أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333407 / تحميل: 11882
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وقال أبو الحسنعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً لم يُمِته حتّى يريه الخلَف )(١) .

وقال حكيمٌ في ميّت: ( إنّ كان له ولد فهو حي، وإنْ لم يكن له ولد فهو ميّت ).

وفضل الولد الصالح ونفعه لوالديه لا يقتصر على حياتهما فحسب، بل يسري حتّى بعد وفاتهما، وانقطاع أملهما من الحياة.

عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( ليس يتبع الرجل بعد موته مِن الأجر إلاّ ثلاث خِصال: صدقةٌ أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسنّة هدىً سنّها فهي يُعمل بها بعد موته، أو ولدٌ صالح يدعو له )(٢).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مرّ عيسى بن مريم بقبرٍ يُعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به مِن قابل فإذا هو لا يعذّب. فقال: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أوّل وكان يُعذّب !. فأوحى اللّه إليه. إنّه أدرك له ولدٌ صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه. ثمّ قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ميراث اللّه من عبده المؤمن ولدٌ يعبده مِن بعده ).

ثمّ تلا أبو عبد اللّهعليه‌السلام آية زكريّا على نبيّنا وآله وعليه‌السلام :( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) ( مريم: ٥ - ٦ )(٣).

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٩٧، عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٣ ص ٩٠، عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١٩٧، عن الكافي.

٣٦١

ومِن الواضح أنّ صلاح الأبناء واستقامتهم لا يتسنّيان عفَواً وجزافاً، وإنّما يستلزمان رعايةً فائقة، واهتماماً بالغاً في إعدادهم وتوجيههم وجهة الخير والصلاح.

مِن أجل ذلك وجَب على الآباء تأديب أولادهم وتنشئتهم على الاستقامة والصلاح، ليجدوا ما يأملون فيهم مِن قرّة عين، وحسن هدىً وسلوك.

قال الإمام السجادعليه‌السلام : ( وأمّا حقّ ولدك: فأنْ تعلم أنّه منك، ومضافٌ إليك في عاجلِ الدنيا بخيره وشرّه. وإنّك مسؤولٌ عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة له على ربّه عزَّ وجل، والمعونة له على طاعته. فاعمل في أمره عمَلَ مَن يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه، معاقبٌ على الإساءة إليه )(١).

فالآباء مسؤولون عن تهذيب أبنائهم وإعدادهم إعداداً صالحاً، فإنْ أغفلوا ذلك أساؤا إلى أولادهم، وعرّضوهم لأخطار التخلّف والتسيّب الديني والاجتماعي.

ويحسن بالآباء أنْ يبادروا أبناءهم بالتهذيب والتوجيه، منذ حداثتهم ونعومة أظفارهم، لسرعة استجابتهم إلى ذلك قبل تقدّمهم في السن، وروسوخ العادات السيّئة والأخلاق الذميمة فيهم، فيغدون آنَ ذاك أشدُّ استعصاءً على التأديب والإصلاح.

_____________________

(١) رسالة الحقوق، للإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام .

٣٦٢

حكمة التأديب:

وهكذا يجدر بالآباء أنْ يتحرّوا القصد، والاعتدال في سلطتهم، وأساليب تأديب أبنائهم، فلا يسوسونهم بالقسوة والعنف ممّا يعقّدهم نفسيّاً، ويبعثهم على النفرة والعقوق. ولا يتهاونوا في مؤاخذتهم على الإساءة والتقصير، فيستخفّون بهم ويتمرّدون عليهم، فإنّ ( مَن أمِن العقوبة أساء الأدب ).

وخير الأساليب في ذلك هو التدرّج في تأديب الأبناء وتقويمهم، وذلك بتشجيعهم على الإحسان، بالمدح والثناء وحسن المكافأة، وبنصحهم على الإساءة. فإنْ لم يجدهم ذلك، فبالتقريع والتأنيب، وإلاّ فبالعقوبة الرادعة، والتأنيب الزاجر.

المدرسة الأولى للطفل:

والبيت هو المدرسة الأولى للطفل، يترعرع في ظلاله، وتتكامل فيه شخصيّته، وتنمو فيه سجاياه، متأثّراً بأخلاق أبَويه وسلوكهما. فعليهما أنْ يكونا قدوةً حسنة، ومثلاً رفيعاً، لتنعكس في نفسه مزاياهم وفضائلهم.

٣٦٣

منهاج التأديب:

١ - وأوّل ما يُبدأ به في تهذيب الطفل، تعليمه آداب الأكل والشرب: كغسل اليدين قبل الطعام وبعده، والأكل بيمينه، وإجادة المضغ، وترك النظر في وجوه الآكلين، والرضا والقنوع بالمقسوم مِن الرزق. ونحو ذلك مِن الآداب.

٢ - ويراضُ الطفلُ على أدب الحديث، والكلام المهذّب، والقول الحسن، ومنعه عن الفُحش، والبَذاء، والاغتياب، والثرثرة، وما إلى ذلك من مساوئ اللسان وأنْ يُحسن الإصغاء، كما يُحسن الحديث، فلا يقاطع متحدثاً حتى ينتهي من حديثه.

٣ - وأهمّ ما يعني به في توجيه الأولاد، غرس المفاهيم الدينيّة فيهم، وتنشئتهم على العقيدة والإيمان، بتعليمهم أُصول الدين وفروعه بأُسلوبٍ يلائم مستواهم الفكري، ليكونوا على بصيرةٍ مِن عقيدتهم وشريعتهم، مُحصنّين ضدّ الشُّبَه المُضلِّلة مِن أعداء الإسلام:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم: ٦ ).

٤ - وعلى الآباء أنْ يروّضوا أبناءهم على التخلّق بالأخلاق الكريمة والسجايا النبيلة: كالصدق، والأمانة، والصبر، والاعتماد على النفس.

وتحريضهم على حسن معاشرة الناس: كتوقير الكبير، والعطف على

٣٦٤

الصغير، وشكر المُحسن، والتجاوز ما وسعهم عن المسيء، والتحنّن على البؤساء والمعوزين.

٥ - ومِن المهمّ جدّاً منع الأبناء مِن معاشرة القرناء المنحرفين الأشرار، وتحبيذ مصاحبة الأخدان الصلحاء لهم، لسرعة تأثّرهم بالأصدقاء، واكتسابهم مِن أخلاقهم وطباعهم، كما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ).

وقد شهِد الناس كثيراً مِن مآسي الشباب الذين انحرفوا عن النهج السويّ، وتدهوروا في مهاوي الرذيلة والفساد، لتأثّرهم بقُرناء السوء، وأخدان الشر.

٦ - وهكذا يُحسن بالآباء أنْ يستطلعوا مواهب أبنائهم وكفاءاتهم، ليوجّهوهم، في ميادين الحياة وطرائق المعاش، حسب استعدادهم ومؤهّلاتهم الفكريّة والجسميّة: مِن طلب العلم، أو ممارسة الصناعة، أو التجارة ؛ ليستطيعوا الاضطلاع بأعباء الحياة، ويعيشوا عيشاً كريماً.

٣٦٥

الحقوق الزوجيّة

فضل الزواج

الزواج: هو الرابطة الشرعيّة المقدّسة، وشركة الحياة بين الزوجين. شرّعه اللّه عزّ وجل لحفظ النوع البشري وتكاثره، وعمران الأرض وازدهار الحياة فيها.

وقد رغّبت فيه الشريعة الإسلاميّة وحرّضت عليه كتاباً وسنّة:

قال تعالى:( وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( النور: ٣٢ ).

وقال سُبحانه:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( الروم:٢١ ).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بُنيَ بناءً في الإسلام أحبُّ إلى اللّه مِن التزويج )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تزوّج أحرَز نصف دينه، فليتقّ اللّه في النصف الآخر )(٢).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( النكاح سنّتي، فمَن رغِب عن سنّتي، فليس منّي )(٣).

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الكافي.

(٣) البحار م ٢٣ ص ٥١، عن مكارم الأخلاق للطبرسي.

٣٦٦

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأُمَم غداً يوم القيامة، حتّى أنّ السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنّة، فيُقال له أدخل، فيقول: لا، حتّى يدخل أبواي قبلي )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( ركعتان يُصلّيهما المتزوّج أفضل مِن سبعين ركعة يُصلّيها أعزب )(٢).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لركعتان يُصلّيهما متزوّج، أفضل مِن رجلٍ عزب يقوم ليله ويصوم نهاره )(٣).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( رذاّل موتاكم العزّاب )(٤).

١ - فوائد الزواج:

ولا عجَب أنْ تؤكّد هذه النصوص على الزواج تأكيدها المُلِحّ، وتُحرّض عليه بالترغيب تارةً ويالترهيب أُخرى، لما ينطوي عليه مِن صنوف الخصائص والمنافع:

١ - فمِن خصائصه: أنّه الوسيلة الوحيدة لكسب الذريّة الطيبة،

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه، ( المحبنطئ: المغتاظ ).

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه والكافي.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه.

(٤) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه.

٣٦٧

والأبناء الصُلَحاء، وهُم زينةُ الحياة الدنيا، وأعزُّ ذخائرها، وألذُّ مُتَعِها وأشواقها، بهم يستشعر الآباء العِزَّة والمُتعة، وامتداد الحياة، وطيب الذكر، وحُسن المكافأة، وجزيل الأجر عند اللّه عزّ وجل، كما أوضَحته النصوص السالفة في فضل الولد الصالح.

٢ - ومِن منافع الزواج:

أنّه باعث على عفّة المتزوّج وحصانته ضدّ الفجور والآثام الجنسيّة، وهذا ما عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: ( مَن تزوّج أحرَز نصف دينه، فليتق الّله في النصف الآخر ).

مِن أجل ذلك كان عقاب الزاني المُحصَن رجماً بالحجارة حتّى الموت، لتحصّنه بالزواج، واستهتاره بقدسيّة الأعراض وكرامتها المصونة.

٣ - ومِن آثار الزواج:

أنّه مِن دواعي رغَد العيش، وسكينة النفس، وراحة الضمير والوجدان. ذلك أنّ الرجل كثيراً ما يُعاني أزَمات الحياة، ومتاعب الكِفاح في سبيل العيش، فيجد في ظلاله زوجته الحبيبة المُخلصة مِن حسن الرعاية ولطف المؤانسة، ورقّة الحنان، ما يُخفّف عناءه ويسري عنه الكثير مِن المتاعب والهموم:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا

٣٦٨

وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ).

وعن أبي عبد اللّه عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما استفاد امرؤٌ مسلمٌ فائدةً بعد الإسلام أفضل مِن زوجةٍ مسلمة، تسرّه إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها، في نفسها وماله )(١).

السعادة الزوجيّة:

ومِن الثابت أنّ السعادة الزوجيّة لا تتحقّق، ولا ينال الزوجان ما يصبوان إليه مِن رغَد وهناء، إلاّ إذا أحسَن كلٌّ منهما اختيار صاحبه، وشريك حياته، واصطفاه على ضوء القِيَم الأصيلة والمقاييس الثابتة، التي مِن شأنها أنْ توثّق الروابط الزوجيّة، وتنشر السعادة والسلام في ربوع الحياة الزوجيّة. كما أنّ سوء الاختيار كثيراً ما يُعرّضها للفشل والإخفاق.

وقد عالج أهل البيتعليهم‌السلام هذا الجانب الموضوعي مِن حياة الناس، فأوضحوا محاسن ومساوئ كلٍّ من الرجل والمرأة، ليكون كلٌّ منهما على بصيرةٍ مِن اختيار زوجه وشريك حياته.

الزوج المثالي:

والزوج المثالي: هو الرجل الكفوء الذي تُسعد المرأة في ظلاله،

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٦، عن الكافي والفقيه.

٣٦٩

وتنعم بحياة زوجيّة هانئة.

فليست الكفاءة كما يتوهّمها غالب الناس - منوطةً بالزخارف الماديّة فحسب، كالقصر الفخم، أو السيّارة الفارهة، أو الرصيد المالي الضخم.

وليست هي كذلك منوطة بالشهادة العالية، أو الوظيفة المرموقة، أو الحسَب الرفيع.

وفقد تتوفّر هذه الخلال في الرجل، وهي رغم ذلك لا تحقّق سعادة الزوجة وأمانيها في الحياة، كما أعرَبت عن ذلك زوجة معاوية، وقد سئمت في كنفه مظاهر الترَف والبذَخ والسلطان والثراء، وحنّت إلى فتى أحلامها، وإنْ كان خلواً مِن كلِّ ذلك:

لبيتٌ تخفق الأرواح فيه

أحبّ إليّ مِن قصرٍ مُنيفِ

ولبسُ عباءةٍ وتقرّ عيني

أحبّ إليّ مِن لبس الشفوفِ

وخرق مِن بني عمّي نجيب

أحبُّ إليّ مِن عِلج عنيفِ

فالكفاءة الحقّة، هي مزيج مِن عناصر ثلاث: التمسّك بالدين، والتحلّي بحسن الخُلق، والقدرة على إعالة الزوجة ورعايتها ماديّاً وأدبيّاً. وبذلك يغدو الرجل كُفئاً وزوجاً مثاليّاً في عُرف الإسلام.

فعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا جاءكم مَن ترضون خُلقه ودينه، فزوّجوه، إنْ لا تفعلوه تكُن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( الكفوء أنْ يكون عفيفاً وعنده يسار )(٢).

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٧، عن الكافي.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١٨، عن الكافي والفقيه والتهذيب.

٣٧٠

لذلك كان مكروهاً في الشريعة الإسلاميّة تزويج الفاسق، وشارب الخمر، والمخنّث، وسيّئ الخُلق، ونحوهم ممّن لا يُوثَق بدينه وأخلاقه.

الزوجة المثاليّة:

والزوجة المثاليّة: هي المتحلّية بالإيمان، والعفاف، وكرَم الأصل، وجمال الخَلق والخُلق، وحسن العشرة مع زوجها.

وقد صوّرت نصوص أهل البيتعليهم‌السلام خصائص النساء، وصفاتهن الكريمة والذميمة، لتكون علامة فارقة بين الزوجة المثاليّة وغيرها.

عن جابر بن عبد اللّه قال: كنّا عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: ( إنّ خير نِسائكم الولود، الودود، العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرّجة مع زوجها، الحِصان على غيره، التي تسمَع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما يريد منها، ولم تبذل كتبذل الرجل ).

ثمّ قال: ( ألا أخبركم بشرار نسائكم ؟ الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم الحقود، التي لا تورع مِن قبيح، المتبرّجة إذا غاب عنها بعلُها، الحِصان معه إذا حضَر، لا تسمع قوله، ولا تطيع أمره، وإذا خلا بها بعلُها تمنّعت منه، كما تمنع الصعبة مِن ركوبها، ولا تقبل له عذراً ولا تغفر له ذنباً )(١) .

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال:

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٤، عن الكافي والتهذيب.

٣٧١

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أفضل نساء أُمّتي أصبَحهُنَّ وجهاً، وأقلّهُنَّ مهراً )(١).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تزوج امرأة لا يتزوّجها إلاّ لجمالها لم يرَ فيها ما يحب، ومَن تزوّجها لمالها لا يتزوّجها إلاّ له وكله اللّه إليه، فعليكُم بذات الدين )(٢).

وقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله خطيباً فقال: ( أيّها الناس، إيّاكم وخضراء الدمَن. قيل يا رسول اللّه: وما خضراء الدمَن ؟ قال: ( المرأة الحسناء في منبت السوء )(٣).

وقد نهى الحديث عن تزوّج المرأة الوضيئة الحسناء إذا كانت مِن أسرة مغموزة في عفّتها ونجابتها.

رعاية الحقوق:

والزوجان بعد هذا لا يكسبان السعادة الزوجيّة والهناء العائلي، إلاّ برعاية كلٍّ منهما حقوق الآخر وأداء واجباته، جرياً على قانون الأخذ والعطاء. وبذلك ينعمان بحياة سعيدة، آمنة مِن مثيرات النكَد والتنغيص.

وقد أولَت الشريعة الإسلاميّة الحياة الزوجيّة عنايةً بالغةً، بصفتها

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٥، عن الكافي والفقيه.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١٣، عن التهذيب.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١٢، عن الكافي والفقيه.

٣٧٢

الخليّة الأُولى مِن خلايا المجتمع الكبير، ورعتها بالتنظيم والتوجيه، وقرّرت الحقوق المشتركة بين الزوجين، والحقوق الخاصّة بكلٍّ منهما على انفراد.

فالحقوق المشتركة التي يجدر تبادلها بين الزوجين، هي: الإخلاص، الثقة، الأمانة، التعاطف، والتآزر. وهذه هي عناصر الحياة الزوجيّة الناجحة، ومقوّماتها الأصيلة.

وأمّا الحقوق الخاصّة فسنعرضها في مطاوي هذا البحث:

حقوق الزوج

للزوج حقوقٌ على زوجه بحكم رعايته لها وقوامته عليها، وهي:

١ - الطاعة:

وهي أوّل متطلّبات الزوج وحقوقه المفروضة على زوجه. فهي مسؤولة عن طاعته وتلبية رغَباته المشروعة، ومفاداة كلّ ما يسيئه ويغيظه، كالخروج مِن الدار بغير رضاه، والتبذير في ماله، وإهمال وظائفها المنزليّة، ونحو ذلك ممّا يُعرّض الحياة الزوجيّة لأخطار التباغض والفرقة.

فعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( جاءت امرأة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت: يا رسول اللّه، ما حقّ الزوج على المرأة ؟ فقال لها: ( أنْ تطيعه ولا تعصيه، ولا تصّدّق مِن بيته إلاّ بإذنه، ولا تصوم طوعاً

٣٧٣

إلاّ بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإنْ كانت على ظهر قتَب، ولا تخرج مِن بيتها إلاّ بإذنه، وإنْ خرجَت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض، وملائكة الغضَب وملائكة الرحمة، حتّى ترجع إلى بيتها. فقالت: يا رسول اللّه، مَن أعظم الناس حقّاً على الرجل ؟

قال: والده.

قالت: فمَن أعظم الناس حقّاً على المرأة ؟

قال: زوجها...)(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( إنّ رجُلاً مِن الأنصار على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، خرَج في بعض حوائجه، فعهد إلى امرأته عهداً، أنْ لا تخرج مِن بيتها حتّى يقدِم ).

قال: ( وإنّ أباها مرض، فبعثت المرأة إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت: إنّ زوجي خرَج وعهد إليّ أنْ لا أخرج مِن بيتي حتّى يقدِم، وإنّ أبي قد مرِض، فتأمرني أنْ أعوده ؟

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك.

قال: فثقل، فأرسلت إليه ثانياً بذلك، فقالت: فتأمرني أنْ أعوده ؟

فقال: اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك.

قال: فمات أبوها، فبعثت إليه: إنّ أبي قد مات، فتأمرني أنْ أصلّي عليه ؟

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١٤، عن الكافي والفقيه.

٣٧٤

فقال: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك.

قال: فدفن الرجل، فبعث إليها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ اللّه تعالى قد غفَر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك )(١).

وقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : ( أيّما امرأة باتت وزوجها عليها ساخطٌ في حقٍّ، لم تُقبل منها صلاة حتّى يرضى عنها )(٢).

٢ - المداراة:

وعلى الزوجة أنْ تحيط زوجها بحسن العشرة، وجميل الرعاية، ولطف المداراة، وذلك بتفقّد شؤونه، وتوفير وسائل راحته النفسيّة والجسميّة، وحسن التدبير المنزلي، ورعاية عياله، ليستشعر منها العطف والولاء، وتغدو الزوجة بذلك حظيّة عند زوجها، أثيرة لديه، يُبادلها الحبّ والإخلاص. وتكون إلى ذلك قدوةً حسنةً لأبنائها، يستلهمون منها كريم الأخلاق وحُسن الأدب.

ومِن أهمّ صور المداراة أنْ تتفادى المرأة جهدها، عن إرهاق زوجها بالتكاليف الباهضة، والمآرب التي تنوء بها إمكاناته الاقتصاديّة، فذلك ممّا يُسبّب إرباكه واغتمامه، ومِن ثمّ يستثير سخَطه ونفاره مِن زوجته.

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١٥، عن الكافي.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١١٤، عن الكافي والفقيه.

٣٧٥

فعن أبي إبراهيمعليه‌السلام قال: ( جهاد المرأة حُسن التبعّل )(١).

ولا ريبَ أنّ حُسن تبعّل الزوجة وكرَم أخلاقها، يشُدّ أزر الزوج، ويرفع معنويّاته، ويمدّه بطاقات جسميّة ونفسيّة ضخمة، تضاعف مِن قدرته على مواصلة الكفاح والجهاد في سبيل العيش، ويزيده قوّةً وصلابة على معاناة الشدائد والأزمات، كما أنّ شراستها وتمرّدها يُوهن كيانه، ويُضعف طاقته، ويهرمه قبل أوان الهرَم، وفي التاريخ دلائل وشواهد على ذلك.

منها: قصّة الإخوة الثلاثة مِن بني غنّام، حينما جاءهم نفرٌ يحكّمونهم في مشكلة أعياهم حلّها، فانتهوا إلى واحدٍ منهم، فرأوا شيخاً كبيراً، فقال لهم: ادخلوا إلى أخي ( فلان ) فهو أكبر منّي، فاسألوه.

فدخلوا عليه، فخرَج شيخٌ كهل، فقال: سلوا أخي الأكبر منّي.

فدخلوا على الثالث، فإذا هو في المنظر أصغر. فسألوه أولاً عن حالهم، ثمّ أوضح مبيّناً لهم، فقال:

أمّا أخي الذي رأيتموه أوّلاً، هو الأصغر، فإنّ له امرأةُ سوء تسوؤه وقد صبَر عليها مخافة أنْ يُبتلى ببلاءٍ لا صبرَ له عليه، فهَرَمته.

وأمّا أخي الثاني فإنّ عنده زوجة تسوؤه وتسرّه، فهو متماسك الشباب.

وأمّا أنا، فزوجتي تسرّني، ولا تسوؤني، لم يلزمني منها مكروهٌ قط مُنذ صحِبَتني، فشبابي معها متماسك(٢).

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١٤، عن الكافي.

(٢) عن سفينة البحار ج ١ ص ١٣٣ بتصرّف واختصار.

٣٧٦

وهذه وصيّةٌ بليغةٌ لأعرابيّةٍ حكيمة، توصي بها ابنتها ليلة البناء بها: ( أي بنيّة، إنّك فارقت بيتك الذي منه خرَجتِ، وعشّكِ الذي فيه درَجتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، فكوني له أمةً يكن لك عبداً، واحفظي له خِصالاً عشراً:

أمّا الأُولى والثانية: فاصحبيه بالقناعة، وعاشريه بحُسن السمع والطاعة.

وأمّا الثالثة والرابعة: فالتفقّد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشمّ منك إلاّ أطيب ريح.

وأمّا الخامسة والسادسة: فالتفقّد لوقت منامه وطعامه، فإنّ تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.

وأمّا السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والارعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حُسن التقدير، وفي العِيال حُسن التدبير.

وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سرّا، فإنّك إنْ خالفتيه أغَرْت صدره، وإنْ أفشيت سرّه لم تأمني غدره.

ثمّ إيّاك والفرح بين يديه إذا كان مهتمّاً، والكآبة بين يديه إذا كان فرِحاً، فانّ الخصلة الأُولى مِن التقصير، والثانية مِن التكدير.

وكوني له أشدّ الناس له إعظاماً يكن أشدّهم لك إكراماً، واعلمي أنّك لا تصلين إلى ما تحبّين، حتّى تُؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحبَبت وكرهت. واللّه يخير لك )(١).

_____________________

(١) مختارات المنفلوطي ص ٢٤٠.

٣٧٧

٣ - الصيانة:

وأهمّ واجبات الزوجة، صيانة شرف زوجها وسمعته، فتتفادى جهدها عمّا يسيئهما ويخدشهما، كالخلاعة والميوعة، وإفشاء أسرار الزوج، وكشف ما يحرص على إخفائه مِن صور الفاقة والعوز، فذلك ممّا يضعف ثقة الزوج بها ويهدّدها بالنفرة والفرقة.

٣٧٨

حقوق الزوجة

وهكذا أولت الشريعة الإسلامية الزوجة عنايةً كُبرى ومنحتها حقوقها الماديّة والأدبيّة، إزاء حقوق الزوج عليها. مُشرّعةً ذلك على أساس الحكمة والعدل، ورعاية مصلحة الزوجين وخيرهما معاً، وهي أُمور:

١ - النفقة:

وهي حقٌّ محتّم على الزوج، يجب أداؤه إليها، وتوفير حاجاتها المعاشيّة، مِن الملبَس والمطعَم والمسكَن، ونحو ذلك مِن مستلزمات الحياة حسب شأنها وعادتها.

والنفقة حقٌّ معلومٌ للزوجة، تتقاضاه من زوجها، وإنْ كانت ثريّةً موسرة، لا يسقط إلاّ بنشوزها وتمرّدها على الزوج. وليس له قسرها على الخدمات المنزليّة، أو إرضاع طفله، إلاّ أنْ تتطوّع بذلك عن رغبةً وإيثاراً.

٣٧٩

التوسعة على العيال:

وقد يسترقّ البُخل بعض النفوس فتنزع إلى الشحّ والتقتير على العيال، متغاضية عن أشواقهم ومآربهم. ومن هنا جاءت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مُحذّرةً من ذلك الإمساك، ومرغّبةً في البِرّ بهم، والتوسعةِ عليهم.

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( عيال الرجل أُسراؤه، وأحبّ العباد إلى اللّه تعالى أحسنُهم صنيعاً إلى أُسرائه )(٢).

وقال أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام : ( عيال الرجل أُسراؤه، فمَن أنعم اللّه عليه نعمةً فليوسّع على أُسرائه، فإنْ لم يفعل أوشك أنْ تزول تلك النعمة )(٣).

وهكذا أثبتت أحاديثهمعليهم‌السلام وباركت جهود الكادحين، في طلب الرزق الحلال، لتموين أزواجهم وعوائلهم، وتوفير وسائل العيش لهم.

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١٧، عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١١٧، عن الفقيه.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١١٧، عن الفقيه.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517