أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت15%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333222 / تحميل: 11879
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

من ذلك ما قصّه الرواة مِن حِلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، فقد كان عنده أضياف، فاستعجل خادماً له بشواءٍ كان في التنّور، فأقبَل به الخادم مسرعاً، فسقَط منه على رأس بُنيّ لعلي بن الحسينعليه‌السلام تحت الدرجة، فأصاب رأسه فقتله، فقال عليّ للغلام وقد تحيّر الغلام واضطرب: أنت حرّ، فإنّك لم تتعمّده، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه(١).

ولُقّب الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ( بالكاظم ) لوفرة حلمه، وتجرّعه الغيظ، في مرضاة اللّه تعالى.

يُحدّث الراوي عن ذلك، فيقول: كان في المدينة رجلٌ مِن أولاد بعض الصحابة يُؤذي أبا الحسن موسىعليه‌السلام ويسبّه إذا رآه، ويشتم عليّاً، فقال له بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر.

فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وزجرهم، وسأل عنه فذُكر أنّه يزرع بناحية مِن نواحي المدينة، فركب إليه فوجده في مزرعةٍ له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به لا توطئ زرعنا، فوطأهعليه‌السلام بالحمار حتّى وصل إليه، ونزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: ( كم غرمت على زرعك هذا ؟ ) قال: مِئة دينار. قال: ( فكم ترجو أنْ تصيب ؟ ) قال: لست أعلم الغيب. قال له: ( إنّما قلت كم ترجو أنْ يجيئك فيه ). قال: أرجو أنْ يجيء مِئتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن صرّة فيها ثلاثمِئة دينار وقال: ( هذا زرعك على حاله، واللّه يرزقك فيه ما ترجو ). قال:

_____________________

(١) كشف الغمّة للأربلي.

٤١

فقام الرجل فقبّل رأسه، وسأله أنْ يصفح عن فارطه، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف. قال: وراح إلى المسجد، فوجد الرجل جالساً، فلمّا نظر إليه، قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته. قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قضيّتك ؟! قد كنت تقول غير هذا.

قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسنعليه‌السلام ، فخاصموه وخاصمهم، فلمّا رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجُلسائه الذين سألوه في قتله: ( أيُّما كان خيراً، ما أردتم أم ما أردت، إنّني أصلَحتُ أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت شرّه )(١).

وقد أحسن الفرزدق حيثُ يقول في مدحهم:

من معشر حبّهم دينٌ وبغضهم

كفرٌ وقُربهم منجىً ومعتصَم

إنْ عُدّ أهل التقى كانوا أئمّتهم

أو قيل مَن خيرُ أهل الأرضِ قيل هُم

_____________________

(١) البحار مجلّد ١١ نقلاً عن إعلام الورى للطبرسي وإرشاد المفيد.

٤٢

الغضَب

وهو: حالة نفسيّة، تبعث على هياج الإنسان، وثورته قولاً أو عملاً. وهو مفتاح الشرور، ورأس الآثام، وداعية الأزَمات والأخطار. وقد تكاثرت الآثار في ذمّه والتحذير منه:

قال الصادقعليه‌السلام : ( الغضب مفتاح كلّ شر )(١) .

وإنّما صار الغضب مفتاحاً للشرور، لِما ينجم عنه من أخطار وآثام، كالاستهزاء، والتعيير، والفُحش، والضرب، والقتل، ونحو ذلك من المساوئ.

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتّى يدخل النار )(٢).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( واحذر الغضب، فإنّه جند عظيم من جنود إبليس )(٣) .

وقالعليه‌السلام : ( الحدّة ضرب من الجنون ؛ لأنّ صاحبها يندم، فإنْ لم يندم فجنونه مستحكَم )(٤).

_____________________

(١)، (٢) الكافي.

(٣)، (٤) نهج البلاغة.

٤٣

وقال الصادقعليه‌السلام : ( سمعت أبي يقول: أتى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رجلٌ بدويّ، فقال: إنّي أسكن البادية، فعلِّمني جوامع الكلام. فقال: آمرك أنْ لا تغضب. فأعاد الأعرابي عليه المسألة ثلاث مرات، حتّى رجع الى نفسه، فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول اللّه إلا بالخير....)(١) .

بواعِث الغضَب:

لا يحدث الغضب عفواً واعتباطاً، وإنّما ينشأ عن أسباب وبواعث تجعل الإنسان مرهف الإحساس، سريع التأثّر.

ولو تأمّلنا تلك البواعث، وجدناها مجملةً على الوجه التالي:

(١) قد يكون منشأ الغضَب انحرافاً صحيّاً، كاعتلال الصحّة العامّة، أو ضعف الجهاز العصبي، ممّا يسبّب سرعة التهيّج.

(٢) وقد يكون المنشأ نفسيّاً، منبعثاً عن الإجهاد العقلي، أو المغالاة في الأنانيّة، أو الشعور بالإهانة، والاستنقاص، ونحوها من الحالات النفسيّة، التي سرعان ما تستفزّ الإنسان، وتستثير غضبه.

(٣) وقد يكون المنشأ أخلاقيّاً، كتعوّد الشراسة، وسرعة التهيّج، ممّا يوجب رسوخ عادة الغضب في صاحبه.

_____________________

(١) الكافي.

٤٤

أضرار الغضب:

للغضب أضرار جسيمة، وغوائل فادحة، تضرّ بالإنسان فرداً ومجتمعاً، جسميّاً ونفسيّاً، مادّيّاً وأدبيّاً. فكم غضبة جرحت العواطف، وشحنت النفوس بالأضغان، وفصمت عُرى التحابب والتآلف بين الناس. وكم غضبة زجّت أناساً في السجون، وعرّضتهم للمهالك، وكم غضبة أثارت الحروب: وسفكت الدماء، فراح ضحيّتها الآلاف من الأبرياء.

كلّ ذلك سوى ما ينجم عنه من المآسي والأزمات النفسيّة، التي قد تؤدّي إلى موت الفجأة.

والغضب بعد هذا يحيل الإنسان بركاناً ثائراً، يتفجّر غيطاً وشرّاً، فإذا هو إنسان في واقع وحش، ووحش في صورة إنسان.

فإذا بلسانه ينطلق بالفحش والبذاء، وهتك الأعراض، وإذا بيديه تنبعثان بالضرب والتنكيل، وربّما أفضى إلى القتل، هذا مع سطوة الغاضب وسيطرته على خصمه، وإلاّ انعكست غوائل الغضب على صاحبه، فينبعث في تمزيق ثوبه، ولطم رأسه، وربّما تعاطى أعمالاً جنونيّة، كسبّ البهائم وضرب الجمادات.

الغضب بين المدح والذم:

الغضب غريزةٌ هامّة، تُلهب في الإنسان روح الحميّة والإباء، وتبعثه

٤٥

على التضحية والفداء، في سبيل أهدافه الرفيعة، ومُثله العليا، كالذود عن العقيدة، وصيانة الأرواح، والأموال، والكرامات. ومتى تجرّد الإنسان من هذه الغريزة صار عُرضةً للهوان والاستعباد، كما قيل:( من استُغضِب فلم يغضب فهو حمار ) .

فيُستَنتج من ذلك: أنّ الغضب المذموم ما أفرط فيه الإنسان، وخرج به عن الاعتدال، متحدّياً ضوابط العقل والشرع. أمّا المعتدل فهو كما عرفت، مِن الفضائل المشرّفة، التي تُعزّز الإنسان، وترفع معنويّاته، كالغضب على المنكرات، والتنمّر في ذات اللّه تعالى.

علاج الغضب:

عرفنا من مطاوي هذا البحث، طرفاً من بواعث الغضب ومساوئه وآثامه، والآن أودّ أنْ أعرض وصْفةً علاجيّة لهذا الخُلُق الخطير، وهي مؤلّفة من عناصر الحكمة النفسيّة، والتوجيه الخُلُقي، عسى أنْ يجد فيها صرعى الغضب ما يُساعدهم على مكافحته وعلاجه.

وإليك العناصر الآتية:

(١) - إذا كان منشأ الغضب اعتلالاً صحّيّاً، أو هبوطاً عصبيّاً كالمرضى والشيوخ ونحاف البنية، فعلاجُهم - والحالة هذه - بالوسائل الطبّية، وتقوية صحّتهم العامّة، وتوفير دواعي الراحة النفسيّة والجسميّة لهم، كتنظيم الغذاء، والتزام النظافة، وممارسة الرياضة الملائمة،

٤٦

واستنشاق الهواء الطلق، وتعاطي الاسترخاء العضلي بالتمدد على الفراش.

كل ذلك مع الابتعاد والاجتناب عن مرهقات النفس والجسم، كالإجهاد الفكري، والسهر المضني، والاستسلام للكآبة، ونحو ذلك من دواعي التهيّج.

(٢) - لا يحدث الغضب عفواً، وإنّما ينشأ عن أسباب تستثيره، أهمّها: المغالاة في الأنانيّة، الجدل والمراء، الاستهزاء والتعيير، المزاح الجارح. وعلاجه في هذه الصور باجتناب أسبابه، والابتعاد عن مثيراته جهد المستطاع.

(٣) - تذكّر مساوئ الغضب وأخطاره وآثامه، وأنّها تحيق بالغاضب، وتضرّ به أكثر مِن المغضوب عليه، فرُبّ أمرٍ تافه أثار غضبةً عارمة، أودت بصحّة الإنسان وسعادته.

يقول بعض باحثي علم النفس: دع محاولة الاقتصاص من أعدائك، فإنّك بمحاولتك هذه تؤذي نفسك أكثر ممّا تؤذيهم... إنّنا حين نمقت أعداءنا نتيح لهم فرصة الغلبة علينا، وإنّ أعداءنا ليرقصون طرَباً لو علِموا كم يسبّبون لنا من القلق وكم يقتصّون منّا، إنّ مقتنا لا يُؤذيهم، وإنّما يؤذينا نحن، ويحيل أيامنا وليالينا إلى جحيم(١).

وهكذا يجدر تذكر فضائل الحلم، وآثاره الجليلة، وأنّه باعث على إعجاب الناس وثنائهم، وكسب عواطفهم.

وخير محفّز على الحلم قول اللّه عز وجل:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

_____________________

(١) دع القلق وابدأ الحياة.

٤٧

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( فصلت: ٣٤ - ٣٥ )

(٤) - إنّ سطوة الغضب ودوافعه الإجراميّة، تعرّض الغاضب لسخط اللّه تعالى وعقابه، وربّما عرّضته لسطوة مَن أغضبه واقتصاصه منه في نفسه أو في ماله أو عزيز عليه. قال الصادقعليه‌السلام : ( أوحى اللّه تعالى إلى بعض أنبيائه: إبنَ آدم أذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق، وارض بي منتصراً، فإنّ انتصاري لك خيرٌ مِن انتصارك لنفسك )(١).

(٥) - من الخير للغاضب إرجاء نزَوات الغضب وبوادره، ريثما تخفّ سورته، والتروّي في أقواله وأفعاله عند احتدام الغضب، فذلك ممّا يخفّف حدّة التوتر والتهيج، ويعيده إلى الرشد والصواب، ولا يُنال ذلك إلا بضبط النفس، والسيطرة على الأعصاب.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنْ لم تكن حليماً فتحلّم، فإنّه قَلّ من تشبّه بقومٍ إلاّ أوشك أنْ يكون منهم )(٢).

(٦) - ومن علاج الغضب: الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وجلوس الغاضب إذا كان قائماً، واضطجاعه إنْ كان جالساً، والوضوء أو الغُسل بالماء البارد، ومسّ يد الرحم إنْ كان مغضوباً عليه، فإنّه من مهدّئات الغضب.

_____________________

(١) الكافي.

(٢) نهج البلاغة.

٤٨

التواضع

وهو: احترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفّع عليهم.

وهو خُلقٌ كريم، وخلّة جذّابة، تستهوي القُلوب، وتستثير الإعجاب والتقدير، وناهيك في فضله أنّ اللّه تعالى أمر حبيبه، وسيّد رُسلهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتواضع، فقال تعالى:( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )

(الشعراء: ٢١٥)

وقد أشاد أهل البيتعليهم‌السلام بشرَف هذا الخُلُق، وشوّقوا إليه بأقوالهم الحكيمة، وسيرتهم المثاليّة، وكانوا روّاد الفضائل، ومنار الخُلق الرفيع.

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ في السماء ملكين موكّلين بالعباد، فمن تواضع للّه رَفَعاه، ومن تكبّر وضَعَاه )(١).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ أحبّكم إليّ، وأقربكم منّي يومّ القيامة مجلساً، أحسنكم خُلُقاً، وأشدّكم تواضعاً، وإنّ أبعدكم منّي يوم القيامة، الثرثارون وهُم المستكبرون )(٢).

_____________________

(١) الكافي.

(٢) كتاب قرب الإسناد، وقريب من هذا الخبر ما في علل الشرائع للشيخ الصدوق.

٤٩

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء، طلباً لما عند اللّه، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتّكالاً على اللّه )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن التواضع أنْ ترضى بالمجلس دون المجلس، وأنْ تُسلّم على مَن تَلقى. وأنْ تترك المراء وإنْ كُنت محقّاً، ولا تحب أنْ تُحمَد على التقوى )(٢).

وجدير بالذكر أنْ التواضع الممدوح، هو المتّسم بالقصد والاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فالإسراف في التواضع داع إلى الخسّة والمهانة، والتفريط فيه باعثٌ على الكِبر والأنانيّة.

وعلى العاقل أنْ يختار النهج الأوسط، المبرّأ مِن الخسّة والأنانيّة، وذلك: بإعطاء كلّ فرد ما يستحقّه من الحفاوة والتقدير، حسب منزلته ومؤهّلاته.

لذلك لا يحسن التواضع للأنانيّين والمتعالين على الناس بزهوهم وصلَفِهم. إنّ التواضع والحالة هذه مدعاة للذلّ والهَوان، وتشجيعٌ لهم على الأنانيّة والكِبَر، كما يقول المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإنْ أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

وممّا قيل في التواضع قول المعرّي:

يا والي المصر لا تظلمنّ

فكم جاء مثلك ثُمّ انصرف

تواضع إذا ما رُزقت العُلا

فذلك ممّا يزيد الشرَف

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الكافي.

٥٠

وفي المثل:

تواضع الرجل في مرتبته، ذبّ للشماتة عند سقطته.

وقال الطغرائي:

ذريني على أخلاقي الشوس إنّني

عليم بإبرام العزائم والنقض

أزيد إذا أيسرت فضل تواضع

ويزهى إذا أعسرت بعضي على بعضي

فذلك عند اليسر أكسب للثنا

وهذاك عند العسر أصوَن للعرض

أرى الغصن يعرى وهو يسمو بنفسه

ويوقر حملاً حين يدنو مِن الأرض

واليك طرفاً من فضائل أهل البيت، وتواضعهم المثالي الفريد:

كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أشدَّ الناس تواضعاً، وكان إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل، وكان في بيته في مهنة أهله، يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويحمل بضاعته من السوق، ويُجالس الفقراء، ويواكل المساكين.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سارّه أحد، لا يُنحّي رأسه حتّى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتّى يرسلها الآخر، وما قعد إليه رجل قط فقامصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يقوم، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبادئ أصحابه بالمصافحة، ولم يُرَ قطّ مادّاً رجليه بين أصحابه، يُكرم من يدخل عليه، وربّما بسَط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويكنّي أصحابه، ويدعوهم بأحبِّ أسمائهم تكرِمةً لهم، ولا يقطع على أحدٍ حديثه، وكان يُقسِّم لحظاته بين أصحابه، وكان

٥١

أكثر الناس تبسّماً، وأطيبهم نفساً(١) .

وعن أبي ذرّ الغفاري: كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يجلس بين ظهرانيّ أصحابه، فيجئ الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتّى يسأل، فطلبنا إليه أنْ يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكّاناً من طين فكان يجلس عليها، ونجلس بجانبه.

ورُوي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليَّ طبخها، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وعليَّ جمع الحطب ). فقالوا: يا رسول اللّه، نحن نكفيك.

فقال: ( قد علمت أنّكم تكفوني، ولكن أكره أنْ أتميَّز عليكم، فإنّ اللّه يكره مِن عبده أنْ يراه متميَّزاً بين أصحابه )، وقام فجمع الحطب(٢).

ورُوي أنّه خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بئرٍ يغتسل، فأمسك حذيفة بن اليمان بالثوب على رسول اللّه وستره به حتّى اغتسل، ثُمّ جلس حذيفة ليغتسل، فتناول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الثوب، وقام يستر حذيفة، فأبى حذيفة، وقال: بأبي وأُمّي أنت يا رسول اللّه لا تفعل، فأبى رسول اللّه إلاّ أنْ يستره بالثوب حتّى اغتسل، وقال: ( ما اصطحب اثنان قطُّ، إلاّ وكان أحبّهما إلى اللّه أرفقهما بصاحبه )(٣).

_____________________

(١) سفينة البحار المجلّد الأول ص ٤١٥ بتصرّف وتلخيص.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤١٥.

(٣) سفينة البحار ج ١ ص ٤١٦.

٥٢

وهكذا كان أمير المؤمنينعليه‌السلام في سموّ أخلاقه وتواضعه، قال ضرار وهو يصفهعليه‌السلام :

( كان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن واللّه مع تقريبه إيّانا، وقُربه منّا، لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإنْ تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( خرَج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أصحابه، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم فقال: لكم حاجة ؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحبُّ أنْ نمشي معك. فقال لهم: انصرفوا، فإنّ مشي الماشي مع الراكب، مَفسدةٌ للراكب، ومذلّة للماشي )(١).

وهكذا يقصّ الرواة طرفاً ممتعاً رائعاً مِن تواضع الأئمّة الهداةعليهم‌السلام ، وكريم أخلاقهم.

فمِن تواضع الحسينعليه‌السلام : أنّه مرّ بمساكين وهُم يأكلون كِسراً لهم على كساء، فسلَّم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فجلس معهم وقال: ( لولا أنّه صدقة لأكلت معكم ). ثُمّ قال: ( قوموا إلى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم )(٢).

ومن تواضع الرضاعليه‌السلام :

_____________________

(١) محاسن البرقي.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب.

٥٣

قال الراوي: كنت مع الرضاعليه‌السلام في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جُعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: ( مَه، إنّ الربَّ تبارك وتعالى واحد، والأُمّ واحدة، والأبُ واحد، والجزاء بالأعمال )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٥٤

التكبّر

وهو حالة تدعو إلى الإعجاب بالنفس، والتعاظم على الغير، بالقول أو الفعل، وهو: من أخطر الأمراض الخلقيّة، وأشدّها فتكاً بالإنسان، وأدعاها إلى مقت الناس له وازدرائهم به، ونفرتهم منه.

لذلك تواتر ذمّه في الكتاب والسنّة:

قال تعالى:( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) ( لقمان: ١٨ ).

وقال تعالى:( وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ) ( الإسراء:٣٧ ).

وقال تعالى:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) ( النحل: ٢٣ ).

وقال تعالى:( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) ( الزمر: ٦٠ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ في السماء ملَكَين موكَّلين بالعباد، فمَن تواضع للّه رَفَعاه، ومن تكبّر وضعاه )(١) .

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن رجل تكبّر أو تُجبَر، إلاّ لذلةٍ وجدها في نفسه )(٢) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥٠ عن الكافي.

٥٥

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ أحبّكم إليّ، وأقربكم منّي يوم القيامة مجلساً، أحسنكم خُلُقاً، وأشدّكم تواضعاً، وإنّ أبعدكم منّي يوم القيامة، الثرثارون، وهُم المستكبرون )(١) .

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( مرّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على جماعة فقال: على ما اجتمعتم ؟ فقالوا: يا رسول اللّه، هذا مجنون يُصرع، فاجتمعنا عليه. فقال: ليس هذا بمجنون، ولكنّه المبتلى. ثمّ قال: ألا أخبركم بالمجنون حقّ المجنون ؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: المُتَبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمكنبيه، يتمنّى على اللّه جنّته، وهو يعصيه، الذي لا يُؤمنُ شرّه، ولا يُرجى خيره، فذلك المجنون وهذا المبتلى )(٢) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبة له: ( فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد ؟ وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة، لا يُدرى أمِن سنيّ الدنيا، أم مِن سنيّ الآخرة، عن كِبر ساعة واحدة، فمَن بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته، كلا ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، واستعيذوا باللّه من لواقح الكِبر، كما تستعيذون من طوارق الدهر، فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه ورُسُله، ولكنّه سُبحانه

_____________________

(١) البحار مج ١٥ ج ٢ ص ٢٠٩، عن قرب الإسناد، وقريب منه في علل الشرائع للصدوق( ره ).

(٢) البحار م (١٥) ج ٣ ص ١٢٥ عن الخصال للصدوق.

٥٦

كرّه إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع )(١).

وعن الصادق عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام قال: ( وقع بين سلمان الفارسي وبين رجلٍ كلام وخصومة فقال له الرجل: مَن أنت يا سلمان ؟ فقال سلمان: أمّا أوّلي وأوّلُك فنطفةٌ قذرة، وأمّا آخِري وآخِرُك فجيفةٌ منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووِضِعَت الموازين، فمن ثقُل ميزانه فهو الكريم، ومَن خفّ ميزانه فهو اللئيم )(٢).

وعن الصادقعليه‌السلام قال: ( جاء رجلٌ موسر إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نقيّ الثوب، فجلس إلى رسول اللّه، فجاء رجلٌ مُعسِر، درن الثوب، فجلَس إلى جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه مِن تحت فخذيه، فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخفت أنْ يمسّك مِن فقره شيء ؟ قال: لا. قال: فخِفتَ أنْ يوسّخ ثيابك ؟ قال: لا. قال: فما حملَك على ما صنعت ؟ فقال: يا رسول اللّه، إنّ لي قريناً يُزيّن لي كلّ قبيح ويقبّح لي كلّ حسَن، وقد جعلت له نصف مالي. فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله للمعسِر: أتقبل ؟ قال: لا. فقال له الرجل: لِمَ ؟ قال: أخاف أنْ يدخلني ما دخلك ).

مساوئ التكبّر:

من الواضح أن التكبر من الأمراض الأخلاقية الخطيرة، الشائعة

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٢٤ عن أمالي الصدوق.

٥٧

في الأوساط الاجتماعيّة، التي سرت عدواها، وطغت مضاعفاتها على المجتمع، وغدا يعاني مساوئها الجمّة.

فمن مساوئ التكبّر وآثاره السيّئة في حياة الفرد:

أنّه متى استبدّ بالإنسان، أحاط نفسه بهالةٍ من الزهو والخيَلاء، وجُنّ بحبِّ الأنانيّة والظهور، فلا يسعده إلاّ الملِق المزيف، والثناء الكاذب، فيتعامى آنذاك عن نقائصه وعيوبه، ولا يهتمّ بتهذيب نفسه، وتلافي نقائصه، ما يجعله هدفاً لسهام النقد، وعرضة للمقت والازدراء.

هذا إلى أنّ المتكبّر أشدّ الناس عُتوّاً وامتناعاً عن الحقّ والعدل، ومقتضيات الشرائع والأديان.

ومن مساوئ التكبّر الاجتماعيّة:

أنّه يُشيع في المجتمع روح الحقد والبغضاء، ويعكّر صفو العلاقات الاجتماعيّة، فلا يسيء الناس ويستثير سخطهم ومقتهم، كما يستثيره المتكبّر الذي يتعالى عليهم بصلفه وأنانيّته.

إنّ الغطرسة داء يُشقي الإنسان، ويجعله منبوذاً يعاني مرارة العزلة والوحشة، ويشقي كذلك المرتبطين به بصنوف الروابط والعلاقات.

بواعث التكبّر:

الأخلاق البشريّة كريمة كانت أو ذميمة، هي انعكاسات النفس على صاحبها، وفيض نبعها، فهي تُشرق وتُظلم، ويحلو فيضها ويمرّ تبعاً

٥٨

لطيبة النفس أو لؤمها، استقامتها أو انحرافها. وما مِن خُلُق ذميم إلاّ وله سببٌ من أسباب لؤم النفس أو انحرافها.

فمن أسباب التكبّر: مغالاة الإنسان في تقييم نفسه، وتثمين مزاياها وفضائلها، والإفراط في الإعجاب والزهو بها، فلا يتكبّر المتكبّر إلاّ إذا آنَس من نفسه عِلماً وافراً، أو منصباً رفيعاً، أو ثراءً ضخماً، أو جاهاً عريضاً، ونحو ذلك من مثيرات الأنانيّة والتكبّر.

وقد ينشأ التكبّر من بواعث العِداء أو الحسَد أو المباهاة، ممّا يدفع المتّصفين بهذه الخلال على تحدّي الأماثل والنُبلاء، وبَخس كراماتهم، والتطاول عليهم، بصنوف الازدراءات الفعليّة أو القوليّة، كما يتجلّى ذلك في تصلّفات المتنافسين والمتحاسدين في المحافل والندوات.

درجات التكبّر:

وهكذا تتفاوت درجات التكبّر وأبعاده بتفاوت أعراضه شدّةً وضعفاً.

فالدرجة الأُولى: وهي التي كَمِن التكبّر في صاحبها، فعالجه بالتواضع، ولم تظهر عليه أعراضه ومساوئه.

والدرجة الثانية: وهي التي نما التكبّر فيها، وتجلّت أعراضه بالاستعلاء على الناس، والتقدّم عليهم في المحافل، والتبختر في المشي.

والدرجة الثالثة: وهي التي طغى التكبر فيها، وتفاقمت مضاعفاته، فجُنَّ صاحبها بجنون العظمة، والإفراط في حبّ الجاه والظهور، فطفق

٥٩

يلهج في محاسنه وفضائله، واستنقاص غيره واستصغاره. وهذه أسوأ درجات التكبّر، وأشدّها صَلفَاً وعتوّاً.

أنواع التكبّر:

وينقسم التكبر باعتبار مصاديقه الى ثلاثة أنواع:

(١) - التكبّر على اللّه عزَّ وجل:

وذلك بالامتناع عن الإيمان به، والاستكبار عن طاعته وعبادته. وهو أفحش أنواع الكفر، وأبشع أنواع التكبّر، كما كان عليه فرعون ونمرود وأضرابهما مِن طغاة الكفر وجبابرة الإلحاد.

(٢) - التكبّر على الأنبياء.

وذلك بالترفّع عن تصديقهم والإذعان لهم، وهو دون الأوّل وقريب منه.

(٣) - التكبّر على الناس:

وذلك بازدرائهم والتعالي عليهم بالأقوال والأفعال، ومن هذا النوع التكبّر على العلماء المخلصين، والترفّع عن مسائلتهم والانتفاع بعلومهم وإرشادهم، ممّا يفضي بالمستكبرين إلى الخُسران والجهل بحقائق الدين، وأحكام الشريعة الغرّاء.

علاج التكبّر:

وحيث كان التكبّر هَوَساً أخلاقيّاً خطيراً ماحقاً، فجدير بكلّ عاقل

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما، وأنّه لا ينبغي لأحد أن يفضّل أي فئة منهما على الأُخرى، حتّى لا تحدث فتنة. (1)

2 - حرّمت الإباضيّة الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الّذي يحارب الفاحشة. (2) وقد انفردوا به من بين سائر المذاهب.

3 - منعت الإباضيّة المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال؛ فإذا هانت عليه كرامته، وذهب يسأل الناس الزكاة، حَرُم منها عقاباً له على هذا الهوان، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس، والاعتماد على الكفاح. (3)

مؤسّس المذهب الإباضي ودعاته في العصور الأُولى:

قد تعرّفت على عقائد الإباضيّة، فحان البحث عن أئمّتهم ودعاتهم في العصور الأُولى.

1 - عبد الله بن إباض، مؤسّس المذهب:

هو عبد الله بن إباض، المقاعسي، المري، التميمي، ابن عبيد، ابن مقاعس، من دعاة الإباضيّة، بل هو مؤسّس المذهب.

____________________

(1) انظر: الإباضيّة في مصر والمغرب: 61.

(2) الإباضيّة في موكب التاريخ: 111 - 112.

(3) الإباضيّة في موكب التاريخ: 116.

١٤١

قد اشتهرت هذه الفِرقة بالإباضيّة من أوّل يوم، وهذا يدلُّ على أنّه كان لعبد الله بن إباض، دور في نشوء هذه الفِرقة وازدهارها.

2 - جابر بن زيد العماني، الأزدي:

جابر بن زيد، أبو الشعثاء، الأزدي، اليحمدي، البصري، مشهور بكنيته، فقيه الإباضيّة، مات سنة 93هـ، ويقال: مائة. يروي عن عبد الله بن عبّاس.

3 - أبو عبيدة، مسلم بن أبي كريمة (المتوفّى حوالي 158هـ):

مسلم بن أبي كريمة التميمي، توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة 158هـ، قال عنه ابن الجوزي: مجهول.

أخذ العلم عن جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وضمار السعيدي، وجعفر السمّاك وغيرهم.

حمل العلم عنه الربيع بن حبيب الفراهيدي؛ صاحب المسند، وأبو الخطّاب المعافري، وعبد الرحمن بن رستم، وعاصم السدراتي، وغيرهم.

4 - أبو عمرو، ربيع بن حبيب الفراهيدي:

هو من أئمّة الإباضيّة، وهو صاحب المسند المطبوع، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة، ويُعدّ في طليعة الجامعين للحديث والمصنّفين فيه.

١٤٢

5 - أبو يحيى عبد الله بن يحيى الكندي:

عبد الله بن يحيى بن عمر الكندي، من حضرموت، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة؛ عامل القاسم بن عمر على حضرموت، وهو عامل مروان على اليمن، خرج بحضرموت والتفَّ حوله جماعة عام 128هـ، وبسط سيطرته على عُمان واليمن والحجاز، وفي عام 130هـ جهّز مروان بن محمد جيشاً بقيادة عبد الملك بن محمد بن عطيّة السعدي، فكانت بينهم حرب عظيمة، قُتل فيها عبد الله بن يحيى وأكثر من معه من الإباضيّة، ولحق بقيّة الخوارج ببلاد حضرموت.

دول الإباضيّة:

قد قام باسم الإباضيّة، عدد من الدول في أربعة مواضع من البلاد الإسلاميّة:

1 - دولة في عُمان، استقلّت عن الدولة العباسيّة في عهد أبي العباس السفّاح، سنة 132هـ، ولا تزال إلى اليوم.

2 - دولة في ليبيا، سنة 140هـ، ولم تعمّر طويلاً؛ فقد انتهت بعد ثلاث سنوات.

3 - دولة في الجزائر، قامت سنة 160هـ، وبقيت إلى حوالي 190هـ، ثُمَّ قضت عليها الدولة العبيديّة.

١٤٣

4 - دولة قامت في الأندلس، ولا سيّما في جزيرتي ميورقة ومينورقة، وقد انتهت يوم انتهت الأندلس.

هذه هي الإباضيّة، وهذا ماضيهم وحاضرهم، وقد قدّمنا إليك صورة موجزة من تاريخهم ونشأتهم وشخصيّاتهم وعقائدهم.

١٤٤

13

الشِّيعة الإماميّة

الشّيعة لغة واصطلاحاً:

الشيعة لغة هم: الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا، وربّما يطلق على مطلق التابع، قال سبحانه: ( فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّه ) (1) ، وقال تعالى: ( وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (2) .

وأمّا اصطلاحاً، فلها إطلاقات عديدة، بملاكات مختلفة:

1 - الشيعة: من أحبَّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الّذين فرض الله سبحانه مودّتهم، قال عزَّ وجلَّ: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (3) . والشّيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين، إلاّ النواصب؛ بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم، ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله:

يـا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

____________________

(1) القصص: 15.

(2) الصافات: 83 - 84.

(3) الشورى: 23.

١٤٥

كـفاكم مـن عـظيم الشأن أنّكم

مَن لم يصلّ عليكم لا صلاة له (1)

2 - من يفضّل عليّاً على عثمان، أو على الخلفاء عامّة، مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء، وإنّما يقدّم؛ لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول الأعظم، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم.

3 - الشيعة من يشايع علياً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمة الناس بعده، نَصَبهم لهذا المقام بأمر من الله سبحانه، وذكر أسماءهم وخصوصيَّاتهم. والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنه في المقام، وقد اشتُهر بأنّ عليّاً هو الوصيّ حتّى صار من ألقابه، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم، وهو يقول في بعض خطبه:

«لا يقاس بآل محمد من هذه الأُمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقِّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة». (2)

ومُجمل القول: إنّ هذا اللفظ يشمل كلَّ من قال إنّ قيادة الأُمّة لعليّ بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإنّه يقوم مقامه في كلِّ ما يمتُّ إليه، سوى النبوّة ونزول الوحي عليه، كلّ ذلك بتنصيص من الرسول.

وعلى ذلك، فالمقوّم للتشيّع، وركنه الرّكين، هو القول بالوصاية والقيادة، بجميع شؤونها، للإمام (عليه السّلام)، فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك، وأمّا ما سوى ذلك، فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع، ولا يدور عليه إطلاق الشيعة.

____________________

(1) الصواعق: 148.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 2.

١٤٦

الفصل الأوّل:

مبدأ التشيّع وتاريخ تكوّنه

زعم غير واحد من الكتّاب القدامى والجدد، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلاميّة، من إفرازات الصراعات السياسيّة، وذهب بعض آخر إلى القول إنّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلاميّة، وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الأُمّة الإسلاميّة، باعتباره قطاعاً تكوّن على مرّ الزمن؛ لأحداث وتطورات سياسيّة أو اجتماعيّة أو فكريّة، أدَّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير، ثُمَّ اتسع ذلك الجزء بالتدريج.

وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارئ، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسيّة أو فكريّة، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع وُلِد منذ عهد النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ لَمَا تسرّعوا في إبداء الرأي في ذلك المجال، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ، سوى تاريخ الإسلام ومبدئه، وانّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام، من أوّل يوم أمَر بالصدع وإظهار الحقيقة، إلى أن لبىَّ دعوة ربه.

١٤٧

فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد وفاته، عن طريق من نصبه إماماً للناس وقائداً للأُمّة، حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبيّ في غير واحد من المواقف الحاسمة، فإذا كانّ التشيع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصيّ، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الاسلام، والنصوص الواردة عن رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

والشيعة هم المسلمون من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان في الأجيال اللاحقة، هم الّذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة، ولم يغيّروه، ولم يتعدّوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

ففزعوا في الأُصول والفروع إلى عليّ وعترته الطاهرة، وانحازوا عن الطائفة الأُخرى؛ الّذين لم يتعبدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة؛ حيث تركوا النصوص وأخذوا بالمصالح.

إنّ الآثار المرويّة في حق شيعة الإمام عن لسان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ترفع اللّثام عن وجه الحقيقة، وتُعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصيّ، فكانوا معروفين بشيعة عليّ في عصر الرسالة، وأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شك من هذا الأمر، فسأتلو عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام.

____________________

(1) الحجرات: 1.

١٤٨

1 - أخرج ابن مردويه، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟، قال: يا عائشة، أما تقرأين ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) (1) . (2)

2 - أخرج ابن عساكر، عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا عند النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأقبل عليّ، فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «والّذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) ، فكان أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة. (3)

3 - أخرج ابن عدي، عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة، راضين مرضيّين». (4)

4 - أخرج ابن مردويه، عن عليّ، قال: قال لي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ألم تسمع قول الله: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محج<لين». (5)

5 - روى ابن حجر في صواعقه، عن أُم سلمة: كانت ليلتي، وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندي، فأتته فاطمة، فتبعها عليّ (رضي الله عنه)، فقال النبيّ: «يا عليّ أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنة». (6)

____________________

(1) البينة: 7.

(2 و3 و4 و5) الدر المنثور: 6/589.

(6) الصواعق: 161.

١٤٩

6 - روى أحمد في المناقب: إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لعليّ: «أمَا ترضى أنّك معي في الجنّة، والحسن والحسين وذريّتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذريّتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا». (1)

7 - أخرج الديلمي: (يا عليّ، إنّ الله قد غفر لك ولذريّتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فابشر إنّك الأنزع البطين). (2)

8 - روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يدخلون من أُمّتي الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم»، ثُمَّ التفت إلى عليّ، فقال: «هم شيعتك وأنت أمامهم». (3)

إلى غير ذلك من الروايات الّتي تُعرب عن أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان متميّزاً بين أصحاب النبيّ؛ بأنّ له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبيّ وبعدها.

الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفِرق:

قد غلب استعمال الشيعة بعد عصر الرسول، تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته، ويعتقد بإمامته ووصايته، ويَظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات؛ نشير إلى بعضها:

1 - روى المسعودي في حوادث وفاة النبيّ: إنّ الإمام عليّاً أقام ومن

____________________

(1) الصواعق: 161.

(2) المصدر نفسه.

(3) مناقب المغازلي: 293.

١٥٠

معه من شيعته في منزله، بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر. (1)

2 - وقال النوبختي (المتوفّى 313هـ): إنّ أوّل الفِرق، الشيعة؛ وهم فِرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون شيعة عليّ في زمان النبيّ وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه، والقول بإمامته. (2)

3 - وقال أبو الحسن الأشعري: وإنّما قيل لهم: الشيعة، لأنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). (3)

4 - ويقول الشهرستاني: الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّةً. (4)

5 - وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول الله وأحقّهم بالإمامة، وولْده من بعده. (5)

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات، تُعرب عن أنّ لفيفاً من الأُمّة في حياة الرسول وبعده، إلى عصر الخلفاء وبعدهم، كانوا مشهورين بالتشيّع لعليّ، وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الأُمّة عليه.

____________________

(1) الوصيّة: 121.

(2) فِرق الشيعة: 15.

(3) مقالات الإسلاميّين: 1/65.

(4) الملِل والنحل: 1/131.

(5) الفصل في الملِل والنحل: 2/113.

١٥١

رواد التشيع في عصر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

وإليك أسماء لفيف من الصحابة الشيعة المعروفين بالتشيّع:

1 - عبد الله بن عبّاس. 2 - الفضل بن العبّاس. 3 - عبيد الله بن العبّاس. 4 - قثم بن العبّاس. 5 - عبد الرحمن بن العبّاس. 6 - تمام بن العبّاس. 7 - عقيل بن أبي طالب. 8 - أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. 9 - نوفل بن الحرث. 10 - عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. 11 - عون بن جعفر. 12 - محمد بن جعفر. 13 - ربيعة بن الحرث بن عبد المُطّلب. 14 - الطفيل بن الحرث. 15 - المغيرة بن نوفل بن الحارث. 16 - عبد الله بن الحرث بن نوفل. 17 - عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث. 18 - العبّاس بن ربيعة بن الحرث. 19 - العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب. 20 - عبد المُطّلب بن ربيعة بن الحرث. 21 - جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم، فإليك أسماء لفيف منهم:

22 - سلمان المحمّدي. 23 - المقداد بن الأسود الكندي. 24 - أبوذر الغفاري. 25 - عمّار بن ياسر. 26 - حذيفة بن اليمان. 27 - خزيمة بن ثابت. 28 - أبو أيّوب الأنصاري. 29 - أبو الهيثم مالك بن التيهان. 30 - أُبي بن كعب. 31 - سعد بن عبادة. 32 - قيس بن سعد بن عبادة. 33 - عدي بن حاتم. 34 - عبادة بن الصامت. 35 - بلال بن رباح الحبشي. 36 - أبو رافع مولى رسول الله. 37 - هاشم بن عتبة. 38 - عثمان بن حُنيف. 39 - سهل بن حُنيف. 40 - حكيم بن جبلة العبدي. 41 - خالد بن سعيد بن العاص. 42 - أبو الحصيب الأسلمي. 43 - هند بن أبي هالة

١٥٢

التميمي. 44 - جعدة بن هبيرة. 45 - حجر بن عدي الكندي. 46 - عمرو بن الحمق الخزاعي. 47 - جابر بن عبد الله الأنصاري. 48 - محمّد بن أبي بكر. 49 - أبان بن سعيد بن العاص. 50 - زيد بن صوحان الزيدي.

هؤلاء خمسون صحابيّاً من الطبقة العليا للشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم، فليرجع إلى الكتب المؤلَّفة في الرجال.

١٥٣

الفصل الثاني:

شبهات حول تاريخ الشيعة

قد تعرّفت على تاريخ التشيع، وأنّه ليس وليد الجدال الكلامي، ولا إنتاج السياسات الزمنيّة؛ وإنّما هو وجه آخر للإسلام، وهما وجهان لعملة واحدة، إلاّ أنّ هناك جماعة من المؤرّخين وكتّاب المقالات، ظنّوا أنّ التشيّع أمر حادث وطارئ على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن مبدئه ومصدره، وراحوا يثيرون الشبهات حول تاريخه، وإليك استعراض هذه الشبهات نقداً وتحليلاً.

الشبهة الأُولى:

الشيعة ويوم السقيفة

إنّ مأساة السقيفة جديرة بالقراءة والتحليل، وقد تخيّل لبعض المؤرخين أنّ التشيّع ظهر بعدها.

يقول الطبري: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة؛ ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منّا الأمراء ومنكم الوزراء - إلى أن

١٥٤

قال: - فبايعه عمر، وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلاّ عليّاً، ثُمَّ قال: أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ، وفيه طلحة والزّبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مسلطاً بالسيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.

وقال أيضاً: وتخلّف عليّ والزّبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتّى يُبَايَع عليّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقالا: خذوا سيف الزبير. (1)

يُلاحظ عليه: أنّ هذه النصوص تدلّ على أنّ فكرة التشيّع لعليّ، كانت مختمرة في أذهانهم منذ عهد الرسول إلى وفاته، فلمّا رأت الجماعة أنّ الحق خرج عن محوره، عمدوا إلى التمسّك بالحق بالاجتماع في بيت عليّ، الّذي أوصّاهم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) به طيلة حياته؛ إذ من البعيد جداً أن يجتمع رأيهم على عليّ في يوم واحد في ذلك اليوم العصيب، فالمعارضة كانت استمراراً لما كانوا يلتزمون به في حياة النبيّ، ولم تكن فكرة خلقتها الظروف والأحداث.

كان أبوذر وقت أخذ البيعة غائباً، ولمّا جاء، قال: أصبتم قناعة، وتركتم قرابة، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم، لَمَا اختلف عليكم اثنان. (2)

وقال سلمان: أصبتم ذا السن، وأخطأتم المعدن، أمّا لو جعلتموه فيهم، ما اختلف منكم اثنان، ولأكلتموها رغداً.

وروى الزبير بن بكار في الموفقيّات: إنّ عامّة المهاجرين، وجلّ الأنصار، كانوا لا يشكّون أنّ عليّاً هو صاحب الأمر.

____________________

(1) تاريخ الطبري: 2/443 - 444.

(2) تاريخ اليعقوبي: 2/103.

١٥٥

وروى الجوهري في كتاب السقيفة: إنّ سلمان والزبير وبعض الأنصار، كان هواهم أن يبايعوا عليّاً.

وروى أيضاً: إنّه لمّا بويع أبو بكر واستقرَّ أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وهتفوا باسم الإمام عليّ، ولكنّه لم يوافقهم. (1)

ومن المستحيل عادة، اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء، في يوم واحد، بل يُعرب ذلك عن وجود جذور لها، قبل رحلة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويؤكد ذلك نداءاته الّتي ذكرها في حق عليّ وعترته، في مواقف متعدّدة، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفةن ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى عليّ؛ إنّما هو لأجل مشايعتهم لعليّ زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وما هذا إلاّ إخلاصاً و وفاءاً منهم للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأين هو من تكوّن التشيع يوم السقيفة؟!

الشبهة الثانية:

التشيّع صنيع عبد الله بن سبأ

كتب الطبري في تاريخه يقول:

كان عبد الله بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء، أُمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثُمَّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثُمَّ البصرة، ثُمَّ الكوفة، ثُمَّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشّام، فأخرجوه حتّى أتى

____________________

(1) شرح نهج البلاغة: 6/43 - 44.

١٥٦

مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممّن يزعم أنّ عيسى يرجع، ويكذِّب بأنّ محمّداً يرجع، وقد قال الله عز وجل: ( إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى‏ مَعَادٍ ) (1) ، فمحمّد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فقُبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلّموا فيها، ثُمَّ قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبيّ، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصيّ محمّد، ثُمَّ قال: محمّد خاتم الأنبياء، وعليّ خاتم الأوصياء، وإنّ عثمان غاصب حق هذا الوصيّ وظالمه، فيجب مناهضته لإرجاع الحق إلى أهله.

وقد بثّ عبد الله بن سبأ دُعاته في البلاد الإسلاميّة، وأشار عليهم أن يُظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطعن في الأُمراء، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير، والتابعي الصالح، من أمثال: أبي ذر، وعمّار بن ياسر، ومحمّد بن حذيفة، وعبد الرحمن بن عديس، ومحمّد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الأشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم، فكانت السبئيّة تثير الناس على ولاتهم، تنفيذاً لخطة زعيمها، وتضع كتباً في عيوب الأمراءن وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار، فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمين؛ بتحريض السبئيّين، وقدومهم إلى المدينة، وحصرهم عثمان في داره؛ حتّى قتل فيها، كلّ ذلك كان بقيادة السبئيّين ومباشرتهم.

إنّ المسلمين بعدما بايعوا علياً، ونكث طلحة والزبير بيعتهما، وخرجا إلى البصرة، رأى السبئيّون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّه إن تمّ ذلك

____________________

(1) القصص: 85.

١٥٧

سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلاً وقرروا أن يندسّوا بين الجيشين، ويثيروا الحرب بكرة، دون علم غيرهم، وإنّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل، قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسّون من السبئيّين في جيش عليّ، من كان بإزائهم من جيش البصرة، ففزع الجيشان وفزع رؤساؤهما، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً، ثُمَّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم. (1)

إلى هنا انتهت قصة السبئيّة؛ الّتي ذكرها الطبري في تاريخه.

نظرنا في الموضوع:

1 - إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصة، لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن؛ إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء، وأسلم في عصر عثمان، استطاع أنّ يُغري كبار الصحابة والتابعين ويخدعهم، ويطوف بين البلاد، واستطاع أن يكوّن خلايا ضدَّ عثمان، ويستقدمهم إلى المدينة، ويؤلّبهم على الخلافة الإسلاميّة، فيهاجموا داره ويقتلوه، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم بإحسان، هذا شيء لا يحتمله العقل، وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب!!

إنّ هذه القصّة تمسّ كرامة المسلمين والصحابة والتابعين، وتصوّرهم أُمّه ساذجة؛ يغترّون بفكر يهوديٍّ وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكرون.

2 - إنّ القراءة الموضوعيّة للسيرة والتاريخ، تُوقفنا على سيرة عثمان بن

____________________

(1) انظر تاريخ الطبري: 3/378، نقل بتصرف وتلخيص.

١٥٨

عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، وينفون المخالفين ويضربونهم، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة؛ لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر؛ حتّى أنفتق له فتق في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه. إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمالها، يغضّون الطرف عمّن يؤلّب الصحابة والتابعين على إخماد حكمهم، وقتل خليفتهم في عقر داره، ويجر الويل والويلات على كيانهم!!

3 - إنّ رواية الطبري، نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم؛ مثلاً: السري؛ الّذي يروي عنه الطبري، إنّما هو أحد رجلين:

أ - السري بن إسماعيل الهمداني؛ الّذي كذّبه يحيى بن سعيد، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ. (1)

ب - السري بن عاصم بن سهل الهمداني؛ نزيل بغداد (المتوفّى عام 258هـ)، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته؛ يربو على ثلاثين سنة، كذّبه ابن خراش، ووهّاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث، وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات؛ لا يحلّ الاحتجاج به، فالاسم مشترك بين كذّابين، لا يهمّنا تعيين أحدهما.

4 - عبد الله بن سبأ، أسطورة تاريخيّة، لأنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده، وزمن إسلامه، ومحتوى دعوته، يُشرف

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 2/117.

١٥٩

المحقّق على القول: بأنّ عبد الله بن سبأ، شخصيّة خرافيّة، وضعها القصّاصون، وأرباب السمر والمجون، في عصر الدولتين: الأُمويّة والعباسيّة.

وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل أسطورة تاريخيّة، حاكها أعداء الشيعة، نكاية بالشيعة؛ حيث قال:

وأكبر الظنِّ أنّ عبد الله بن سبأ هذا، إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلَّ الفتنة ولم يثرها.

إنّ خصوم الشيعة أيّام الأُمويّين والعباسيّين، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته، من ناحية، وليشنعوا على عليّ وشيعته من، ناحية أُخرى، فيردوا بعض أُمور الشيعة إلى يهوديٍّ أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة؟!، وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم؛ في أمر عثمان، وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه، موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنُكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم، رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديّاً وكانت أُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثُمَّ أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثُمَّ أُتيح له من النجاح ما كان يبتغي، فحرّض المسلمين على خليفتهم حتّى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أنّ تُقام عليها أُمور التاريخ. (1)

____________________

(1) الفتنة الكبرى: 134.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517