أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333362 / تحميل: 11880
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

يبغضني إلّا منافق ولا يُحبّني إلّا مؤمن.١

وقد أعرب عن ذلك الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام في خطبته في جامع دمشق، عند ما صعد المنبر وعرَّف نفسه فحمد الله وأثنىٰ عليه، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، ثمّ قال:

« أيّها الناس أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع، أُعطينا: العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبَّة في قلوب المؤمنين ».٢

ولا عجب في أنّه تبارك وتعالى سمّاهم كوثراً أي الخير الكثير، وقال:( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال الرازي: الكوثر: أولاده، لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابهعليه‌السلام بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيتعليهم‌السلام ، ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يُعبأ به، ثمّ انظر كم كان فيها من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضاعليهم‌السلام .٣

إنّ محبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسينعليه‌السلام لم تكن محبة نابعة من حبّه لنسَبه بل كان واقفاً على ما يبلغ إليه ولده الحسينعليه‌السلام في الفضل والكمال والشهادة في سبيله، ونجاة الأُمّة من مخالب الظلم، والثورة على الظلم والطغيان، وهناك كلام للعلّامة المجلسي يقول :

إنّ محبة المقربين لأولادهم وأقربائهم وأحبّائهم ليست من جهة الدواعي

__________________

١. مسند أحمد: ١ / ٨٤، إلى غير ذلك من المصادر المتوفرة.

٢. بحار الأنوار: ٤٥ / ١٣٨.

٣. تفسير الفخر الرازي: ٣٢ / ١٢٤.

٢٢١

النفسانية والشهوات البشرية، بل تجرّدوا عن جميع ذلك وأخلصوا حُبَّهم، و وُدَّهم لله. وحُبّهم لغير الله إنّما يرجع إلى حبهم له، ولذا لم يحب يعقوب من سائر أولاده مثل ما أحبّ يوسفعليه‌السلام منهم، ولجهلهم بسبب حبّه له نسبوه إلى الضلال، وقالوا: نحن عصبة، ونحن أحقّ بأن نكون محبوبين له، لأنّا أقوياء على تمشية ما يريده من أُمور الدنيا، ففرط حبّه يوسف إنّما كان لحب الله تعالى له واصطفائه إيّاه فمحبوب المحبوب محبوب.١

__________________

١. سفينة البحار: ١ / ٤٩٦، مادة حبب.

٢٢٢

من سمات أهل البيت:

٣

استجابة دعائهم :

الابتهال إلى الله وطلب الخير منه أو طلب دفع الشرِّ ومغفرة الذنوب، أمر مرغوب، يقوم به الإنسان تارة بنفسه، وأُخرى يتوصل إليه بدعاء الغير.

واستجابة الدعاء رهن خرق الحجب والوصول إليه سبحانه، حتى يكون الدعاء مصداقاً لقوله سبحانه:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ١ وليس كلّ دعاء مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه، فانّ لاستجابة الدعاء شروطاً مختلفة قلّما تجتمع في دعاء الإنسان العادي.

نعم هناك أُناس مطهّرون من الذنوب يكون دعاؤهم صاعداً إلى الله سبحانه ومستجاباً قطعاً، ولذلك حثَّ سبحانه المسلمين على التشرّف بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلب الاستغفار منه، قال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) .٢

وقال سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ

__________________

١. غافر: ٦٠.

٢. آل عمران: ٦٥.

٢٢٣

وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) .١

ولذلك طلب أبناء يعقوب من أبيهم أن يستغفر لهم كما يحكيه قوله سبحانه:( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) .٢

ويظهر ممّا جرى بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفد نجران من المحاجَّة والمباهلة أنّ أهل البيت إذا أمَّنوا علىٰ دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُستجاب دعاءه، فقد وفد نصارى نجران على الرسول وطلبوا منه المحاجَّة، فحاجَّهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببرهان عقلي تشير إليه الآية المباركة:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فيَكُونُ ) .٣

فقد قارعهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا البيان البليغ الذي لا يرتاب فيه ذو مرية، حيث كان نصارىٰ نجران يحتجّون ببنوّة المسيح بولادته بلا أب فوافاهم الجواب: « بأنّ مثل المسيح كمثل آدم، إذ لم يكن للثاني أب ولا أُمّ مع أنّه لم يكن ابناً لله سبحانه » وأولى منه أن لا يكون المسيح ابناً له.

ولـمّا أُفحموا في المحاجَّة التجأوا إلى المباهلة والملاعنة، وهي وإن كانت دائرة بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجال النصارى، لكن عمَّت الدعوة للأبناء والنساء، للدلالة على اطمئنان الداعي بصدق دعوته وكونه على الحقّ، وذلك لما أودع الله سبحانه في قلب الإنسان من محبة الأولاد والشفقة عليهم، فتراه يقيهم بنفسه ويركب الأهوال والاخطار دونهم، ولذلك قدَّم سبحانه في الآية المباركة الأبناء على النساء، وقال:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ

__________________

١. المنافقون: ٥.

٢. يوسف: ٩٧.

٣. آل عمران: ٥٩.

٢٢٤

أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .١

وإنَّ إتيانه سبحانه بلفظ الأبناء بصيغة الجمع يعرب عن أنّ طرف الدعوى لم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده بل أبناؤه ونساؤه، ولذلك عدَّتهم الآية نفس النبي ونساء النبي وأبناءه من بين رجال الأُمة ونسائهم وأبنائهم.

ثمّ إنّ المفسرين قد ساقوا قصة المباهلة بشكل مبسوط منهم صاحب الكشّاف، قال: لـمـّا دعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتى نرجع وننظر.

فلّما تخالوا قالوا للعاقب، وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال: والله لقد عرفتم يامعشر النصارى أنّ محمّداً نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيّاً قطُّ، فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكنّ، فإن أبيتم إلّا إِلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعليٌّ خلفها، وهو يقول: « إذا أنا دعوت فأمِّنوا ».

فقال أُسقف نجران: يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتُهلكوا، ولا يبقىٰ على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرّك على دينك، ونثبت على ديننا. قال: « فإذا أبيتم المباهلة، فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم ».

__________________

١. آل عمران: ٦١.

٢٢٥

فأبوا. قال: « فإنّي أُناجزكم »، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا، ولا تخيفنا، ولا تردُّنا عن ديننا، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة، ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك.

وقال: « والذي نفسي بيده أنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».

وعن عائشة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليٌّ، ثمّ قال:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .١

الشاهد على استجابة دعائهم أمران:

أ: قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أنا دعوت فأمّنوا، فكان دعاء النبي يصعد بتأمينهم، وأيُّ مقام أعلى وأنبل من أن يكون دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاعداً بفضل دعائهم.

ب: قول أُسقف نجران: « إنّي لأرىٰ وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها » والضمير يرجع إلى الوجوه، أي لأزاله بدعائهم أو لأزاله بالقسم على الله بهم، وقد أيَّد القول الثاني ابن البطريق في « العمدة » حيث قال: المباهلة بهم تصدق دعوى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فقد صار إبطال محاجَّة أهل نجران في القرآن الكريم بالقسم على الله بهم.٢

__________________

١. الكشّاف: ١ / ٣٢٦ - ٣٢٧، ط عام ١٣٦٧ ه‍.

٢. العمدة: ٢٤٣.

٢٢٦

وقد تركت مباهلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته أثراً بالغاً في نفوس المسلمين، يشهد عليها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما يمنعك أن تسبَّ أباتراب ؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فلن أسبَّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه، فقال له عليُّ: يا رسول الله، خلّفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي ؟

وسمعته يوم خيبر، يقول: لأُعطينّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله.

قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليّاً، فأُتي به أرمد العين، فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح الله على يديه.

ولما نزلت هذه الآية:( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) دعا رسول الله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وقال: أللّهم هؤلاء أهل بيتي.١

__________________

١. صحيح مسلم: ٧ / ١٢٠، باب فضائل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

٢٢٧

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٤

ابتغاء مرضاة الله تعالى ٰ

الإنسان الكامل، هو الذي لا يفعل شيئاً ولا يتركه إلّا لابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى، فيصل في سلوكه ورياضاته الدينيَّة إلىٰ مكان تفنىٰ فيه كلّ الدوافع والحوافز إلّا داع واحد وهو طلب رضا الله تبارك وتعالى، فإذا بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الذروة من الكمال الإنساني، وربَّما يبلغ الإنسان في ظل الرضا درجة لا يتمنّى وقوع ما لم يقع، أو عدم ما وقع، وإلى ذلك المقام يشير الحكيم السبزواري بما في منظومته:

وبهجة بما قضى الله رضا

وذو الرضا بما قضى ما اعترضا

أعظم باب الله، في الرضا وُعي١

وخازن الجنّة رضواناً دُعي

فقرا على الغنى صبورٌ ارتضى

وذان سيّان لصاحب الرضا

عن عارف عُمّر سبعين سنة

إن لم يقل رأساً لأشيا كائنة

يا ليت لم تقع ولا لما ارتفع

مما هو المرغوب ليته وقع٢

__________________

١. إشارة إلى ما روي أنّ الرضا باب الله الأعظم.

٢. شرح منظومة السبزواري: ٣٥٢.

٢٢٨

وممَّن يمثل ذلك المقام في الأُمّة الإسلامية هو إمام العارفين وسيد المتّقين عليٌّ أمير المؤمنينعليه‌السلام فهو في عامَّة مواقفه، في جهاده ونضاله، وعزلته وقعوده في بيته، وفي تسنّمه منصَّة الخلافة بإصرار من الأُمّة، فهو في كلّ هذه الأحوال والمواقف، لا همّ له إلّا طلب رضوانه تعالى.

وقد صرح الإمام بذلك عندما طلب منه تسلّم مقاليد الخلافة، فقال: « أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ».١

وقد تجلّت هذه الخصلة في عليٍّعليه‌السلام حين مبيته في فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

روى المحدّثون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا أراد الهجرة خلّف عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بمكّة لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: يا عليُّ اتَّشح ببردي الحضرمي الأخضر، ثمّ نم على فراشي، فانّه لا يخلص إليك منهم مكروه، إن شاء الله عزّ وجلّ، ففعل ذلكعليه‌السلام فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبرئيل وميكائيلعليهما‌السلام إنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟، فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنام على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٢٢٩

فقال جبرئيل: بَخٍّ بَخٍّ مَن مثلك يابن أبي طالب ؟ يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو متوجِّه إلى المدينة في شأن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) .١

وقد نقل غير واحد نزول الآية في حقّ عليٍّعليه‌السلام .

وقال ابن عباس: أنشدني أمير المؤمنين شعراً قاله في تلك الليلة:

وقيت بنفسي من وطئ الحصا

وأكرم خلق طاف بالبيت والحجر

وبتُّ أُراعي منهم ما يسوءني

وقد‌صبَّرت نفسي على‌القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمناً

ومازال في حفظ الإله وفي الستر٢

وإلى هذه الفضيلة الرابية وغيرها يشير حسّان بن ثابت في شعره عند مدح عليٍّعليه‌السلام :

من ذا بخاتمه تصدَّق راكعا

وأسرّها في نفسه إسرارا

من كان بات على فراش محمّد

ومحمد اسرى يؤم الغارا

من كان في القرآن سمّي

في تسع آيات تلين غزارا٣

محاولة طمس الحقيقة لولا

إنّ عظمة هذه الفضيلة وأهميّة هذا العمل التضحويّ العظيم، دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام عليّعليه‌السلام، وإلى أن

__________________

١. البقرة: ٢٠٧.

٢. شواهد التنزيل: ١ / ١٣٠ ؛ أُسد الغابة: ٤ / ٢٥.

٣. سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواصّ: ٢٥، ط عام ١٤٠١ ه‍.

٢٣٠

يَصِفُوا بها عليّاً بالفداء والبذل والإيثار، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات، كلّ ما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها.١

إنّ هذه الحقيقة لا تنسي أبداً، فإنّه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلّا أنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الأوهام، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوّة وبخاصّة للإمام أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام ممّا لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللّامعة ويخفي حقائقه بوضع الأكاذيب، ولكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد « سمرة بن جندب » الذي أدرك عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ انضمّ بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق مقابل أموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن عليٍّعليه‌السلام، ويقول للناس أنّها نزلت في حقّ قاتل عليٍّ ( أي عبد الرحمٰن بن ملجم المرادي )، ويأخذ في مقابل هذه الأُكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الفضيع - الذي أهلك به دينه ـ، مائة ألف درهم.

فلم يقبل « سمرة » بهذا المقدار ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ أربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك، فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوَّداً

__________________

١. الغدير: ٢ / ٤٨.

٢٣١

بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل، وذلك عندما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية.١

وقبل السامعون البسطاء قوله، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً أنّ ( عبد الرحمٰن بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك. فكيف يصحّ ؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، ولا يمكن أن تُنسىٰ بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد زالت حكومة معاوية وهلك أعوانها، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الذي وقع في عهدها المشؤوم، وطلعت شمس الحقيقة من وراء حُجبُ الجهل والافتراء مرة أُخرى، واعترف أغلبُ المفسِّرين الأجلّة والمحدّثين الأفاضل - في العصور والأدوار المختلفة - بأنّ الآية المذكورة نزلت في « ليلة المبيت » في بذل عليٍّعليه‌السلام ومفاداته النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه.

__________________

١. لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٤ / ٧٣.

٢٣٢

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٥

الإيثار

إنّه سبحانه تبارك وتعالى وصف الإيثار في كتابه الكريم، وهو من صفات الكرام حيث يقدِّمون الغير على أنفسهم، يقول سبحانه في وصف الأنصار:( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .١

كما أنّه سبحانه أمر بالوفاء بالنذر، قال سبحانه:( مَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ ) ٢ ، وقال سبحانه:( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) .٣

وفي الوقت نفسه ندب إلى الخوف من عذابه، يقول سبحانه:( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) ٤ وقال سبحانه:( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ

__________________

١. الحشر: ٩.

٢. البقرة: ٢٧٠.

٣. الحجّ: ٢٩.

٤. النور: ٣٧.

٢٣٣

أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) .١

ما ذكرنا من الصفات الثلاث هي من أبرز الصفات التي يتحلّىٰ بها أولياؤه سبحانه، ونجد هذه الصفات مجتمعة في أهل البيتعليهم‌السلام في سورة واحدة، يقول سبحانه:

( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا *إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) .٢

فقوله سبحانه:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ ) إشارة إلى إيثارهم الغير على أنفسهم، والضمير في( عَلَىٰ حُبِّهِ ) يرجع إلى الطعام أي انّهم مع حبّهم للطعام قدَّموا المسكين على أنفسهم، كما أنّ قوله:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) إشارة إلى صلابتهم في طريق إقامة الفرائض.

ثمّ قوله:( وَيَخَافُونَ يَوْمًا ) إشارة إلى خوفهم من عذابه سبحانه يوم القيامة.

وقد نقل أكثر المفسرين لو لم نقل كلّهم، أنّ الآيات نزلت في حقّ أهل البيتعليهم‌السلام .

روي عن ابن عباس ( رض ) أنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام مرضا فعادهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أُناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر عليٌّ وفاطمة وفضّة جاريةٌ لهما، إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما

__________________

١. الرعد: ٢١.

٢. الإنسان: ٧ - ١٠.

٢٣٤

معهم شيء، فاستقرض عليٌّعليه‌السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص علىٰ عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السّلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلّا الماء وأصبحوا صائمين.

فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، وجاءهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ عليٌّعليه‌السلام بيد الحسن والحسينعليهما‌السلام ودخلوا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أبصرهم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك.

فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال: خذها يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة.١

روى السيوطي في الدر المنثور، وقال: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ ) الآية، قال: نزلت هذه الآية في عليِّ بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .٢

ورواه الثعلبي في تفسيره، وقال: نزلت في عليِّ بن أبي طالب وفاطمةعليهما‌السلام وفي جاريتهما فضّة، ثمّ ذكر القصّة على النحو الذي سردناه لكن بصورة مبسطة.

وقال: وذهب محمّد بن علي صاحب الغزالي على ما ذكره الثعلبي في كتابه

__________________

١. الكشّاف: ٣ / ٢٩٧ ؛ تفسير الفخر الرازي: ٣٠ / ٢٤٤.

٢. الدّر المنثور: ٨ / ٣٧١، تفسير سورة الإنسان.

٢٣٥

المعروف بـ‍ « البلغة » انّهمعليهم‌السلام نزلتعليهم‌السلام مائدة من السماء فأكلوا منها سبعة أيّام، وحديث المائدة ونزولها عليهم في جواب ذلك مذكور في سائر الكتب.١

وقد سرد سبب نزول هذه الآية في حقّ أهل البيتعليهم‌السلام غير واحد من أئمّة الحديث.٢

__________________

١. العُمدة: ٢ / ٤٠٧ - ٤١٠.

٢. شواهد التنزيل: ٢ / ٤٠٥ - ٤٠٨ ؛ أُسد الغابة: ٥ / ٥٣٠ ؛ مناقب ابن المغازلي: ٢٧٢.

٢٣٦

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٦

هم خير البريّة

إنّ خير الناس في منطق القرآن الكريم من آمن بالله ورسوله وعرف خالقه ومنعمه، وقد قال سبحانه:( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) .١

وهذه الصفات المذكورة في الآية تجدها، متمثلة في أهل البيتعليهم‌السلام شهد على ذلك سيرتهم، ولذلك صاروا خير البرية.

أخرج الطبري في تفسير قوله سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .٢ باسناده عن أبي الجارود، عن محمد بن علي، قال: قال

__________________

١. البقرة: ١٧٧.

٢. البيّنة: ٧.

٢٣٧

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « أنت يا عليُّ وشيعتك ».١

روى الخوارزمي عن جابر قال: كنّا عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليّ بن أبي طالب، فقال رسول الله: « قد أتاكم أخي » ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال: « والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة »، ثمّ قال: « إنّه أوّلكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعيّة، وأقسمكم بالسويّة، وأعظمكم عند الله مزيّة »، قال: وفي ذلك الوقت نزلت فيه:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، وكان أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقبل عليٌّ، قالوا: قد جاء خير البرية.٢

وروى أيضاً من طريق الحافظ ابن مردويه، عن يزيد بن شراحيل الأنصاري، كاتب عليّعليه‌السلام، قال: سمعت عليّاً يقول: « حدَّثني رسول الله وأنا مُسْنده إلى صدري، فقال أي عليّ ! ألم تسمع قول الله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ؟ أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تُدعون غرّاً محجّلين ».٣

وأرسل ابن الصباغ المالكي في فصوله عن ابن عباس، قال: لـمّا نزلت هذه الآية، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليٍّعليه‌السلام: « أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة، أنت وهم راضين مرضيين، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين ».٤

__________________

١. تفسير الطبري: ٣٠ / ١٤٦.

٢. المناقب للخوارزمي: ١١١ برقم ١٢٠.

٣. المناقب للخوارزمي: ٢٦٥ برقم ٢٤٧.

٤. الفصول: ١٢٢.

٢٣٨

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٧

أهل البيتعليهم‌السلام ورثة الكتاب

اختلفت الأُمّة الإسلامية بعد رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر الخلافة - وإن كان اللائق بها عدم الاختلاف فيها، للنصوص الصحيحة الصادرة عنه في مختلف الموارد - وقد استقصينا البحث فيها في مبحث الإمامة من هذا الجزء.

والذي نركِّز عليه في هذا البحث هو تبيين المرجع العلمي بعد رحيله - سواء أكانت الخلافة لمن نصَّ عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الغدير أو من اختاره بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة ـ.

والمراد من المرجع العلمي مَن ترجع إليه الأُمّة في أُصول الدين وفروعه، ويصدر عنهم في تفسير القرآن وتبيين غوامضه، ويستفهم منه أسئلة الحوادث المستجدَّة.

يقول سبحانه:( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ *ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ

٢٣٩

الْكَبِيرُ ) .١

المراد من الكتاب في قوله:( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) هو القرآن بلا شكّ وكونه حقّاً لأجل براهين قطعية تُثبت أنّه منزل من ربّه فانّ قوانينه تنسجم مع الفطرة الإنسانية، والقصص الواردة فيها مصونة من الأساطير، والمجموع خالٍ من التناقض إلى غير ذلك من القرائن الدالة على أنّه حقّ. ومع ذلك هو مصدِّق لما بين يدي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب السماوي.

هذا هو مفاد الآية الأُولى.

ثمّ إنّه سبحانه يقول:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) المراد من الكتاب هو القرآن: لأنَّ اللاّم للعهد الذكري أي الكتاب المذكور في الآية المتقدمة، والوراثة عبارة عمّا يستحصله الإنسان بلا مشقة وجهد، والوارث لهذا الكتاب هم الذين أُشير إليهم بقوله:( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ، فلو قلنا بأنّ« من » للتبيين فيكون الوارث هو الأُمة الإسلامية جميعاً، ولو قلنا: إنّ« مِن » للتبعيض فيكون الوارث جماعة خاصة ورثوا الكتاب.

والظاهر هو التبيين كما في قولنا:( وَسَلامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ) .٢

ولكن الأُمة الإسلامية صاروا على أقسام ثلاثة:

أ: ظالم لنفسه: الَّذين قصَّروا في وظيفتهم في حفظ الكتاب والعمل بأحكامه، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم، فلذلك صاروا ظالمين لأنفسهم.

ب: مقتصد: الذين أدُّوا وظيفتهم في الحفظ والعمل لكن لا بنحو كامل

__________________

١. فاطر: ٣١ - ٣٢.

٢. النمل: ٥٩.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

دينار، فقالوا له: إنّ دارك تساوي خمسمِئة دينار. فقال: أبيع داري بخمسمِئة، وجوار أبي دلَف بخمسمِئة، فبلغ أبا دلَف الخبَر، فأمَر بقضاء دينه ووصله، وقال: لا تنتقل مِن جوارنا. فانظر كيف صار الجوار يُباع كما تُباع العقار ).

* * *

٤٦١

حقوق المجتمع الإسلامي

فضل المجتمع الإسلامي:

كان المجتمع الإسلامي إبّان رُقيّه وازدهاره، نموذجاً فذّاً ونمَطاً مثاليّاً بين المجتمعات العالميّة المتحضّرة، بخصائصه الرفيعة، ومزاياه الغُرّ التي بوّأته قمَم المفاخر والأمجاد، وأنشأت مِن أفراده أُسرةً إسلاميّةً مرصوصةَ الصفّ، خفّاقةَ اللواء، مرهوبةَ الجانب، موصوفةً بالفضائل والمُكرمات.

لقد كان فذّاً في عقيدته التي حوَت أسرار التوحيد، وأوضحت خصائص الإلوهيّة وصفاتها الحقّة، وجلّت واقع النبوّة والأنبياء، وفصلت حقائق المعاد، وما يجيش به مِن صوَر النعيم والعذاب.

حوَت كلّ ذلك، وصوّرته تصويراً رائعاً يستهوي العقول والقلوب ويقنع الضمائر حتّى باركها اللّه واصطفاها بين العقائد والأديان.

( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ( آل عمران: ٨٥ ).

وكان فذّاً في شريعته الغرّاء، تلك التي تكاملت بها شرائع السماء وبلَغت قمّة الوحي الإلهي ما جعلها الشريعة الخالدة عبر الحياة، والدستور الأمثل للبشريّة جمعاء.

وكان فذّاً في أخلاقه، فقد ازدهرت في ربوعه القِيّم الأخلاقيّة وتكاملت

٤٦٢

حتّى أصبحَت طابعاً مميّزاً للمسلم الحقّ، كما وصفه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: ( المؤمن مَن أمنه الناسُ على أموالهم ودمائهم، والمُسلم من سلِم المسلمون مِن يدِه ولِسانه، والمُهاجر مَن هجَر السيّئات )(١).

وكان مثلاً رفيعاً في آدابه الاجتماعيّة:

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبِب لغَيرِك ما تُحبُّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلِم كما لا تحبّ أنْ تُظلم، وأحسن كما تُحبُّ أنْ يُحسن إليك، واستقبح مِن نفسك ما تستقبح مِن غيرك، وارضَ مِن الناس بما ترضاه لهم مِن نفسك، ولا تقُل ما لا تعلم، وإنْ قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أنْ يُقال لك )(٢).

وكان فريداً في تآخيه: فقد أعلن مبدأ المؤاخاة وحقّقه بين أفراده بأُسلوبٍ لم تستطِع تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ:

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات:١٠ ).

وأصبح المجتمع أُسرةٌ واحدة تستشعر روح الإخاء، وتتجاوب في عواطفها ومشاعرها، وكان ذلك مِن أعظم منجزات الإسلام وفتوحاته الإصلاحيّة.

وكان مثاليّاً في أريحيّته وتكافله: فالمسلم معنيٌّ بشؤون المجتمع والاهتمام بمصالحه، والعطف على بؤسائه ومعوزيه.

_____________________

(١) الوافي ج ١٤ ص ٤٨ عن الفقيه.

(٢) نهج البلاغة، من وصيّته لابنه الحسنعليه‌السلام .

٤٦٣

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله ): مَن أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الخلق عيالُ اللّه، وأحبُّ الخلقِ إلى اللّه مَن نفَع عيالَ اللّه، وأَدخَل على بيتٍ سروراً )(٢).

حقوق المجتمع الإسلامي:

للفرد قيمتهُ ومنزلته في المجتمع، بصفته لبنةً في كيانه، وغصناً مِن أغصان دَوحته، وبمقدار ما يَسعَد الفرد، وينال حقوقه الاجتماعيّة يَسعّد المجتمع، وتشيع فيه دواعي الطمأنينة والرخاء، وبشقائه وحِرمانه يشقَى المجتمع وتسوده عوامل البَلبَلَة والتخلّف.

لذلك كان حتماً مقضيّاً على المجتمع رعاية مصالح الفرد، وصيانة كرامته، ومنحه الحقوق الاجتماعيّة المشروعة، ليستشعر العزَّة والسكينة والرخاء، في إطار أُسرته الاجتماعيّة، وإليك أهمّ تلك الحقوق:

١ - حقُّ الحياة:

وهو حقٌّ طبيعيٌّ مقدّس يجب رعايته وصيانته، ويَعتبر الإسلام هدرَه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

٤٦٤

والاعتداء عليه جنايةً نَكراء، وجُرماً عظيماً يتوعّد عليه بالنار:( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء: ٩٣ ).

ولم يكتفِ الإسلام بإنذار السفّاكين، ووعيدهم بالعقاب الأُخروي، فقد شرّع القَصاص مِن القاتل عمداً، والديَة عليه خطأً، حمايةً لدِماء المسلمين، وحسماً لإحداث القتل وجرائمه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ).

وليس للإنسان أنْ يُفرّط في حياته ويزهقها بالانتحار، وإنّما يجِب عليه حفظها وصيانتها مِن الأضرار والمهالك:( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ( البقرة: ١٩٥ ).

وقد بالغ الإسلام في قدسيّة الأرواح وحمايتها، حتّى حرّم قتل الجنين وإجهاضه تخلّصاً منه، وفرَض الديَة على قاتله.

٢ - حقُّ الكرامة:

لقد شرّف اللّه المؤمن وحَباه بصنوفِ التوقير والإعزاز، وألوان الدعمِ والتأييد. فحفَظ كرامته، وصَان عِرضه، وحرّم ماله ودمه، وضمِن حقوقه، ووالى عليه ألطافه، حتّى أعلن في كتابه الكريم عنايته بالمؤمن ورعايته له في الحياة العاجلة والآجلة:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ

٤٦٥

تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) ( حم السجدة: ٣٠ - ٣١ ).

( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ( يونس: ٦٣ - ٦٤ ).

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر:٥١ ).

وحرّم الإسلام بعد هذا كلّ ما يبعث على استهانة المؤمن، وخدْشِ كرامته وتلويث سُمعته باغتيابه والتجسّس عليه، والسخريةِ منه ؛ ليُطهّر المجتمع الإسلامي مِن عوامل التباغض والفُرقه. ولِيُشِع في رُبوعه مفاهيم العزّة والكرامة.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) ( الحجرات: ١٢).

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الحجرات: ١١ ).

وهكذا حرص الإسلام على إعزاز المؤمن وحماية شرفه وكرامته حتّى بعد وفاته، فجعَل حُرمته ميّتاً كحرمتهِ حيّاً، وفرَض على المسلمين تجهيزه بعد الممات وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وحرّم كلّما يثلب كرامته كالمُثلة به ونبشِ قبره، واستغابته والطعن فيه.

٤٦٦

وقد جهد الإسلام في حماية المسلمين، وضمان كرامتهم فرداً ومجتمعاً،ماديّاً وأدبيّاً:

فشرّع الحدود والديات صيانةً لأرواحهم وأموالهم وحرماتهم، وردعاً للمجرمين العابثين بأمنِ المجتمع ومقدّراته.

( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ).

( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ) ( المائدة: ٣٣ ).

وبالَغ الإسلام في عقوبة الزاني لاستهتاره بقُدسيّة أعراض الناس، وانتهاكه صميم كرامتهم وشرفهم.

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) ( النور: ٢ ).

وقرّر الحدّ الصارم على السارق حسماً لإجرامه وحِرصاً على أمن المسلمين واطمئنانهم.

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ ) ( المائدة: ٣٨ ).

وهكذا أعلن أهل البيتعليهم‌السلام شرف المؤمن وعزّته، وأحاطوه بهالة مِن التوقير والإجلال وألوان الحصانة والصيانة:

فعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه

٤٦٧

وآله ): سُباب المؤمن فسوق، وقتالُه كُفر، وأكلُ لحمه مَعصية، وحُرمة مالهِ كحُرمة دمِه )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال:

( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قال اللّه عزّ وجل: مَن أهان لي وليّاً، فقد أرصد لمُحاربتي. وما تقرّب إليّ عبدٌ بشيءٍ أحبُّ إليّ ممّا افترضت عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمَع به، وبصره الذي يُبصرُ به، ولِسانه الذي ينطق به، ويدُه التي يَبطش بها، إنْ دعاني أجبته، وإنْ سألني أعطَيته، وما تردّدت عن شيءٍ إنّا فاعله كتردّدي عن موت عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته )(٢).

وعنهعليه‌السلام قال:

( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا معشر مَن أسلَم بلسانه، ولم يخلُص الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه مَن يتّبع عوراتهم يتّبع اللّه عورته، ومَن يتّبع اللّه عورته يفضَحه ولو في بيته )(٣).

وعنهعليه‌السلام قال:

( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أذاع فاحشةً كان كمبتدئها

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٤١ عن الكافي.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤١ عن الكافي.

(٣) البحار كتاب العشرة ص ١٧٧ عن الكافي.

٤٦٨

ومَن عيّر مؤمناً بشيءٍ، لم يمُت حتّى يركبه )(١).

٣ - حقُّ الحريّة:

والحريّة هي: انعتاق الإنسان وتحرّره مِن أسرِ الرقّ والطغيان، وتمتّعه بحقوقه المشروعة. وهي مِن أقدَس الحقوق وأجلّها خطراً، وأبلغُها أثَراً في حياة الناس.

لذلك أقرّ الإسلام هذا الحقَّ وحرَص على حمايته وسيادته في المجتمع الإسلامي.

وليست الحريّة كما يفهمها الأغرار: هي التحلّل مَن جميع النظم والضوابط الكفيلة بتنظيم المجتمع، وإصلاحه وصيانة حقوقه وحُرُماته، فتلك هي حريّة الغاب والوحوش الباعثة على فساده وتسيّبه.

وإنّما الحريّة الحقّة هي: التمتّع بالحقوق المشروعة التي لا تناقض حقوق الآخرين ولا تجحف بهم.

وإليك طرفاً مِن الحريّات:

أ - الحريّة الدينيّة:

فمِن حقِّ المسلم أنْ يكون حرّاً طليقاً في عقيدته وممارسة عباداته، وأحكام شريعته. فلا يجور قسره على نبذها أو مخالفة دستورها، ويُعتبر ذلك عدواناً صارخاً على أقدَس الحرّيات، وأجلّها خطراً في دنيا الإسلام

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٣ عن الكافي.

٤٦٩

والمسلمين. وعلى المسلم أنْ يكون صُلباً في عقيدته، صامداً إزاء حملات التضليل التي يشنّها أعداء الإسلام، لإغواء المسلمين وإضعاف طاقاتهم ومعنويّاتهم.

ب - الحريّة المدنيّة:

ومِن حقّ المسلم الرشيد أنْ يكون حرّاً في تصرّفاته، وممارسة شؤونه المدنيّة، فيستوطن ما أحبّ مِن البلدان، ويختار ما شاء من الحرف والمكاسب ويتخصّص فيما يهوى مِن العلوم، وينشئ ما أراد مِن العقود، كالبيع والشراء والإجارة والرهن ونحوها. وهو حرٌّ في مزاولة ذلك على ضوء الشريعة الإسلاميّة.

ج - حريّة الدعوة الإسلاميّة:

وهذه الحريّة تخصّ الأكفاء مِن المسلمين القادرين على نشر التوعية الإسلاميّة، وإرشاد المسلمين وتوجيههم وجهة الخير والصلاح. وذلك ما يبعث على تصعيد المجتمع الإسلامي ورقيّه دينيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، ويعمل على وقايته وتطهيره مِن شرور الرذائل والمنكرات.

( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران: ١٠٤ ).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( لا يزال الناسُ بخيرٍ ما أمروا بالمعروف، ونهَوا عن المُنكر، وتعاونوا

٤٧٠

على البرِّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعَت منهم البرَكات، وسُلّط بعضُهم على بعض، ولم يكُن لهم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء )(١) .

٤ - حقُّ المساواة:

كانت الأُمَم العالميّة تعيش حياة مُزرية، تسودُها الأُثرة والأنانيّة، وتُفرّقها نوازع الامتيازات الطبقيّة. فكان التفاوت الطبَقي مِن أبرَز مظاهر العرَب الجاهليّين، إذ كانوا يضطهدون الضُّعفاء ويستعبدونهم كالأرقّاء، ولا يؤاخذون الأشراف على جنايةٍ او جُرمٍ تمييزاً لهم عن سوَقَة الناس.

وحسبُك ما كان عليه مُلوك العرَب يومذاك مِن الأنانيّة واستذلال الناس.

( فكان عَمْر بن هِند ملِكاً عربيّاً: وقد عوّد الناس أنْ يُكلّمهم مِن وراء حِجاب، وقد استكثر على سادة القبائل أنْ تأنَف أُمّهاتهم مِن خدمته في داره.

وكان النُّعمان بن المُنذر قد بلَغ به العسف أنْ يتّخذ لنفسه يوماً للرضى، يغدِق فيه النِّعم على كلّ قادِم إليه خبط عشواء، ويوماً للغضَب يقتل فيه كلّ طالع عليه مِن الصباح إلى المساء.

ومِن القصص المشهورة: قصّة ( عمليق ) ملِك طسم وجديس.

_____________________

(١) الوافي ج ٩ ص ٢٩ عن التهذيب.

٤٧١

كان يستبيح كلّ عروسٍ قبل أنْ تُزَفُّ إلى عروسها) (١).

وهكذا كانت الأُمم الغربيّة في تمايزها الطبَقي حتّى قيام الثورة الفرنسيّة التي طفقت تنادي بالمساواة، وتحفّز عليها ممّا أيقَظ الغربيّين وأثار فيهم شعور المساواة.

ولكنّ رواسب الطبقة لا تزال عالِقة في نفوس الغربيّين تُستشَفّ مِن خلال أقوالهم وتصرّفاتهم:

فالألمانيّة النازيّة: تُقدّس الجِنس الآري، وتفضّله على سائر الأجناس البشريّة.

والأُمَم الأمريكيّة: لا يزال الصراع فيها قائماً بين البيض والسود مِن جرّاء أنانيّة البيض وترفّعهم عن مخالطة السود، ومشاركتهم في المدارس والمطاعم وسائر مرافق الحياة.

وهكذا درَجَت بريطانيا على إشاعة التفاوت الطبَقي بين البيض والملوّنين في جنوب إفريقيا، حيثُ جعلَت البيض سادةً مدلّلين، والسود أرقّاء مُستعبَدين لهم.

وكذلك نجد التمايز والتفاوت واضحَين في ظِلال الحكم الشيوعي بين العامل ورئيسه، والجندي وقائده، والفنّانين والكادحين، ولم يستطيع رغم تشدّقه بالمساواة: محو الطبقيّة بين أتباعه.

_____________________

(١) حقائق الإسلام. للعقّاد ص ١٥٠.

٤٧٢

المساواة في الإسلام

لقد شرّع الإسلام مبدأ المساواة، ونشَر ظِلاله في رُبوع المجتمع الإسلامي بأُسلوبٍ مثاليٍّ فريد، لم تستطع تحقيقه سائرُ الشرائع والمبادئ. فأفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً، بيضاً وسوداً، عرباً وعجماً، أشرافاً وسَوَقَة، أغنياءً وفقراء، كلّهم في شرعة الإسلام سواسيةً كأسنان المشط، لا يتفاضلون إلاّ بالتقوى والعمل الصالح.

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات: ١٣ ).

والقوانين الإسلاميّة والفرائض الشرعيّة نافذةً عليهم جميعاً دون تمايز وتفريق بين الأجناس والطبَقات. وما انفك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تركيز مبدأ المساواة وتصعيده حتّى استطاع تطويره والتسامي به إلى المؤاخاة الروحيّة بين المؤمنين.

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات: ١٠ ).

حسبُك في ذلك أنّ الملوك كانوا يحسبون أنّهم فوق مستوى البشر، ويترفّعون عنهم في أبراجٍ عاجيّة يطلّون منها زهواً وكِبَراً على الناس.

يأمر القرآن الكريم سيّد المُرسلين أنْ يعلن واقعه للناس:( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ( الكهف:١١٠ ).

٤٧٣

لذلك كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذرّيته الأطهار: المثل الأعلى في تطبيق مبدأ المساواة والدعوة إليه قولاً وعملاً.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ اللّه تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوةَ الجاهليّة وتفاخرها بآبائها، ألا إنّ الناس مِن آدم، وآدم مِن تراب، وأكرمهم عند اللّه اتقاهم )(١).

ويُحدّثنا الرواة: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في سفَر فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول اللّه، عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وعليّ جمع الحطَب ).

فقالوا يا رسول اللّه، نحن نكفيك، فقال:

( قد علِمت أنّكم تكفوني، ولكن أكره أنْ أتميّز عليكم، فإنّ اللّه يكره مِن عبدهِ أنْ يراه متميّزاً بين أصحابه وقام فجمع الحطب )(٢).

ويحدّث الرواة: أنْ سوادة بن قيس قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيّام مرضه: يا رسول اللّه، إنّك لمّا أقبلت مِن الطائف استقبلتك، وأنت على ناقتك العضباء، وبيَدِك القضيب المَمْشوق، فرفعت القضيب وأنتَ تريد الراحلة فأصاب بطني، فأمره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يقتصّ منه فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه، فكشَف عن بطنه. فقال سوادة: أتأذن لي أنْ أضع فمي على بطنك، فأذن له فقال: أعوذ بموضع القصاص مِن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله النار يوم النار، فقال

_____________________

(١) الوافي ج ١٤ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام .

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤١٥.

٤٧٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا سوادة بن قيس أتعفو أم تقتص ؟ ) فقال: بل أعفو يا رسول اللّه.

فقال: ( اللهمّ اعفُ عن سَوادة بن قيس كما عفَى عن نبيّك محمّد )(١).

وهكذا كان أمير المؤمنينعليه‌السلام :

قال الصادقعليه‌السلام : ( لما وِلّيَ عليّعليه‌السلام صعَد المنبر فحمِد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّي لا أرزؤكم مِن فَيئكم درهماً ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أ فَتروني مانعاً نفسي ومُعطيكم ؟.

قال: فقام إليه عقيل كرّم اللّه وجهه فقال له: اللّه ! لتجعلني وأسوَد بالمدينة سَواء. فقالعليه‌السلام : اجلس أما كان هنا أحدٌ يتكلّم غيرك ؟ وما فضلك عليه إلاّ بسابقةٍ أو تقوى )(٢).

( ومشى إليه ثُلّة مِن أصحابه عند تفرّق الناس عنه، وفرار كثير منهم إلى معاوية طلَباً لِما قي يدَيه مِن الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعطِ هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف مِن العرَب وقُرَيش على المَوالي والعجَم ومَن تخاف عليه مِن الناس فراره إلى معاوية.

فقال لهم أمير المؤمنينعليه‌السلام : أ تأمروني أنْ أطلب النصر بالجور ؟ لا واللّه ما أفعل، ما طلَعت شمسٌ ولاحَ في السماء نجم، واللّه لو كان مالهم

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦٧١.

(٢) البحار م ٩ ص ٣٥٩ عن الكافي.

٤٧٥

لي لواسَيت بينهم، وكيف وإنّما هي أموالهم )(١).

( وقال عُمَر بن الخطّاب للناس يوماً: ما قولكم لو أنّ أميرَ المؤمنين شاهدَ امرأةَ على معصية - يعني أتكفي شهادته في إقامة الحدّ عليها - ؟.

فقال له عليّ بن أبي طالب: ( يأتي بأربعةِ شهود، أو يُجلَد حدّ القذف شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين )(٢).

وفقد انبهر الكاتب الغربي( جَـب ) بمبدَأ المساواة في الإسلام، وراح يُعرِب عن إعجابه وإكباره لذلك، فقال في كتابه - مع الإسلام -:

ليس هناك أيّة هيئة سِوى الإسلام يُمكن أنْ تنجح مثله نجاحاً باهراً في تأليف هذه الأجناس البشريّة المُتنافرة في جبهةٍ واحدة أساسها المساواة.

وإذا وضعت منازعات دول الشرق والغرب العظمى موضع الدرس فلا بدّ مِن الالتجاء إلى الإسلام لحزم النزاع.

وبتقرير مبدأ المساواة استشعر المسلمون مفاهيم العزّة والكرامة، ومعاني الوئام والصفاء، وغدَوا قادة الأُمم وروّادها إلى العدل والحريّة والمساواة.

وفي الوقت الذي قرّر الإسلام فيه المساواة، فإنّه قرّرها بأُسلوبٍ منطقيٍّ حكيم يُلائم العقول النيّرة والفطَر السليمة، ويُساير مبادئه الخالدة في إشاعة العدل، وإتاحة فُرَص التكافؤ بين عامّة المسلمين، وإناطة التفاضل

_____________________

(١) البحار م ٩ ص ٥٣٣ ( بتصرّف وتلخيص ).

(٢) عن كتاب حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام، وإعلان الأُمم المتّحدة ص ٢٧ لمحمّد الغزالي.

٤٧٦

والتمايز بينهم فيما هو مقدور لهم وداخلٌ في إمكاناتهم، مِن أعمال الخير والصلاح دون ما كان خارجاً عن طاقتهم وإرادتهم، مِن وَفرة المال أو سعة الجاه.

( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات: ١٣ ).

فهو يشرّع المساواة تحقيقاً لمبادئه العادلة البنّاءة ويقرّر التمايز كذلك نظَراً لبعض القِيَم والكفاءات التي لا يجوز إغفالها وهدرها.

( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الزمر:٩ ).

لذلك فضّل اللّه الأنبياء بعضهم على بعض، لاختلاف كفاءتهم وجهادهم في سبيل اللّه تعالى، وإصلاح البشَر وإسعادهم.

( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) ( البقرة: ٢٥٣ ).

وفضّل العلماء على الجهّال، والمؤمنين بعضَهم على بعض، لتفاوتهم في مدارج العِلم والتُّقى والصلاح.

( يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ( المجادلة: ١١).

وهكذا فاضَل بين الناس في الرزق، لاختلاف كفاءاتهم وطاقاتهم في إجادة الأعمال، ووفرة الإنتاج، فلَيس مِن العدل مساواة الغبيّ بالذكيّ، والكسول بالمُجِد والعالِم المُخترع بالعامل البسيط، إذ المساواة والحالة هذه مدعاة لخَفق العبقريّات والمواهب وهدر الطاقات والجهود.

( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ

٤٧٧

بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف: ٣٢ ).

٥ - حقّ العِلم:

للفرد قيمتُه وأثَره في المجتمع بصِفته عضواً مِن أعضائه، ولبنةً في كيانه، وعلى حسَب كفاءته ومؤهّلاته الفكريّة والجسميّة تُقاس حياة المجتمع وحالته رُقيّاً أو تخلّفاً، ازدهاراً أو خمولاً، للتفاعل القويّ بين الفرد والمجتمع.

مِن أجل ذلك دأَبت الأمَم المتحضّرة على تربية أبنائها وتثقيفهم بالعلم، حتّى فرَضوا التعليم الإجباري ويسّروه مجّاناً في مراحله الأُولى، دَعماً لحضارتهم وتصعيداً لكفاءاتهم.

وقد كان المسلمون إبّان حضارتهم مثلاً رفيعاً وقدوةً مثاليّةً في إشاعة العِلم لطلاّبه وتمجيد العُلماء وتكريمهم، حتّى استطاعت المعاهد الإسلاميّة أنْ تُخرّج أُمّةً مِن أقطاب العِلم وأعلامه.

كانوا قادةَ الفكر وبُناة الحضارة الإسلاميّة، وروّاد الأًمم إلى العلم والعرفان، وعليهم تَتلْمذ الغرب ومنهم اقتبس علمه وحضارته.

قال( سديو ) في كتابه تاريخ العرب:

- كان المسلمون في القرون الوسطى منفردين في العِلم والفلسفة والفنون وقد نشروها اينما حلت اقدامهم، وتسربت عنهم إلى أُوربا، فكانوا هُم سبباً لنهضتها وارتقائها.

٤٧٨

وقال( جوستاف لويون ) في كتابه حضارة العرب:

- ثبت الآن أنّ تأثير العرَب في الغرب عظيمٌ كتأثيرهم في الشرق، وأنّ أوربّا مدينةٌ للعرب بحضارتها.

وكان مِن أقوى بواعث ازدهار العلوم الإسلاميّة واتّساع آفاقها، أنّ حقَّ التعليم - في المجتمع الإسلامي - كان مضموناً ومتاحاً لكلّ طالبٍ مهما كان عنصره ومستواه شريفاً أو وضيعاً، غنيّاً أو فقيراً، عربيّاً أو أعجميّاً.

وأنّ الشريعة الإسلاميّة كما فرضت على كلّ مسلمٍ طلَب العِلم والتحلّي به والانتفاع بثماره اليانعة، حتّمت على العالِم أنْ ينشر علمه ويذيعه بين المسلمين ولا يكتمه عنهم.

قال الباقرعليه‌السلام : ( عالمٌ يُنتفعُ بعلمه، أفضل مِن سبعين ألف عابد )(١).

فلَم يعرف المسلمون تلك الإثرة العلميّة، التي اتّصف بها رجال الدين الغربيّون، حتّى قيام النهضة الحديثة، وبذلك أصبَح المسلمون مَشعلاً وهّاجاً بالعِلم والعرفان.

٦ - حقّ الملكيّة:

لم يشهد التاريخ فتنةً أثارت الجدل الحادّ والنزاع الضاري كفتنة المال والملكيّة في هذا العصر، فقد انقسم العالَم فيها إلى فريقين متناحرين: أحدهما

_____________________

(١) الوافي ج ١ ص ٤٠ عن الكافي.

٤٧٩

يبيح الملكيّة الفرديّة بغير حدٍّ أو شرط، وهو الفريق الرأسمالي.

وثانيهما يستنكرها ويمنعها وهو الفريق الاشتراكي. وغدا العالَم مِن جرّاء هذَين المبدَأين المتناقضين يُعاني ضروب الأزَمات والمشاكل.

وقد حسَم الإسلام هذه الفتنة، وعالَجها علاجاً ناجحاً حكيماً، لا تجِد البشريّة أفضل منه أو بديلاً عنه لتحقيق سعادتها وسلامتها.

فهو: لا يمنع الملكيّة الفرديّة، ولا يبيحها مِن غير شرط

لا يمنعها: لأنّ الإنسان مفطور على غريزة التملّك، وحُبّ النفع الذاتي، وهما نَزعَتان راسختان في النفس، لا يستطيع الانفكاك منهما والتخلّي عنهما، وإنْ تجاهلتهما النظريّات الخياليّة التي لا تؤمن بغرائز الإنسان وميوله الفطريّة.

هي حقٌّ طبيعي يُحقّق كرامة الفرد، ويُشعره بوجوده، ويُحرّره مِن عبوديّة السلطة التي تحتكر أرزاق الناس وتستعبدهم بها.

هي حقٌّ يُفجّر في الإنسان طاقات المواهب والعبقريّات، وينفخ فيه روح الأمل والرجاء، ويُحفّزه على مضاعفة الجهود ووفرة الإنتاج وتحسينه.

وفي الوقت الذي منح الإسلام حقّ الملكيّة، فإنّه لم يمنحه على طرائق الجاهليّة الرأسماليّة، التي تُجيز اكتساب المال واستثماره بأيّ وجهٍ كان، حلالاً أم حراماً ؛ ممّا يُوجِب اجتماع المال واكتنازه في أيدٍ قليلة وحِرمان أغلَب الناس منه، ووقوعهم في أسرِ الأثرياء يتحكّمون فيهم ويستغلون جهودهم كما يشاؤون.

إنّه أباح الملكيّة بأُسلوبٍ يضمن صالح الفرد، ويَضمن صالح الجماعة

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517