئاً: ( يا أبا مهزم، مالك ولِخالدة ؟ أغلظت في كلامها البارحة، أما علِمت أنّ بطنها منزلٌ قد سكنته،

______________________________

(١) الوافي ج٣ ص٩٢، عن الكافي.

(٢) الوافي ج٣ ص٩٢، عن الكافي.

٣٥٢

وأنّ حِجرها مهدٌ قد غمزته، وثديها وعاءٌ قد شربته ؟ ) قال قلت: بلى. قال: فلا تغلظ لها(١).

واستمع إلى الإمام السجّادعليه‌السلام ، وهو يوصي بالأمّ، مُعدّداً جهودها وفضلها على الأبناء، بأُسلوبٍ عاطفيٍّ أخّاذ، فيقولعليه‌السلام :

( وأمّا حقّ أُمّك: أنْ تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحداً، وأعطتك مِن ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحدٌ أحداً، ووَقَتك بجميع جوارحها، ولم تُبال أنْ تجوع وتُطعِمك، وتَعطش وتسقيك، وتعري وتكسوك، وتَضحى وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووَقَتك الحرّ والبرد لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلاّ بعون اللّه وتوفيقه )(٢).

* * *

وبِرّ الوالدين، وإنْ كان له طيبتُه ووقعه الجميل في نفس الوالدين، بيد أنّه يزداد طيبةً ووقْعاً حسَناً عند عجزهما وشدّة احتياجهما إلى الرعاية والبر، كحالات المرض والشيخوخة، وإلى هذا أشار القرآن الكريم:( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ).

وقد ورد أنّ رجلاً جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:

_____________________

(١) البحار م ١٦ ج ٤ص ٢٣، عن بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار.

(٢) رسالة الحقوق للإمام السجادعليه‌السلام .

٣٥٣

يا رسول اللّه، إنّ أبَويّ بلغا مِن الكِبَر أنّي ألي منهما ما ولياني في الصغر، فهل قضيتهما حقّهما ؟ قال: ( لا، فإنّهما كانا يفعلان ذلك وهُما يحبّان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما )(١) .

وعن إبراهيم بن شعيب قال: قلت لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : إنّ أبي قد كبُر جدّاً وضعُف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة.

فقال: ( إنْ استطعت أنْ تلي ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك، فإنّه جنّةٌ لك غداً )(٢).

* * *

وليس البرّ مقصوراً على حياة الوالدين فحسب، بل هو ضروري في حياتهما وبعد وفاتهما، لانقطاعهما عن الدنيا وشدّة احتياجهما إلى البرّ والإحسان.

فعن الصادقعليه‌السلام قال: ( ليس يتبع الرجل بعد موته مِن الأجر إلاّ ثلاث خصال: صدقةٌ أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسنّة هدىً سَنّها فهي يُعمل بها بعد موته، أو ولدٌ صالح يدعو له )(٣).

مِن أجل ذلك فقد حرّضت وصايا أهل البيتعليهم‌السلام على برّ الوالدين بعد وفاتهما، وأكّدت عليه وذلك بقضاء ديونهما الماليّة أو العباديّة، وإسداء الخيرات والمبرّات إليهما، والاستغفار لهما، والترحّم عليهما. واعتبرت إهمال ذلك ضرباً مِن العقوق.

_____________________

(١) عن شرح الصحيفة السجاديّة، للسيّد علي خان.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٢، عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٣ ص ٩٠، عن الكافي والتهذيب.

٣٥٤

قال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما دينهما ولا يستغفر لهما، فيكتبه اللّه عاقّاً، وإنّه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه اللّه تعالى بارّاً )(١).

وعن الصادق عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : سيّد الأبرار يوم القيامة، رجلٌ برّ والديه بعد موتهما )(٢) .

عقوق الوالدين

مِن الواضح أنّ نكران الجميل ومكافأة الإحسان بالإساءة، أمران يستنكرهما العقل والشرع، ويستهجنهما الضمير والوجدان، وكلّما عظُم الجميل والإحسان، كان جحودها أشدّ نكراً وأفظع جريرةً وإثماً.

وبهذا المقياس ندرك بشاعة عقوق الوالدين وفظاعة جرمه، حتّى عدّ مِن الكبائر الموجبة لدخول النار. ولا غرابة فالعقوق - فضلاً عن مخالفته المبادئ الإنسانيّة، وقوانين العقل والشرع - دالٌّ على موت الضمير، وضعف الإيمان، وتلاشي القِيَم الإنسانية في العاق.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٩٣، عن الكافي.

(٢) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢٦، عن كتاب الإمامة والتبصرة لعليّ بن بابويه.

٣٥٥

فقد بذل الأبوان طاقات ضخمة وجهوداً جبّارة، في تربية الأبناء وتوفير ما يبعث على إسعادهم وازدهار حياتهم مادّيا وأدبيّاً، ما يعجز الأولاد عن تثمينه وتقديره.

فكيف يسوغ للأبناء تناسي تلك العواطف والألطاف ومكافأتها بالإساءة والعقوق ؟

مِن أجل ذلك حذّرت الشريعة الإسلاميّة مِن عقوق الوالدين أشدّ التحذير، وأوعدت عليه بالعقاب العاجل والآجل.

فعن أبي الحسنعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كن بارّاً، واقتصر على الجنّة، وإنْ كنت عاقّاً، فاقتصر على النار )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( لو عِلم اللّه شيئاً هو أدنى مِن أُفٍّ، لنهى عنه، وهو مِن أدنى العقوق، ومِن العقوق أنْ ينظر الرجل إلى والديه، فيحدّ النظر إليهما )(٢).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ أبي نظر إلى رجلٍ ومعه ابنه يمشي، والابن مُتّكئ على ذراع الأب،قال: فما كلّمه أبيعليه‌السلام مقتاً له حتّى فارق الدنيا )(٣).

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاثة مِن الذنوب، تعجّل عقوبتها ولا تؤخّر إلى الآخرة: عقوق

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٥٥، عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥٥، عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٥٥، عن الكافي.

٣٥٦

الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان )(١).

مساوئ العقوق:

وللعقوق مساوئٌ خطيرة، وآثارٌ سيّئة تنذر العاقّ وتتوعّده بالشقاء الدنيوي والأُخروي.

فمن آثاره أنّ العاقّ يعقّه ابنه... جزاءً وفاقاً على عقوقه لأبيه. وقد شهِد الناس صوراً وأدواراً مِن هذه المكافأة على مسرح الحياة.

مِن ذلك ما حكاه الأصمعي قال: حدّثني رجلٌ مِن الأعراب قال: خرجت من الحيّ أطلب أعقّ الناس وأبرّ الناس. فكنت أطوف بالأحياء، حتّى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل، يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجر والحرّ الشديد، وخلفه شاب في يده رشاء من قدٍّ ملوي، يضربه به، قد شقّ ظهره بذلك الحبل.

فقلت له: أما تتّقي اللّه في هذا الشيخ الضعيف، أما يكفيه ما هو فيه مِن هذا الحبل حتّى تضربه ؟

قال: إنّه مع هذا أبي.

قلت: فلا جزاك اللّه خيراً.

قال: اسكت، فهكذا كان يصنع هو بأبيه، وكذا كان يصنع أبوه بجدّه.

_____________________

(١) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢٣، عن أمالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي.

٣٥٧

فقلت: هذا أعقّ الناس.

ثمّ جلت أيضاً حتّى انتهيت إلى شابٍّ في عنقه زبيل، فيه شيخ كأنّه فرخ، فيضعه بين يديه في كلّ ساعة، فيزقّه كما يزقّ الفرخ.

فقلت له: ما هذا ؟

فقال: أبي، وقد خرف، فأنا أكفله.

قلت: فهذا أبرّ العرب. فرجعت وقد رأيت أعقّهم وأبرّهم(١).

ومِن آثار العقوق:

أنّه موجبٌ لشقاء العاق، وعدم ارتياحه في الحياة، لسخط الوالدين ودعائهما عليه.

وقد جاء في الحديث النبوي: ( إيّاكم ودعوة الوالد، فإنّها أحدّ مِن السيف ).

ومن آثار العقوق:

أنّ العاق يُشاهد أهوالاً مريعة عند الوفاة، ويُعاني شدائد النزع وسكرات الموت.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حضَر شابّاً عند وفاته، فقال له: قل لا إله إلاّ اللّه. قال: فاعتقل لسانه مراراً ).

فقال لامرأة عند رأسه: ( هل لهذا أُم ؟ )

قالت: نعم، أنا أُمّه.

_____________________

(١) المحاسن والمساوئ، للبيهقي ج ٢ ص ١٩٣.

٣٥٨

قال: أَ فساخطةٌ أنتِ عليه ؟

قالت: نعم، ما كلّمته مُنذ ستّ حجج.

قال لها: ( ارضِ عنه ). قالت: رضي اللّه عنه برضاك يا رسول اللّه.

فقال له رسول اللّه: قل لا إله إلاّ اللّه. قال: فقالها.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما ترى ؟

فقال أرى رجلاً أسوداً قبيح المنظر، وسِخ الثياب، منتن الريح، قد وليَني الساعة فأخذ بكظمي.

فقال له النبيّ: قل: ( يا مَن يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبل مّني اليسير واعفُ عن الكثير، إنّك أنت الغفور الرحيم ). فقالها الشاب.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنظر، ماذا ترى ؟

قال: أرى رجلاً أبيض اللون، حسن الوجه، طيّب الريح، حسن الثياب قد وليَني، وأرى الأسود قد تولّى عنّي.

قال: أعد، فأعاد.

قال: ما ترى ؟ قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليَني ثمّ طغى على تلك الحال )(١).

ومِن آثار العقوق:

أنّه مِن الذنوب الكبائر التي توعّد اللّه عليها بالنار، كما صرّحت بذلك الأخبار.

والجدير بالذكر، أنّه كما يجب على الأبناء طاعة آبائهم وبرّهم والإحسان

_____________________

(١) البحار م١٦ ج٤ ص ٢٣، عن أمالي أبي عليّ ابن الشيخ الطوسي.

٣٥٩

إليهم، كذلك يجدر بالآباء أنْ يسوسوا أبناءهم بالحكمة، ولطف المداراة، ولا يخرقوا بهم ويضطروهم إلى العقوق والعصيان.

فعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يلزم الوالدين مِن العقوق لولدهما، إذا كان الولد صالحاً، ما يلزم الولد لهما )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لعن اللّه والدين حمَلا ولدَهما على عقوقهما، ورحِم اللّه والدَين حمَلا ولدَهما على برّهما )(٢).

حقوق الأولاد:

الأولاد الصُلحاء هم زينة الحياة، وربيع البيت، وأقمار الأسرة، وأعزّ آمالها وأمانيها، وأجل الذخائر وأنفسها. لذلك أثنى عليهم أهل البيت وغيرهم من الحكماء والأدباء.

عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الولد الصالح ريحانةٌ مِن رياحين الجنّة )(٣).

وفي حديثٍ آخر، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مِن سعادة الرجل الولدُ الصالح )(٤).

_____________________

(١) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢٢، عن خصال الصدوق.

(٢) الوافي ج ١٤ ص ٥٠، عن الفقيه.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١٩٦، عن الكافي.

(٤) الوافي ج ١٢ ص ١٩٦، عن الفقيه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517