أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت15%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333230 / تحميل: 11879
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بالمسلمين أنْ يستهدوا بهم ويجتنوا ثمرات علومهم، ليكونوا على بصيرةٍ من عقيدتهم وشريعتهم، ويتفادوا دعايات الغاوين والمُضلّلين مِن أعداء الإسلام.

فإذا ما تنكّروا للعلماء المخلصين، واستهانوا بتوجيههم وإرشادهم... جهلوا واقع دينهم ومبادئه وأحكامه، وغدوا عرضةً للزيغ والانحراف.

أنظروا كيف يحرض أهل البيتعليهم‌السلام على مجالسة العلماء، والتزوّد من علومهم وآدابهم، في نصوص عديدة:

فعن الصادق، عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة )(١) والمراد بأهل الدين، علماء الدين العارفون بمبادئه، العاملون بأحكامه.

وجاء في حديث الرضا عن آبائهعليهم‌السلام ، قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مجالسة العلماء عبادة )(٢).

وقال لقمان لابنه:( يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنّ اللّه عزّ وجل يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السماء ) (٣) .

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : العلم خزائن، ومفتاحه (مفتاحها خ ل) السؤال، فاسألوا

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٦٢، عن ثواب الأعمال، وأمالي الصدوق.

(٢) البحار م ١ ص ٦٤، عن كشف الغمّة.

(٣) البحار م ١ ص ٦٤، عن روضة الواعظين.

٣٤١

يرحمكم اللّه، فإنّه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمحبّ لهم )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون )(٢).

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٦٢، عن صحيفة الرضاعليه‌السلام وعيون أخبار الرضا.

(٢) الوافي ج ١ ص ٤٦، عن الكافي.

٣٤٢

حقوق الأساتذة والطلاب

الأساتذة المخلصون، المتحلّون بالإيمان والخلق الكريم، لهم مكانة سامية، وفضلٌ كبير على المجتمع، بما يسدون إليه مِن جهودٍ مشكورة في تربية أبنائهم، وتثقيفهم بالعلوم والآداب. فهم رواد الثقافة، ودعاة العلم، وبناة الحضارة، وموجهو الجيل الجديد.

لذلك كان للأساتذة على طلابهم حقوق جديرة بالرعاية والاهتمام. وأوّل حقوقهم على الطلاب، أنْ يوقّروهم ويحترموهم احترام الآباء، مكافأة لهم على تأديبهم، وتنويرهم بالعلم، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح. كما قيل للإسكندر: إنّك تعظّم معلّمك أكثر مِن تعظيمك لأبيك !!! فقال: لأنّ أبي سبب حياتي الفانية، ومؤدّبي سبب الحياة الباقية.

قم للمعلّم وفّه التبجيلا

كاد المعلّم أنْ يكون رسولا

أرأيت أكرم أو أجلّ مِن الذي

يبني ويُنشئ أنفساً وعُقولا

وحسبُك في فضل المعلّم المُخلص وأجره الجزيل، ما أعربت عنه نصوص أهل البيتعليهم‌السلام :

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يجيء الرجل يوم القيامة، وله مِن الحسنات كالسحاب الركام،

٣٤٣

أو الجبال الراوسي. فيقول: يا ربِّ، أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول: هذا علمك الذي علمته الناس، يعمل به من بعدك )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( مَن علّم بابَ هدىً فله مثل أجرِ مَن عمِل به، ولا ينقص أولئك مِن أُجورهم شيئاً، ومَن علّم بابَ ضلالٍ كان عليه مثل أوزار مَن عمِل به، ولا ينقص مِن أوزارهم شيئاً )(٢).

ومِن حقوق الأساتذة على الطلاّب: تقدير جهودهم ومكافأتهم عليها بالشكر الجزيل، وجميل الحفاوة والتكريم، واتّباع نصائحهم العلميّة، كاستيعاب الدروس وإنجاز الواجبات المدرسيّة.

ومِن حقوقهم كذلك: التسامح والإغضاء عمّا يبدر منهم مِن صرامة أو غلظة تأديبيّة، تهدف إلى تثقيف الطالب وتهذيب أخلاقه.

وأبلغ وأجمع ما أُثر في حقوق الأساتذة المربّين، قول الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام : ( وحقّ سايسك بالعلم: التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، وأنْ لا ترفع عليه صوتك، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتّى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدّث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأنْ تدفع عنه إذا ذُكر عندك بسوء، وأنْ تستر عيوبه، وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدوّاً، ولا تعادِ له وليّاً. فإذا فعلت ذلك، شهد لك ملائكة اللّه بأنّك قصدته، وتعلّمت علمه للّه جلّ اسمه، لا للناس )(١).

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٧٥، عن بصائر الدرجات للشيخ محمّد بن الحسن الصفّار.

(٢) الوافي ج ١ ص ٤٢، عن الكافي.

(٣) رسالة الحقوق للإمام السجّادعليه‌السلام .

٣٤٤

حقوق الطلاّب

لطلاّب العلم فضلهم وكرامتهم، باجتهادهم في تحصيل العِلم، وحفظ تراثه، ونقله للأجيال الصاعدة، ليبقى الرصيد العلمي زاخراً نامياً مدى القرون والأجيال.

من أجل ذلك، نوّهت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام بفضل طلاب العلم، وشرف أقدارهم وجزيل أجرهم.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : طالب العِلم بين الجهّال كالحيّ بين الأموات )(١) .

وعن أبي عبد اللّه، قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن سلَك طريقاً يطلب فيه عِلماً، سلَك اللّه به طريقاً إلى الجنّة. وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العِلم رضاً به، وإنّه ليستغفر لطالب العلم مَن في السماء ومَن في الأرض حتّى الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر )(٢).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٥٨، عن أمالي الشيخ أبي علي ابن الشيخ الطوسي.

(٢) الوافي ج ١ ص ٤٢، عن الكافي.

٣٤٥

( طلب العِلم فريضة على كلّ مسلمٍ، ألاّ إنّ اللّه يحبّ بُغاة العلم )(١).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : العالم والمتعلّم شريكان في الأجر، للعالم أجران وللمتعلّم أجرٌ، ولا خيرَ في سِوى ذلك )(٢).

ومِن الواضح أنّ تلك الخصائص الرفيعة، والمزايا المشرّفة، لا ينالها إلاّ طلاّب العلم المخلصون، المتذرّعون بطلبه إلى تزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم، وكسب معرفة اللّه عزَّ وجل وشرف طاعته ورضاه، فإذا ما تجرّدوا مِن تلك الخصائص والغايات، حُرِموا تلك المآثر الخالدة، ولم يجنوا إلاّ المآرب الماديّة الزائلة.

وإليك مجملاً مِن حقوق الطلاّب:

١ - يجدر بأولياء الطلاّب والمعنيّون بتربيتهم وتعليمهم، أنْ يختاروا لهم أساتذة أكفّاء، متحلّين بالإيمان وحُسن الخُلق، ليكونوا قدوةً صالحة ونموذجاً حسناً لتلامذتهم.

فالطالب شديد التأثّر والمحاكاة لأساتذته ومربّيه، سرعان ما تنعكس في نفسه صفاتهم وأخلاقهم، ومِن هنا وجب اختيار المدرّسين المتّصفين بالاستقامة والصلاح.

٢ - ومن حقوق الطلاب: أنْ يستشعروا مِن أساتذتهم اللطف والإشفاق، فيُعامَلون معاملة الأبناء، ويتفادون جهدهم عن احتقارهم واضطهادهم ؛ لأنّ ذلك يحدث ردّ فعلٍ سيّئٍ فيهم، يوشك أنْ ينفّرهم مِن

_____________________

(١) الوافي ج ١ ص ٣٦، عن الكافي.

(٢) البحار م ١ ص ٥٦، عن بصائر الدرجات.

٣٤٦

تحصيل العلم.

لذلك كان مِن الحكمة في تهذيب الطلاّب وتشجيعهم على الدرس، مكافأة المُحسن بالمدح والثناء، وزجر المقصّر منهم بالتأنيب والتقريع، الذي لا يجرح العاطفة ويهدر الكرامة ويُحدث ردّ فعلٍ في الطالب.

انظر كيف يوصي الإمام زين العابدين بالمتعلّمين، في رسالته الحقوقيّة، فيقولعليه‌السلام : ( وأمّا حقّ رعيتك بالعلم، فإنّ تعلّم أنّ اللّه عزَّ وجل إنّما جعلك قيّماً لهم فيما أتاك من العلم، وفتح لك مِن خزائنه، فإنْ أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم، ولم تضجر عليهم، زادك اللّه مِن فضله، وإن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك، كان حقّاً على اللّه عزّ وجل أنْ يسلبك العلم وبهاءه، ويسقط من القلوب محلك ).

٣ - وهكذا يجدر بالأساتذة أنْ يُراعوا استعداد الطالب ومستواه الفكري، فيتدرّجوا به في مراقي العِلم حسب طاقته ومؤهّلاته الفكريّة، فلا يطلعونهم على ما يسمو على أفهامهم، وتقصر عنه مداركهم. مراعين إلى ذلك اتّجاه الطالب ورغبته فيما يختار مِن العلوم، حيث لا يحسن قسرِه على علم لا يرغب فيه، ولا يميل إليه.

٤ - ويحقّ للطلاّب على أساتذتهم أنْ يتعاهدوهم بالتوجيه والإرشاد، في المجالات العلميّة وغيرها من آداب السيرة والسلوك، لينشأ الطلاّب نشأةً مثاليّة، ويكونوا نموذجاً رائعاً في الاستقامة والصلاح.

وألزم النصائح وأجدرها بالإتّباع، أنْ يعلم الطالب اللبيب أنّه يجب أنْ تكون الغاية مِن طلب العلم هي - كما أشرنا إليه - تزكية النفس،

٣٤٧

وتهذيب الضمير، والتوصّل إلى شرف طاعة اللّه تعالى ورضاه. وكسب السعادة الأبديّة الخالدة.

فإنْ لم يستهدف الطالب تلك الغايات السامية، كان ماديّاً هزيل الغاية والمأرب، لم يستثمر العلم استثماراً واعياً.

وأصدق شاهد على ذلك، الأُمم المتحضّرة اليوم، فإنّها رغم سبقها وتفوّقها في ميادين العلم والاكتشاف، تعيش حياة مزرية مِن تفسّخ الأخلاق، وتسيّب القِيَم الروحيّة، وطغيان الشرور فيها لنزعتها الماديّة، وتجرّدها مِن الدين والأخلاق، وغدت مِن جرّاء ذلك تتبارى بأفتك الأسلحة للقضاء على خصومها ومنافسيها، ممّا صيّر العالم بركاناً يُنذر البشريّة بالدمار والهلاك.

هذه لمحات خاطفة من حقوق الأساتذة والطلاّب، ومَن شاء التوسّع فيها فليرجع إلى ما كتبه علماء الأخلاق في آداب المعلّمين والمتعلّمين، وحقوق كلٍّ منهما على الآخر.

٣٤٨

حقوق الوالدين والأولاد

حقوق الوالدين

كيف يستطيع هذا القلم أنْ يصوّر جلالة الأبوين، وفضلهما على الأولاد، فهما سبب وجودهم، وعماد حياتهم، وقوام فضلهم، ونجاحهم في الحياة.

وقد جهد الوالدان ما استطاعا في رعاية أبنائهما ماديّاً ومعنويّاً، وتحمّلا في سبيلهم أشدّ المتاعب والمشاقّ. فاضطلعت الأُمّ بأعباء الحمل، وعناء الوضع، ومشقّة الإرضاع، وجهد التربية والمداراة.

واضطلع الأب بأعباء الجهاد، والسعي في توفير وسائل العَيش لأبنائه، وتثقيفهم وتأديبهم، وإعدادهم للحياة السعيدة الهانئة.

تحمّل الأبوان تلك الجهود الضخمة، فرحين مغتبطين، لا يريدان مِن أولادهما ثناءً ولا أجراً.

وناهيك في رأفة الوالدين وحنانهما الجمّ، أنّهما يُؤثران تفوّق أولادهم عليهم في مجالات الفضل والكمال، ليكونوا مثاراً للإعجاب ومدعاةً للفخر والاعتزاز، خلافاً لما طبع عليه الإنسان مِن حبّ الظهور والتفوّق على غيره.

من أجل ذلك كان فضل الوالدين على الولد عظيماً وحقّهما جسيماً، سما على كلّ فضل وحقٌّ، بعد فضل اللّه عزّ وجل وحقّه.

٣٤٩

برّ الوالدين:

وهذا ما يحتّم على الأبناء النُّبلاء أنْ يُقدّروا فضل آبائهم وعظيم إحسانهم، فيجازونهم بما يستحقّونه مِن حُسن الوفاء، وجميل التوقير والإجلال، ولطف البرّ والإحسان، وسموّ الرعاية والتكريم، أدبيّاً وماديّاً.

أنظر كيف يعظم القرآن الكريم شأن الأبوين، ويحضّ على إجلالها ومصاحبتهما بالبرّ والمعروف، حيث قال:( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) ( لقمان: ١٤ - ١٥ ).

وقال تعالى:( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) ( الإسراء: ٢٣ - ٢٤ ).

فقد أعربت هاتان الآيتان عن فضل الوالدين ومقامهما الرفيع، وضرورة مكافأتهما بالشكر الجزيل، والبرِّ والإحسان اللائقين بهما، فأمرت الآية الأُولى بشكرهما بعد شكر اللّه تعالى، وقرنت الثانية الإحسان إليهما بعبادته عزّ وجل، وهذا غاية التعزيز والتكريم.

وعلى هدي القرآن وضَوئه تواترت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام :

٣٥٠

قال الباقرعليه‌السلام : ( ثلاث لم يجعل اللّه تعالى فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البَرِّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبَرِّ والفاجر، وبرّ الوالدين بريّن كانا أو فاجرين )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رجُلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: يا رسول اللّه، أوصني. فقال: لا تشرك باللّه شيئاً، وإنْ حُرِقت بالنار وعذّبت إلاّ وقلبك مطمئنٌّ بالإيمان. ووالديك، فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين، وإنْ أمَراك أنْ تخرج مِن أهلِك ومالك فافعل، فإنّ ذلك من الإيمان )(٢).

وعن أبي الحسنعليه‌السلام قال ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كن بارّاً، واقتصر على الجنّة، وإنْ كنت عاقّاً فاقتصر على النار )

وعنهعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : نظر الولد إلى والدَيه حبّاً لهما عبادة )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن أحبّ أنْ يُخفّف اللّه عزّ وجل عنه سكَرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه بارّاً، فإذا كان كذلك هوّن اللّه عليه سكَرات الموت، ولم يُصبه في حياته فقرٌ أبداً )(٥).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٩٣، عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩١ - ٩٢، عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٥٥، عن الكافي.

(٤) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢٤، عن كشف الغمّة الأربلي.

(٥) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢١، عن أمالي الشيخ الصدوق، وأمالي ابن الشيخ الطوسي.

٣٥١

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتته أُختٌ له مِن الرضاعة، فلمّا نظر إليها سرّ بها وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثمّ أقبل يُحدّثها ويضحك في وجهها. ثمّ قامت فذهبت، وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنّع بها. فقيل له: يا رسول اللّه، صنعت بأُخته ما لم تصنع به، وهو رجل ! فقال: ( لأنّها كانت أبرّ بوالديها منه )(١) .

* * *

وفي الوقت الذي أوصت الشريعة الإسلامية ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما، فقد آثرت الأُمّ بالقسط الأوفر مِن الرعاية والبر، نظراً لما انفردت به مِن جهودٍ جبّارة وأتعابٍ مُضنية في سبيل أبنائها، كالحمل والرضاع، ونحوهما مِن وظائف الأُمومة وواجباتها المُرهقة.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( جاء رجلٌ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول اللّه، مَن أبرّ ؟ قال: أُمّك. قال: ثمّ مَن ؟ قال: أُمّك. قال: ثمّ مَن ؟ قال: أُمّك. قال: ثمّ مَن ؟ قال: أباك )(٢).

وعن إبراهيم بن مهزم قال: خرجت مِن عند أبي عبد اللّهعليه‌السلام ليلةً ممسياً، فأتيت منزلي في المدينة، وكانت أُمّي معي. فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها. فلمّا كان مِن الغد، صلّيت الغداة، وأتيت أبا عبد اللّهعليه‌السلام ، فلمّا دخلت عليه، قال لي مبتدئاً: ( يا أبا مهزم، مالك ولِخالدة ؟ أغلظت في كلامها البارحة، أما علِمت أنّ بطنها منزلٌ قد سكنته،

______________________________

(١) الوافي ج٣ ص٩٢، عن الكافي.

(٢) الوافي ج٣ ص٩٢، عن الكافي.

٣٥٢

وأنّ حِجرها مهدٌ قد غمزته، وثديها وعاءٌ قد شربته ؟ ) قال قلت: بلى. قال: فلا تغلظ لها(١).

واستمع إلى الإمام السجّادعليه‌السلام ، وهو يوصي بالأمّ، مُعدّداً جهودها وفضلها على الأبناء، بأُسلوبٍ عاطفيٍّ أخّاذ، فيقولعليه‌السلام :

( وأمّا حقّ أُمّك: أنْ تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحداً، وأعطتك مِن ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحدٌ أحداً، ووَقَتك بجميع جوارحها، ولم تُبال أنْ تجوع وتُطعِمك، وتَعطش وتسقيك، وتعري وتكسوك، وتَضحى وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووَقَتك الحرّ والبرد لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلاّ بعون اللّه وتوفيقه )(٢).

* * *

وبِرّ الوالدين، وإنْ كان له طيبتُه ووقعه الجميل في نفس الوالدين، بيد أنّه يزداد طيبةً ووقْعاً حسَناً عند عجزهما وشدّة احتياجهما إلى الرعاية والبر، كحالات المرض والشيخوخة، وإلى هذا أشار القرآن الكريم:( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ).

وقد ورد أنّ رجلاً جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:

_____________________

(١) البحار م ١٦ ج ٤ص ٢٣، عن بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار.

(٢) رسالة الحقوق للإمام السجادعليه‌السلام .

٣٥٣

يا رسول اللّه، إنّ أبَويّ بلغا مِن الكِبَر أنّي ألي منهما ما ولياني في الصغر، فهل قضيتهما حقّهما ؟ قال: ( لا، فإنّهما كانا يفعلان ذلك وهُما يحبّان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما )(١) .

وعن إبراهيم بن شعيب قال: قلت لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : إنّ أبي قد كبُر جدّاً وضعُف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة.

فقال: ( إنْ استطعت أنْ تلي ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك، فإنّه جنّةٌ لك غداً )(٢).

* * *

وليس البرّ مقصوراً على حياة الوالدين فحسب، بل هو ضروري في حياتهما وبعد وفاتهما، لانقطاعهما عن الدنيا وشدّة احتياجهما إلى البرّ والإحسان.

فعن الصادقعليه‌السلام قال: ( ليس يتبع الرجل بعد موته مِن الأجر إلاّ ثلاث خصال: صدقةٌ أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسنّة هدىً سَنّها فهي يُعمل بها بعد موته، أو ولدٌ صالح يدعو له )(٣).

مِن أجل ذلك فقد حرّضت وصايا أهل البيتعليهم‌السلام على برّ الوالدين بعد وفاتهما، وأكّدت عليه وذلك بقضاء ديونهما الماليّة أو العباديّة، وإسداء الخيرات والمبرّات إليهما، والاستغفار لهما، والترحّم عليهما. واعتبرت إهمال ذلك ضرباً مِن العقوق.

_____________________

(١) عن شرح الصحيفة السجاديّة، للسيّد علي خان.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٢، عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٣ ص ٩٠، عن الكافي والتهذيب.

٣٥٤

قال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما دينهما ولا يستغفر لهما، فيكتبه اللّه عاقّاً، وإنّه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه اللّه تعالى بارّاً )(١).

وعن الصادق عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : سيّد الأبرار يوم القيامة، رجلٌ برّ والديه بعد موتهما )(٢) .

عقوق الوالدين

مِن الواضح أنّ نكران الجميل ومكافأة الإحسان بالإساءة، أمران يستنكرهما العقل والشرع، ويستهجنهما الضمير والوجدان، وكلّما عظُم الجميل والإحسان، كان جحودها أشدّ نكراً وأفظع جريرةً وإثماً.

وبهذا المقياس ندرك بشاعة عقوق الوالدين وفظاعة جرمه، حتّى عدّ مِن الكبائر الموجبة لدخول النار. ولا غرابة فالعقوق - فضلاً عن مخالفته المبادئ الإنسانيّة، وقوانين العقل والشرع - دالٌّ على موت الضمير، وضعف الإيمان، وتلاشي القِيَم الإنسانية في العاق.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٩٣، عن الكافي.

(٢) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢٦، عن كتاب الإمامة والتبصرة لعليّ بن بابويه.

٣٥٥

فقد بذل الأبوان طاقات ضخمة وجهوداً جبّارة، في تربية الأبناء وتوفير ما يبعث على إسعادهم وازدهار حياتهم مادّيا وأدبيّاً، ما يعجز الأولاد عن تثمينه وتقديره.

فكيف يسوغ للأبناء تناسي تلك العواطف والألطاف ومكافأتها بالإساءة والعقوق ؟

مِن أجل ذلك حذّرت الشريعة الإسلاميّة مِن عقوق الوالدين أشدّ التحذير، وأوعدت عليه بالعقاب العاجل والآجل.

فعن أبي الحسنعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كن بارّاً، واقتصر على الجنّة، وإنْ كنت عاقّاً، فاقتصر على النار )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( لو عِلم اللّه شيئاً هو أدنى مِن أُفٍّ، لنهى عنه، وهو مِن أدنى العقوق، ومِن العقوق أنْ ينظر الرجل إلى والديه، فيحدّ النظر إليهما )(٢).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ أبي نظر إلى رجلٍ ومعه ابنه يمشي، والابن مُتّكئ على ذراع الأب،قال: فما كلّمه أبيعليه‌السلام مقتاً له حتّى فارق الدنيا )(٣).

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاثة مِن الذنوب، تعجّل عقوبتها ولا تؤخّر إلى الآخرة: عقوق

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٥٥، عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥٥، عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٥٥، عن الكافي.

٣٥٦

الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان )(١).

مساوئ العقوق:

وللعقوق مساوئٌ خطيرة، وآثارٌ سيّئة تنذر العاقّ وتتوعّده بالشقاء الدنيوي والأُخروي.

فمن آثاره أنّ العاقّ يعقّه ابنه... جزاءً وفاقاً على عقوقه لأبيه. وقد شهِد الناس صوراً وأدواراً مِن هذه المكافأة على مسرح الحياة.

مِن ذلك ما حكاه الأصمعي قال: حدّثني رجلٌ مِن الأعراب قال: خرجت من الحيّ أطلب أعقّ الناس وأبرّ الناس. فكنت أطوف بالأحياء، حتّى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل، يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجر والحرّ الشديد، وخلفه شاب في يده رشاء من قدٍّ ملوي، يضربه به، قد شقّ ظهره بذلك الحبل.

فقلت له: أما تتّقي اللّه في هذا الشيخ الضعيف، أما يكفيه ما هو فيه مِن هذا الحبل حتّى تضربه ؟

قال: إنّه مع هذا أبي.

قلت: فلا جزاك اللّه خيراً.

قال: اسكت، فهكذا كان يصنع هو بأبيه، وكذا كان يصنع أبوه بجدّه.

_____________________

(١) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢٣، عن أمالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي.

٣٥٧

فقلت: هذا أعقّ الناس.

ثمّ جلت أيضاً حتّى انتهيت إلى شابٍّ في عنقه زبيل، فيه شيخ كأنّه فرخ، فيضعه بين يديه في كلّ ساعة، فيزقّه كما يزقّ الفرخ.

فقلت له: ما هذا ؟

فقال: أبي، وقد خرف، فأنا أكفله.

قلت: فهذا أبرّ العرب. فرجعت وقد رأيت أعقّهم وأبرّهم(١).

ومِن آثار العقوق:

أنّه موجبٌ لشقاء العاق، وعدم ارتياحه في الحياة، لسخط الوالدين ودعائهما عليه.

وقد جاء في الحديث النبوي: ( إيّاكم ودعوة الوالد، فإنّها أحدّ مِن السيف ).

ومن آثار العقوق:

أنّ العاق يُشاهد أهوالاً مريعة عند الوفاة، ويُعاني شدائد النزع وسكرات الموت.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حضَر شابّاً عند وفاته، فقال له: قل لا إله إلاّ اللّه. قال: فاعتقل لسانه مراراً ).

فقال لامرأة عند رأسه: ( هل لهذا أُم ؟ )

قالت: نعم، أنا أُمّه.

_____________________

(١) المحاسن والمساوئ، للبيهقي ج ٢ ص ١٩٣.

٣٥٨

قال: أَ فساخطةٌ أنتِ عليه ؟

قالت: نعم، ما كلّمته مُنذ ستّ حجج.

قال لها: ( ارضِ عنه ). قالت: رضي اللّه عنه برضاك يا رسول اللّه.

فقال له رسول اللّه: قل لا إله إلاّ اللّه. قال: فقالها.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما ترى ؟

فقال أرى رجلاً أسوداً قبيح المنظر، وسِخ الثياب، منتن الريح، قد وليَني الساعة فأخذ بكظمي.

فقال له النبيّ: قل: ( يا مَن يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبل مّني اليسير واعفُ عن الكثير، إنّك أنت الغفور الرحيم ). فقالها الشاب.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنظر، ماذا ترى ؟

قال: أرى رجلاً أبيض اللون، حسن الوجه، طيّب الريح، حسن الثياب قد وليَني، وأرى الأسود قد تولّى عنّي.

قال: أعد، فأعاد.

قال: ما ترى ؟ قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليَني ثمّ طغى على تلك الحال )(١).

ومِن آثار العقوق:

أنّه مِن الذنوب الكبائر التي توعّد اللّه عليها بالنار، كما صرّحت بذلك الأخبار.

والجدير بالذكر، أنّه كما يجب على الأبناء طاعة آبائهم وبرّهم والإحسان

_____________________

(١) البحار م١٦ ج٤ ص ٢٣، عن أمالي أبي عليّ ابن الشيخ الطوسي.

٣٥٩

إليهم، كذلك يجدر بالآباء أنْ يسوسوا أبناءهم بالحكمة، ولطف المداراة، ولا يخرقوا بهم ويضطروهم إلى العقوق والعصيان.

فعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يلزم الوالدين مِن العقوق لولدهما، إذا كان الولد صالحاً، ما يلزم الولد لهما )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لعن اللّه والدين حمَلا ولدَهما على عقوقهما، ورحِم اللّه والدَين حمَلا ولدَهما على برّهما )(٢).

حقوق الأولاد:

الأولاد الصُلحاء هم زينة الحياة، وربيع البيت، وأقمار الأسرة، وأعزّ آمالها وأمانيها، وأجل الذخائر وأنفسها. لذلك أثنى عليهم أهل البيت وغيرهم من الحكماء والأدباء.

عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الولد الصالح ريحانةٌ مِن رياحين الجنّة )(٣).

وفي حديثٍ آخر، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مِن سعادة الرجل الولدُ الصالح )(٤).

_____________________

(١) البحار م ١٦ ج ٤ ص ٢٢، عن خصال الصدوق.

(٢) الوافي ج ١٤ ص ٥٠، عن الفقيه.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١٩٦، عن الكافي.

(٤) الوافي ج ١٢ ص ١٩٦، عن الفقيه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517