أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت7%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333463 / تحميل: 11886
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

ولا يضرّ بهذا ولا بأُولئك، وذلك بما وضَع لها مِن شروط:

١ - فهو لا يجيز اكتساب المال وتملّكه إلاّ بطرقٍ مشروعة محلّلة، وحرّم ما سِوى ذلك كالربا والرشا والاحتكار، واكتناز المال الذي فرَض اللّه فيه نصيباً للفقراء، أو ابتزازه غصباً.

٢ - شرّع قانون الإرث المُوجب لتفتيت الثراء وتوزيعه على عدَد مِن الورّاث في كلّ جيل.

٣ - شرّع الفرائض الماليّة لإعانة الفقراء وإنعاشهم، كالزكاة والخُمس والكفّارات وردّ المظالم.

وقد استطاع الإسلام بمبادئه الاقتصاديّة الحكيمة أنْ يُشيع بين المسلمين روح التعاطف والتراحم، ويحقّق العدل الاجتماعي فيهم، فلا تجِد بينهم جائعاً إزاء مُتخَم، ولا عارياً إزاء مكتسٍ بالحرير.

٧ - حق الرعاية الإسلاميّة:

كان مِن أبرَز خصائص المجتمع الإسلامي ومزاياه، ذلك التجاوب العاطفي، والأحاسيس الأخويّة المتبادلة بين أفراده، ما جعلهم كالبُنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، أو كالجسَد الواحد إذا اشتكى عضوٌ تألّمت له سائر الأعضاء.

فما كان للمسلم الحقّ أنْ يتغاضى عن الاهتمام بشؤون مجتمعه، ورعاية مصالحه العامّة، والحرص على رقيّه وازدهاره، كما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

٤٨١

( مَن أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما آمَن بي مَن بات شبْعان وجاره جائع، وما مِن أهل قريةٍ فيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة )(٢).

وما كان للمجتمع الإسلامي أنْ يتغاضى عن رعاية أفراده البؤساء، وهُم يعانون مرارة الفاقة ومضض الحرمان، دون أنْ يتحسّس بمشاعرهم ويتطوّع لإغاثتهم والتخفيف مِن ضُرّهم.

وحسبُك في شرف المؤمن وضرورة دعمه وإسناده، دعوة أهل البيتعليهم‌السلام وحثّهم على توقيره وإكرامه ورعايته مادّياً ومعنويّاً ما لو طبَقه المسلمون اليوم لكانوا أسعد الأُمم، وأرغدهم عيشاً وأسماهم منعةً وجاهاً.

وإليك نماذج مِن وصاياهم في ذلك:

أ - إطعامه وسقيه:

قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ( مَن أطعَم مؤمناً مِن جوعٍ، أطعمه اللّه مِن ثِمار الجنّة، ومَن سقى مؤمناً سقاه اللّه مِن الرحيق المختوم )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن أطعم مؤمناً حتّى يشبعه لم يدرِ أحدٌ مِن خلقِ اللّه ماله مِن الأجر في الآخرة، لا ملَكٌ مُقرّب، ولا نبيٌّ مُرسل إلاّ اللّه ربّ العالمين ).

ثمّ قال: ( مِن مُوجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان )، ثمّ تلا قول اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٦ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٢٠ عن الكافي.

٤٨٢

تعالى:( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ) ( البلد: ١٤ـ١٥ـ١٦ )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن سقى مؤمناً شُربةً مِن ماء مِن حيثُ يقدّر على الماء، أعطاه اللّه بكلّ شربةٍ سبعينَ ألفَ حسنةٍ، وإنْ سقاه مِن حيث لا يقدِر على الماء، فكأنّما أعتق عشرَ رِقاب مِن وِلد إسماعيل )(٢).

ب - إكساء المؤمن:

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن كسا أخاه كسوةً، شتاءً أو صيف، كان حقّاً على اللّه أنْ يكسوه مِن ثياب الجنّة، وأنْ يهوّن عليه مِن سكَرات الموت وأنْ يوسّع عليه في قبره، وأنْ يلقى الملائكة إذا خرَج مِن قبره بالبشرى، وهو قوله تعالى في كتابه:( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) )(٣) ( الأنبياء:١٠٣ ).

وقالعليه‌السلام : ( مَن كسا أحداً مِن فُقراء المسلمين ثوباً مِن عري، أو أعانة بشيءٍ ممّا يقوته مِن معيشته، وكّل اللّه تعالى به سبعة آلاف ملَك مِن الملائكة، يستغفرون لكلِّ ذنبٍ عمِله إلى أنْ يُنفخ في الصور..)

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال:( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن كسا أحداً.. ) الحديث مثله - إلاّ أنّ فيه سبعين ألف ملَك(٤) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٢٠ عن الكافي.

(٢)، (٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٢١ عن الكافي.

٤٨٣

ج - قضاء حاجة المؤمن:

عن المفضّل عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: قال لي: ( يا مفضل، اسمع ما أقول لك، واعلم أنّه الحقّ، وافعله واخبر به علية إخوانك )، قلت: جُعلت فِداك وما علية إخواني ؟

قال: ( الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم )، قال: ثمّ قال:

( ومَن قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى اللّه تعالى له يوم القيامة مِئة ألف حاجة، مِن ذلك أوّلها الجنّة، ومِن ذلك أنْ يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنّة، بعد أنْ لا يكونوا نصاباً )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلاّ ناداه اللّه تعالى: عليّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنّة )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ المؤمن منكم يوم القيامة ليمرّ به الرجل له المعرفة به في الدنيا وقد أُمر به إلى النار، والملَك ينطلق به، قال: فيقول له: يا فلان، أغثني فقد كُنت أصنع إليك المعروف في الدنيا، وأُسعفك في الحاجة تطلبها منّي، فهل عندك اليوم مكافأة ؟ فيقول المؤمن للملَك الموكّل به خلّ سبيله، قال: فيسمع اللّه قول المؤمن، فيأمر الملَك أنْ يَجبر قول المؤمن، فيُخلّي سبيله )(٣).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١١٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١١٨ عن الكافي.

(٣) البحار. كتاب العشرة. ص ٨٦ عن ثواب الأعمال للصدوق.

٤٨٤

د - مسرّة المؤمن:

عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، عن أبيه، عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أحبَّ الأعمال إلى اللّه تعالى إدخال السرور على المؤمنين )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الخَلْق عِيال اللّه، فأحبُّ الخَلْق إلى اللّه مَن نفَعَ عِيالَ اللّه، وأدخَل على أهل بيتٍ سروراً )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن أدخَل على مؤمن سروراً، خلَق اللّه مِن ذلك السرور خلْقاً فيَلقاه عند موته فيقول له: أبشِر يا ولي اللّه بكرامة من اللّه ورضوان، ثمّ لا يزال معه حتّى يدخله قبره، فيقول له مثل ذلك فإذا بُعِث يلقاه فيقول له مثل ذلك، ثمّ لا يزال معه عند كلّ هول يُبشّره ويقول له مثل ذلك، فيقول له: مَن أنت رحِمَك الله ؟ فيقول له: أنا السرور الذي أدخلته على فلان )(٣).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١١٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١١٧ عن الكافي.

٤٨٥

هـ - زيارة المؤمن:

عن أبي عزّة قال: سمِعت أبا عبد اللّهعليه‌السلام يقول: ( مَن زار أخاه في اللّه، في مرضٍ أو صحّة، لا يأتيه خِداعاً ولا استبدالاً، وكّل اللّه به سبعين ألفَ ملَك، ينادونه في قَفاه: أنْ طِبتَ وطابَت لك الجنّة، فأنتم زوّار اللّه وأنتم وفد الرحمان، حتّى يأتي منزله )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ ضيفَ اللّه عزّ وجل: رجلٌ حجّ واعتمر فهو ضيفُ اللّه حتّى يرجع إلى منزله، ورجلٌ كان في صلاته فهو كنَف اللّه حتّى ينصرف، ورجلٌ زار أخاه المؤمن في اللّه عز وجل فهو زائر اللّه في ثوابه وخزائن رحمته ).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٠٧ عن الكافي.

٤٨٦

الحاكمون وواجباتهم

الإنسان مدنيٌّ بالطبع، لا يستغني عن إفراد نوعه، والأُنس بهم والتعاون معهم على إنجاز مهامّ الحياة، وكسب وسائل العيش.

وحيث كان أفراد البشَر متفاوتين في طاقاتهم وكفاءاتهم الجسميّة والفكريّة، فيهم القويّ والضعيف، والذكيّ والغبيّ، والصالح والفاسد، وذلك ما يُثير فيهم نوازع الإثرة والأنانيّة والتنافس البغيض على المنافع والمصالح، ممّا يُسبّب بلبلة المجتمع، وهدْر حقوقه وكرامته ؛ لذلك كان لا بدّ للأُمم مِن سلطةٍ راعيةٍ ضابطة، ترعى شؤونَهم وتحمي حقوقهم، وتشيع الأمن والعدل والرخاء فيهم.

ومِن هنا نشأت الحكومات وتطوّرت عِبر العصور مِن صورها البدائيّة الأُولى حتّى بلغَت طورها الحضاري الراهن، وكان للحكّام أثرٌ بليغ في حياة الأٌمم والشعوب وحالاتها رقياً أو تخلفاً، سعادة أو شقاءً، تبعاً لكفاءة الحكام وخصائصهم الكريمة أو الذميمة.

فالحاكم المثالي المُخلص لامته هو: الذي يسوسها بالرفق والعدل والمساواة، ويحرص على إسعادها ورفع قيمتها المادية والمعنويّة.

والحاكم المستبدّ الجائر هو: الذي يستعبد الأُمّة ويسترقّها لأهوائه ومآربه ويعمَد على إذلالها وتخلّفها، وقد أوضحت آثار أهل البيتعليهم‌السلام أهميّة الحكّام وآثارهم الحسنة أو السيّئة في حياة الأُمّة، فأثنت على العادلين المُخلصين منهم، وندّدت بالجائرين وأنذرتهم بسوء المغبّة والمصير.

٤٨٧

فعن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : صنفان مِن أُمّتي إذا صلُحا صلحت أُمّتي، وإذا فسدا فسدت. قيل يا رسول اللّه ومن هما؟ قال: الفقهاء والأُمراء )(١) .

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ( تُكلّم النار يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارياً، وذا ثروةٍ مِن المال، فتقول للأَمير: يا مَن وهَب اللّه له سُلطاناً فلَم يعدِل، فتزدرده كما يزدرد الطير حبَّ السمسم، وتقول للقارئ: يا من تزيّن للناس وبارَز اللّه بالمعاصي فتزدرده،

وتقول للغنيّ: يا من وهَب اللّه له دُنياً كثيرةً واسعةً فيضاً، وسأَله الحقير اليسير فرضاً فأَبى إلاّ بُخلاً فتزدرده )(٢).

ولم يكتفِ أهل البيتعليهم‌السلام بالإعراب عن سخَطِهم على الظلم والظالمين ووعيدهم، حتّى اعتبروا أنصارهم والضالعين في رِكابهم شُركاء معهم في الإثم والعقاب.

فعن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ. أين الظَّلَمة وأعوانهم، ومَن لاقَ لهم دواة، أو ربط لهم كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلم ؟ فاحشروهم معهم )(٣).

والطغاة مهما تجبروا وعتوا على الناس، فإنّهم لا محالة مؤاخذون بما

_____________________

(١)، (٢) البحار. كتاب العشرة. ص ٢٠٩ عن الخصال.

(٣) البحار. كتاب العشرة ص ٢١٨ عن ثواب الأعمال للصدوق.

٤٨٨

يستحقّونه مِن عقابٍ عاجلٍ أو آجل، فالمكر السيّئ لا يحيق إلاّ بأهلهِ ولعنةُ التاريخ تُلاحق الطواغيت، وتمطرهم بوابلٍ الذمِّ واللعن، وتنذرهم بسوءِ المغبّة والمصير، وفي التاريخ شواهدٍ جمّة على ذلك.

منها ما حكاه الرواة عن ابن الزيّات: إنّه كان قد اتّخذ في أيّام وزارته تنّوراً مِن حديد، وإطراف مساميره محدودة إلى داخل وهي قائمة مثل رؤوس المسال، وكان يعذّب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال، فكيف ما انقلب واحدٌ منهم أو تحرّك مِن حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه، فيجدون لذلك أشدّ الألَم ولم يسبقه أحدٌ إلى هذه المعاقبة.

فلمّا تولّى المتوكّل الخلافة اعتقل ابن الزيّات، وأمر بإدخاله التنّور وقيّده بخمسة عشَر رطلاً مِن الحديد، فأقام في التنّور أربعين يوماً ثمّ مات(١) .

ومنها: الحجّاج بن يوسف الثقفي.

فإنّه تأمّر عشرين سنة، و أُحصي مَن قتله صبراً سِوى مَن قُتِل في عساكره وحروبه فوجد - مِئة ألف وعشرين ألفاً - وفي حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهنّ ستّة عشر ألفاً مُجرّدة، وكان يحبس النساء والرجال في موضعٍ واحد، ولم يكن للحبس سترٌ يستُر الناس مِن الشمس في الصيف، ولا مِن المطر والبرد في الشتاء.

ثمّ لاقى جزاء طُغيانه وإجرامه خِزياً ولعناً وعذاباً، وكانت عاقبة أمره أنّه ابتلي بالآكلة في جوفه، وسلّط اللّه عزّ وجل عليه الزمهرير،

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٥٧٤.

٤٨٩

فكانت الكوانين المتوقّدة بالنار تُجعَل حوله، وتُدنى منه حتّى تحرق جِلده وهو لا يحسّ بها، حتّى هلَك عليه لعائن اللّه.

حقوق الرعيّة على الحاكم:

والحاكم بصفته قائد الأُمّة وحارسها الأمين مسؤول عن رعايتها وصيانة حقوقها، وضمان أمنها ورخائها، ودرء الأخطار والشرور عنها.

وإليك أهمّ تلك الحقوق:

أ - العدل:

وهو أقدس واجبات الحكّام، وأجلّ فضائلهم، وأخلَد مآثرهم، فهو أساس المُلك، وقوام حياة الرعيّة، ومصدر سعادتها وسلامها. وكثيراً ما يُوجب تمرّد الناس على اللّه تعالى، وتنكبّهم عن طاعته ومنهاجه تسلّط الطغاة عليهم واضطهادهم بألوان الظُّلامات كما شهدت بذلك أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام :

فعن الصادقعليه‌السلام عن آبائه عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال:

( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قال اللّه جلّ جلاله: أنا اللّه لا إله إلاّ أنا خلقت الملوك وقلوبهم بيدي، فأيُّما قومٍ أطاعوني جعلتُ قلوبَ الملوك عليهم رحِمَة، وأيُّما قومٍ عصوني جعلتُ قلوبَ الملوك عليهم سخِطة، ألا لا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك، توبوا إليّ أعطف قلوبهم عليكم )(١) .

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة ص ٢١٠ عن أمالي الشيخ الصدوق.

٤٩٠

وقد بحثت في القسم الأوّل مِن هذا الكتاب موضوع العدل وفضائله وأنواعه فراجعه هناك.

ب - الصلاح:

ينزع غالب الناس إلى تقليد الحكّام والعظماء تشبّهاً بهم ومحاكاةً لهم، ورغبةً في جاههم ومكانتهم.

ولهذا وجَب اتّصاف الحاكم بالصلاح وحُسن الخُلُق وجمال السيرة والسلوك ليكون قدوةً صالحة ونموذجاً رفيعاً تستلهمه الرعيّة وتسير على هديه ومنهاجه.

وانحراف الحاكم وسوء أخلاقه وأفعاله يدفع غالب الرعيّة إلى الانحراف وزجّها في متاهات الغواية والضلال، فيعجز الحاكم آنذاك عن ضبطها وتقويمها.

ونفسك فاحفظها مِن الغيّ والردى

فمتى تغواها تغوي الذي بكَ يَقتدي

وفي التأريخ شواهدٌ جمّة على تأثّر الشعوب بحكّامها، وانطباعها بأخلاقهم وسجاياهم حميدةً كانت أو ذميمة كما قيل: - الناس على دين ملوكهم.

ج - الرفق:

ويجدر بالحاكم أنْ يسوس الرعيّة بالرفق وحُسن الرعاية، ويتفادى سياسة العُنف والإرهاب، فليس شيءٌ أضرّ بسمعة الحاكم وزعزعة كيانه مِن الاستبداد والطغيان.

وليس شيءٌ أضرّ بالرعيّة، وأدعى إلى إذلالها وتخلّفها مِن أنْ تُساس بالقسوة والاضطهاد.

فعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه، ولا نُزِع مِن شيءٍ إلاّ شانه )(١) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٦ عن الكافي.

٤٩١

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن كان رفيقاً في أمره، نال ما يُريد مِن الناس )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في عهده إلى مالك الأشتَر: ( وأشعِر قلبَك الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكوننّ سبُعاً ضارياً تغتنم أكلَهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظيركَ في الخلق، يفرط منهم الزلَل، وتعرُض لهم العِلل، ويُؤتي على أيديهم في العمد والخطأ، فاعطهم مِن عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أنْ يعطيك اللّه مِن عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، واللّه فوق مَن ولاّك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم ).

وبديهيّ أنّ الرفق لا يجمل وقعه ولا يحمد صنيعه إلاّ مع النبلاء الأخيار، أمّا الأشرار العابثون بأمن المجتمع وحرماته فإنّهم لا يستحقّون الرفق ولا يليق بهم، إذ لا تجديهم إلاّ القسوة الزاجرة والصرامة الرادعة عن غيّهم وإجرامهم.

إذا أنتَ أكرمت الكريم ملكته

وإنْ أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

مضرٌ كوضعِ السيف في موضع الندى

مظاهر الرفق:

وللرفق صورٌ رائعة ومظاهر خلاّبة، تتجلّى في أقوال الحاكم وأفعاله.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٧ عن الكافي.

٤٩٢

أ - فعليه أنْ يكون عف اللسان، مهذّب القول، مجانباً للبذاء.

ب - وأنْ يكون عطوفاً على الرعيّة يتحسّس بآلامها ومآسيها، فإذا داهمها خطر، وحاق بها بلاءٌ سارَع لنجدتها ومواساتها والتخفيف مِن بؤسها وعنائها.

ج - وأنْ يتفادى إرهاق الرعيّة بالإتاوات الباهضة، والضرائب الفادحة الباعثة على شقائها وعنتها.

آثار الرفق:

للرفق خصائص وآثار طيّبة تفيء على الحاكم والمحكوم بالخير والوئام. فهو مدعاة حبّ الرعيّة للراعي وإخلاصها له وتفانيها في سبيله.

كما هو عاصم للرعيّة عن الملق والنفاق الناجمين مِن رهبة الحاكم المتجبّر والخوف مِن بطشة وفتكه. وقد مدح اللّه رسوله الأعظم بالرفق والعطف فقال تعالى:

( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

د - اختبار الأعوان:

لا يستطيع الحاكم مهما أوتي مِن قدرة وكفاءة أنْ يستقلّ بسياسة الرعيّة، ويضطلع بمهامّ الحُكم وإدارة جهازه، فهو لا يستغني عن أعوان يؤازرونه على تحقيق أهدافه وإنجاز أعماله.

٤٩٣

ولهؤلاء الأعوان أثرٌ كبيرٌ وخطير في توجيه الحاكم وتكييف أخلاقه وآرائه حسبما تتّصف به مِن خلالٍ وميولٍ رفيعةٍ أو وضيعة.

لذلك كان على الحاكم أنْ يختار بطانته وأعوانه مِن ذوي الكفاءة والنزاهة والصلاح، لتمحضه النصيحة، وتؤازره على إسعاد الرعيّة وتحقيق آمالها وأمانيها، دونما نزوع إلى إثرة أو محاباة تضرّ بصالح الرعيّة وتجحف بحقوقها.

هـ - محاسبة العمّال والموظفين:

كثيراً ما يزهو الموظّف بمنصبه ونفوذه، ويستحوذ عليه الغرور فيتحدّى الناس، ويتعالى عليهم، ويمتهن كرامتهم ويهمل أعمالهم ولا ينجزها إلاّ بدافعٍ مِن الطمع أو المُحاباة، الخوف أو الرجاء ممّا يُعرقل مهمّاتهم ويستثير سخطِهم وحنقهم على جهاز الحكم. لهذا يجب على الحاكم مراقبة الموظفين ومحاسبتهم على أعمالهم ومكافأة المُحسن منهم على إحسانه، ومعاقبة المُسيء على إساءته، ليؤدّي كلّ فردٍ منهم واجبة نحو المجتمع، وليستشعر الناس مفاهيم العزّة والكرامة والرخاء.

وبذلك تتّسق شؤون الرعيّة، ويسودها العدل، وتنجو مِن مآسي الملَق والتزلّف إلى الموظّفين بالرشا وألوان الشفاعات.

و - إسعاد الرعيّة:

والحاكم بوصفه قائد الأُمّة وراعيها الأمين، فهو مسؤول عن رعايتها والعناية بها، والحرص على إسعادها ورقيّها مادّياً وأدبيّاً. وذلك: بتفقّد شؤون الرعيّة، ورعاية مصالحها وضمان حقوقها وإشاعة الأمن والعدل والرخاء فيها، وتصعيد مستوياتها العلميّة والصحيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة

٤٩٤

والعمرانيّة: بنشر العِلم وتحسين طُرق الوقاية والعلاج وتهذيب الأخلاق والاهتمام بالتنمية الصناعيّة والزراعيّة والتجارية، بالأساليب العلميّة الحديثة واستغلال الموارد الطبيعيّة، وتشجيع المواهب والطاقات على الإبداع في تلك المجالات على أفضل وجه مُمكن.

وبذلك تتوطّد دعائم المُلك، وتعلو أمجاد الأُمم، وتتوثّق أواصر الودّ والإخلاص بين الحاكم والمحكوم، ويتبوّأ الحاكم عرش القلوب. ويحظى بخلود الذكر وطيب الثناء.

وقد عرضت في حقوق المجتمع الإسلامي طرَفاً مِن حقوق أفراده تندّرج في حقوق الرعيّة على الحاكم، باعتباره المسؤول الأوّل عن رعايتها وصيانة حقوقها، وضمان أمنها ورخائها.

حقوق الحاكم على الرعيّة

الحاكم العادل هو: قطب رَحى الأُمّة، ورائد نهضتها، وباني أمجادها، وحارسها الأمين، وهو عنصرٌ فعّال مِن عناصر المجتمع، وجزءٌ أصيل لا يتجزّأ عنه، لهذا وجَب أنْ يكون التجاوب في العواطف والمشاعر قويّاً بين الحاكم والمحكوم، والراعي والرعيّة ؛ ليستطيع الأوّل أداء رسالته الإصلاحيّة لأُمّته، وتحقيق أهدافها وأمانيّها، ولتنال الأُمّة في ظلال حكمه مفاهيم الطمأنيّنة والحريّة والرخاء.

لذلك كان للحاكم حقوق على الرعيّة إزاء حقوقها عليه، وكان على

٤٩٥

كل منهما رعاية حقوق الآخر، والقيام بواجبه نحوه.

وهذا ما أوضحه أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال:

( فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلُح الولاة إلاّ باستقامة الرعيّة، فإذا أدّت الرعيّة إلى الوالي حقّه، وأدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدين واعتدلَت معالِم العدل، وجرت على إذلالها السُنن، فصلُح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.

وإذا غلبَت الرعيّة واليها، وأجحَف الوالي برعيّته، اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثُر الإدغال في الدين، وتُرِكت محاجّ السنن، فعُمِل بالهوى وعُطّلت الأحكام، وكثُرت عِلل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقٍّ عُطّل، ولا لعظيم باطلٍ فُعِل، فهناك تذلّ الأبرار، وتعزّ الأشرار، وتعظُم تَبِعات اللّه عند العباد )(١).

وإليك مُجملاً مِن حقوق الحاكم:

١ - الطاعة: للحاكم حقّ الطاعة على رعيّته فيما يرضي اللّه عزّ وجل، حيثُ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.

والطاعة هي: المشجّع الأوّل للحاكم على إخلاصه للرعيّة، وتحسّسه بمشاعرها وآلامها، ودأبه على إسعادها وتحقيق آمالها وأمانيها.

أمّا التمرّد والعصيان والخُذلان فهي خلال مقيتة تستفزّ الحاكم وتستثير نقمته على الرعيّة، وبطشه بها، وتقاعسه على إصلاحها ورقيّها، ومِن

_____________________

(١) نهج البلاغة. مِن كلام لهعليه‌السلام في حقّ الحاكم على المحكوم.

٤٩٦

ثمّ إحباط جهوده الهادفة البنّاءة في سبيلها.

انظر كيف يوصي الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام شيعته بطاعة الحاكم: ( يا معشَر الشيعة، لا تذلّوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإنْ كان عادلاً فاسألوا اللّه إبقاءه، وإنْ كان جائراً فاسألوا اللّه إصلاحه، فإنّ صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإنّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحبّوا له ما تحبّون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم )(١) .

٢ - المؤازرة: والحاكم مهما سمت كفاءته ومواهبه، فإنّه قاصر عن الاضطلاع بأعباء الملك، والقيام بواجبات الرعيّة وتحقيق منافعها العامّة، ومصالحها المشتركة إلاّ بمؤازرة أكفائها، ودعمهم له، ومعاضدتهم إيّاه بصنوف الجهود والمواهب الماديّة والمعنويّة، الجسميّة والفكريّة. وبمقدار تجاوبهما وتضامنهما يستتبّ الأمن، ويعمّ الرخاء ويسعد الراعي والرعيّة.

٣ - النصيحة: كثيراً ما يستبدّ الغرور بالحاكم، وتستحوذ عليه نشوة الحكم وسكرة السلطان، فينزع إلى التجبّر والطغيان، واستعباد الرعيّة، وخنق حرّيتها، وامتهان كرامتها، واستباحة حرماتها، وسومها سوء المذلّة والهوان.

وهذا ما يُحتّم على الغيارى مِن قادة الرأي، وأعلام الأُمّة أنْ يبادروا إلى نصحه وتقويمه، والحدّ من طغيانه، فإنْ أجدى ذلك، وإلاّ فقد أعذر المصلحون وقاموا بواجب الإصلاح.

وقد جاء في الحديث عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام عن النبيّ

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة ص ٢١٨ عن أمالي الشيخ الصدوق.

٤٩٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله قال:

( السلطان ظلّ اللّه في الأرض، يأوي إليه كلّ مظلوم، فمَن عدَل كان له الأجر، وعلى الرعيّة الشكر، ومَن جار كان عليه الوزر وعلى الرعيّة الصبر، حتّى يأتيهم الأمر )(١) .

أمّا في العصر الحاضر وقد تطوّرت فيه أساليب الحياة، ووسائل الإصلاح، فلَم يعد الحكّام يستسيغون العظة والنصح ولا تجديهم نفعاً.

مِن أجل ذلك فقد استجازت الحكومات المتحضّرة نقد حكّامها المنحرفين عن طريق البرلمانات والصحف والمذكّرات التي تندّد بأثرتهم وأنانيّتهم، وتنذرهم عليها بلعنة الشعب، وثورته الماحقة على الطغاة والمستبدين.

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة. ص ٢١٤ عن أمالي الشيخ ابن عليّ ابن الشيخ الطوسي.

٤٩٨

حاجات الجسم والنفس

يتألّف الإنسان مِن عنصرين: عنصر الجسَد، وعنصر الروح، وهما مترابطان ترابطاً وثيقاً، ومتفاعلان تفاعلاً قويّاً، لا ينفكّ أحدهما عن الثاني إلاّ بتصرّم العمر، ونهاية الحياة، وسعادة الإنسان وهناؤه الجسمي والفكري منوطٌ بصحّة هذين العنصرين وسلامتهما معاً.

لهذا كان على ناشد السعادة ومبتغيها أنْ يعني بهما عناية فائقة تضمن صحّتهما وازدهارهما، وصيانتهما مِن المضار.

ولكلّ مِن الجسم والروح أشواقه وحاجاته:

فحاجات الجسم هي: المآرب الماديّة الموجبة لنموه وصحّته وحيويّته، كالغذاء والشراب والكساء ونحوها مِن ضرورات الحياة.

وحاجات الروح هي: الأشواق الروحيّة والنفسيّة التي تتعشّقها الروح، وتهفو إليها، كالمعرفة، والحريّة، والعدل، وراحة الضمير ورخاء البال وما إلى ذلك من المثل العليا والأماني الروحيّة. ولا مناص مِن تلبية هذه المآرب والرغائب الجسميّة والروحيّة لتحقيق صحّة الجسم والروح، وضمان هنائهما المرجو.

فحرمان الجسم مِن أشواقه يفضي به إلى الضعف والسقم والانحلال

٤٩٩

وحرمان الروح والنفس من أمانيها، يقودها إلى الحيرة والقلق والشقاء.

والسعادة الحقّة منوطة بصحّة الجسم والنفس وازدهارهما معاً ورعاية حقوقهما الماديّة والروحيّة.

حقوق الجسَد:

وتتلخّص هذه الحقوق في رعاية القوانين الصحيّة، وأتباع الآداب الإسلاميّة الكفيلة بصحّة الجسم وحيويّته ونشاطه، كالاعتدال في الطعام والشراب وتجنّب الكحول والعادات الضارّة، كالخمر والحشيش والأفيون والتوقّي مِن الشهوات الجنسيّة الآثمة، واعتياد النظافة، وممارسة الرياضة البدنيّة، ومعالجة الأمراض الصحيّة ونحو ذلك مِن مقوّمات الصحّة وشرائطها ممّا هو معروف لغالب الناس لتوفّر التوعية الصحيّة، والنصائح الطبّية في حقول الإعلام الصحفي والإذاعي. فلا أجد حاجة إلى تفصيله والإطناب فيه.

حقوق النفس:

بيد أنّ صحّة النفس ووسائل وقايتها وعلاجها، وعوامل رقيّها وتكاملها، ورعاية حقوقها وواجباتها، يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون لقلّة احتفائهم بالقيم الروحيّة والمفاهيم النفسيّة، وجهلهم بعلل النفس وانحرافاتها، وما تعكسه مِن آثار سيّئة على حياة الناس.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517