أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333195 / تحميل: 11877
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الاجتماعيّة مِن التلون والخِداع وعدَم الوفاء التي سرعان ما يكشفهما محكّ الاختبار. وقد أوضح أمير المؤمنينعليه‌السلام واقع الأصدقاء وأبعاد صداقتهم فيما رواه أبو جعفر الباقرعليه‌السلام فقال: ( قام رجلٌ بالبصرة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الإخوان.

فقالعليه‌السلام : الإخوان صنفان: إخوان الثقة، وإخوان المكاشرة.

فأمّا إخوان الثقة: فهُم الكفّ والجناح، والأهل والمال، فإذا كنت مِن أخيك على حدِّ الثقة، فابذل له مالك، وبدنك، وصافِ مَن صافاه وعادِ مَن عاداه، واكتم سرّه وعيبه، واظهر منه الحسَن، واعلم أيها السائل، إنّهم أقلّ مِن الكبريت الأحمر.

وأمّا إخوان المكاشرة: فإنّك تصيب لذّتك منهم، فلا تقطعنّ ذلك منهم، ولا تطلبنّ ما وراء ذلك مِن ضَمِيرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك مِن طلاقةَ الوجه، وحلاوةَ اللسان )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( لا تكون الصداقة إلاّ بحدودها، فمَن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة، ومَن لم يكن فيه شيءٌ منها، فلا تنسبه إلى شيءٍ مِن الصداقة: فأوّلها: أنّ تكون سريرته وعلانيَته لك واحدة، والثانية: أنْ يرى زَينك زينه وشَينك شينه، والثالثة: أنْ لا تغيّره عليك ولايةٌ ولا مال.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٠٤ عن الكافي.

٤٤١

والرابعة: أنْ لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته.

والخامسة: وهي تجمع هذه الخِصال أنْ لا يسلّمك عند النكَبات )(١).

وقال بعض الحكماء: المودّات ثلاث: مودّة في اللّه عزَّ وجل لغير رغبةٍ ولا رهبة، فهي التي لا يشوبها غدرٌ ولا خيانة.

ومودّةٌ مقارنة ومعاشرة، ومودّة رغبةٍ أو رهبة، وهي: شرّ المودّات، وأسرعها انتقاضاً.

وقال مهيار الديلمي:

ما أنا مِن صبغة أيّامكم

ولا الذي إنْ قلبوه انقلبا

ولا ابن وجهَين ألمّ حاضراً

مِن الصديق وألوم الغُيّبا

قلبي للإخوان شطّوا أو دنَوا

وللهوى ساعف دهر أو نبا

مِن عاذري مِن متلاشٍ كلّما

أذنَب يوماً وعذَرتُ أذنَبا

يضحك في وجهي ملء فمه

وإنْ أغب وذكِر اسمي قطّبا

يطير لي حمامةً فإنْ رأى

خصاصةً دبّ ورائي عقربا

ما أكثر الناس وما أقلّهم

وما أقلّ في القليل النُّجَبا

اختيار الصديق:

للصديق أثرٌ بالغ في حياة صديقه وتكييفه فكريّاً وأخلاقيّاً، لِما طُبِع

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٠٤ عن الكافي.

٤٤٢

عليه الإنسان مِن سرعة التأثّر والانفعال بالقُرَناء والأخلاّء، ما يحفّزه على محاكاتهم والاقتباس مِن طِباعهم ونَزَعاتهم.

مِن أجل ذلك كان التجاوب قويّاً بين الأصدقاء، وكانت صِفاتهم سريعةَ العدوى والانتقال، تنشر مفاهيم الخير والصلاح تارة، ومفاهيم الشرِّ والفساد أُخرى، تَبَعاً لخصائصهم وطَبائعهم الكريمة أو الذميمة، وإنْ كانت عدوى الرذائل أسرع انتقالاً وأكثر شيوعاً مِن عدوى الفضائل.

فالصديق الصالح: رائدُ خير، وداعية هدى، يهدي إلى الرشد والصلاح.

والصديق الفاسد: رائدُ شرٍّ، وداعيةُ ضلالٍ، يقود إلى الغيّ والفساد. وكم انحرف أشخاصٌ كانوا مثاليّين هدياً وسلوكاً، وضلّوا في متاهات الغواية والفساد، لتأثّرهم بالقُرَنَاء والأخلاّء المنحرفين.

وهذا ما يحتّم على كلّ عاقل أنْ يتحفّظ في اختيار الأصدقاء، ويصطفي منهم مَن تحلّى بالخُلق المرضي والسُّمعة الطيّبة والسلوك الحميد.

خِلال الصديق المثالي:

وأهم تلك الخِلال وألزمها فيه هي:

١ - أنْ يكون عاقلاً لبيباً مبرّءاً مِن الحُمق. فإنْ الأحمق ذميم العشرة مقيت الصحبة، مجحف بالصديق، وربّما أراد نفعه فأضره وأساء إليه لسوء تصرّفه وفرّط حماقته، كما وصفه أمير المؤمنينعليه‌السلام في حديثٍ له فقال: ( وأمّا الأحمق فإنّه لا يشير عليك بخير، ولا يُرجى لصرفِ السوء

٤٤٣

عنك ولو أجهد نفسه، وربّما أراد منفعتك فضرّك، فموته خيرٌ مِن حياته وسكوته خيرٌ من نطقه، وبعده خيرٌ من قُربه )(١).

٢ - إنّ يكون الصديق متحلياً بالإيمان والصلاح وحسن الخلق، فإن لم يتحلّ بذلك كان تافهاً مُنحرفاً يُوشك أنْ يغوي إخلاّءه بضلاله وانحرافه.

انظر كيف يصوّر القرآن ندم النادمين على مخادنة الغاوين والمضلّلين وأسفَهم ولوعتهم على ذلك:

( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً ) ( الفرقان: ٢٧ - ٢٩ ).

وعن الصادقعليه‌السلام عن آبائه قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : المرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم مَن يُخالِل )(٢).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام عن أبيه عن جدّهعليه‌السلام قال: ( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : مجالسةُ الأشرار تُورث سُوء الظنِّ بالأخيار، ومجالسة الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار، ومجالسة الإبرار للفُجّار تلحق الأبرار بالفُجّار، فمَن اشتبه عليكم أمرُه، ولم تعرفوا دينه، فانظروا إلى خُلطائه، فإنْ كانوا أهل دين اللّه، فهو على دين اللّه، وإنْ كانوا على

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة. ص ٥٦ عن الكافي.

(٢) البحار، كتاب العشرة. ص ٥٢ عن أمالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي.

٤٤٤

غيرِ دين اللّه فلا حظّ له مِن دين اللّه ؛ إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول: مَن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يؤاخين كافراً، ولا يخالطن فاجراً، ومَن آخى كافراً، أو خالَط فاجراً كان كافراً فاجراً )(١).

وهكذا يحذَر أهل البيتعليهم‌السلام عن مخادنة أنماط مِن الرجال اتّسموا بأخلاقٍ ذميمة وسجايا هابطة باعثة على النفرة وسوء الخلّة.

وعن أبي عبد اللّه عن أبيهعليهما‌السلام قال: ( قال لي أبي عليّ بن الحسينعليه‌السلام : يا بني، انظر خمسة فلا تُصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم، فقلت: يا أبه، مَن هُم ؟ عرّفنيهم.

قال: إيّاك ومصاحبة الكذّاب فإنّه بمنزلة السراب يُقرّب لك البعيد ويُبعّد لك القريب، وإيّاك ومصاحبة الفاسق فإنّه بايعك بأكلة أو أقلّ مِن ذلك، وإيّاك مِن مصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوَج ما تكون إليه، وإيّاك ومصاحبة الأحمق فإنّه يُريد أنْ ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدتّه ملعوناً في كتاب اللّه عزّ وجل في ثلاث مواضع )... الخبر(٢) .

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة. ص ٥٣ عن كتاب صفات الشيعة للصدوق.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٠٥ عن الكافي.

٤٤٥

وقال أبو العتاهية:

اصحب ذو العقل وأهل الدين

فالمرءُ منسوبٌ إلى القرين

وقال أبو نؤاس:

ولقد نهَزت مع الغواة بدَلوِهم

وأسَمَت سرْح اللهوِ حيثُ أساموا

وبلغتُ ما بلَغ امرؤٌ بشبابه

فإذا عصارة كلّ ذاكَ أثام

٣ - أنْ يكون بين الصديقين تجاوبٌ عاطفي ورغبةٌ متبادلة في الحبّ والمؤاخاة، فذلك أثبتُ للمودّة وأوثَق لعُرى الإخاء، فإنْ تلاشت في أحدهما نوازع الحبّ والخِلّة وهَت علاقة الصداقة وغدا المجفو منها الحريص على توثيقها عرضةً للنقد والازدراء.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( زُهدُك في راغبٍ فيك نُقصانُ عقلٍ (حظ) ورغبتُك في زاهدٍ فيك ذلُّ نفس )(١).

وقال الشهيد الأوّل رحمه الله:

غنينا بنا عن كلّ مَن لا يُريدنا

وإنْ كثُرت أوصافه ونُعوته

ومَن صدّ عنّا حسبُه الصدُّ والقلا

ومَن فاتنا يكفيه أنّا نفوته

وقال الطغرائي:

جامِل أخاك إذا استربت بودّه

وانظر به عقب الزمان العائدِ

فإنْ استمرّ به الفساد فخلِّهِ

فالعضوُ يُقطعُ للفسادِ الزائدِ

_____________________

(١) نهج البلاغة.

٤٤٦

مقاييس الحبّ

وقد تلتبس مظاهر الحبّ في الأخلاّء خاصّة والناس عامّة، وتخفى سماته وعلائمه، ويغدو المرء آنذاك في شكٍّ وارتياب مِن ودّهم أو قلاهم، وقد وضع أهلُ البيتعليهم‌السلام مقاييس نفسيّة تستكشف دخائل الحبِّ والبُغض في النفوس وتجلو أسرارها الخفيّة.

قال الراوي: سمِعت رجُلاً يسأل أبا عبد اللّهعليه‌السلام فقال:

الرجل يقول أودّك، فكيف أعلم أنّه يودّني ؟

فقالعليه‌السلام : ( امتحن قلبك، فإنْ كنت تودّه فإنّه يودّك )(١).

وقالعليه‌السلام في موطنٍ آخر: ( انظر قلبك، فإنْ أنكر صاحبك، فاعلم أنّه أحدث )(٢) يعني قد أحدَث ما يُوجب النفرة وضعف المودّة.

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال:

( لمّا احتضر أمير المؤمنينعليه‌السلام جمع بنيه، حسناً وحُسيناً وابن الحنفيّة والأصاغر فوصّاهم، وكان في آخر وصيّته: - يا بنيّ، عاشروا الناس عشرة، إنْ غبتم حنّوا إليكم، وإنْ فقدتم بكوا عليكم، يا بنيَّ، إنّ القُلوب جنودٌ مجنّدة تتلاحظ بالمودّة، وتتناجى بها، وكذلك هي في البغض،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٠٦ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٠٦ عن الكافي.

٤٤٧

فإذا أحببتم الرجل مِن غير خيرٍ سبَقَ منه إليكم فارجوه، وإذا أبغضتم الرجل مِن غير سوءٍ سبَق منه إليكم فاحذروه )(١).

الصداقة بين المدّ والجزر:

اختلف العقلاء في أيّهما أرجح وأفضل، الإكثار مِن الأصدقاء أو الإقلال منهم.

ففضّل بعضهم الإكثار منهم والتوفّر عليهم، لما يؤمل فيهم مِن جمال المؤانسة وحُسن المؤازرة والتأييد.

ورجّح آخرون الإقلال منهم، لِما ينجم عن استكثارهم مِن ضروب المشاكل المؤديّة إلى التباغض والعِداء، كما قال ابن الرومي:

عدوّك مِن صديقِك مستفادٌ

فلا تستكثرنَّ مِن الصحاب

فإنّ الداء أكثر ما تراه

يكون مِن الطعام أو الشراب

والحقّ أنّ قِيَم الأصدقاء ليست منوطة بالقلّة أو الكثرة، وإنّما هي فيما يتحلّون به من صِفات النُّبل والإخلاص والوفاء، التي لا تجتمع إلاّ في المثاليّين منهم، وهُم فئةٌ قليلةٌ نادرةٌ تتألّق في دنيا الأصدقاء تألّق اللآليّ بين الحصا.

_____________________

(١) البحار كتاب العشرة ص ٤٦ عن أمالي الشيخ أبي عليّ ابن الشيخ الطوسي.

٤٤٨

وصديقٌ مخلصٌ وفيٌّ خيرٌ من ألفِ صديقٍ عديمِ الإخلاص والوفاء، كما قال الإسكندر: المُستكثر مِن الإخوان مِن غير اختيارٍ كالمستوفر مِن الحِجارةِ، والمقلّ مِن الإخوان المتخيّر لهم كالذي يتخيّر الجوهر.

حقوق الأصدقاء:

وبعد أنْ أوضح أهلُ البيتعليهم‌السلام فضل الأصدقاء الأوفياء، رسَموا لهم سياسةً وآداباً وقرّروا حقوق بعضهم على بعض، ليوثقوا أواصر الصداقة بين المؤمنين، ومِن ثمّ لتكون باعثاً على تعاطفهم وتساندهم. وإليك طرَفاً مِن تلك الحقوق:

١ - الرعاية الماديّة:

قد يقَع الصديق في أزمةٍ اقتصاديّة خانقة، ويُعاني مرارة الفاقة والحِرمان ويغدو بأمَسّ الحاجة إلى النجدة والرعاية الماديّة، فمَن حقه على أصدقائه النُّبلاء أنْ ينبروا لإسعافه، والتخفيف من أزمته بما تجود به أريحيّتهم وسخاؤهم، وذلك مِن ألزم حقوق الأصدقاء وأبرَز سمات النبل والوفاء فيهم، وقد مدح اللّه أقواما تحلّوا بالإيثار وحُسن المواساة فقال تعالى:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) ( الحشر: ٩ ).

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام لرجل من خاصّته:

٤٤٩

( يا عاصم، كيف انتم في التواصل والتواسي ؟)

قلتُ: على أفضل ما كان عليه أحد.

قالعليه‌السلام : ( أَ يأتي أحدُكم إلى دُكان أخيه أو منزله، عِند الضائقة، فيستخرج كيسه ويأخذ ما يحتاج إليه، فلا ينكر عليه ؟ ) قال: لا.

قالعليه‌السلام : ( فلستم على ما أحب في التواصل )(١).

وعن أبي إسماعيل قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : جُعلتُ فداك، إنّ الشيعة عندنا كثير، فقالعليه‌السلام :

( فهل يعطف الغنيُّ على الفقير؟ وهل يتَجاوز المُحسِن عن المُسيء ؟ ويتواسون ). فقلت: لا.

فقالعليه‌السلام : ( ليس هؤلاء شيعة، الشيعة مَن يفعل هذا )(٢).

وقال أبو تمّام:

أولى البريّة حقّاً أنْ تراعيه

عند السرور الذي آساك في الحُزن

إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

مَن كان يألفَهم في المنزل الخشن

وقال الواقدي:

كان لي صديقان: أحدهما هاشمي، وكنّا كنفسٍ واحدة، فنالتني ضيقةٌ شديدة وحضَر العيد، فقالت امرأتي: أمّا نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدّة، وأمّا صبياننا هؤلاء فقد قطّعوا قلبي رحمةً لهم،

_____________________

(١) البحار كتاب العشرة ص ٤٦ عن كتاب قضاء الحقوق للصوري.

(٢) البحار كتاب العشرة ص ٧١ عن الكافي.

٤٥٠

لأنّهم يرَون صبيان الجيران وقد تزيّنوا في عيدهم، وأصلحوا ثيابهم، وهُم على هذه الحال مِن الثياب الرثّة ! فلو احتلت بشيءٍ تصرفه في كسوتهم! فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليّ، فوجّه إليّ كيساً مختوماً، ذكر إنّ فيه ألف درهم، فما استقرّ قراري حتّى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجّهت إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مُستحياً مِن امرأتي.

فلمّا دخلت عليها استحسنت ما كان منّي، ولم تعنّفني عليه.

فبينما أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: أصدقني عمّا فعلته فيما وجهّت إليك ؟

فعرّفته الخبَر على وجهه، فقال: إنّك وجّهت إليّ وما أملك على الأرض إلاّ ما بعثت به إليك، وكتبتُ إلى صديقنا اسأله المواساة فوجّه إليّ بكيسي! فتواسينا الآلاف أثلاثاً !

ثمّ نمي الخبَر إلى المأمون فدعاني، فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكلِّ واحدٍ ألفا دينار وللمرأة ألف دينار!(١).

٢ - الرعاية الأدبيّة:

وهكذا تنتاب الصديق ضروب الشدائد والأرزاء ما تسبّب إرهاقه وبلبلة حياته، ويغدو آنذاك مفتقراً إلى النجدة والمساندة لإغاثته وتفريج كربه.

_____________________

(١) قصص العرب ج ١ ص ٢٩٠.

٤٥١

فحقيقٌ على أصدقائه الأوفياء أنْ يسارعوا إلى نصرته والذبِّ عنه، لساناً وجاهاً، لإنقاذه مِن أعاصير الشدائد والأزَمات، ومواساته في ظرفه الحالك.

هذا هو مقياس الحبّ الصادق والعلاّمة الفارقة بين الصديق المُخلص مِن المزيّف.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( لا يكون الصديق صديقاً، حتّى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته )(١).

وقال الشريف الرضي:

يعرّفك الإخوانُ كلٌّ بنفسه

وخيرُ أخٍ مَن عرّفتك الشدائد

* * *

٣ - المداراة:

والأصدقاء مهما حسُنت أخلاقهم، وقويت علائق الودّ بينهم فإنّهم عرضة للخطأ والتقصير، لعدَم عصمتهم عن ذلك. فإذا ما بدرت مِن أحدهم هناةٌ وهفوةٌ في قولٍ أو فعلٍ، كخُلفِ وعد، أو كلمةٍ جارحة أو تخلّف عن مواساة في فرح أو حزن ونحو ذلك مِن صوَر التقصير.

فعلى الصديق إذا ما كان واثقاً بحبّهم وإخلاصهم، أنْ يتغاضى عن إساءتهم

_____________________

(١) نهج البلاغة.

٤٥٢

ويصفح عن زلَلهم حِرصاً على صداقتهم واستبقاءً لودّهم، إذ المُبالغة في نقدهم وملاحاتهم، باعثة على نفرتهم والحِرمان منهم.

ومَن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها

كفى المرءُ نُبلاً أنْ تُعدّ معائبه

انظر كيف يوصي أمير المؤمنينعليه‌السلام ابنه الحسنعليه‌السلام بمداراة الصديق المُخلص والتسامح معه والحفاظ عليه:

( احمل نفسك مِن أخيك عند صرفه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدّته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتّى كأنّك له عبد، وكأنّه ذو نعمةٍ عليك.

وإيّاك أنْ تضَع ذلك في غير موضعه أو تفعله بغير أهله، لا تتخذنّ عدوَّ صديقِك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحة، وتجرّع الغيظ ؛ فإنّي لم أرَ جرعةً أحلى منها عاقبةً ولا ألذُّ مغبّة، ولِن لِمَن غالَظك فإنّه يُوشك أنْ يلين لك، وخُذ على عدوّك بالفضل فإنّه أحلى الظَفَرين، وإنْ أردت قطيعة أخيك فاستبقِ له مِن نفسِك بقيّةً ترجع إليها إنْ بدا له ذلك يوماً ما، ومَن ظنَّ بك خيراً فصدّق ظنّه، ولا تضيّعنّ حقّ أخيك اتّكالاً على ما بينك وبينه ؛ فإنّه ليس لكَ بأخٍ مَن أضعت حقّه )(١).

وقال الإمام الحسنعليه‌السلام لبعض ولده:

( يا بُنَيّ، لا تؤاخِ أحداً حتّى تعرف موارده ومصادره، فإذا استبطنت

_____________________

(١) نهج البلاغة. في وصيّته لابنه الحسنعليه‌السلام .

٤٥٣

الخبرة، ورضيت العِشرة، فآخه على إقالة العثرة، والمواساة في العشرة )(١).

وقال أبو فراس الحمداني:

لم أُواخذك بالجفاء لأنّي

واثقٌ منك بالوداد الصريح

فجميل العدوّ غير جميل

وقبيح الصديق غير قبيح

وقال بشّار بن بُرد:

إذا كُنت في كلّ الأُمور معاتباً

صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه

فعِش واحداً أو صِل أخاك فإنّه

مقارفُ ذنبٍ مرّة ومجانبه

إذا أنتَ لم تشرَب مِراراً على القذى

ظمِئت وأي الناس تصفو مشاربه

وقال أبو العلاء المعرّي:

مَن عاشَ غير مداج مَن يعاشره

أساء عِشرة أصحابٍ وأخدان

كم صاحبٍ يتمنّى لو نُعيتَ له

وإنْ تشكّيت راعاني وفدّاني

ومِن أروع صوَر مداراة الأصدقاء وأجملها وقْعاً في النفوس: الإغضاء عن إساءتهم والصفْح عن مسيئهم.

ولذلك مظاهرٌ وأساليبٌ رائعة:

١ - أنْ يتناسى الصديق الإساءة ويتجاهلها ثقةً بصديقه، وحسن ظنٍّ به، واعتزازاً بإخائه، وهذا ما يبعث المُسيء على إكبار صديقه وودّه والحِرص على صداقته.

٢ - أنْ يتقبل معذرة صديقه عند اعتذاره منه، دونما تشدّد أو تعنّت في قبولها، فذلك مِن سِمات كرم الأخلاق وطهارة الضمير والوجدان.

_____________________

(١) تُحف العقول.

٤٥٤

٣ - أنْ يستميل صديقه بالعتاب العاطفي الرقيق، استجلاباً لودّه، فترك العتاب قد يُشعر بإغفاله وعدم الاكتراث به، أو يُوهمه بحنق الصديق عليه وإضمار الكيد له.

ولكنّ العتاب لا يجدي نفعاً ولا يستميل الصديق، إلاّ إذا كان عاطفيّاً رقيقاً كاشفاً عن حبِّ العاتب ورغبته في استعطاف صديقه واستدامة ودّه، إذ العشرة فيه والإفراط منه يُحدّثان ردّ فعلٍ سيّئ يُضاعف نفار الصديق ويفصم عُرى الودِّ والإخاء.

لذلك حثّت الشريعة الإسلامية على الصفح والتسامح عن المسيء، وحسن مداراة الأصدقاء خاصّة، والناس عامّة.

قال تعالى:( وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

وقال سُبحانه:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( حم السجدة: ٣٤ - ٣٥ ).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أمرني ربّي بمداراة الناس، كما أمَرني بأداء الفرائض )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أعقَل الناس أشدُّهم مداراةً للناس )(٢).

_____________________

(١) الوافي. ج ٣ ص ٨٦ عن الكافي.

(٢) معاني الأخبار للصدوق.

٤٥٥

والجدير بالذكر أنّ مِن أقوى عوامل ازدهار الصداقة وتوثيق أواصر الحبّ والإخلاص بين الأصدقاء، هو أنْ يتفادى كلٌّ منهم جهده عن تصديق النمّامين والوشاة المُغرَمين بغرس بذور البغضاء والفرقة بين الأحباب وتفريق شملهم، وفصم عُرى الإخاء بينهم. وهؤلاء هُم شرار الخلْق كما وصَفَهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال: ( ألا أُنبئكم بشراركم ؟ ).

قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: ( المشّاؤون بالنميمة، المُفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعايب )(١).

* * *

الاعتدال في حبّ الصديق والثقة به:

ومِن الحكمة أنْ يكون العاقل معتدلاً في محبّة الأصدقاء والثقة بهم والركون إليهم دون إسرافٍ أو مغالاة، فلا يصحّ الإفراط في الاطمئنان إليهم واطلاعهم على ما يخشى إفشاءه من إسراره وخفاياه.

فقد يرتدّ الصديق ويغدو عدوّاً لدوداً، فيكون آنذاك أشدّ خطَراً وأعظم ضرَراً مِن الخصوم والأعداء.

وقد حذّرت وصايا أهل البيتعليهم‌السلام وأقوال الحكماء والأدباء، نظماً ونثراً مِن ذلك:

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أنْ

_____________________

(١) البحار كتاب العشرة ص ١٩١ عن الكافي.

٤٥٦

يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما، عسى أنْ يكون حبيبك يوماً ما )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام لبعض أصحابه:

( لا تُطلِع صديقك مِن سرِّك، إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوّك لم يضرّك فإنّ الصديق قد يكون عدوّك يوماً ما )(٢).

قال المعرّي:

خف مَن تودّ كما تخاف معادياً

وتمارَ فيمَن ليس فيه تمار

فالرزء يبعثه القريب وما درى

مضرٌّ بما تجنى يدا أنمار

وقال أبو العتاهية:

ليَخلُ امرؤٌ دون الثقات بنفسه

فما كلّ موثوق ناصح الحبّ

* * *

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) البحار، كتاب العشرة ص ٣٩ عن أمالي الصدوق.

٤٥٧

حقوق الجِوار

التآزر والتعاطف:

لقد جهد الإسلام في حثّ المسلمين وترغيبهم في التآزر والتعاطف، ليجعلهم أُمّةً مثاليّةً في اتّحادها وتعاضدها على تحقيق أهدافها، ودفع الأزَمَات والأخطار عنها.

ودأَبَ على غرْس تلك المفاهيم السامية في نُفوس المسلمين ؛ ليزدادوا قوّة ومنعة وتجاوباً في أحاسيس الودّ ومشاعر الإخاء.

( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) ( الفتح: ٢٩ ).

( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) ( المائدة:٢ ).

وكان مِن ذلك تحريض المسلمين على حُسن الجِوار ورعاية الجار، ليُنشئ مِن المُتجاورين جماعةً متراصّة متعاطفة تتبادل اللطف والإحسان، وتتعاون على كسب المنافع ودرء المضار، ليستشعروا بذلك الدِّعة والرخاء والقوّة على معاناة المشاكل والأحداث.

ولقد أوصى القرآن الكريم برعاية الجار والإحسان إليه فقال:

( وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ( النساء: ٣٦ ).

٤٥٨

والمُراد - بالجار ذي القربى - الجار القريب داراً أو نسَباً - والجار الجنب - هو البعيد جواراً أو نسباً.

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ أربعينَ داراً جيران مِن بين يدَيه ومِن خلفه، وعن يمينه وعن شماله )(١).

و - الصاحب بالجَنب - الرفيق في السفر، أو الزميل في التعليم، أو في الحرفة.

و - ابن السبيل - المُسافر أو الضيف.

- وما ملَكت أيمانكم - الأهل والخدَم.

وناهيك في حرمة الجار وضرورة رعايته قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: ( ما زال جبرئيل يُوصيني بالجار، حتّى ظننتُ أنّه سيورّثه )(٢) .

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله ): حُسن الجوار يُعمّر الديار، ويُنسئ في الأعمار )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام ، ( ليس منّا مَن لم يُحسن مجاورةَ مَن جاوره )(٤).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما آمن بي مَن بات شبعان وجارُه جائع، وما مِن أهل قريةٍ يبيت فيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة )(٥).

_____________________

(١) الوافي. ج ٣ ص ٩٧ عن الكافي.

(٢) الوافي. ج ٣ ص ٩٦ عن الفقيه.

(٣)، (٤)، (٥) الوافي ج ٣ ص ٩٦ عن الكافي.

٤٥٩

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ يعقوب لمّا ذهب منه بنيامين نادى، يا ربّ أما ترحمني، أذهَبت عيني، وأذهَبت ابني. فأوحى اللّه تعالى إليه: لو أمتّهما لأحييتهما لك حتّى أجمع بينك وبينهما، ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها، وشويتها وأكلت، وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئاً )(١).

وفي روايةٍ أُخرى قال: ( وكان بعد ذلك يعقوب يُنادي مناديه كلّ غداة، مِن منزله على فرسخ، ألا مَن أراد الغداء فليأتِ إلى يعقوب. وإذا أمسى نادى: ألا مَن أراد العشاء فليأتِ إلي يعقوب )(٢).

حقوق الجار:

وخلاصتها أنْ يُساس الجار باللطف وحُسن المداراة، كابتدائه بالسلام وعيادته في المرض، وتهنئته في الأفراح، وتعزيته في المصائب، وعدَم التطلّع إلى حرمه، والإغضاء عن هفَواته، وكفّ الأذى عنه، وإعانته ماديّاً إذا كان معوزاً، وإعادة ما يستعيره مِن الأدوات المنزليّة، ونصحه إذا ما زاغ وانحرف عن الخطّ المستقيم.

ومِن طريف ما يُحكى في حُسن الجوار:

( إنّ رجُلاً كان جاراً لأبي دلف ببغداد، فأدركته حاجة، وركِبه دينٌ فادحٌ حتّى احتاج إلى بيع داره، فساوموه فيها، فسمّى لهم ألف

_____________________

(١) - (٢) الوافي ج ٣ ص ٩٦ عن الكافي.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517