أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333438 / تحميل: 11883
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

دينار، فقالوا له: إنّ دارك تساوي خمسمِئة دينار. فقال: أبيع داري بخمسمِئة، وجوار أبي دلَف بخمسمِئة، فبلغ أبا دلَف الخبَر، فأمَر بقضاء دينه ووصله، وقال: لا تنتقل مِن جوارنا. فانظر كيف صار الجوار يُباع كما تُباع العقار ).

* * *

٤٦١

حقوق المجتمع الإسلامي

فضل المجتمع الإسلامي:

كان المجتمع الإسلامي إبّان رُقيّه وازدهاره، نموذجاً فذّاً ونمَطاً مثاليّاً بين المجتمعات العالميّة المتحضّرة، بخصائصه الرفيعة، ومزاياه الغُرّ التي بوّأته قمَم المفاخر والأمجاد، وأنشأت مِن أفراده أُسرةً إسلاميّةً مرصوصةَ الصفّ، خفّاقةَ اللواء، مرهوبةَ الجانب، موصوفةً بالفضائل والمُكرمات.

لقد كان فذّاً في عقيدته التي حوَت أسرار التوحيد، وأوضحت خصائص الإلوهيّة وصفاتها الحقّة، وجلّت واقع النبوّة والأنبياء، وفصلت حقائق المعاد، وما يجيش به مِن صوَر النعيم والعذاب.

حوَت كلّ ذلك، وصوّرته تصويراً رائعاً يستهوي العقول والقلوب ويقنع الضمائر حتّى باركها اللّه واصطفاها بين العقائد والأديان.

( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ( آل عمران: ٨٥ ).

وكان فذّاً في شريعته الغرّاء، تلك التي تكاملت بها شرائع السماء وبلَغت قمّة الوحي الإلهي ما جعلها الشريعة الخالدة عبر الحياة، والدستور الأمثل للبشريّة جمعاء.

وكان فذّاً في أخلاقه، فقد ازدهرت في ربوعه القِيّم الأخلاقيّة وتكاملت

٤٦٢

حتّى أصبحَت طابعاً مميّزاً للمسلم الحقّ، كما وصفه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: ( المؤمن مَن أمنه الناسُ على أموالهم ودمائهم، والمُسلم من سلِم المسلمون مِن يدِه ولِسانه، والمُهاجر مَن هجَر السيّئات )(١).

وكان مثلاً رفيعاً في آدابه الاجتماعيّة:

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبِب لغَيرِك ما تُحبُّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلِم كما لا تحبّ أنْ تُظلم، وأحسن كما تُحبُّ أنْ يُحسن إليك، واستقبح مِن نفسك ما تستقبح مِن غيرك، وارضَ مِن الناس بما ترضاه لهم مِن نفسك، ولا تقُل ما لا تعلم، وإنْ قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أنْ يُقال لك )(٢).

وكان فريداً في تآخيه: فقد أعلن مبدأ المؤاخاة وحقّقه بين أفراده بأُسلوبٍ لم تستطِع تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ:

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات:١٠ ).

وأصبح المجتمع أُسرةٌ واحدة تستشعر روح الإخاء، وتتجاوب في عواطفها ومشاعرها، وكان ذلك مِن أعظم منجزات الإسلام وفتوحاته الإصلاحيّة.

وكان مثاليّاً في أريحيّته وتكافله: فالمسلم معنيٌّ بشؤون المجتمع والاهتمام بمصالحه، والعطف على بؤسائه ومعوزيه.

_____________________

(١) الوافي ج ١٤ ص ٤٨ عن الفقيه.

(٢) نهج البلاغة، من وصيّته لابنه الحسنعليه‌السلام .

٤٦٣

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله ): مَن أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الخلق عيالُ اللّه، وأحبُّ الخلقِ إلى اللّه مَن نفَع عيالَ اللّه، وأَدخَل على بيتٍ سروراً )(٢).

حقوق المجتمع الإسلامي:

للفرد قيمتهُ ومنزلته في المجتمع، بصفته لبنةً في كيانه، وغصناً مِن أغصان دَوحته، وبمقدار ما يَسعَد الفرد، وينال حقوقه الاجتماعيّة يَسعّد المجتمع، وتشيع فيه دواعي الطمأنينة والرخاء، وبشقائه وحِرمانه يشقَى المجتمع وتسوده عوامل البَلبَلَة والتخلّف.

لذلك كان حتماً مقضيّاً على المجتمع رعاية مصالح الفرد، وصيانة كرامته، ومنحه الحقوق الاجتماعيّة المشروعة، ليستشعر العزَّة والسكينة والرخاء، في إطار أُسرته الاجتماعيّة، وإليك أهمّ تلك الحقوق:

١ - حقُّ الحياة:

وهو حقٌّ طبيعيٌّ مقدّس يجب رعايته وصيانته، ويَعتبر الإسلام هدرَه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

٤٦٤

والاعتداء عليه جنايةً نَكراء، وجُرماً عظيماً يتوعّد عليه بالنار:( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء: ٩٣ ).

ولم يكتفِ الإسلام بإنذار السفّاكين، ووعيدهم بالعقاب الأُخروي، فقد شرّع القَصاص مِن القاتل عمداً، والديَة عليه خطأً، حمايةً لدِماء المسلمين، وحسماً لإحداث القتل وجرائمه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ).

وليس للإنسان أنْ يُفرّط في حياته ويزهقها بالانتحار، وإنّما يجِب عليه حفظها وصيانتها مِن الأضرار والمهالك:( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ( البقرة: ١٩٥ ).

وقد بالغ الإسلام في قدسيّة الأرواح وحمايتها، حتّى حرّم قتل الجنين وإجهاضه تخلّصاً منه، وفرَض الديَة على قاتله.

٢ - حقُّ الكرامة:

لقد شرّف اللّه المؤمن وحَباه بصنوفِ التوقير والإعزاز، وألوان الدعمِ والتأييد. فحفَظ كرامته، وصَان عِرضه، وحرّم ماله ودمه، وضمِن حقوقه، ووالى عليه ألطافه، حتّى أعلن في كتابه الكريم عنايته بالمؤمن ورعايته له في الحياة العاجلة والآجلة:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ

٤٦٥

تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) ( حم السجدة: ٣٠ - ٣١ ).

( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ( يونس: ٦٣ - ٦٤ ).

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر:٥١ ).

وحرّم الإسلام بعد هذا كلّ ما يبعث على استهانة المؤمن، وخدْشِ كرامته وتلويث سُمعته باغتيابه والتجسّس عليه، والسخريةِ منه ؛ ليُطهّر المجتمع الإسلامي مِن عوامل التباغض والفُرقه. ولِيُشِع في رُبوعه مفاهيم العزّة والكرامة.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) ( الحجرات: ١٢).

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الحجرات: ١١ ).

وهكذا حرص الإسلام على إعزاز المؤمن وحماية شرفه وكرامته حتّى بعد وفاته، فجعَل حُرمته ميّتاً كحرمتهِ حيّاً، وفرَض على المسلمين تجهيزه بعد الممات وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وحرّم كلّما يثلب كرامته كالمُثلة به ونبشِ قبره، واستغابته والطعن فيه.

٤٦٦

وقد جهد الإسلام في حماية المسلمين، وضمان كرامتهم فرداً ومجتمعاً،ماديّاً وأدبيّاً:

فشرّع الحدود والديات صيانةً لأرواحهم وأموالهم وحرماتهم، وردعاً للمجرمين العابثين بأمنِ المجتمع ومقدّراته.

( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ).

( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ) ( المائدة: ٣٣ ).

وبالَغ الإسلام في عقوبة الزاني لاستهتاره بقُدسيّة أعراض الناس، وانتهاكه صميم كرامتهم وشرفهم.

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) ( النور: ٢ ).

وقرّر الحدّ الصارم على السارق حسماً لإجرامه وحِرصاً على أمن المسلمين واطمئنانهم.

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ ) ( المائدة: ٣٨ ).

وهكذا أعلن أهل البيتعليهم‌السلام شرف المؤمن وعزّته، وأحاطوه بهالة مِن التوقير والإجلال وألوان الحصانة والصيانة:

فعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه

٤٦٧

وآله ): سُباب المؤمن فسوق، وقتالُه كُفر، وأكلُ لحمه مَعصية، وحُرمة مالهِ كحُرمة دمِه )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال:

( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قال اللّه عزّ وجل: مَن أهان لي وليّاً، فقد أرصد لمُحاربتي. وما تقرّب إليّ عبدٌ بشيءٍ أحبُّ إليّ ممّا افترضت عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمَع به، وبصره الذي يُبصرُ به، ولِسانه الذي ينطق به، ويدُه التي يَبطش بها، إنْ دعاني أجبته، وإنْ سألني أعطَيته، وما تردّدت عن شيءٍ إنّا فاعله كتردّدي عن موت عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته )(٢).

وعنهعليه‌السلام قال:

( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا معشر مَن أسلَم بلسانه، ولم يخلُص الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه مَن يتّبع عوراتهم يتّبع اللّه عورته، ومَن يتّبع اللّه عورته يفضَحه ولو في بيته )(٣).

وعنهعليه‌السلام قال:

( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أذاع فاحشةً كان كمبتدئها

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٤١ عن الكافي.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤١ عن الكافي.

(٣) البحار كتاب العشرة ص ١٧٧ عن الكافي.

٤٦٨

ومَن عيّر مؤمناً بشيءٍ، لم يمُت حتّى يركبه )(١).

٣ - حقُّ الحريّة:

والحريّة هي: انعتاق الإنسان وتحرّره مِن أسرِ الرقّ والطغيان، وتمتّعه بحقوقه المشروعة. وهي مِن أقدَس الحقوق وأجلّها خطراً، وأبلغُها أثَراً في حياة الناس.

لذلك أقرّ الإسلام هذا الحقَّ وحرَص على حمايته وسيادته في المجتمع الإسلامي.

وليست الحريّة كما يفهمها الأغرار: هي التحلّل مَن جميع النظم والضوابط الكفيلة بتنظيم المجتمع، وإصلاحه وصيانة حقوقه وحُرُماته، فتلك هي حريّة الغاب والوحوش الباعثة على فساده وتسيّبه.

وإنّما الحريّة الحقّة هي: التمتّع بالحقوق المشروعة التي لا تناقض حقوق الآخرين ولا تجحف بهم.

وإليك طرفاً مِن الحريّات:

أ - الحريّة الدينيّة:

فمِن حقِّ المسلم أنْ يكون حرّاً طليقاً في عقيدته وممارسة عباداته، وأحكام شريعته. فلا يجور قسره على نبذها أو مخالفة دستورها، ويُعتبر ذلك عدواناً صارخاً على أقدَس الحرّيات، وأجلّها خطراً في دنيا الإسلام

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٣ عن الكافي.

٤٦٩

والمسلمين. وعلى المسلم أنْ يكون صُلباً في عقيدته، صامداً إزاء حملات التضليل التي يشنّها أعداء الإسلام، لإغواء المسلمين وإضعاف طاقاتهم ومعنويّاتهم.

ب - الحريّة المدنيّة:

ومِن حقّ المسلم الرشيد أنْ يكون حرّاً في تصرّفاته، وممارسة شؤونه المدنيّة، فيستوطن ما أحبّ مِن البلدان، ويختار ما شاء من الحرف والمكاسب ويتخصّص فيما يهوى مِن العلوم، وينشئ ما أراد مِن العقود، كالبيع والشراء والإجارة والرهن ونحوها. وهو حرٌّ في مزاولة ذلك على ضوء الشريعة الإسلاميّة.

ج - حريّة الدعوة الإسلاميّة:

وهذه الحريّة تخصّ الأكفاء مِن المسلمين القادرين على نشر التوعية الإسلاميّة، وإرشاد المسلمين وتوجيههم وجهة الخير والصلاح. وذلك ما يبعث على تصعيد المجتمع الإسلامي ورقيّه دينيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، ويعمل على وقايته وتطهيره مِن شرور الرذائل والمنكرات.

( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران: ١٠٤ ).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( لا يزال الناسُ بخيرٍ ما أمروا بالمعروف، ونهَوا عن المُنكر، وتعاونوا

٤٧٠

على البرِّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعَت منهم البرَكات، وسُلّط بعضُهم على بعض، ولم يكُن لهم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء )(١) .

٤ - حقُّ المساواة:

كانت الأُمَم العالميّة تعيش حياة مُزرية، تسودُها الأُثرة والأنانيّة، وتُفرّقها نوازع الامتيازات الطبقيّة. فكان التفاوت الطبَقي مِن أبرَز مظاهر العرَب الجاهليّين، إذ كانوا يضطهدون الضُّعفاء ويستعبدونهم كالأرقّاء، ولا يؤاخذون الأشراف على جنايةٍ او جُرمٍ تمييزاً لهم عن سوَقَة الناس.

وحسبُك ما كان عليه مُلوك العرَب يومذاك مِن الأنانيّة واستذلال الناس.

( فكان عَمْر بن هِند ملِكاً عربيّاً: وقد عوّد الناس أنْ يُكلّمهم مِن وراء حِجاب، وقد استكثر على سادة القبائل أنْ تأنَف أُمّهاتهم مِن خدمته في داره.

وكان النُّعمان بن المُنذر قد بلَغ به العسف أنْ يتّخذ لنفسه يوماً للرضى، يغدِق فيه النِّعم على كلّ قادِم إليه خبط عشواء، ويوماً للغضَب يقتل فيه كلّ طالع عليه مِن الصباح إلى المساء.

ومِن القصص المشهورة: قصّة ( عمليق ) ملِك طسم وجديس.

_____________________

(١) الوافي ج ٩ ص ٢٩ عن التهذيب.

٤٧١

كان يستبيح كلّ عروسٍ قبل أنْ تُزَفُّ إلى عروسها) (١).

وهكذا كانت الأُمم الغربيّة في تمايزها الطبَقي حتّى قيام الثورة الفرنسيّة التي طفقت تنادي بالمساواة، وتحفّز عليها ممّا أيقَظ الغربيّين وأثار فيهم شعور المساواة.

ولكنّ رواسب الطبقة لا تزال عالِقة في نفوس الغربيّين تُستشَفّ مِن خلال أقوالهم وتصرّفاتهم:

فالألمانيّة النازيّة: تُقدّس الجِنس الآري، وتفضّله على سائر الأجناس البشريّة.

والأُمَم الأمريكيّة: لا يزال الصراع فيها قائماً بين البيض والسود مِن جرّاء أنانيّة البيض وترفّعهم عن مخالطة السود، ومشاركتهم في المدارس والمطاعم وسائر مرافق الحياة.

وهكذا درَجَت بريطانيا على إشاعة التفاوت الطبَقي بين البيض والملوّنين في جنوب إفريقيا، حيثُ جعلَت البيض سادةً مدلّلين، والسود أرقّاء مُستعبَدين لهم.

وكذلك نجد التمايز والتفاوت واضحَين في ظِلال الحكم الشيوعي بين العامل ورئيسه، والجندي وقائده، والفنّانين والكادحين، ولم يستطيع رغم تشدّقه بالمساواة: محو الطبقيّة بين أتباعه.

_____________________

(١) حقائق الإسلام. للعقّاد ص ١٥٠.

٤٧٢

المساواة في الإسلام

لقد شرّع الإسلام مبدأ المساواة، ونشَر ظِلاله في رُبوع المجتمع الإسلامي بأُسلوبٍ مثاليٍّ فريد، لم تستطع تحقيقه سائرُ الشرائع والمبادئ. فأفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً، بيضاً وسوداً، عرباً وعجماً، أشرافاً وسَوَقَة، أغنياءً وفقراء، كلّهم في شرعة الإسلام سواسيةً كأسنان المشط، لا يتفاضلون إلاّ بالتقوى والعمل الصالح.

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات: ١٣ ).

والقوانين الإسلاميّة والفرائض الشرعيّة نافذةً عليهم جميعاً دون تمايز وتفريق بين الأجناس والطبَقات. وما انفك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تركيز مبدأ المساواة وتصعيده حتّى استطاع تطويره والتسامي به إلى المؤاخاة الروحيّة بين المؤمنين.

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات: ١٠ ).

حسبُك في ذلك أنّ الملوك كانوا يحسبون أنّهم فوق مستوى البشر، ويترفّعون عنهم في أبراجٍ عاجيّة يطلّون منها زهواً وكِبَراً على الناس.

يأمر القرآن الكريم سيّد المُرسلين أنْ يعلن واقعه للناس:( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ( الكهف:١١٠ ).

٤٧٣

لذلك كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذرّيته الأطهار: المثل الأعلى في تطبيق مبدأ المساواة والدعوة إليه قولاً وعملاً.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ اللّه تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوةَ الجاهليّة وتفاخرها بآبائها، ألا إنّ الناس مِن آدم، وآدم مِن تراب، وأكرمهم عند اللّه اتقاهم )(١).

ويُحدّثنا الرواة: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في سفَر فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول اللّه، عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وعليّ جمع الحطَب ).

فقالوا يا رسول اللّه، نحن نكفيك، فقال:

( قد علِمت أنّكم تكفوني، ولكن أكره أنْ أتميّز عليكم، فإنّ اللّه يكره مِن عبدهِ أنْ يراه متميّزاً بين أصحابه وقام فجمع الحطب )(٢).

ويحدّث الرواة: أنْ سوادة بن قيس قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيّام مرضه: يا رسول اللّه، إنّك لمّا أقبلت مِن الطائف استقبلتك، وأنت على ناقتك العضباء، وبيَدِك القضيب المَمْشوق، فرفعت القضيب وأنتَ تريد الراحلة فأصاب بطني، فأمره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يقتصّ منه فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه، فكشَف عن بطنه. فقال سوادة: أتأذن لي أنْ أضع فمي على بطنك، فأذن له فقال: أعوذ بموضع القصاص مِن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله النار يوم النار، فقال

_____________________

(١) الوافي ج ١٤ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام .

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤١٥.

٤٧٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا سوادة بن قيس أتعفو أم تقتص ؟ ) فقال: بل أعفو يا رسول اللّه.

فقال: ( اللهمّ اعفُ عن سَوادة بن قيس كما عفَى عن نبيّك محمّد )(١).

وهكذا كان أمير المؤمنينعليه‌السلام :

قال الصادقعليه‌السلام : ( لما وِلّيَ عليّعليه‌السلام صعَد المنبر فحمِد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّي لا أرزؤكم مِن فَيئكم درهماً ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أ فَتروني مانعاً نفسي ومُعطيكم ؟.

قال: فقام إليه عقيل كرّم اللّه وجهه فقال له: اللّه ! لتجعلني وأسوَد بالمدينة سَواء. فقالعليه‌السلام : اجلس أما كان هنا أحدٌ يتكلّم غيرك ؟ وما فضلك عليه إلاّ بسابقةٍ أو تقوى )(٢).

( ومشى إليه ثُلّة مِن أصحابه عند تفرّق الناس عنه، وفرار كثير منهم إلى معاوية طلَباً لِما قي يدَيه مِن الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعطِ هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف مِن العرَب وقُرَيش على المَوالي والعجَم ومَن تخاف عليه مِن الناس فراره إلى معاوية.

فقال لهم أمير المؤمنينعليه‌السلام : أ تأمروني أنْ أطلب النصر بالجور ؟ لا واللّه ما أفعل، ما طلَعت شمسٌ ولاحَ في السماء نجم، واللّه لو كان مالهم

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦٧١.

(٢) البحار م ٩ ص ٣٥٩ عن الكافي.

٤٧٥

لي لواسَيت بينهم، وكيف وإنّما هي أموالهم )(١).

( وقال عُمَر بن الخطّاب للناس يوماً: ما قولكم لو أنّ أميرَ المؤمنين شاهدَ امرأةَ على معصية - يعني أتكفي شهادته في إقامة الحدّ عليها - ؟.

فقال له عليّ بن أبي طالب: ( يأتي بأربعةِ شهود، أو يُجلَد حدّ القذف شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين )(٢).

وفقد انبهر الكاتب الغربي( جَـب ) بمبدَأ المساواة في الإسلام، وراح يُعرِب عن إعجابه وإكباره لذلك، فقال في كتابه - مع الإسلام -:

ليس هناك أيّة هيئة سِوى الإسلام يُمكن أنْ تنجح مثله نجاحاً باهراً في تأليف هذه الأجناس البشريّة المُتنافرة في جبهةٍ واحدة أساسها المساواة.

وإذا وضعت منازعات دول الشرق والغرب العظمى موضع الدرس فلا بدّ مِن الالتجاء إلى الإسلام لحزم النزاع.

وبتقرير مبدأ المساواة استشعر المسلمون مفاهيم العزّة والكرامة، ومعاني الوئام والصفاء، وغدَوا قادة الأُمم وروّادها إلى العدل والحريّة والمساواة.

وفي الوقت الذي قرّر الإسلام فيه المساواة، فإنّه قرّرها بأُسلوبٍ منطقيٍّ حكيم يُلائم العقول النيّرة والفطَر السليمة، ويُساير مبادئه الخالدة في إشاعة العدل، وإتاحة فُرَص التكافؤ بين عامّة المسلمين، وإناطة التفاضل

_____________________

(١) البحار م ٩ ص ٥٣٣ ( بتصرّف وتلخيص ).

(٢) عن كتاب حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام، وإعلان الأُمم المتّحدة ص ٢٧ لمحمّد الغزالي.

٤٧٦

والتمايز بينهم فيما هو مقدور لهم وداخلٌ في إمكاناتهم، مِن أعمال الخير والصلاح دون ما كان خارجاً عن طاقتهم وإرادتهم، مِن وَفرة المال أو سعة الجاه.

( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات: ١٣ ).

فهو يشرّع المساواة تحقيقاً لمبادئه العادلة البنّاءة ويقرّر التمايز كذلك نظَراً لبعض القِيَم والكفاءات التي لا يجوز إغفالها وهدرها.

( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الزمر:٩ ).

لذلك فضّل اللّه الأنبياء بعضهم على بعض، لاختلاف كفاءتهم وجهادهم في سبيل اللّه تعالى، وإصلاح البشَر وإسعادهم.

( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) ( البقرة: ٢٥٣ ).

وفضّل العلماء على الجهّال، والمؤمنين بعضَهم على بعض، لتفاوتهم في مدارج العِلم والتُّقى والصلاح.

( يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ( المجادلة: ١١).

وهكذا فاضَل بين الناس في الرزق، لاختلاف كفاءاتهم وطاقاتهم في إجادة الأعمال، ووفرة الإنتاج، فلَيس مِن العدل مساواة الغبيّ بالذكيّ، والكسول بالمُجِد والعالِم المُخترع بالعامل البسيط، إذ المساواة والحالة هذه مدعاة لخَفق العبقريّات والمواهب وهدر الطاقات والجهود.

( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ

٤٧٧

بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف: ٣٢ ).

٥ - حقّ العِلم:

للفرد قيمتُه وأثَره في المجتمع بصِفته عضواً مِن أعضائه، ولبنةً في كيانه، وعلى حسَب كفاءته ومؤهّلاته الفكريّة والجسميّة تُقاس حياة المجتمع وحالته رُقيّاً أو تخلّفاً، ازدهاراً أو خمولاً، للتفاعل القويّ بين الفرد والمجتمع.

مِن أجل ذلك دأَبت الأمَم المتحضّرة على تربية أبنائها وتثقيفهم بالعلم، حتّى فرَضوا التعليم الإجباري ويسّروه مجّاناً في مراحله الأُولى، دَعماً لحضارتهم وتصعيداً لكفاءاتهم.

وقد كان المسلمون إبّان حضارتهم مثلاً رفيعاً وقدوةً مثاليّةً في إشاعة العِلم لطلاّبه وتمجيد العُلماء وتكريمهم، حتّى استطاعت المعاهد الإسلاميّة أنْ تُخرّج أُمّةً مِن أقطاب العِلم وأعلامه.

كانوا قادةَ الفكر وبُناة الحضارة الإسلاميّة، وروّاد الأًمم إلى العلم والعرفان، وعليهم تَتلْمذ الغرب ومنهم اقتبس علمه وحضارته.

قال( سديو ) في كتابه تاريخ العرب:

- كان المسلمون في القرون الوسطى منفردين في العِلم والفلسفة والفنون وقد نشروها اينما حلت اقدامهم، وتسربت عنهم إلى أُوربا، فكانوا هُم سبباً لنهضتها وارتقائها.

٤٧٨

وقال( جوستاف لويون ) في كتابه حضارة العرب:

- ثبت الآن أنّ تأثير العرَب في الغرب عظيمٌ كتأثيرهم في الشرق، وأنّ أوربّا مدينةٌ للعرب بحضارتها.

وكان مِن أقوى بواعث ازدهار العلوم الإسلاميّة واتّساع آفاقها، أنّ حقَّ التعليم - في المجتمع الإسلامي - كان مضموناً ومتاحاً لكلّ طالبٍ مهما كان عنصره ومستواه شريفاً أو وضيعاً، غنيّاً أو فقيراً، عربيّاً أو أعجميّاً.

وأنّ الشريعة الإسلاميّة كما فرضت على كلّ مسلمٍ طلَب العِلم والتحلّي به والانتفاع بثماره اليانعة، حتّمت على العالِم أنْ ينشر علمه ويذيعه بين المسلمين ولا يكتمه عنهم.

قال الباقرعليه‌السلام : ( عالمٌ يُنتفعُ بعلمه، أفضل مِن سبعين ألف عابد )(١).

فلَم يعرف المسلمون تلك الإثرة العلميّة، التي اتّصف بها رجال الدين الغربيّون، حتّى قيام النهضة الحديثة، وبذلك أصبَح المسلمون مَشعلاً وهّاجاً بالعِلم والعرفان.

٦ - حقّ الملكيّة:

لم يشهد التاريخ فتنةً أثارت الجدل الحادّ والنزاع الضاري كفتنة المال والملكيّة في هذا العصر، فقد انقسم العالَم فيها إلى فريقين متناحرين: أحدهما

_____________________

(١) الوافي ج ١ ص ٤٠ عن الكافي.

٤٧٩

يبيح الملكيّة الفرديّة بغير حدٍّ أو شرط، وهو الفريق الرأسمالي.

وثانيهما يستنكرها ويمنعها وهو الفريق الاشتراكي. وغدا العالَم مِن جرّاء هذَين المبدَأين المتناقضين يُعاني ضروب الأزَمات والمشاكل.

وقد حسَم الإسلام هذه الفتنة، وعالَجها علاجاً ناجحاً حكيماً، لا تجِد البشريّة أفضل منه أو بديلاً عنه لتحقيق سعادتها وسلامتها.

فهو: لا يمنع الملكيّة الفرديّة، ولا يبيحها مِن غير شرط

لا يمنعها: لأنّ الإنسان مفطور على غريزة التملّك، وحُبّ النفع الذاتي، وهما نَزعَتان راسختان في النفس، لا يستطيع الانفكاك منهما والتخلّي عنهما، وإنْ تجاهلتهما النظريّات الخياليّة التي لا تؤمن بغرائز الإنسان وميوله الفطريّة.

هي حقٌّ طبيعي يُحقّق كرامة الفرد، ويُشعره بوجوده، ويُحرّره مِن عبوديّة السلطة التي تحتكر أرزاق الناس وتستعبدهم بها.

هي حقٌّ يُفجّر في الإنسان طاقات المواهب والعبقريّات، وينفخ فيه روح الأمل والرجاء، ويُحفّزه على مضاعفة الجهود ووفرة الإنتاج وتحسينه.

وفي الوقت الذي منح الإسلام حقّ الملكيّة، فإنّه لم يمنحه على طرائق الجاهليّة الرأسماليّة، التي تُجيز اكتساب المال واستثماره بأيّ وجهٍ كان، حلالاً أم حراماً ؛ ممّا يُوجِب اجتماع المال واكتنازه في أيدٍ قليلة وحِرمان أغلَب الناس منه، ووقوعهم في أسرِ الأثرياء يتحكّمون فيهم ويستغلون جهودهم كما يشاؤون.

إنّه أباح الملكيّة بأُسلوبٍ يضمن صالح الفرد، ويَضمن صالح الجماعة

٤٨٠

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517