أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333208 / تحميل: 11877
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ويمكن ان تكون الجملة( وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) لها علاقة بالبرق الذي يصنع هذه الغيوم المليئة بالمياه.

الآية الاخرى تشير الى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (1) .

نعم ، فهذا الصوت المدوّي في عالم الطبيعة يضرب به المثل ، فهو مع البرق في خدمة هدف واحد ولهما منافع متعدّدة كما أشرنا إليها ، ويقومان بعملية التسبيح ، وبعبارة اخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن نظام التكوين. فهو كتاب معنوي ، وقصيدة غرّاء ، ولوحة جميلة وجذّابة ، نظام محكم ومنظّم ومحسوب بدقّة ، وبلسان حاله يتحدّث عن علم ومهارة وذوق الكاتب والرسام والمعمار ويحمده ويثني عليه ، كلّ ذرّات هذا العالم لها اسرار ونظام دقيق. وتحكي عن تنزيه الله وخلوّه من النقص والعيوب (وهل التسبيح غير ذلك؟!).

وتتحدّث عن قدرته وحكمته (وهل الحمد غير بيان صفات الكمال؟!).

وقد احتمل بعض الفلاسفة انّ لكلّ ذرّات هذا العالم نوعا من العقل والشعور ، فهي من خلال هذا العقل تسبّح الله وتقدّسه ، ليس بلسان الحال فقط ، بل بلسان المقال ايضا.

وليس الرعد وسائر اجزاء العالم تسبّح بحمده تعالى ، بل حتّى الملائكة( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (2) فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة على عاتقهم ، وبالتالي فهم يخشون العقاب الالهي ، ونحن نعلم انّ الخوف يصيب أولئك الذين يحسّون بمسؤولياتهم ووظائفهم خوف بنّاء يحثّ الشخص على

__________________

(1) للتوضيح اكثر في معنيي التسبيح والتقديس للكائنات سيأتي في ذيل الآية( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الاسراء ، 44.

(2) يقول الشيخ الطوسيرحمه‌الله في تفسيره التبيان : الخيفة بيان لحالة الشخص امّا الخوف فمصدر.

٣٦١

السعي والحركة.

وللتوضيح اكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية الى الصاعقة( وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) ومع كلّ ذلك ـ وبمشاهدة آيات العظمة الالهية في عالم التكوين من السّماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد وأمثالها ، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث ، حتّى في مقابل واحدة منها مثل شرارة البرق ـ نرى انّ هناك جماعة جاهلة تجادل في الله( وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) .

«المحال» في الأصل «الحيلة» بمعنى التدبير السرّي وغير الظاهر ، فالذي له القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية ، ولهذا السبب يستطيع ان ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.

وذكر المفسّرون وجوها عديدة في تفسير( شَدِيدُ الْمِحالِ ) فتارة بمعنى «شديد القوّة» ، او «شديد العذاب» ، او «شديد القدرة» او «شديد الأخذ»(1) .

الآية الاخيرة تشير الى مطلبين :

الاوّل : قوله تعالى :( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ ) فهو يستجيب لدعواتنا ، وهو عالم بدعاء العباد وقادر على قضاء حوائجهم ، ولهذا السبب يكون دعاؤنا ايّاه وطلبنا منه حقّا ، وليس باطلا.

ولكن دعاء الأصنام باطل( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) نعم هكذا في دعوة الباطل ليست اكثر من وهم ، لانّ ما يقولونه من علم وقدرة الأصنام ما هو الّا أوهام وخيال ، او ليس الحقّ هو عين الواقع واصل الخير والبركة؟ والباطل هو الوهم واصل الشرّ والفساد؟ ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالا حيّا ورائعا يقول :( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ

__________________

(1) فسر البعض «المحال» من «المحل ، الماحل» بمعنى المكر والجدال والتصميم على العقوبة ، ولكن ما أشرنا اليه أعلاه هو الصحيح ، والتفسيران قريبا المعنى.

٣٦٢

فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ) . فهل يستطيع احد ان يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يد ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر الّا من انسان مجنون!

وتحتمل الآية تفسيرا آخر ، فهي تشبّه المشركين كمن بسط كفّه في الماء ليتجمع فوقها الماء ، وعند خروجها من الماء لم يجد فيها شيئا منه لانّ الماء يتسرّب من بين أصابع الكفّ المفتوحة.

وهناك تفسير ثالث وهو انّ المشركين ـ لحلّ مشاكلهم ـ كانوا يلجأون الى الأصنام ، فمثلهم مثل الذي يحتفظ بالماء في يده ، هل يحفظ الماء في يد؟! وهناك مثل معروف بين العرب لمن يسعى بدون فائدة يقال له : هو كقابض الماء باليد ، ويقول الشاعر :

فأصبحت فيما كان بيني وبينها

من الودّ مثل القابض الماء باليد

ولكنّنا نعتقد انّ التّفسير الاوّل أوضح!

وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى :( وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) وايّ ضلال اكبر من ان يسعى الإنسان ويجتهد في السبيل الضالّ ولكنّه لا يصل الى مقاصده. ولا يحصل على شيء نتيجة تعبه وجهده.

الآية الأخيرة من هذه المجموعة ، ولكي تبرهن كيف انّ المشركين ضلّوا الطريق تقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) .

* * *

بحوث

1 ـ ما هو المقصود من سجود الكائنات؟

السجدة في هذه الموارد تعني الخضوع والتسليم ، فإنّ جميع الملائكة

٣٦٣

والناس ذوي العقول والأفكار متواضعين لله وخاضعين لأوامره ، وهناك نوعان من السجود ، سجود تكويني وهو انّ الكلّ خاضعون ومسلّمون للقوانين الطبيعيّة مثل الحياة والممات والمرض و و ، والبعض منهم له سجود تشريعي بالاضافة الى السجود التكويني ، فهم بميلهم وإرادتهم يسجدون لله.

2 ـ ما هو معنى( طَوْعاً وَكَرْهاً ) ؟

عبارة( طَوْعاً وَكَرْهاً ) يمكن ان تكون اشارة الى انّ المؤمنين خاضعون لله بميلهم وإرادتهم ، وامّا غير المؤمنين فهم خاضعون كذلك للقوانين الطبيعيّة التي تسير بأمر الله ان شاؤوا وان أبوا.

و (الكره) بضمّ الكاف تعني الكراهية في داخل الإنسان ، و (كره) بفتح الكاف ما حمل عليه الإنسان من خارج نفسه ، وبما انّ الأشخاص غير المؤمنين مقهورون للعوامل الخارجية وللقوانين الطبيعيّة ، استعمل القرآن (كره) بفتح الكاف.

ويحتمل في تفسير( طَوْعاً وَكَرْهاً ) انّ المقصود من «طوعا» هو التوافق والميل الفطري والطبيعي بين الإنسان والأسباب الطبيعيّة (مثل حبّ اي انسان للحياة) والمقصود من «كرها» هو ما فرض على الإنسان من الخارج مثل موت أحد الأشخاص بسبب المرض او اي عامل طبيعي آخر.

3 ـ ما هو معنى كلمة الظلال؟

«الظّلال» جمع «ظل» واستعمال هذه الكلمة في الآية يشير الى انّ المقصود في السجود ليس فقط السجود التشريعي ، فظلال الكائنات ليست خاضعة لارادتهم واختيارهم ، بل هو تسليم لقانون الضوء ، وعلى هذا يكون سجودهم تكويني ، يعني التسليم لقوانين الطبيعيّة.

٣٦٤

وطبيعي ليس المقصود من «الظلال» انّ جميع ما في السّماوات والأرض لها وجود مادّي كي يكون لها ظلال ، ولكن الآية تشير الى تلك الأشياء التي لها ظلال ، فمثلا يقال : انّ جمعا من العلماء وأبنائهم شاركوا في المجلس الكذائي ، وليس المقصود هنا انّ لكلّ العلماء أبناء «فتدبّر».

وعلى ايّة حال فإنّ الظلّ امر عدمي ، وهو ليس اكثر من فقدان النّور ، ولكن له آثارا ووجودا بسبب النّور المحيط به ، ولعلّ الآية تشير الى هذه النقطة ، وهي انّه حتّى الظلال خاضعة لله.

4 ـ ما هو معنى كلوة( الْآصالِ ) ؟

«الآصال» جمع «اصل» وهي جمع «اصيل» ومعناه آخر وقت من النهار ، ولذلك يعتبر اوّل الليل ، والغدو جمع غداة بمعنى اوّل النهار.

ورغم انّ السجود والخضوع للأشياء الكونية في مقابل الأوامر الالهيّة دائمة ومستمرّة في كلّ وقت ، ولكن ذكرها هنا في موقعين (الصبح والعشاء) امّا انّه كناية عن دوام الوقت ، فمثلا تقول : انّ فلانا يطلب العلم صباحا ومساء ، فالمقصود وهو انّه في كلّ وقت يطلب العلم ، وامّا ان يكون المقصود من الآية ما جاء في الكلام عن الظلال والتي تكون واضحة اكثر في اوّل النهار وآخره.

* * *

٣٦٥

الآية

( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) )

التّفسير

لماذا عبادة الأصنام؟

كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة الله واثبات وجوده ، وهذه الآية تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدّة جهات ، حيث تخاطب ـ اوّلا ـ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تقول :( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ثمّ تأمر النّبي ان يجيب على السؤال قبل ان ينتظر جوابهم( قُلِ اللهُ ) ثمّ انّه يلومهم ويوبّخهم بهذه الجملة( قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) .

لقد بيّن ـ اوّلا ـ عن طريق ربوبيته انّه المدبّر والمالك لهذا العالم ، ولكلّ خير

٣٦٦

ونفع من جانبه ، وقادر على دفع اي شرّ وضرّ ، وهذا يعني انّكم بقبولكم لربوبيته يجب ان تطلبوا كلّ شيء من عنده لا من الأصنام العاجزة عن حلّ ايّة مشكلة لكم. ثمّ يذهب الى ابعد من ذلك حيث يقول : انّ هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا فكيف يمكنها ان تنفعكم او تضرّكم؟ وهم والحال هذه لا يحلّون اي عقدة لكم حتّى لو قمتم بعبادتهم ، فهؤلاء لا يستطيعون تدبير أنفسهم فما ذا ينتظر منهم؟

ثمّ يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدّد فيها وضع الافراد الموحّدين والمشركين ، فيقول اوّلا :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ) فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر ، ولا يصحّ قياس الأصنام على الخالق جلّ وعلا.

ويقول ثانيا :( أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ) كيف يمكن ان نساوي بين الظلام الذي يعتبر قاعدة الانحراف والضلال ، وبين النّور المرشد والباعث للحياة ، وكيف يمكن ان نجعل الأصنام التي هي الظّلمات المحضة الى جنب الله الذي هو النّور المطلق ، وما المناسبة بين الايمان والتوحيد اللذان هما نور القلب والروح ، وبين الشرك اصل الظلام؟!

ثمّ يدلل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول :( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) والحال ليس كذلك ، فإنّ المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها ، فهم يعلمون انّ الله خالق كلّ شيء ، وعالم الوجود مرتبط به ، ولذلك تقول الآية :( قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) .

* * *

٣٦٧

بحوث

1 ـ الخالقية والرّبوبية يتطلّبان العبادة

يمكن ان يستفاد من الآية أعلاه انّ الخالق هو الربّ المدبّر ، لانّ الخلقة امر مستمر ودائمي ، وليس من خلق الكائنات يتركهم وشأنهم ، بل انّه تعالى يفيض بالوجود عليهم باستمرار وكلّ شيء يأخذ وجوده من ذاته المقدّسة ، وعلى هذا فنظام الخلقة وتدبير العالم كلّها بيد الله ، ولهذا السبب يكون هو النافع والضارّ. وغيره لا يملك شيء الّا منه ، فهل يوجد احد غير الله احقّ بالعبادة؟

2 ـ كيف يسأل ويجيب بنفسه؟

بالنظر الى الآية أعلاه يطرح هذا السؤال : كيف امر الله نبيّه ان يسأل المشركين : من خلق السماوات والأرض؟ وبعدها بدون ان ينتظر منهم الجواب يأمر النّبي ان يجيب هو على السؤال وبدون فاصلة يوبّخ المشركين على عبادتهم الأصنام ، اي طراز هذا في السؤال والجواب؟

ولكن مع الالتفات الى هذه النقطة يتّضح لنا الجواب وهو انّه في بعض الأحيان يكون الجواب للسؤال واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار. فمثلا نسأل أحدا : هل الوقت الآن ليل ام نهار؟ وبلا فاصلة نجيب نحن على السؤال فنقول : الوقت بالتأكيد ليل. وهذه كناية لطيفة ، حيث انّ الموضوع واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار للجواب ، بالاضافة الى انّ المشركين يعتقدون بخلق الله للعالم ولم يقولوا ابدا انّ الأصنام خالقة السّماء والأرض ، بل كانوا يعتقدون بشفاعتهم وقدرتهم على نفع الإنسان ودفع الضرر عنه ، ولهذا السبب كانوا يعبدوهم. وبما انّ الخالقية غير منفصلة عن الرّبوبية يمكن ان نخاطب المشركين بهذا الحديث ونقول : أنتم الذين تقولون بأنّ الله خالق ، يجب ان تعرفوا انّ الربوبية لله كذلك ،

٣٦٨

ويختصّ بالعبادة ايضا لذلك.

3 ـ العين المبصرة ونور الشمس شرطان ضروريان

يشير ظاهر المثالين (الأعمى والبصير) و (الظّلمات والنّور) الى هذه الحقيقة ، وهي انّ النظر يحتاج الى شيئين : العين المبصرة ، وشعاع الشمس ، بحيث لو انتفى واحد منهما فإنّ الرؤية لا تتحقّق ، والآن يجب ان نفكّر : كيف حال الافراد المحرومين من البصر والنّور؟ المشركون المصداق الواقعي لهذا ، فقلوبهم عمي ومحيطهم مليء بالكفر وعبادة الأصنام ، ولهذا السبب فهم في تيه وضياع. وعلى العكس فالمؤمنون بنظرهم الى الحقّ ، واستلهامهم من نور الوحي وارشادات الأنبياء عرفوا مسيرة حياتهم بوضوح.

4 ـ هل انّ خلق الله لكلّ شيء دليل على الجبر؟

استدلّ جمع من اتباع مدرسة الجبر انّ جملة( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) في الآية أعلاه لها من السعة بحيث تشمل حتّى عمل الافراد ، فالله خالق اعمالنا ونحن غير مختارين.

يمكن ان نجيب على هذا القول بطريقين :

اوّلا : الجمل الاخرى للآية تنفي هذا الكلام ، لانّها تلوم المشركين بشكل اكيد فإذا كانت اعمالنا غير اختيارية ، فلما ذا هذا التوبيخ؟! وإذا كانت ارادة الله ان نكون مشركين فلما ذا يلومنا؟! ولماذا يسعى بالأدلّة العقليّة لتغيير مسيرتهم من الضلالة الى الهداية؟ كلّ هذا دليل على أنّ الناس أحرار في انتخاب طريقهم.

ثانيا : انّ الخالقية بالذات من مختصّات الله تعالى. ولا يتنافى مع اختيارنا في الأفعال ، لانّ ما نمتلكه من القدرة والعقل والشعور ، وحتّى الاختيار والحرية ، كلّها

٣٦٩

من عند الله ، وعلى هذا فمن جهة هو الخالق (بالنسبة لكلّ شيء وحتّى أفعالنا) ومن جهة اخرى نحن نفعل باختيارنا ، فهما في طول واحد وليس في عرض وأفق واحد ، فهو الخالق لكلّ وسائل الأفعال ، ونحن نستفيد منها في طريق الخير او الشرّ.

فمثلا الذي يؤسّس معملا لتوليد الكهرباء او لإنتاج أنابيب المياه ، يصنعها ويضعها تحت تصرّفنا ، فلا يمكن ان نستفيد من هذه الأشياء الّا بمساعدته ، ولكن بالنتيجة يكون التصميم النهائي لنا ، فيمكن ان نستفيد من الكهرباء لامداد غرفة عمليات جراحية وانقاذ مريض مشرف على الموت ، او نستخدمها في مجالس اللهو والفساد ، ويمكن ان نروي بالماء عطش انسان ونسقي وردا جميلا ، او نستخدم الماء في إغراق دور الناس وتخريبها.

* * *

٣٧٠

الآية

( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (17) )

التّفسير

وصف دقيق لمنظر الحقّ والباطل :

يستند القرآن الكريم ـ الذي يعتبر كتاب هداية وتربية ـ في طريقته الى الوقائع العينيّة لتقريب المفاهيم الصعبة الى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسّية الرائعة من حياة الناس ، وهنا ـ ايضا ـ لأجل ان يجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك ، الايمان والكفر ، الحقّ والباطل ، يضرب مثلا واضحا جدّا لذلك

يقول اوّلا :( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) الماء عماد الحياة واصل النمو والحركة ،

٣٧١

( فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها ، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض ، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كلّ ما يقف امامها ، وفي هذه الأثناء يظهر الزّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم :( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ) .

«الرابي» من «الربو» بمعنى العالي او الطافي ، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ من نفس هذا الأصل.

وليس ظهور الزبد منحصرا بهطول الأمطار ، بل( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ) (1) اي الفلزات المذابة بالنّار لصناعة أدوات الزينة منها او صناعة الوسائل اللازمة في الحياة.

بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتّى للفلزات وللمتاع ، يستنتج القرآن الكريم( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ) ثمّ يتطرّق الى شرحه فيقول :( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) .

فأمّا الزبد الذي لا فائدة فيه فيذهب جفاء ويصير باطلا متلاشيا ، وامّا الماء الصافي النقي المفيد فيمكث في الأرض او ينفذ الى الاعماق وتتكوّن منه العيون والآبار تروي العطاش ، وتروي الأشجار لتثمر ، والازهار لتتفتّح ، وتمنح لكلّ شيء الحياة.

وفي آخر الآية ـ للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال ـ يقول تعالى :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ ) .

* * *

__________________

(1) تشير هذه الآية الى الافران التي تستعمل لصهر الفلزان ، فهذه الافران تتميّز بوجود النّار من تحتها ومن فوقها يعني نار تحت الفلز ونار فوقه ، وهذه من أفضل انواع الافران حيث تحيط بها النّار من كلّ جانب.

٣٧٢

بحوث

هذا المثال البليغ الذي عبّر عنه القرآن الكريم بألفاظ موزونة وعبارات منظّمة. وصوّر فيها الحقّ والباطل بأروع صورة ، فيه حقائق مخفيّة كثيرة ونشير هنا الى قسم منها :

1 ـ ما هي علائم معرفة الحقّ والباطل؟

يحتاج الإنسان في بعض الأحيان لمعرفة الحقّ والباطل ـ إذا أشكل عليه الأمر ـ الى علائم وأمثال حتّى يتعرّف من خلالها على الحقائق والأوهام. وقد بيّن القرآن الكريم هذه العلامات من خلال المثال أعلاه :

الف : ـ الحقّ مفيد ونافع دائما ، كالماء الصافي الذي هو اصل الحياة. امّا الباطل فلا فائدة فيه ولا نفع ، فلا الزبد الطافي على الماء يروي ظمآنا أو يسقي أشجارا ، ولا الزبد الظاهر من صهر الفلزات يمكن ان يستفاد منه للزينة او للاستعمالات الحياتية الاخرى ، وإذا استخدمت لغرض فيكون استخدامها رديئا ولا يؤخذ بنظر الاعتبار كما نستخدم نشارة الخشب للإحراق.

باء : ـ الباطل هو المستكبر والمرفّه كثير الصوت ، كثير الأقوال لكنّه فارغ من المحتوى ، امّا الحقّ فمتواضع قليل الصوت ، وكبير المعنى ، وثقيل الوزن(1) .

جيم ـ الحقّ يعتمد على ذاته دائما ، امّا الباطل فيستمدّ اعتباره من الحقّ ويسعى للتلبّس به ، كما انّ (الكذب يتلبّس بضياء الصدق) ولو فقد الكلام الصادق من العالم لما كان هناك من يصدق الكذب. ولو فقدت البضاعة السليمة من العالم لما وجد من يخدع ببضاعة مغشوشة. وعلى هذا فوجود الباطل راجع الى شعاعه الخاطف واعتباره المؤقّت الذي سرقه من الحقّ ، امّا الحقّ فهو مستند الى نفسه واعتباره منه.

__________________

(1) يقول الامام عليعليه‌السلام في وصفه أصحابه يوم الجمل «وقد ارعدوا وابرقوا ومع هذين الأمرين الفشل ، ولسنا نرعد حتّى نوقع ولا نسيل حتّى نمطر».

٣٧٣

2 ـ ما هو الزّبد؟

«الزبد» بمعنى الرغوة التي تطفوا على السائل ، والماء الصافي اقلّ رغوة ، لانّ الزبد يتكوّن بسبب اختلاط الأجسام الخارجية مع الماء ، ومن هنا يتّضح انّ الحقّ لو بقي على صفائه ونقائه لم يظهر فيه الخبث ابدا ، ولكن لامتزاجه بالمحيط الخارجي الملوّث فإنّه يكتسب منه شيئا ، فتختلط الحقيقة مع الخرافة ، والحقّ بالباطل ، والصافي بالخابط. فيظهر الزبد الباطل الى جانب الحقّ.

وهذا هو الذي يؤكّده الامام عليعليه‌السلام حيث يقول : لو انّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين ، ولو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه السن المعاندين».(1) .

يقول بعض المفسّرين انّ للآية أعلاه ثلاث امثلة : «نزول آيات القرآن» تشبيه بنزول قطرات المطر للخير ، «قلوب الناس» شبيهة بالأرض والوديان وبقدر وسعها يستفاد منها ، «وساوس الشيطان» شبيهة بالزبد الطافي على الماء ، فهذا الزبد ليس من الماء ، بل نشأ من اختلاط الماء بمواد الأرض الاخرى ، ولهذا السبب فوساوس النفس والشيطان ليست من التعاليم الالهية ، بل من تلوّث قلب الإنسان ، وعلى ايّة حال فهذه الوساوس تزول عن قلوب المؤمنين ويبقى صفاء الوحي الموجب للهداية والإرشاد.

3 ـ الاستفادة تكون بقدر الاستعداد واللياقة!

يستفاد من هذه الآية ـ ايضا ـ انّ مبدا الفيض الالهي لا يقوم على البخل والحدود الممنوعة ، كما انّ السحاب يسقط امطاره في كلّ مكان بدون قيد او

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 50.

٣٧٤

شرط ، وتستفيد الأرض والوديان منها على قدر وسعها ، فالأرض الصغيرة تستفيد اقلّ والأرض الواسعة تستفيد اكثر ، وهكذا قلوب الناس في مقابل الفيض الالهي.

4 ـ الباطل والأوضاع المضطربة

عند ما يصل الماء الى السهل او الصحراء ويستقرّ فيها ، تبدا المواد المختلطة مع الماء بالترشّح ويذهب الزبد فيظهر الماء النقي مرّة ثانية ، وعلى هذا النحو فالباطل يبحث عن سوق مضطربة حتّى يستفيد منها ، ولكن بعد استقرار السوق وجلوس كلّ تاجر في مكانه المناسب وتحقق الالتزامات والضوابط في المجتمع ، لا يجد الباطل له مكانا فينسحب بسرعة!

5 ـ الباطل يتشكّل بأشكال مختلفة

انّ واحدة من خصائص الباطل هي انّه يغيّر لباسه من حين لآخر ، حتّى إذا عرفوه بلباسه يستطيع ان يخفي وجهه بلباس آخر ، وفي الآية أعلاه اشارة لطيفة لهذه المسألة ، حيث تقول : لا يظهر الزبد في الماء فقط ، بل يظهر حتّى في الافران المخصوصة لصهر الفلزات بشكل ولباس آخر ، وبعبارة اخرى فإنّ الحقّ والباطل موجودان في كلّ مكان كما يظهر الزبد في السوائل بالشكل المناسب لها. وعلى هذا يجب ان لا نخدع بتنوّع الوجوه وان نعرف أوجه الباطل ونطرحه جانبا.

6 ـ ارتباط البقاء بالنفع

تقول الآية :( وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) ليس الماء فقط يبقى ويذهب الزبد الطافي عليه ، بل حتّى الفلزات تلك التي تستعمل للزينة او للمتاع

٣٧٥

يبقى الخالص منها ويذهب خبثه. وعلى هذا النحو فالناس والمدارس والمبادئ لهم حقّ الحياة على قدر منفعتهم ، وإذا ما رأينا بقاء اصحاب المبادئ الباطلة لفترة فإنّ ذلك بسبب وجود ذلك المقدار من الحقّ الذي اختلط فيه ، وبهذا المقدار له حقّ الحياة.

7 ـ كيف يطرد الحقّ الباطل؟

«الجفاء» بمعنى الإلقاء والإخراج ، ولهذا نكتة لطيفة وهي انّ الباطل يصل الى درجة لا يمكن فيها ان يحفظ نفسه ، وفي هذه اللحظة يلقى خارج المجتمع ، وهذه العملية تتمّ في حالة هيجان الحقّ ، فعند غليان الحقّ يظهر الزبد ويطفو على سطح ماء القدر ويقذف الى الخارج ، وهذا دليل على انّ الحقّ يجب ان يكون في حالة هيجان وغليان دائما حتّى يبعد الباطل عنه.

8 ـ الباطل مدين للحقّ ببقائه

كما قلنا في تفسير الآية ، فلو لم يكن الماء لما وجد الزبد ، ولا يمكن له ان يستمر ، كما انّه لولا وجود الحقّ فإنّ الباطل لا معنى له ولو لم يكن هناك اشخاص صادقون لما وقع احد تحت تأثير الافراد الخونة ولما صدّق بمكرهم ، فالشعاع الكاذب للباطل مدين في بقائه لنور الحقّ.

9 ـ صراع الحقّ والباطل مستمر

المثال الذي ضربه لنا القرآن الكريم في تجسيم الحقّ والباطل ليس مثالا محدودا في زمان ومكان معينين ، فهذا المنظر يراه الناس في جميع مناطق العالم المختلفة ، وهذا يبيّن انّ عمل الحقّ والباطل ليس مؤقتا وآنيا. وجريان الماء

٣٧٦

العذب والمالح مستمر الى نفخ الصور ، الّا إذا تحوّل المجتمع الى مجتمع مثالي (كمجتمع عصر الظهور وقيام الامام المهديعليه‌السلام ) فعنده ينتهي هذا الصراع ، وينتصر الحقّ ويطوي بساط الباطل ، وتدخل البشرية مرحلة جديدة من تاريخها ، والى ان نصل الى هذه المرحلة فالصراع مستمر بين الحقّ والباطل ، ويجب ان نحدّد موقفنا في هذا الصراع.

10 ـ تزامن الحياة مع السعي والجهاد

المثال الرائع أعلاه يوضّح هذا الأساس لحياة الناس ، وهو انّ الحياة بدون جهاد غير ممكنة ، والعزّة بدون سعي غير ممكنة ايضا ، لانّه يقول : يجب ان يذهب الناس الى المناجم لتهيئة مستلزمات حياتهم في المتاع والزينة( ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ ) . وللحصول على هذين الشيئين يجب تنقية المواد الخام من الشوائب بواسطة نيران الافران للحصول على الفلز الخالص الصالح للاستعمال ، وهذا لا يتمّ الّا من خلال السعي والمجاهدة والعناء.

وهذه هي طبيعة الحياة حيث يوجد الى جانب الورد الشوك ، والى جانب النصر توجد المصاعب والمشكلات ، وقالوا في القديم : (الكنوز في الخرائب وفوق كلّ كنز يوجد ثعبان نائم) ، فإنّ هذه الخربة والثعبان تمثّلان المشاكل والصعوبات للحصول على الموفّقية في الحياة.

ويؤكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي انّ التوفيق لا يحصل الّا بتحمّل المصاعب والمحن ، يقول جلّ وعلا في الآية (214) من سورة البقرة :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) .

٣٧٧

الأمثال في القرآن :

انّ دور المثال في توضيح وتفسير الغايات له اهميّة كبيرة غير قابلة للإنكار ، ولهذا السبب لا يوجد اي علم يستغني عن ذكر المثال لاثبات وتوضيح الحقائق وتقريب معناها الى الأذهان ، وتارة ينطبق المثال مع المقصود بشكل يجعل المعاني الصعبة تنزل من السّماء الى الأرض وتكون مفهومة للجميع ، فيمكن ان يقال : انّ المثال له دور مؤثّر في مختلف الأبحاث العلمية والتربوية والاجتماعية والاخلاقية وغيرها ، ومن جملة تأثيراته :

1 ـ المثال يجعل المسائل محسوسة :

من المعلوم أنّ الإنسان يأنس بالمحسوسات أكثر ، أمّا الحقائق العلمية المعقّدة فهي بعيدة المنال. والأمثال تقرّب هذه الفواصل وتجعل الحقائق المعنوية محسوسة ، وإدراكها يسير ولذيذ.

2 ـ المثال يقرّب المعنى :

تارة يحتاج الإنسان لاثبات مسألة منطقية او عقلية الى ادلّة مختلفة ، ومع كلّ هذه الادلّة تبقى هناك نقاط مبهمة محيطة بها ، ولكن عند ذكر مثال واضح منسّق مع الغاية يقرّب المعنى ويعزّز الادلّة ويقلّل من كثرتها.

3 ـ المثال يعمّم المفاهيم

كثير من البحوث العلمية بشكلها الاصلي يفهمها الخواص فقط ، ولا يستفيد منها عامّة الناس ، ولكن عند ما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم ، ويستفيد منها الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية ، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر

٣٧٨

والثقافة.

4 ـ المثال ، يزيد في درجة التصديق :

مهما تكن الكليّات العقلية منطقية ، فإنّها لا تخلق حالة اليقين الكافية في ذهن الإنسان ، لانّ الإنسان يبحث عن اليقين في المحسوسات ، فالمثال يجعل من المسألة الذهنيّة واقعا عينيّا ، ويوضّحها في العالم الخارجي ، ولهذا السبب فإنّ له اثره في زيادة درجة تصديق المسائل وقبولها.

5 ـ المثال يخرس المعاندين :

كثيرا ما لا تنفع الادلّة العقليّة والمنطقيّة لاسكات الشخص المعاند حيث يبقى مصرّا على عناده ولكن عند ما نصب الحديث في قالب المثال نوصد الطريق عليه بحيث لا يبقى له مجال للتبرير ولا لاختلاق الاعذار. ولا بأس ان نطرح هنا بعض الامثلة حتّى نعرف مدى تأثيرها : نقرا في القرآن الكريم انّ الله سبحانه وتعالى يرد على الذين اشكلوا على ولادة السّيد المسيحعليه‌السلام كيف انّه ولد من امّ بغير أب( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) .(1)

لاحظوا جيدا ، فنحن مهما حاولنا ان نقول للمعاندين : انّ هذا العمل بالنسبة الى قدرة الله المطلقة لا شيء ، فمن الممكن ان يحتجّوا ايضا ، ولكن عند ما نقول لهم هل تعتقدون انّ آدم خلقه الله من تراب؟ فإنّ الله الذي له هذه القدرة كيف لا يستطيع إيجاد شخص بدون أب؟!

__________________

(1) آل عمران ، 59.

٣٧٩

وبالنسبة الى المنافقين الذين يقضون في ظلّ نفاقهم ايّاما مريحة ظاهرا ، فإنّ القرآن الكريم يضرب مثالا رائعا عن حالهم ، فيشبهّهم بالمسافرين في الصحراء فيقول( يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(1) .

فهل يوجد أوضح من هذا الوصف للمنافق التائه في الطريق ، ليستفيد من نفاقه وعمله كي يستمرّ في حياته؟

وعند ما تقول للافراد : انّ الإنفاق يضاعفه لكم الله عدّة مرّات قد لا يستطيعون ان يفهموا هذا الحديث ، ولكن يقول القرآن الكريم :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (2) ، وهذا المثال الواضح اقرب للإدراك.

وغالبا ما نقول : انّ الرياء لا ينفع الإنسان ، فقد يكون هذا الحديث ثقيلا على البعض ، كيف يمكن لهذا العمل ان يكون غير مفيد ، فبناء مستشفى او مدرسة حتّى لو كان بقصد الرياء لماذا ليست له قيمة عند الله؟!

ولكن يضرب الله مثالا رائعا حيث يقول :( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ) .(3) ولكي لا نبتعد كثيرا فالآية التي نحن بصدد تفسيرها تبحث في مجال الحقّ والباطل وتجسّم هذه المسألة بشكل دقيق ، المقدّمات والنتائج ، والصفات والخصوصيات والآثار ، وتجعلها قابلة الفهم للجميع وتسكت المعاندين ، واكثر

__________________

(1) البقرة ، 20.

(2) البقرة ، 261.

(3) البقرة ، 264.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

مصادفتهنّ في الطريق والتحدّث إليهنّ - ولو كُنَّ أُمّهات وأزواجاً أو شقيقات - تحبط أعمالهم وجهودهم الروحيّة )(١).

وهكذا كان المجتمع الغربي فيما خلا تلك العصور، يستخفّ بالمرأة ولا يقيم لها وزناً. ( فقد عُقِد في فرنسا اجتماع سنة ٥٨٦ م يبحث شأن المرأة، وما إذا كانت تُعَدّ إنساناً أو لا تُعَدّ إنساناً. وبعد النقاش، قرّر المجتمعون أنّ المرأة إنسان ولكنّها مخلوقةٌ لخدمة الرجل )(٢).

وفي انجلترا حرّم ( هنري الثامن ) على المرأة الانجليزيّة قراءة الكتاب المقدّس، وظلّت النساء حتّى سنة ١٨٥٠ م غير معدودات مِن المواطنين، وظللن حتّى سنة ١٨٨٢ م ليس لهنّ حقوق شخصيّة، ولا حقّ لهنّ في التملّك الخالص، وإنّما كانت المرأة ذائبة في أبيها أو زوجها(٣).

المرأة في المجتمع العربي الجاهلي:

وقد لخّص الأستاذ الندوي حياة المرأة في المجتمع العربي الجاهلي، حيث قال:

( وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غَبنٍ وحَيف، تُؤكَل حقوقها وتُبتزّ أموالها، وتُحرم مِن إرثها، وتُعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج مِن أنْ تنكح زوجاً ترضاه، وتورَث كما يُورَث المتاع أو الدابّة، وكانت المرأة

_____________________

(١) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للسيّد الندوي ص ١٦٠.

(٢)، (٣) مقارنة الأديان، للدكتور احمد شلَبي ج ٣ ص ٢٠٠.

٤٠١

في الجاهليّة يُطفَّف معها الكيل، فيتمتّع الرجل بحقوقه ولا تتمتّع هي بحقوقها، ومِن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرّم على الإناث، وكان يسوغ للرجل أنْ يتزوّج ما يشاء مِن النساء مِن غير تحديد.

وقد بلغت كراهة البنات إلى حدّ الوأد، وكانوا يقتلون البنات بقسوة، فقد يتأخّر وأد الْمَوْؤُودَةُ لسفَر الوالد وشغله، فلا يئدها إلاّ وقد كبُرت وصارت تعقل، وكان بعضهم يلقي الأُنثى مِن شاهق )(١).

المرأة في الحضارة الغربية الحديثة:

ولمّا بلغت الحضارة الغربيّة الحديثة أوجّها، نالت المرأة فيها - بعد جهادٍ شاقٍّ وتضحياتٍ غالية - حرّيتها وحقوقها، وغدت تستشعر المساواة بالرجل، وتشاطره الأعمال في الدوائر والمتاجر والمصانع، ومختلف الشؤون والنشاطات الاجتماعيّة.

وابتهجت المرأة الغربيّة بهذه المكاسب التي نالتها بالدموع والمآسي، متجاهلة واقع غبنها وخُسرانها في هذا المجال. ولو أنّها حاكمت وعادلت في ميزان المنطق بين المغانم التي حقّقتها والمغارم التي حاقَت بها... لأحسّت بالأسى والخيبة والخُسران.

فقد خدعها دُعاة التحرّر في هذه الحضارة الماديّة، وغرّروا بها واستغلّوا سذاجتها استغلالاً ماكراً دنيئاً. استغلّوها لمضاربة الرجل،

_____________________

(١) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للسيّد الندوي ص ٥٧، بتصرّف.

٤٠٢

ومكايدته حينما بدأ يُطالب بمضاعفة أُجور العمل وتخفيف ساعاته، فاستجابت لذلك... تعمل أعمال الرجل قانعةً بأجرٍ دون أجره.

واستغلّوا أُنوثتها في الحقل التجاري لمضاعفة الأرباح الماديّة، لقدرتها على اجتذاب الزبائن وتصريف البضائع، مستثيرين كوامن الجِنس في نفوسهم فأيّ استغلال أنكى وأسوأ مِن هذا الاستغلال ؟

وكان عليها بعد هذا أنْ تضطلع بمهامّها النسويّة مِن الحمل والوضع والتربية والتدبير المنزلي، إلى جانب كفاحها في سبيل العيش كيلا يمسّها السغب والحرمان لنكول الرجل عن إعالتها في الغالب.

وبالرغم ممّا حقّقته المرأة الأُوربيّة مِن صنوف الانجازات والمكاسب، فإنّها تُعتبر في المعيار المنطقي خاسرةً مُخفقة، قد خَسِرت إزاء تحرّرها دينها وأخلاقها وكرامتها، وأصبحت في حالة مزرية مِن التبذّل والإسفاف. كما شهِد به الغربيّون أنفسهم ممّا أوضحناه سالفاً ونزيده إيضاحاً في الأبحاث التالية.

تحرير المرأة في الإسلام

وندرك مِن هذا العرض السالف مبلغ التخبّط والتأرجُح في تقييم المرأة عِبر العصور القديمة والحديثة، دون أنْ تهتدي الأُمَم إلى القصد والاعتدال، ممّا أساء إلى المرأة والمجتمع الذي تعيشه إساءةً بالغة.

فلمّا انبثق فجر الإسلام وأطلّ على الدنيا بنوره الوضّاء، أسقط تلك التقاليد الجاهليّة وأعرافها البالية، وأشاد للإنسانيّة دستوراً خالداً يُلائم

٤٠٣

العقول النيّرة والفطرة السليمة، ويُواكب البشريّة عِبر الحياة.

فكان مِن إصلاحاته أنّه صحّح قِيَم المرأة وأعاد إليها اعتبارها، ومنَحها حقوقها الماديّة والأدبيّة بأُسلوبٍ قاصدٍ حكيم، لا إفراط فيه ولا تفريط، فتبوّأت المرأة المسلمة في عهده الزاهر منزلةً رفيعةً لم تبلغها نِساء العالم.

لقد أوضح الإسلام واقع المرأة، ومساواتها بالرجل في المفاهيم الإنسانية، واتّحادها معه في المبدأ والمعاد، وحرمة الدم والعرض والمال، ونيل الجزاء الأُخروي على الأعمال، ليُسقط المزاعم الجاهليّة إزاء تخلّف المرأة عن الرجل في هذه المجالات.

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( الحجرات: ١٣ ).

( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( النحل: ٩٧ ).

وكان بعض الأعراب يئدُ البنات ويقتلهنّ ظُلماً وعدواناً، فجاء ناعياً ومُهدّداً على تلك الجريمة النكراء، ومنَح البنت شرف الكرامة وحقّ الحياة.

( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) ( التكوير: ٨ - ٩ ).

( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً ) ( الإسراء: ٣١ ).

وقضت الأعراف الجاهليّة أنْ تسوم المرأة ألوان التحكّم والافتئات، فتارة تقسرها على التزويج ممّن لا ترغب فيه، أو تعضلها مِن الزواج.

٤٠٤

وأُخرى تُورَث كما يُورث المَتاع، يتحكّم بها الوارث كيف يشاء، فله أنْ يزوّجها ويبتزّ مهرها، أو يعضلّها حتّى تفتدي نفسها منه أو تموت، فيرثُها كُرهاً واغتصاباً. وقد حرّرها الإسلام من ذلك الأسر الخانق والعبوديّة المقيتة، ومنَحها حريّة اختيار الزوج الكفوء، فلا يصحّ تزويجها إلاّ برضاها، وحرّم كذلك استيراثها قسراً وإكراها:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) ( النساء: ١٩ ).

وكانت التقاليد الجاهليّة، وحتّى الغربيّة منها، إلى عهدٍ قريب تُمنع المرأة حقوق الملكيّة، كما حرمتها الجاهليّة العربيّة حقوق الإرث ؛ لأنّ الإرث في عرفهم لا يستحقّه إلاّ رجال القبيلة وحماتها المدافعون عنها بالسيف. وقد أسقط الإسلام تلك التقاليد الزائفة، ومنح المرأة حقوقها الملكيّة والإرثيّة، وقرّر نصيبها من الإرث.. أُمّاً كانت، أو بِنتاً، أو أُختا أو زوجة:

( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ) ( النساء: ٣٢ ).

( لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ) ( النساء: ٧ ).

وفرض للزوجة على زوجها حقّ الإعالة، ولو كانت ثريّةً موسرة.

وقد عرَضنا في حقوق الزوجة طرَفاً مِن وصايا أهل البيتعليهم‌السلام في رعايتها وتكريمها، تعرب عن اهتمام الشريعة الإسلاميّة بشؤون المرأة ورفع معنوياتها.

واستطاع الإسلام بفضل مبادئه وسموّ آدابه أنْ يجعل المرأة المسلمة

٤٠٥

قدوةً مثالية لبناء الأُمم، في رجاحة العقل وسموّ الإيمان وكرم الأخلاق، ورفع منزلتها الاجتماعيّة، حتّى استطاعت أنْ تناقش وتحاجّ الخليفة الثاني إبّان خلافته، وهو يخطب في المسلمين وينهاهم عن المُغالاة في المهور، فانبَرت له امرأةٌ مِن صفّ الناس، وقالت: ما ذاك لك.

فقال: ولِمَه ؟

أجابت: لأنّ اللّه تعالى يقول:( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ) ( النساء: ٢ ).

فرجع عمر عن رأيه، وقال: أخطأ عمر وأصابت امرأة.

وقد سجّل التاريخ صفحات مشرّقة بأمجاد المرأة المسلمة ومواقفها البطوليّة في نصرة الإسلام، يقصّها الرواة بأُسلوب رائع ممتع يستثير الإعجاب والإكبار.

فهذه ( نسيبة المازنيّة ) كانت تخرج مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزَواته، وكان ابنها معها، فأراد أنْ ينهزم ويتراجع، فحملت عليه، فقالت: يا بني، إلى أين تفرّ عن اللّه وعن رسوله ؟ فردّته.

فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها، فحملت على الرجل فقتلته. فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( بارك اللّه عليك يا نسيبة ).

وكانت تقي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بصدرها وثديها، حتّى أصابتها جراحات كثيرة(١).

وحجّ معاوية سنة من سنيّه، فسأل عن امرأة مِن بني كنانة كانت

_____________________

(١) عن سفينة البحار ج ٢ ص ٥٨٥.

٤٠٦

تنزل بالجحون، يُقال لها: ( دارميّة الجحون ) وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها، فبعث إليها. فجيء بها، فقال: ما حالك يابنة حام ؟ قالت: لستُ لحام إنْ عبتني، إنّما أنا امرأةٌ من بني كنانة، ثمت من بني أبيك.

قال: صدقت، أ تدرين لِمَ بعثت إليك ؟

قالت: لا يعلم الغيب إلاّ اللّه.

قال: بعثت إليك لأسألك، علامَ أحببت عليّاً وأبغضتني، وواليته وعاديتني ؟

قالت: أوَ تعفيني يا أمير المؤمنين.

قال: لا أعفيك.

قالت: أمّا إذا أبيت، فأنّي أحببتُ عليّاً على عدلِه في الرعيّة، وقسمه بالسويّة. وأبغضتُك على قتالِ مَن هو أولى منك بالأمر، وطلْبَتك ما ليس لك بحق. ووالَيت عليّاً على ما عقَد له رسول اللّه مِن الولاء، وعلى حبّه للمساكين، وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكِ الدماء، وشقّك العصا وجَورك في القضاء، وحكمك بالهوى.

قال: فلذلك انتفخ بطنك.

قالت: يا هذا، بهندٍ واللّه، يُضرب المثل في ذلك لا بي.

قال معاوية: يا هذه، أربعي، فإنّا لم نقل إلاّ خيراً، فرجَعت وسكَنَت.

فقال لها: يا هذه، هل رأيت عليّاً ؟

٤٠٧

قالت: أي واللّه لقد رأيته.

قال: فكيف رأيتيه.

قالت: رأيته واللّه، لم يفتنه المُلك الذي فتَنَك، ولم تشغَلُه النِّعمة التي شغَلَتك.

قال: هل سمِعتِ كلامه ؟

قالت: نعم واللّه، كان يجلو القلوب مِن العمى كما يجلو الزيت الصدأ.

قال: صدَقتِ، فهل لك مِن حاجة ؟

قالت: أوَ تفعل إذا سألتك ؟ قال: نعم.

قالت: تعطيني مِئة ناقة حمراء فيها فحلُها وراعيها.

قال: تصنعين بها ماذا ؟

قالت: أغدو بألبانها الصغار، واستحيي بها الكبار، واكتسب بها المكارم، وأصلح بها العشائر.

قال: فإنْ أعطيتك ذلك، فهل أحلّ عندك محلّ عليّ ؟

قالت: ماء ولا كصدّاء، ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك.

ثمّ قال: أما واللّه لو كان عليّ حيّاً ما أعطاك منها شيئاً.

قالت: لا واللّه، ولا وبْرة واحدة مِن مال المسلمين.

* * *

واستدعى معاوية امرأة مِن أهل الكوفة تُسمّى ( الزرقاء بنت عديّ ) كانت تعتمد الوقوف بين الصفوف وترفع صوتها صارخة، يا أصحاب عليّ، تُسمِعهم كلامها كالصوارم، مستحثّة لهم بقولٍ لو سمعه الجبان لقاتل،

٤٠٨

والمُدبر لأقبَل، والمسالِم لحارب، والفارّ لكرّ، والمتزَلزِل لاستقر.

فلمّا قدِمت على معاوية، قال لها: هل تعلمين لِم بعثتُ إليك ؟

قالت: لا يعلم الغيب إلاّ اللّه سُبحانه وتعالى.

قال: ألستِ الراكبة الجَمل الأحمر يوم صفّين، وأنتِ بين الصفوف توقدين نار الحرب، وتحرّضين على القتال ؟

قالت: نعم. قال: فما حمَلَك على ذلك ؟

قالت: يا أمير المؤمنين، إنّه قد مات الرأس، وبُتِرَ الذنَب، ولنْ يعود ما ذهَب، والدهر ذو غِيَر، ومَن تفكّر أبصَر، والأمر يحدُث بعده الأمر.

قال: صدَقت، فهل تعرفين كلامك وتحفظين ما قلت ؟

قالت: لا واللّه، ولقد أنسيته.

قال: للّه أبوك، فلقد سمِعتك تقولين: ( أيّها الناس، ارعوا وارجعوا، إنّكم أصبحتم في فتنة، غشّتكم جلابيب الظلم، وجارَت بكم عن قَصد المحجّة، فيا لها فتنةٌ عمياء صمّاء بكماء، لا تسمع لِناعِقها ولا تَسلس لقائدها. إنّ المصباح لا يضيء في الشمس، وإنّ الكواكب لا تنير مع القمر، وإنّ البغل لا يسبق الفرس، ولا يُقطع الحديد إلاّ بالحديد، ألا مَن استرشَد أرشدناه، ومَن سألَنا أخبرناه.

أيّها الناس: إنّ الحقّ كان يَطلب ضالّته فأصابها، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص، فكأنّكم وقد التأم شمل الشتات، وظهَرت كلمة العدل، وغلَب الحقّ باطله، فإنّه لا يستوي المُحقّ والمبطِل. أفمن

٤٠٩

كان مؤمناً كمَن كان فاسقاً لا يستوون. فالنزال النزال، والصبر الصبر، ألا إنّ خضاب النساء الحنّاء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير الأُمور عاقبة، أئتوا الحرب غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده ).

ثمّ قال: يا زرقاء، أليس هذا قولك وتحريضك ؟

قالت: لقد كان ذلك.

قال: لقد شاركت عليّاً في كلّ دمٍ سفَكَه.

فقالت: أحسنَ اللّه بشارتك أمير المؤمنين، وأدام سلامتك، فمثلك مَن بشّر بخير، وسرّ جليسه.

فقال معاوية: أوَ يسرّك ذلك ؟

قالت: نعم واللّه، لقد سرّني قولك، وأنّى لي بتصديق الفعل. فضحِك معاوية، وقال: واللّه لوفاؤكم له بعد موته أعجبُ عندي مِن حبّكم له في حياته(١) .

وهذه أمّ وهَب ابن عبد اللّه بن خباب الكلبي، قالت لابنها يوم عاشوراء: قم يا بني، فانصر ابن بنت رسول اللّه.

فقال: أفعَل يا أمّاه ولا أقصّر.

فبرَز وهو يقول رجزه المشهور، ثمّ حمَل فلَم يزَل يقاتل، حتّى قتَل منهم جماعة، فرجع إلى أُمه وامرأته، فوقف عليهما فقال: يا أماه، أرضيت ؟

فقالت: ما رضيت، أو تُقتَل بين يديّ الحسينعليه‌السلام .

_____________________

(١) هاتان القصتان ( الثانية والثالثة ) عن قصص العرب ج ٢، وقد نقلتا بتصرّف واختصار.

٤١٠

فقالت امرأته: باللّه، لا تفجعني في نفسك.

فقالت أُمّه: يا بني، لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يديّ ابن بنت رسول اللّه، فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي اللّه.

فرجَع ولم يزَل يُقاتل حتّى قتَل تسعة عشر فارساً واثني عشَر راجلاً، ثمّ قُطِعت يداه. وأَخذَت أُمّه عموداً وأقبَلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأُمّي، قاتل دون الطيّبين - حرم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله -. فأقبل كي يردّها إلى النساء، فأخذت بجانب ثوبه: ( لنْ أعود أو أموت معك ).

فقال الحسينعليه‌السلام : ( جُزيتم مِن أهل بيتٍ خيراً، ارجعي إلى النساء، رحِمَك اللّه ).

فانصرفت. وجعل يُقاتل حتّى قُتِل رضوان اللّه عليه(١) .

هذه لمحة خاطفة مِن عرضٍ تاريخي طويل زاخر بأمجاد المرأة المسلمة، ومواقفها البطوليّة الخالدة، اقتصرنا عليها خشية الإطالة.

وأين مِن هذه العقائل المصونات، نِساء المسلمين اليوم، اللاتي يتشدّق الكثيرات منهنّ بالتبرّج، ونبذ التقاليد الإسلاميّة، ومحاكاة المرأة الغربيّة، في تبرّجها وخلاعتها. فخسِرن بذلك أضخم رصيد ديني وأخلاقي تملكه المرأة المسلمة وتعتزّ به، وغدَونَ عاطلات مِن محاسن الإسلام، وفضائله المثاليّة.

_____________________

(١) نفس المهموم للشيخ عبّاس القمّي (ره) بتصرّف وتلخيص.

٤١١

المساواة بين الرجل والمرأة

لقد غزَت الشرق فيما غزاه مِن صنوف البِدَع والضلالات، فكرة المساواة التامّة بين الرجل والمرأة، ومشاطرتها له في مختلف نشاطاته السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.

وانخدع أغرار المسلمين بهذه الفكرة، وراحوا يُنادون بها ويدعون إليها، جهلاً بزيفها ومخالفتها مبادئ الفطرة والوجدان، للفوارق العديدة بين الجِنسين، واختلاف مؤهّلاتهما في مجالات الحياة.

ومتى ثبتت المُفارقات بين الرجل والمرأة، تجلّى خطأ هذه الفكرة، واستبان ما فيها مِن تفريط وتضييع لخصائص كلٍّ منهما وكفاءته.

فالرجل غالباً: هو أضخم هيكلاً مِن المرأة، وأصلَب عوداً، وأقوى جلداً على معاناة الشدائد والأهوال، كما هو أوسع أُفقاً، وأبعَد نظراً، وأوفَر خبرةً في تجارب الحياة.

والمرأة غالباً، هي أجمل صورة مِن الرجل، وأضعَف جِسماً وطاقة، وأرقَّ عاطفةً، وأرهف حسّاً، تيسيراً لما أُعدّت له مِن وظائف الأُمومة ورسالتها الإنسانيّة في الحياة.

ويزداد التغاير والتباين بين الجنسين فيما ينتاب الإناث خاصّة، مِن أعراض الحيض والحمل والإرضاع، ممّا يؤثّر تأثيراً بالغاً في حياة المرأة وحالتها الصحيّة.

فهي تُعاني أعراضاً مرَضيّة خلال عاداتها الشهريّة، تخرجها عن طورها المألوف.

قال الطبيب( جب هارد ) : ( قلّ مِن النساء مَن لا تعتلّ بعلّة في المحاض، ووجَدنا أكثرهن يَشكينَ الصداع والنصَب والوجَع تحت السرّة،

٤١٢

وقِلّة الشهوة للطعام، ويصبحن شرِسات الطباع، مائلات إلى البكاء. فنظراً لهذه العوارض كلّها يصحّ القول، أنّ المرأة في محاضها تكون في الحقّ مريضة، وينتابها هذا المرض مرّةً في كلّ شهر، وهذه التغييرات في جسم المرأة تؤثّر لا محالة في قواها الذهنيّة وفي أفعال أعضائها ).

وهكذا أعرب الباحثون عن امتناع المساواة بين الجنسين.

قال الباحث الطبيعي الروسي( انطون نميلاف ) في كتابه الذي أثبت فيه عدم المساواة الفطريّة بينهما، بتجارب العلوم الطبيعيّة ومشاهداته: ( ينبغي أنْ لا نخدع أنفسنا بزعم أنّ إقامة المساواة بين الرجل والمرأة في الحياة العمليّة أمرٌ هيّنٌ ميسور. الحقّ أنّه لم يجتهد أحد في الدنيا لتحقيق هذه المساواة بين الصنفين مثل ما اجتهدنا في روسيا السوفيتيّة، ولم يوضع في العالم مِن القوانين السمحة البريئة من التعصّب في هذا الباب مثل ما وضِع عندنا، ولكنّ الحقّ إنّ منزلة المرأة قلّما تبدّلت في الأُسرة، ولا في الأُسرة فحسب، بل قلّما تبدّلت في المجتمع أيضاً ).

ويقول في مكان آخر: ( لا يزال تصوّر عدم مساواة الرجل والمرأة ذلك التصوّر العميق راسخاً، لا في قلوب الطبَقات ذات المستوى الذهني البسيط، بل في قلوب الطبقات السوفيتيّة العُليا أيضاً )(١).

وقال الدكتور( الكسيس كاريل ) الحائز على جائزة نوبل: ( يجب أنْ يبذل المربّون اهتماماً شديداً للخصائص العضويّة والعقليّة في الذكر والأنثى، كذا لوظائفهما الطبيعيّة، فهناك اختلافات لا تُنقض بين الجنسين

_____________________

(١) الحِجاب، للمودودي ص ٢٥٦.

٤١٣

ولذلك فلا مناصَ مِن أنْ نحسب حساب هذه الاختلافات في إنشاء عالَم متمدّن )(١).

ولا يعتبر تفوّق الرجل على المرأة في المجالات العمليّة والنظريّة مِقياساً عامّاً شاملاً لجميع الرجال، فقد تَبُذُّ المرأة الرجل وتفوقه في ذلك، ولكن هذا لا ينفي تخلّفها عن أغلب الرجال.

وعزا بعضهم تخلّف المرأة عن الرجل إلى التقاليد الاجتماعيّة، والنظُم التربويّة التي تكتنف حياتها.

وفاتهم أنّ تلك التقاليد والنظُم قد تلاشت في أغلب الدول المُتحلّلة، وانعدمت فيها الفوارق بين الجنسين، وغدَت المرأة تتمتّع بجميع فرَص التكافؤ التي يتمتّع بها الرجل. وبالرغم مِن ذلك فإنّها تعتبر في المرتبة الثانية منه.

ومِن هنا ندرك امتناع المساواة المُطلقة بين الرجل والمرأة، ونعتبرها ضرباً مِن الحماقة والسُّخف.

فهل يسع دعاة المساواة أنْ يطوّروا واقع الرجل ويجعلوه مشاركاً للمرأة في مؤهّلاتها الخاصّة، ووظائفها النسويّة التي يعجز عنها هو، كذلك لا يسعهم أنْ يسترجلوا المرأة ويمنحوها خصائص الرجل ووظائفه التي تعجز عنها هي.

إنّ الحكمة الإلهيّة قد كيّفت كلاًّ مِن الجنسين وأعدّته إعداداً خاصّاً، يؤهّله لأداء وظائفه ومهمّاته في الحياة، فلا مناص مِن تنويع الأعمال بينهما

_____________________

(١) الإنسان ذلك المجهول ص ١١٧.

٤١٤

حسب كفاءتهما ومؤهّلاتهما... وكُل مُيسّر لما خُلق له.

فوظيفة الرجل هي: ممارسة الأعمال الشاقّة، والشئون الخارجيّة عن المنزل، والكدح في توفير وسائل العيش لأُسرته، والدأب على حمايتها وإسعادها ماديّاً وأدبيّاً، ممّا تنوء به المرأة ولا تستطيع إتقانه وإجادته.

ووظيفة المرأة هي: أنْ تكون ربّة بيت وراعيةَ منزل، وأُمّاً مثاليّةً تُنشئ الأكفّاء من الرجال، وهي وحدها التي تستطيع أنْ تجعل البيت فردوساً للرجل، يستشعر فيه الراحة مِن متاعب الحياة، وينعم الأطفال فيه بدفء الحنان ودواعي النموّ والازدهار.

فإقحام المرأة في ميادين الرجل، ومنافستها له في أعماله... تضييع لكفاءتها ومؤهّلاتها، ثمّ هو تجميد للرجل عن ممارسة نشاطاته الحيويّة التي يجيدها ولا تجيدها المرأة، وتعطيل له عن إنشاء أُسرةٍ وتكوين بيت.

وقد أحدَثت منافسة المرأة للرجل في وظائفه ونشاطاته الخاصّة في الجاهليّة الحديثة... شروراً أخلاقيّة واجتماعيّة ونفسيّة خطيرة، وكانت مضّارها أكثر مِن نفعها أَضعافاً مُضاعفة.

وأصبحت المرأة هناك تُعاني مرارة الكفاح ومهانة الابتذال في سبيل العيش، كي لا تمسّها الفاقة لنكول الرجل عن إعالتها، ممّا عاقها عن أداء وظائفها الخاصّة من تدبير المنزل ورعاية الأُسرة وتربية الأبناء تربيةً صالحة.

وبتقاعس المرأة عن أداء واجبها الأصيل، وانخراطها في المجتمع الخليط، أُصيبت الأُسرة هناك بالتبعثر والتسيّب والشقاء، وشاع فيها التفسّخ والتهتّك والانهيار الخُلقي، كما شهِد بذلك الباحث الطبيعي الروسي( انطون

٤١٥

نيميلاف ) في كتابه الآنف الذكر:

( الحقّ أنّ جميع العمّال قد بدت فيهم أعراض الفوضى الجنسيّة، وهذه حالة جدّ خطرة، تُهدّد النظام الاشتراكي بالدمار، فيجب أنْ نُحارب بكلّ ما أمكن مِن الطُرق ؛ لأنّ المحاربة في هذه الجبهة ذات مشاكل وصعوبات، ولي أنْ أدُلّكم على آلافٍ مِن الأحداث، يُعلم منها أنّ الإباحية الجنسيّة قد سرَت عدواها لا في الجهّال الأغرار فحسب، بل في الأفراد المثقّفين مِن طبقة العمّال )(١).

وحسبُنا هذه الشهادة عِظةً وعبرةً على بطلان المساواة بين الجنسين، وأضرار اختلاطهما في الوظائف والأعمال، فهل مِن متّعظ ؟!

فإقحام المرأة في ميدان أعمال الرجال خطأٌ فاضح، وجنايةٌ كُبرى على المرأة والمجتمع الذي تعيشه، وهدرٌ لكرامتهما معاً.

نعم... يُستساغ للمرأة أنْ تمارس أعمالاً تخصّها وتليق بها، كتعليم البنات، وتطبيب النساء وتوليدهن، وفي حالة فقدان المرأة مَن يعولها، أو عجزِه عن إعالتها، فإنّها والحالة هذه تستطيع مزاولة الأعمال والمكاسب التي يؤمَن عليها مِن مفاتن المجتمع الخليط، ويُؤمن عليه مِن فتنتها كذلك.

ولكنّ الإسلام، صان كرامة المرأة المعوزة، وكفل رزقها من بيت المال، دون أنْ يحوجها إلى تلك المعاناة، فلو أدّى المسلمون زكاة أموالهم ما بقيَ محتاج.

_____________________

(١) الحِجاب، للمودودي ص ٢٥٧.

٤١٦

فماذا يريد دعاة المساواة ؟ أ يُريدون إعزاز المرأة وتحريرها من الغبن الاجتماعي ؟ فقد حرّرها الإسلام ورفَع منزلتها ومنَحها حقوقها الماديّة والأدبيّة، أم يريدون مخادعة المرأة وابتذالها، لتكون قريبةً من عيون الذئاب ومغازلاتهم ؟

وماذا تريد المرأة المتحرّرة ؟ أَ تُريد المساواة التامّة بالرجل، أَم تريد حريّة الخلاعة والابتذال ؟

وكلّها غايات داعرة، حرّمها الإسلام على المرأة والرجل ليقيهما مزالق الفتن ومآسي الاختلاط.

التمايز بين الجنسين

لقد حرّر الإسلام المرأة من تقاليد الجاهليّة وأعرافها المَقيتة، وأعزّها ورفَع منزلتها، وقرّر مساواتها بالرجل في الإنسانيّة ووحدة المبدأ والمعاد، وحرمة الدم والعرض والمال، ونيل الجزاء الأُخروي على الأعمال.

وحدّد قِيم المرأة ومنزلتها مِن الرجل تحديداً عادلاً حكيماً ؛ فهو يُساوي بينها وبين الرجل فيما تقتضيه الحكمة والصواب، ويُفرّق بينهما في بعض الحقوق وبعض الواجبات والأحكام، حيث يجدر التفريق ويَحسن التمايز نظَراً لاختلاف خصائصهما ومسؤوليّاتهما في مجالات الحياة.

وهو في هذا وذاك يستهدف الحكمة والصلاح، والتقييم العادل لطبائع البشر وخصائصهم الأصيلة. فلم يكن في تمييزه الرجل في بعض الأحكام

٤١٧

ليستهين بالمرأة أو يبخس حقوقها، وإنما أراد أنْ يحقّق العدل، ويمنح كلاً منهما ما يستحقّه ويلائم كفاءته وتكاليفه.

وسنبحث في المواضيع التالية أهمّ مواطن التفريق والتمايز بين الرجل والمرأة ؛ لنستجلي حكمة التشريع الإسلامي وسموّ مبادئه في ذلك.

١ - القوامة:

الأُسرة هي الخليّة الأُولى، التي انبثقت منها الخلايا الاجتماعيّة العديدة، والمجتمع الصغير الذي نما واتّسع منه المجتمع العام الكبير.

ومِن الثابت أنّ كلّ مجتمع - ولو كان صغيراً - لا بدّ له مِن راعٍ كفؤ يرعى شئونه، وينظم حياته، ويسعى جاهداً في رُقيّه وازدهاره.

لذلك كان لا بدّ للأُسرة مِن راعٍ وقِيَم، يسوسها بحُسن التنظيم والتوجيه ويوفّر لها وسائل العيش الكريم، ويحوطها بالعزّة والمنَعة، وتلك مهمّةٌ خطيرة تستلزم الحنكة والدُّربة، وقوّة الإرادة، ووفرة التجربة في حقول الحياة.

فأيّ الشخصين الرجل أو المرأة أحقّ برعاية الأُسرة والقوامة عليها ؟

إنّ الرجل بحكم خصائصه ومؤهّلاته أكثرُ خبرةً وحذَقاً في شئون الحياة مِن المرأة، وأكفأ منها على حماية الأُسرة ورعايتها أدبيّاً وماديّاً، وأشدّ قوّةً وجَلَداً على تحقيق وسائل العيش ومستلزمات الحياة ؛ لذلك كان هو أحقّ برعاية الأُسرة والقوامة عليها، وهذا ما قرّره الدستور الإسلامي

٤١٨

الخالد:( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) ( النساء: ٣٤ ).

وليس معنى القوامة هو التحكّم بالأُسرة وسياستها بالقسوة والعنف، فذلك منافٍ لأخلاق الإسلام وآدابه. والقوامة الحقّة هي التي ترتكز على التفاهم والتآزر والتجاوب الفكري والعاطفي بين راعي الأُسرة ورعيّته:( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) ( البقرة: ٢٢٨ ).

أمّا المرأة فإنّها بحكم أُنوثتها، رقيقةَ العاطفة، مُرهفة الحسّ، سريعة التأثّر، تتغلّب عواطفها على عقلِها ومشاعرها ؛ وذلك ما يؤهّلها لأداء رسالة الأُمومة، ووظائفها المستلزمة لتلك الخلال، ويقصيها عن مركز القيادة في الأُسرة الذي يتطلّب الحنكة، واتّزان العواطف، وقوّة الجَلَد والحزْم، المتوفّرة في الرجل، وهذا ما يُؤثره عليها في رعاية الأُسرة والقوامة.

هذا إلى أنّ المرأة السويّة بحكم أُنوثتها تستخفّ بالزوج المائع الرخو، وتكبره إذا كان ذا شخصيّة قويّة جذّابة، تستشعر في ظلال رجولته مفاهيم العزّة والمنعة، وترتاح إلى حُسن رعايته وتدبيره.

٢ - إيثار الرجل على المرأة في الإرث:

وهكذا قضت حكمة التشريع الإسلامي أنْ تُؤثر الرجل على المرأة،

٤١٩

بضعف نصيبها من الإرث، ممّا حسِبَه المغفّلون انتقاصاً لكرامة المرأة وبَخساً لحقوقها

لا... لم يكن الإسلام لِيَستهين بالمرأة أو يَبخَس حقوقها، وهو الذي أعزّها ومنَحها حقوقها الأدبيّة والماديّة، وإنّما ضاعف نصيب الرجل عليها في الإرث تحقيقاً للعدل والإنصاف، ونظراً لتكاليفه ومسؤوليّاته الجسيمة.

فالرجل مكلّفٌ بالإنفاق على زوجته وأُسرته وتوفير ما تحتاجه مِن طعام وكِساء وسكن، وتعليم وتطبيب، والمرأة معفوّة من كلّ ذلك. وكذلك هو مسؤول عن حماية الإسلام والجهاد في نصرته، والمرأة غير مكلّفة به. والرجل مكلّف بالإسهام في ديّة العاقلة ونحوها مِن الالتزامات الاجتماعيّة، والمرأة مُعفاة منها.

وعلى ضوء هذه الموازنة بين الجهد والجزاء، نجد أنّ مِن العدل والإنصاف تفوّق الرجل على المرأة في الإرث، وإنّها أسعد حالاً، وأوفَر نصيباً منه، لتكاليفه الأُسريّة والاجتماعيّة، التي هي غيرُ مسؤولةٍ عنها. وهذا ما شرّعه الإسلام:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) ( النساء: ١١ ) على أنّ تفضيل الرجل على المرأة في الإرث لا يعمّ حقوقها الملكيّة، وأموالها المكتسبة، فإنّها والرجل سيّان، ولا يحقّ له أنْ يبتزّ فِلساً واحداً منها إلا برضاها وإذنها.

٣- الشهادة:

وهكذا تجلّت حكمة التشريع الإسلامي في تقييم شهادة المرأة، واعتبار شهادة امرأتين بشهادة رجلٍ واحد. وقد أراد الإسلام بهذا الإجراء أنْ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517