أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت0%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد مهدي الصدر
تصنيف: الصفحات: 517
المشاهدات: 318604
تحميل: 11083

توضيحات:

أخلاق أهل البيت
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 318604 / تحميل: 11083
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أخلاق أهل البيت

تأليف: السيّد مهدي الصدر

القسم الأوّل - الأخلاق العامّة

١

٢

( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

( القرآن الكريم )

( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ) .

( القرآن الكريم )

٣

( إنّي تركت فيكم ما إنْ تمسّكتم به لنْ تضلّوا بعدي: كتابَ اللّه حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهلَ بيتي، ولنْ يفترقا حتّى يَرِدا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ).

( الرسول الأعظم )

( أفاضلكم أحسنُكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألَفُون ويُؤلَفون وتُوطأ رِحالهُم ).

( الرسول الأعظم )

٤

مُقدمَة الكِتَابَ

٥

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين. وبعد:

فإنّ عِلم الأخلاق هو: العِلم الباحث في مَحاسن الأخلاق ومساوِئها، والحثّ على التحلّي بالأُولى والتخلّي عن الثانية.

ويحتلّ هذا العِلم مكانةً مرموقةً، ومحلاًّ رفيعاً بين العلوم، لشرَفِ موضوعه، وسموِّ غايته. فهو نظامها، وواسطة عقدها، ورمز فضائلها، ومظهر جمالها، إذ العلوم بأسرها منوطة بالخُلق الكريم، تزدان بجماله، وتحلو بآدابه، فإنْ خلت منه غدَت هزيلةُ شَوهاء، تثير السخط والتقزّز.

ولا بدع فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقّق في الإنسان معاني الإنسانية الرفيعة، وتحيطه بهالة وضّاءة من الجمال والكمال، وشرف النفس والضمير، وسمو العزة والكرامة، كما تمسخه الأخلاق الذميمة، وتحطّه إلى سويّ الهمج والوحوش.

وليس أثر الأخلاق مقصوراً على الأفراد فحسب، بل يسري الى الأُمم والشعوب، حيثُ تعكس الأخلاق حياتها وخصائصها ومبلغ رقيها، أو تخلّفها في مضمار الأُمم.

وقد زخر التاريخ بأحداث وعبر دلّت على أنّ فساد الأخلاق وتفسّخها كان مِعوَلاً هدّاماً في تقويض صروح الحضارات، وانهيار كثير من الدوَل والممالك:

٦

وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم

فأقم عليهم مأتماً وعويلا

وناهيك في عظمة الأخلاق، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أولاها عنايةً كُبرى، وجعلَها الهدف والغاية مِن بعثته ورسالته، فقال:

( بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق ).

وهذا هو ما يَهدف إليه عِلم الأخلاق، بما يرسمه من نُظُمٍ وآداب، تُهذِّب ضمائر الناس وتقوّم أخلاقهم، وتوجّههم إلى السيرة الحميدة، والسلوك الأمثل.

وتختلف مناهج الأبحاث الخُلقيّة وأساليبها باختلاف المعنيّين بدراستها مِن القدامى والمحدّثين: بين متزمّتٍ غالٍ في فلسفته الخُلقيّة، يجعلها جافّةً مُرهقةً عسرة التطبيق والتنفيذ. وبين متحكّم فيها بأهوائه، يرسمها كما اقتضت تقاليده الخاصّة، ومحيطه المحدود، ونزعاته وطباعه، ممّا يُجرّدها من صفة الأصالة والكمال. وهذا ما يجعل تلك المناهج مختلفة متباينة، لا تصلح أنْ تكون دستوراً أخلاقيّاً خالداً للبشريّة.

والملحوظ للباحث المقارن بين تلك المناهج، أنّ أفضلها وأكملها هو: النهج الإسلامي المستمدّ من القرآن الكريم، وأخلاق أهل البيتعليهم‌السلام ، الذي ازدان بالقصد والاعتدال، وأصالة المبدأ، وسموّ الغاية، وحكمة التوجيه، وحُسن الملائمة لمختلف العصور والأفكار.

وهو النهج الفريد الأمثل الذي يستطيع بفضل خصائصه وميّزاته أنْ يسمو بالناس فرداً ومجتمعاً، نحو التكامل الخُلقي، والمُثل الأخلاقيّة العُليا، بأُسلوبٍ شيّق محبّب، يستهوي العقول والقلوب، ويحقّق لهم ذلك بأقرب

٧

وقتٍ، وأيسر طريق.

هو منهج يمثّل سموّ آداب الوحي الإلهي، وبلاغة أهل البيتعليهم‌السلام ، وحكمتهم، وهُم يسيرون على ضوئه، ويستلهمون مفاهيمه، ويستقون من معينه، ليُحيلوها إلى الناس حكمةً بالغة، وأدَباً رفيعاً، ودروساً أخلاقيّة فذّة، تشعّ بنورها وطهورها على النفس، فتزكّيها وتنيرها بمفاهيمها الخيّرة وتوجيهها الهادف البنّاء.

مِن أجل ذلك تعشّقت هذا النهج، وصبَوت إليه، وآثرت تخطيط هذه الرسالة ورسم أبحاثها على ضوئه وهُداه.

ولئن اهتدى به أُناسٌ وقَصُر عنه آخرون، فليس ذلك بقادحٍ في حكمته وسموّ تعاليمه، وإنّما هو لاختلاف طِباع الناس، ونَزَعاتهم في تقبّل مفاهيم التوجيه والتأديب وانتفاعهم بها، كاختلاف المرضى في انتفاعهم بالأدوية الشافية، والعقاقير الناجعة: فمنهم المنتفع بها، ومنهم مَن لا تجديه نفعاً.

وممّا يحزُّ في النفس، ويبعث على الأسى والأسَف البالِغَين، أنّ المسلمين بعد أنْ كانوا قادةَ الأُمم، وروّادها إلى الفضائل، ومكارم الأخلاق، قد خسروا مثاليّتهم لانحرافهم عن آداب الإسلام، وأخلاقه الفذّة، ما جعلهم في حالةٍ مُزريةٍ مِن التخلّف والتسيّب الخُلقيَّين. لذلك كان لزاماً علهيم - إذا ما ابتغوا العزّة والكرامة وطيب السُمعة - أنْ يستعيدوا ما أغفلوه مِن تُراثهم الأخلاقي الضخم، وينتفعوا برصيده المذخور، ليكسبوا ثقة الناس وإعجابهم من جديد، وليكونوا كما أراد اللّه تعالى لهم:(..خَيْرَ أُمَّةٍ

٨

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...).

وتلك أمنيةٌ غالية، لا تُنال إلاّ بتضافر جهود المُخلصين من أعلام الأُمّة الإسلاميّة وموجّهيها، على توعية المسلمين، وحثّهم على التمسّك بالأخلاق الإسلاميّة، ونشر مفاهيمها البنّاءة والاهتمام بعرضها عرضاً شيّقاً جذّاباً، يُغري الناس بدراستها والإفادة منها.

وهذا ما حداني إلى تأليف هذا الكتاب، وتخطيطه على ضوء الخصائص التالية:

(١) إنّ هذا الكتاب لم يستوعب علم الأخلاق، وإنّما ضَمَّ أهمَّ أبحاثه، وأبلغها أثراً في حياة الناس. وقد جهدت ما استطعت في تجنّب المصطلحات العلميّة وألفاظها الغامضة، وعرضتها بأُسلوبٍ واضح مركّز، يُمتّع القارئ، ولا يُرهقه بالغموض والإطناب، الباعثَين على الملل والسأم.

(٢) اختيار الأحاديث والأخبار الواردة فيه مِن الكتب المعتبرة والمصادر الوثيقة لدى المحدّثين والرواة.

(٣) الاهتمام بذكر محاسن الخُلق الكريم، ومساوئ الخُلق الذميم، وبيان آثارهما الروحيّة والمادّية في حياة الفرد أو المجتمع.

والجدير بالذكر: أنّ المقياس الخُلقي في تقييم الفضائل الخُلقيّة، وتحديد واقعها هو: التوسّط والاعتدال، المبرّأ من الإفراط والتفريط.

فالخُلق الرضيّ هو: ما كان وسطاً بين المغالاة والإهمال، كنقطة الدائرة مِن محيطها، فإذا انحرف عن الوسط إلى طرف الإفراط أو التفريط غدا خلقاً ذميماً.

٩

فالعفّة فضيلةٌ بين رذيلتَي الشرِّ والجمود: فإنْ أفرط الإنسان بها كان جامداً خاملاً، معرضاً عن ضرورات الحياة ولذائذها المشروعة، وإنْ فرّط فيها وقصّر، كان شرّهاً جشعاً، منهمكاً على اللذائذ والشهوات.

والشجاعة فضيلةٌ بين رذيلتَي التهوّر والجُبن: فإنْ أفرط الشجاع فيها كان متهوّراً مجازفاً فيما يُحسن الأحجام عنه، وإنْ فرَّط وقصّر كان جباناً هيّاباً مُحجماً عمّا يحسن الإقدام عليه.

والسخاء فضيلةٌ بين رذيلتَي التبذير والبُخل: فإنْ أفرط فيها كان مُسرفاً مبذّراً سخيّاً على مَن لا يستحقّ البذل والسخاء، وإنْ فرّط فيها وقصّر كان شحيحاً بخيلاً فيما يجدر الجُود والسخاءُ فيه... وهكذا دواليك.

مِن أجل ذلك كان كسب الفضائل، والتحلّي بها، والثبات عليها، من الأهداف السامية التي يتبارى فيها، ويتنافس عليها، ذوو النفوس الكبيرة، والهمم العالية، ولا ينالها إلاّ ذو حظٍّ عظيم.

ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتاً * لدى المجد حتّى عُد ألفٌ بواحدِ

وإنّي لأرجو اللّه عزّ وجل أنْ يتقبّل منّي هذا المجهود المتواضع ويُثيبني عليه، بلطفه الواسع، وكرمه الجزيل، وأنْ يوفّقني وإخواني المؤمنين للانتفاع به، والسير على ضوئه، إنّه وليّ الهداية والتوفيق.

الكاظميّة مهدي السيّد عليّ اللصدر

١٠

حُسن الخُلق

حسن الخلق هو: حالةٌ تبعث على حُسن معاشرة الناس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة، كما عرّفه الإمام الصادقعليه‌السلام حينما سُئل عن حدّه فقال: ( تُليّن جناحَك، وتُطيّب كلامك، وتَلقَى أخاك ببشرٍ حسن )(١) .

من الأماني والآمال التي يطمح إليها كل عاقل حصيف، ويسعى جاهداً في كسبها وتحقيقها، أنْ يكون ذا شخصيّة جذّابة، ومكانةٍ مرموقة، محبّباً لدى الناس، عزيزاً عليهم.

وإنّها لأمنيةٌ غالية، وهدف سامي، لا يناله إلاّ ذوو الفضائل والخصائص التي تؤهّلهم كفاءاتهم لبلوغها، ونيل أهدافها، كالعلم والأريَحيّة والشجاعة ونحوها من الخصال الكريمة.

بيد أنّ جميع تلك القيم والفضائل، لا تكون مدعاة للإعجاب والإكبار، وسموّ المنزلة، ورِفعة الشأن، إلاّ إذا اقترنت بحُسن الخُلق، وازدانت بجماله الزاهر، ونوره الوضّاء. فإذا ما تجرّدت منه فقدت قيمها الأصيلة، وغدَت صوراً شوهاء تثير السأم والتذمّر.

_____________________

(١) الكافي للكليني.

١١

لذلك كان حسن الخُلق ملاك الفضائل ونظام عقدها، ومحوَر فلكِها، وأكثرها إعداداً وتأهيلاً لكسب المحامد والأمجاد، ونيل المحبّة والإعزاز.

أنظر كيف يمجّد أهل البيتعليهم‌السلام هذا الخُلق الكريم، ويُطرون المتحلّين به إطراءاً رائعاً، ويحثّون على التمسّك به بمختلَف الأساليب التوجيهيّة المشوقة، كما تصوّره النصوص التالية:

قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أفاضلُكم أحسنُكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألَفَون ويُؤلَفون وتُوطأ رحالهم )(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلقاً )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( ما يقدم المؤمن على اللّه تعالى بعملٍ بعد الفرائض، أحبّ إلى اللّه تعالى مِن أنْ يسعَ الناس بخُلُقه )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى ليُعطي العبد مِن الثواب على حُسن الخُلق، كما يُعطي المجاهد في سبيل اللّه، يغدو عليه و يروح )(٤) .

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ صاحب الخُلُق الحسن له مثل أجرِ الصائم القائم )(٥).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الخُلق الحسن يُميت الخطيئة، كما تُميت الشمس الجليد )(٦).

وقالعليه‌السلام : ( البِرُّ وحُسن الخُلق يُعمّران الديار، ويزيدان

_____________________

(١) الكافي. والأكناف جمع كنف، وهو: الناحية والجانب، ويُقال ( رجل موطأ الأكناف ) أي كريمٌ مضياف.

(٢)، (٣)، (٤)، (٥)، (٦) عن الكافي.

١٢

في الأعمار )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنْ شئت أنْ تُكرمَ فَلِن، وإنْ شِئت أنْ تُهان فاخشن )(٢).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم )(٣).

وكفى بحُسن الخُلق شرَفاً وفضلاً، أنّ اللّه عزّ وجل لم يَبعث رُسله وأنبياءه إلى الناس إلاّ بعد أنْ حلاّهم بهذه السجيّة الكريمة، وزانهم بها، فهي رمزُ فضائلهم، وعنوان شخصيّاتهم.

ولقد كان سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله المثل الأعلى في حُسن الخُلق، وغيره مِن كرائم الفضائل والخِلال. واستطاع بأخلاقه المثاليّة أنْ يملك القلوب والعقول، واستحقّ بذلك ثناء اللّه تعالى عليه بقوله عزّ من قائل:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

قال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وهو يُصوّر أخلاق رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( كان أجوَد الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمّةً، وأليَنهم عريكةً، وأكرمهم عِشرةً. مَن رآه بديهة هابه. ومَن خالطهُ فعرفه أحبّه، لم أرَ مثله قبله ولا بعده )(٤).

_____________________

(١) عن الكافي.

(٢) تُحف العقول.

(٣) من لا يحضره الفقيه.

(٤) سفينة البحار - مادّة خُلق -.

١٣

وحسبنا أنْ نذكر ما أصابه مِن قريش، فقد تألّبت عليه، وجرّعته ألوان الغُصَص، حتّى اضطرته الى مغادرة أهله وبلاده، فلمّا نصره اللّه عليهم، وأظفره بهم، لم يشكّوا أنّه سيثأر منهم، وينكّل بهم، فما زاد أنْ قال لهم: ( ما تقولون إنّي فاعل بكم ؟ !) قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم. فقال: ( أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء ).

وجاء عن أنَس قال: كنت مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه بُردٌ غليظ الحاشية، فجذَبه أعرابي بردائه جذبةً شديدة، حتّى أثّرت حاشية البُرد في صفحة عاتقه، ثُم قال: يا محمّد، احمل لي على بعيرَيّ هذَين مِن مال اللّه الذي عندك، فإنّك لا تحمل لي مِن مالك، ولا مال أبيك. فسكَت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثُمّ قال: ( المال مال اللّه، وأنا عبده ).

ثُمّ قال: ( ويُقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي ؟!) قال: لا. قال: ( لِمَ ؟ )، قال: لأنّك لا تكافئ بالسيّئة السيّئة. فضحك النبيّ، ثُمّ أمَر أنْ يحمل له على بعير شعيراً، وعلى الآخر تمراً(١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: ( إنّ يهوديّاً كان له على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك. فقال: فإنّي لا أفارقك يا محمّد، حتى تقضيني. فقال: إذن أجلس معك، فجلس معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول اللّه يتهدَّدونه

_____________________

(١) سفينة البحار - مادّة خلق -.

١٤

ويتوعّدونه، فنظر رسول اللّه إليهم فقال: ما الذي تصنعون به ؟! فقالوا: يا رسول اللّه يهودي يحبسك ! فقال: لم يبعثني ربِّي عزَّ وجل بأنْ أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أنْ لا إله إلا اللّه، وأشهد أنْ محمّداً عبدُه ورسوله، وشطر مالي في سبيل اللّه، أما واللّه ما فعلت بك الذي فعلت، إلاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة، فانّي قرأت نعتك في التوراة: محمّد بن عبد اللّه، مولده بمكّة، ومهاجره بطيبة، وليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا متزيّن بالفحش، ولا قول الخنا، وأنا أشهد أنّ لا إله إلاّ اللّه، وأنّك رسول اللّه، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه، وكان اليهودي كثير المال )(١).

وهكذا كان الأئمّة المعصومون مِن أهل البيتعليهم‌السلام في مكارم أخلاقهم، وسموّ آدابهم. وقد حمل الرواة إلينا صوراً رائعة ودروساً خالدة مِن سيرتهم المثاليّة، وأخلاقهم الفذّة:

مِن ذلك ما ورد عن أبي محمّد العسكريعليه‌السلام قال: ( وردّ على أمير المؤمنينعليه‌السلام أخوان له مؤمنان، أبٌ وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين يديهما، ثُمّ أمَر بطعامٍ فأحضر فأكلا منه، ثُمّ جاء قنبر بطست وإبريق خشَب ومنديل، فأخذ أمير المؤمنينعليه‌السلام الإبريق فغسَل يد الرجل بعد أنْ كان الرجل يمتنع من ذلك، وتمرّغ في التراب، وأقسمه أمير المؤمنينعليه‌السلام أنْ يغسل مطمئنّاً، كما كان يغسل لو كان الصابّ عليه قنبر ففعل، ثمُّ ناول الإبريق محمّد بن

_____________________

(١) البحار م ٦ في مكارم أخلاق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٥

الحنفيّة وقال: يا بني، لو كان هذا الابن حضَرني دون أبيه لصبَبت على يده، ولكن اللّه عزّ وجل يأبى أنْ يُسوّي بين ابن وأبيه، إذا جمعهما مكان، ولكن قد صبّ الأب على الأب، فليصب الابن على الابن، فصبّ محمّد بن الحنفيّة على الابن ).

ثُمّ قال العسكريعليه‌السلام : ( فمن اتّبع عليّاً على ذلك فهو الشيعي حقّاً )(١).

وورد أنّ الحسن والحسين مرّا على شيخ يتوضّأ ولا يُحسن، فأخذا في التنازع، يقول كلٌّ واحدٍ منهما أنت لا تُحسن الوضوء، فقالا: ( أيّها الشيخ كن حَكَماً بيننا، يتوضأ كلٌّ واحدٍ منّا، فتوضّئا ثُمّ قالا: أيّنا يُحسن ؟) قال: كلاكما تُحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يُحسن، وقد تعلّم الآن منكما، وتاب على يدَيكما ببركتكما وشفقتكما على أُمّة جدّكما(٢).

وجنى غلام للحسينعليه‌السلام جنايةً توجِب العقاب عليه، فأمر به أنْ يُضرب، فقال: يا مولاي،( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ). قال: ( خلّوا عنه ). فقال: يا مولاي،( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ). قال: ( قد عفوت عنك ). قال: يا مولاي،( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) . قال: ( أنت حرّ لوجه اللّه، ولك ضعف ما كنت أعطيك )(٣).

_____________________

(١) سفينة البحار - مادّة وضع -.

(٢) البحار م ١٠ عن عيون المحاسن ص ٨٩.

(٣) البحار م ١٠ ص ١٤٥ عن كشف الغمّة.

١٦

وحدّث الصولي: أنّه جرى بين الحسين وبين محمّد بن الحنفيّة كلام، فكتب ابن الحنفيّة إلى الحسين:

( أمّا بعد يا أخي، فإنّ أبي وأباك عليّ لا تفضلني فيه ولا أفضلك، وأمّك فاطمة بنت رسول اللّه، لو كان ملء الأرض ذهباً ملك أُمّي ما وفت بأُمّك، فإذا قرأت كتابي هذا فصر إليّ حتّى تترضاني، فإنّك أحقّ بالفضل منّي، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته )، ففعل الحسين فلم يجرِ بعد ذلك بينهما شيء(١).

وعن محمّد بن جعفر وغيره قالوا: وقف على عليّ بن الحسينعليه‌السلام رجلٌ من أهل بيته فأسمعه وشتمه، فلم يكلّمه، فلمّا انصرف قال لجلسائه: ( لقد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحبّ أنْ تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردّي عليه ).

فقالوا له: نفعل، ولقد كنّا نحبّ أنْ يقول له ويقول. فأخذ نعليه ومشى وهو يقول:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )، فعلمنا أنّه لا يقول له شيئاً.

قال: فخرج حتّى أتى منزل الرجل، فصرخ به، فقال: قولوا له هذا عليّ بن الحسين. قال: فخرج متوثّباً للشر، وهو لا يشكّ أنّه إنّما جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه.

فقال له عليّ بن الحسين: ( يا أخي، إنّك وقفت عليّ آنفاً وقلت وقلت، فإنْ كنت قلت ما فيّ فأستغفر اللّه منه، وإنْ كنت قلت ما ليس فيّ فغَفَر اللّه لك ). قال: فقبّل الرجل بين عينيه، وقال: بل قلت فيك

_____________________

(١) البحار م ١٠ ص ١٤٤ عن مناقب ابن شهر آشوب.

١٧

ما ليس فيك وأنا أحقّ به(١).

وليس شيء أدلّ على شرَف حُسن الخُلق، وعظيم أثره في سموّ الإنسان وإسعاده، من الحديث التالي:

عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: ثلاثة نفر آلوا باللات والعزّى ليقتلوا محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذهَب أمير المؤمنين وحده إليهم وقتل واحداً منهم وجاء بآخرَين، فقال النبيّ: ( قدّم إليّ أحد الرجُلَين، فقدّمه فقال: قل لا إله إلاّ اللّه، واشهَد أنّي رسول اللّه. فقال: لَنَقْل جبل أبي قُبَيس أحبّ إليّ مِن أنْ أقول هذه الكلمة،. قال: يا عليّ، أخره واضرب عنقه. ثُمّ قال: قدِّم الآخر، فقال: قل لا إله إلاّ اللّه، واشهد أنّي رسول اللّه. قال: ألحقني بصاحبي.

قال: يا عليّ، أخره واضرب عنقه. فأخره وقام أمير المؤمنين ليضرب عُنقه فنزل جبرئيل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا محمّد، إنّ ربَّك يُقرئك السلام، ويقول لا تقتله فإنّه حَسن الخُلق سخيٌّ في قومه. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ، أمسك فإنّ هذا رسول ربِّي يُخبرني أنّه حَسن الخُلق سخيّ في قومه. فقال المُشرك تحت السيف: هذا رسول ربِّك يُخبرك ؟ قال: نعم. قال: واللّه ما ملكت درهماً مع أخٍ لي قط، ولا قطبت وجهي في الحرب، فأنا أشهد أنْ لا اله إلا اللّه، وأنّك رسول اللّه. فقال رسول اللّه: هذا ممّن جرّه حُسن خُلقه وسخائه إلى جنّات النعيم )(٢).

_____________________

(١) البحار م ١١ ص ١٧ عن إعلام الورى وإرشاد المفيد.

(٢) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٢١٠ في حسن الخلق.

١٨

سُوء الخلق:

وهو: انحراف نفساني، يسبّب انقباض الإنسان وغلظته وشراسته، ونقيض حُسن الخلق.

من الثابت أنّ لسوء الخُلق آثاراً سيّئة، ونتائج خطيرة، في تشويه المتّصف به وحطّ كرامته، ما يجعله عُرضةً للمقت والازدراء، وهدفاً للنقد والذم.

وربّما تفاقَمت أعراضه ومضاعفاته، فيكون حينذاك سبباً لمختلف المآسي والأزمات الجسميّة والنفسيّة الماديّة والروحيّة.

وحسبُك في خِسّة هذا الخُلق وسُوء آثاره، أنّ اللّه تعالى خاطب سيّد رُسله، وخاتم أنبيائه، وهو المثل الأعلى في جميع الفضائل والمكرمات قائلاً:( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ).

مِن أجل ذلك فقد تساند العقل والنقل على ذمّه والتحذير منه، وإليك طَرفاً من ذلك:

قال النبيّ ( صلى اللّه عليه وآله ): ( عليكم بحُسنِ الخُلق، فإنّ حَسنَ الخُلق في الجنّة لا محالة، وإيّاكم وسُوء الخُلق، فإنّ سُوء الخُلق في النار لا محالة )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنْ شئت أنْ تُكرم فلِن، وأنْ شِئت

_____________________

(١) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ( ره ).

١٩

أنْ تُهان فاخشَن )(١).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أبى اللّه لِصاحب الخُلق السيّئ بالتوبة، قيل: فكيف ذلك يا رسول اللّه ؟ قال: لأنّه إذا تاب مِن ذنبٍ وقَع في ذنبٍ أعظم منه )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ سُوء الخُلق ليُفسد العمل كما يُفسد الخلّ العسل )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( مَن ساءَ خُلقه عذّب نفسه )(٤) .

الأخلاق بين الاستقامة والانحراف:

كما تمرض الأجساد وتعروها أعراض المرض مِن شحوب وهزال وضعف، كذلك تمرض الأخلاق، وتبدو عليها سِمات الاعتدال ومضاعفاته، في صور من الهزال الخلقي، والانهيار النفسي، على اختلاف في أبعاد المرض ودرجات أعراضه الطارئة على الأجسام والأخلاق.

وكما تُعالَج الأجسام المريضة، وتستردّ صحّتها ونشاطها، كذلك تُعالَج الأخلاق المريضة وتستأنف اعتدالها واستقامتها، متفاوتةً في ذلك حسب أعراضها، وطباع ذويها، كالأجسام سواء بسواء.

ولولا إمكان معالجة الأخلاق وتقويمها، لحبطت جهود الأنبياء في تهذيب الناس، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح، وغدا البشر من جرّاء

_____________________

(١) تُحف العقول.

(٢)، (٣)، (٤) عن الكافي.

٢٠