أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333189 / تحميل: 11876
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

من ذلك ما قصّه الرواة مِن حِلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، فقد كان عنده أضياف، فاستعجل خادماً له بشواءٍ كان في التنّور، فأقبَل به الخادم مسرعاً، فسقَط منه على رأس بُنيّ لعلي بن الحسينعليه‌السلام تحت الدرجة، فأصاب رأسه فقتله، فقال عليّ للغلام وقد تحيّر الغلام واضطرب: أنت حرّ، فإنّك لم تتعمّده، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه(١).

ولُقّب الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ( بالكاظم ) لوفرة حلمه، وتجرّعه الغيظ، في مرضاة اللّه تعالى.

يُحدّث الراوي عن ذلك، فيقول: كان في المدينة رجلٌ مِن أولاد بعض الصحابة يُؤذي أبا الحسن موسىعليه‌السلام ويسبّه إذا رآه، ويشتم عليّاً، فقال له بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر.

فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وزجرهم، وسأل عنه فذُكر أنّه يزرع بناحية مِن نواحي المدينة، فركب إليه فوجده في مزرعةٍ له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به لا توطئ زرعنا، فوطأهعليه‌السلام بالحمار حتّى وصل إليه، ونزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: ( كم غرمت على زرعك هذا ؟ ) قال: مِئة دينار. قال: ( فكم ترجو أنْ تصيب ؟ ) قال: لست أعلم الغيب. قال له: ( إنّما قلت كم ترجو أنْ يجيئك فيه ). قال: أرجو أنْ يجيء مِئتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن صرّة فيها ثلاثمِئة دينار وقال: ( هذا زرعك على حاله، واللّه يرزقك فيه ما ترجو ). قال:

_____________________

(١) كشف الغمّة للأربلي.

٤١

فقام الرجل فقبّل رأسه، وسأله أنْ يصفح عن فارطه، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف. قال: وراح إلى المسجد، فوجد الرجل جالساً، فلمّا نظر إليه، قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته. قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قضيّتك ؟! قد كنت تقول غير هذا.

قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسنعليه‌السلام ، فخاصموه وخاصمهم، فلمّا رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجُلسائه الذين سألوه في قتله: ( أيُّما كان خيراً، ما أردتم أم ما أردت، إنّني أصلَحتُ أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت شرّه )(١).

وقد أحسن الفرزدق حيثُ يقول في مدحهم:

من معشر حبّهم دينٌ وبغضهم

كفرٌ وقُربهم منجىً ومعتصَم

إنْ عُدّ أهل التقى كانوا أئمّتهم

أو قيل مَن خيرُ أهل الأرضِ قيل هُم

_____________________

(١) البحار مجلّد ١١ نقلاً عن إعلام الورى للطبرسي وإرشاد المفيد.

٤٢

الغضَب

وهو: حالة نفسيّة، تبعث على هياج الإنسان، وثورته قولاً أو عملاً. وهو مفتاح الشرور، ورأس الآثام، وداعية الأزَمات والأخطار. وقد تكاثرت الآثار في ذمّه والتحذير منه:

قال الصادقعليه‌السلام : ( الغضب مفتاح كلّ شر )(١) .

وإنّما صار الغضب مفتاحاً للشرور، لِما ينجم عنه من أخطار وآثام، كالاستهزاء، والتعيير، والفُحش، والضرب، والقتل، ونحو ذلك من المساوئ.

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتّى يدخل النار )(٢).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( واحذر الغضب، فإنّه جند عظيم من جنود إبليس )(٣) .

وقالعليه‌السلام : ( الحدّة ضرب من الجنون ؛ لأنّ صاحبها يندم، فإنْ لم يندم فجنونه مستحكَم )(٤).

_____________________

(١)، (٢) الكافي.

(٣)، (٤) نهج البلاغة.

٤٣

وقال الصادقعليه‌السلام : ( سمعت أبي يقول: أتى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رجلٌ بدويّ، فقال: إنّي أسكن البادية، فعلِّمني جوامع الكلام. فقال: آمرك أنْ لا تغضب. فأعاد الأعرابي عليه المسألة ثلاث مرات، حتّى رجع الى نفسه، فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول اللّه إلا بالخير....)(١) .

بواعِث الغضَب:

لا يحدث الغضب عفواً واعتباطاً، وإنّما ينشأ عن أسباب وبواعث تجعل الإنسان مرهف الإحساس، سريع التأثّر.

ولو تأمّلنا تلك البواعث، وجدناها مجملةً على الوجه التالي:

(١) قد يكون منشأ الغضَب انحرافاً صحيّاً، كاعتلال الصحّة العامّة، أو ضعف الجهاز العصبي، ممّا يسبّب سرعة التهيّج.

(٢) وقد يكون المنشأ نفسيّاً، منبعثاً عن الإجهاد العقلي، أو المغالاة في الأنانيّة، أو الشعور بالإهانة، والاستنقاص، ونحوها من الحالات النفسيّة، التي سرعان ما تستفزّ الإنسان، وتستثير غضبه.

(٣) وقد يكون المنشأ أخلاقيّاً، كتعوّد الشراسة، وسرعة التهيّج، ممّا يوجب رسوخ عادة الغضب في صاحبه.

_____________________

(١) الكافي.

٤٤

أضرار الغضب:

للغضب أضرار جسيمة، وغوائل فادحة، تضرّ بالإنسان فرداً ومجتمعاً، جسميّاً ونفسيّاً، مادّيّاً وأدبيّاً. فكم غضبة جرحت العواطف، وشحنت النفوس بالأضغان، وفصمت عُرى التحابب والتآلف بين الناس. وكم غضبة زجّت أناساً في السجون، وعرّضتهم للمهالك، وكم غضبة أثارت الحروب: وسفكت الدماء، فراح ضحيّتها الآلاف من الأبرياء.

كلّ ذلك سوى ما ينجم عنه من المآسي والأزمات النفسيّة، التي قد تؤدّي إلى موت الفجأة.

والغضب بعد هذا يحيل الإنسان بركاناً ثائراً، يتفجّر غيطاً وشرّاً، فإذا هو إنسان في واقع وحش، ووحش في صورة إنسان.

فإذا بلسانه ينطلق بالفحش والبذاء، وهتك الأعراض، وإذا بيديه تنبعثان بالضرب والتنكيل، وربّما أفضى إلى القتل، هذا مع سطوة الغاضب وسيطرته على خصمه، وإلاّ انعكست غوائل الغضب على صاحبه، فينبعث في تمزيق ثوبه، ولطم رأسه، وربّما تعاطى أعمالاً جنونيّة، كسبّ البهائم وضرب الجمادات.

الغضب بين المدح والذم:

الغضب غريزةٌ هامّة، تُلهب في الإنسان روح الحميّة والإباء، وتبعثه

٤٥

على التضحية والفداء، في سبيل أهدافه الرفيعة، ومُثله العليا، كالذود عن العقيدة، وصيانة الأرواح، والأموال، والكرامات. ومتى تجرّد الإنسان من هذه الغريزة صار عُرضةً للهوان والاستعباد، كما قيل:( من استُغضِب فلم يغضب فهو حمار ) .

فيُستَنتج من ذلك: أنّ الغضب المذموم ما أفرط فيه الإنسان، وخرج به عن الاعتدال، متحدّياً ضوابط العقل والشرع. أمّا المعتدل فهو كما عرفت، مِن الفضائل المشرّفة، التي تُعزّز الإنسان، وترفع معنويّاته، كالغضب على المنكرات، والتنمّر في ذات اللّه تعالى.

علاج الغضب:

عرفنا من مطاوي هذا البحث، طرفاً من بواعث الغضب ومساوئه وآثامه، والآن أودّ أنْ أعرض وصْفةً علاجيّة لهذا الخُلُق الخطير، وهي مؤلّفة من عناصر الحكمة النفسيّة، والتوجيه الخُلُقي، عسى أنْ يجد فيها صرعى الغضب ما يُساعدهم على مكافحته وعلاجه.

وإليك العناصر الآتية:

(١) - إذا كان منشأ الغضب اعتلالاً صحّيّاً، أو هبوطاً عصبيّاً كالمرضى والشيوخ ونحاف البنية، فعلاجُهم - والحالة هذه - بالوسائل الطبّية، وتقوية صحّتهم العامّة، وتوفير دواعي الراحة النفسيّة والجسميّة لهم، كتنظيم الغذاء، والتزام النظافة، وممارسة الرياضة الملائمة،

٤٦

واستنشاق الهواء الطلق، وتعاطي الاسترخاء العضلي بالتمدد على الفراش.

كل ذلك مع الابتعاد والاجتناب عن مرهقات النفس والجسم، كالإجهاد الفكري، والسهر المضني، والاستسلام للكآبة، ونحو ذلك من دواعي التهيّج.

(٢) - لا يحدث الغضب عفواً، وإنّما ينشأ عن أسباب تستثيره، أهمّها: المغالاة في الأنانيّة، الجدل والمراء، الاستهزاء والتعيير، المزاح الجارح. وعلاجه في هذه الصور باجتناب أسبابه، والابتعاد عن مثيراته جهد المستطاع.

(٣) - تذكّر مساوئ الغضب وأخطاره وآثامه، وأنّها تحيق بالغاضب، وتضرّ به أكثر مِن المغضوب عليه، فرُبّ أمرٍ تافه أثار غضبةً عارمة، أودت بصحّة الإنسان وسعادته.

يقول بعض باحثي علم النفس: دع محاولة الاقتصاص من أعدائك، فإنّك بمحاولتك هذه تؤذي نفسك أكثر ممّا تؤذيهم... إنّنا حين نمقت أعداءنا نتيح لهم فرصة الغلبة علينا، وإنّ أعداءنا ليرقصون طرَباً لو علِموا كم يسبّبون لنا من القلق وكم يقتصّون منّا، إنّ مقتنا لا يُؤذيهم، وإنّما يؤذينا نحن، ويحيل أيامنا وليالينا إلى جحيم(١).

وهكذا يجدر تذكر فضائل الحلم، وآثاره الجليلة، وأنّه باعث على إعجاب الناس وثنائهم، وكسب عواطفهم.

وخير محفّز على الحلم قول اللّه عز وجل:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

_____________________

(١) دع القلق وابدأ الحياة.

٤٧

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( فصلت: ٣٤ - ٣٥ )

(٤) - إنّ سطوة الغضب ودوافعه الإجراميّة، تعرّض الغاضب لسخط اللّه تعالى وعقابه، وربّما عرّضته لسطوة مَن أغضبه واقتصاصه منه في نفسه أو في ماله أو عزيز عليه. قال الصادقعليه‌السلام : ( أوحى اللّه تعالى إلى بعض أنبيائه: إبنَ آدم أذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق، وارض بي منتصراً، فإنّ انتصاري لك خيرٌ مِن انتصارك لنفسك )(١).

(٥) - من الخير للغاضب إرجاء نزَوات الغضب وبوادره، ريثما تخفّ سورته، والتروّي في أقواله وأفعاله عند احتدام الغضب، فذلك ممّا يخفّف حدّة التوتر والتهيج، ويعيده إلى الرشد والصواب، ولا يُنال ذلك إلا بضبط النفس، والسيطرة على الأعصاب.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنْ لم تكن حليماً فتحلّم، فإنّه قَلّ من تشبّه بقومٍ إلاّ أوشك أنْ يكون منهم )(٢).

(٦) - ومن علاج الغضب: الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وجلوس الغاضب إذا كان قائماً، واضطجاعه إنْ كان جالساً، والوضوء أو الغُسل بالماء البارد، ومسّ يد الرحم إنْ كان مغضوباً عليه، فإنّه من مهدّئات الغضب.

_____________________

(١) الكافي.

(٢) نهج البلاغة.

٤٨

التواضع

وهو: احترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفّع عليهم.

وهو خُلقٌ كريم، وخلّة جذّابة، تستهوي القُلوب، وتستثير الإعجاب والتقدير، وناهيك في فضله أنّ اللّه تعالى أمر حبيبه، وسيّد رُسلهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتواضع، فقال تعالى:( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )

(الشعراء: ٢١٥)

وقد أشاد أهل البيتعليهم‌السلام بشرَف هذا الخُلُق، وشوّقوا إليه بأقوالهم الحكيمة، وسيرتهم المثاليّة، وكانوا روّاد الفضائل، ومنار الخُلق الرفيع.

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ في السماء ملكين موكّلين بالعباد، فمن تواضع للّه رَفَعاه، ومن تكبّر وضَعَاه )(١).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ أحبّكم إليّ، وأقربكم منّي يومّ القيامة مجلساً، أحسنكم خُلُقاً، وأشدّكم تواضعاً، وإنّ أبعدكم منّي يوم القيامة، الثرثارون وهُم المستكبرون )(٢).

_____________________

(١) الكافي.

(٢) كتاب قرب الإسناد، وقريب من هذا الخبر ما في علل الشرائع للشيخ الصدوق.

٤٩

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء، طلباً لما عند اللّه، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتّكالاً على اللّه )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن التواضع أنْ ترضى بالمجلس دون المجلس، وأنْ تُسلّم على مَن تَلقى. وأنْ تترك المراء وإنْ كُنت محقّاً، ولا تحب أنْ تُحمَد على التقوى )(٢).

وجدير بالذكر أنْ التواضع الممدوح، هو المتّسم بالقصد والاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فالإسراف في التواضع داع إلى الخسّة والمهانة، والتفريط فيه باعثٌ على الكِبر والأنانيّة.

وعلى العاقل أنْ يختار النهج الأوسط، المبرّأ مِن الخسّة والأنانيّة، وذلك: بإعطاء كلّ فرد ما يستحقّه من الحفاوة والتقدير، حسب منزلته ومؤهّلاته.

لذلك لا يحسن التواضع للأنانيّين والمتعالين على الناس بزهوهم وصلَفِهم. إنّ التواضع والحالة هذه مدعاة للذلّ والهَوان، وتشجيعٌ لهم على الأنانيّة والكِبَر، كما يقول المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإنْ أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

وممّا قيل في التواضع قول المعرّي:

يا والي المصر لا تظلمنّ

فكم جاء مثلك ثُمّ انصرف

تواضع إذا ما رُزقت العُلا

فذلك ممّا يزيد الشرَف

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الكافي.

٥٠

وفي المثل:

تواضع الرجل في مرتبته، ذبّ للشماتة عند سقطته.

وقال الطغرائي:

ذريني على أخلاقي الشوس إنّني

عليم بإبرام العزائم والنقض

أزيد إذا أيسرت فضل تواضع

ويزهى إذا أعسرت بعضي على بعضي

فذلك عند اليسر أكسب للثنا

وهذاك عند العسر أصوَن للعرض

أرى الغصن يعرى وهو يسمو بنفسه

ويوقر حملاً حين يدنو مِن الأرض

واليك طرفاً من فضائل أهل البيت، وتواضعهم المثالي الفريد:

كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أشدَّ الناس تواضعاً، وكان إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل، وكان في بيته في مهنة أهله، يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويحمل بضاعته من السوق، ويُجالس الفقراء، ويواكل المساكين.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سارّه أحد، لا يُنحّي رأسه حتّى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتّى يرسلها الآخر، وما قعد إليه رجل قط فقامصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يقوم، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبادئ أصحابه بالمصافحة، ولم يُرَ قطّ مادّاً رجليه بين أصحابه، يُكرم من يدخل عليه، وربّما بسَط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويكنّي أصحابه، ويدعوهم بأحبِّ أسمائهم تكرِمةً لهم، ولا يقطع على أحدٍ حديثه، وكان يُقسِّم لحظاته بين أصحابه، وكان

٥١

أكثر الناس تبسّماً، وأطيبهم نفساً(١) .

وعن أبي ذرّ الغفاري: كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يجلس بين ظهرانيّ أصحابه، فيجئ الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتّى يسأل، فطلبنا إليه أنْ يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكّاناً من طين فكان يجلس عليها، ونجلس بجانبه.

ورُوي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليَّ طبخها، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وعليَّ جمع الحطب ). فقالوا: يا رسول اللّه، نحن نكفيك.

فقال: ( قد علمت أنّكم تكفوني، ولكن أكره أنْ أتميَّز عليكم، فإنّ اللّه يكره مِن عبده أنْ يراه متميَّزاً بين أصحابه )، وقام فجمع الحطب(٢).

ورُوي أنّه خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بئرٍ يغتسل، فأمسك حذيفة بن اليمان بالثوب على رسول اللّه وستره به حتّى اغتسل، ثُمّ جلس حذيفة ليغتسل، فتناول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الثوب، وقام يستر حذيفة، فأبى حذيفة، وقال: بأبي وأُمّي أنت يا رسول اللّه لا تفعل، فأبى رسول اللّه إلاّ أنْ يستره بالثوب حتّى اغتسل، وقال: ( ما اصطحب اثنان قطُّ، إلاّ وكان أحبّهما إلى اللّه أرفقهما بصاحبه )(٣).

_____________________

(١) سفينة البحار المجلّد الأول ص ٤١٥ بتصرّف وتلخيص.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤١٥.

(٣) سفينة البحار ج ١ ص ٤١٦.

٥٢

وهكذا كان أمير المؤمنينعليه‌السلام في سموّ أخلاقه وتواضعه، قال ضرار وهو يصفهعليه‌السلام :

( كان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن واللّه مع تقريبه إيّانا، وقُربه منّا، لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإنْ تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( خرَج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أصحابه، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم فقال: لكم حاجة ؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحبُّ أنْ نمشي معك. فقال لهم: انصرفوا، فإنّ مشي الماشي مع الراكب، مَفسدةٌ للراكب، ومذلّة للماشي )(١).

وهكذا يقصّ الرواة طرفاً ممتعاً رائعاً مِن تواضع الأئمّة الهداةعليهم‌السلام ، وكريم أخلاقهم.

فمِن تواضع الحسينعليه‌السلام : أنّه مرّ بمساكين وهُم يأكلون كِسراً لهم على كساء، فسلَّم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فجلس معهم وقال: ( لولا أنّه صدقة لأكلت معكم ). ثُمّ قال: ( قوموا إلى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم )(٢).

ومن تواضع الرضاعليه‌السلام :

_____________________

(١) محاسن البرقي.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب.

٥٣

قال الراوي: كنت مع الرضاعليه‌السلام في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جُعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: ( مَه، إنّ الربَّ تبارك وتعالى واحد، والأُمّ واحدة، والأبُ واحد، والجزاء بالأعمال )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٥٤

التكبّر

وهو حالة تدعو إلى الإعجاب بالنفس، والتعاظم على الغير، بالقول أو الفعل، وهو: من أخطر الأمراض الخلقيّة، وأشدّها فتكاً بالإنسان، وأدعاها إلى مقت الناس له وازدرائهم به، ونفرتهم منه.

لذلك تواتر ذمّه في الكتاب والسنّة:

قال تعالى:( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) ( لقمان: ١٨ ).

وقال تعالى:( وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ) ( الإسراء:٣٧ ).

وقال تعالى:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) ( النحل: ٢٣ ).

وقال تعالى:( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) ( الزمر: ٦٠ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ في السماء ملَكَين موكَّلين بالعباد، فمَن تواضع للّه رَفَعاه، ومن تكبّر وضعاه )(١) .

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن رجل تكبّر أو تُجبَر، إلاّ لذلةٍ وجدها في نفسه )(٢) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥٠ عن الكافي.

٥٥

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ أحبّكم إليّ، وأقربكم منّي يوم القيامة مجلساً، أحسنكم خُلُقاً، وأشدّكم تواضعاً، وإنّ أبعدكم منّي يوم القيامة، الثرثارون، وهُم المستكبرون )(١) .

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( مرّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على جماعة فقال: على ما اجتمعتم ؟ فقالوا: يا رسول اللّه، هذا مجنون يُصرع، فاجتمعنا عليه. فقال: ليس هذا بمجنون، ولكنّه المبتلى. ثمّ قال: ألا أخبركم بالمجنون حقّ المجنون ؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: المُتَبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمكنبيه، يتمنّى على اللّه جنّته، وهو يعصيه، الذي لا يُؤمنُ شرّه، ولا يُرجى خيره، فذلك المجنون وهذا المبتلى )(٢) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبة له: ( فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد ؟ وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة، لا يُدرى أمِن سنيّ الدنيا، أم مِن سنيّ الآخرة، عن كِبر ساعة واحدة، فمَن بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته، كلا ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، واستعيذوا باللّه من لواقح الكِبر، كما تستعيذون من طوارق الدهر، فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه ورُسُله، ولكنّه سُبحانه

_____________________

(١) البحار مج ١٥ ج ٢ ص ٢٠٩، عن قرب الإسناد، وقريب منه في علل الشرائع للصدوق( ره ).

(٢) البحار م (١٥) ج ٣ ص ١٢٥ عن الخصال للصدوق.

٥٦

كرّه إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع )(١).

وعن الصادق عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام قال: ( وقع بين سلمان الفارسي وبين رجلٍ كلام وخصومة فقال له الرجل: مَن أنت يا سلمان ؟ فقال سلمان: أمّا أوّلي وأوّلُك فنطفةٌ قذرة، وأمّا آخِري وآخِرُك فجيفةٌ منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووِضِعَت الموازين، فمن ثقُل ميزانه فهو الكريم، ومَن خفّ ميزانه فهو اللئيم )(٢).

وعن الصادقعليه‌السلام قال: ( جاء رجلٌ موسر إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نقيّ الثوب، فجلس إلى رسول اللّه، فجاء رجلٌ مُعسِر، درن الثوب، فجلَس إلى جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه مِن تحت فخذيه، فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخفت أنْ يمسّك مِن فقره شيء ؟ قال: لا. قال: فخِفتَ أنْ يوسّخ ثيابك ؟ قال: لا. قال: فما حملَك على ما صنعت ؟ فقال: يا رسول اللّه، إنّ لي قريناً يُزيّن لي كلّ قبيح ويقبّح لي كلّ حسَن، وقد جعلت له نصف مالي. فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله للمعسِر: أتقبل ؟ قال: لا. فقال له الرجل: لِمَ ؟ قال: أخاف أنْ يدخلني ما دخلك ).

مساوئ التكبّر:

من الواضح أن التكبر من الأمراض الأخلاقية الخطيرة، الشائعة

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٢٤ عن أمالي الصدوق.

٥٧

في الأوساط الاجتماعيّة، التي سرت عدواها، وطغت مضاعفاتها على المجتمع، وغدا يعاني مساوئها الجمّة.

فمن مساوئ التكبّر وآثاره السيّئة في حياة الفرد:

أنّه متى استبدّ بالإنسان، أحاط نفسه بهالةٍ من الزهو والخيَلاء، وجُنّ بحبِّ الأنانيّة والظهور، فلا يسعده إلاّ الملِق المزيف، والثناء الكاذب، فيتعامى آنذاك عن نقائصه وعيوبه، ولا يهتمّ بتهذيب نفسه، وتلافي نقائصه، ما يجعله هدفاً لسهام النقد، وعرضة للمقت والازدراء.

هذا إلى أنّ المتكبّر أشدّ الناس عُتوّاً وامتناعاً عن الحقّ والعدل، ومقتضيات الشرائع والأديان.

ومن مساوئ التكبّر الاجتماعيّة:

أنّه يُشيع في المجتمع روح الحقد والبغضاء، ويعكّر صفو العلاقات الاجتماعيّة، فلا يسيء الناس ويستثير سخطهم ومقتهم، كما يستثيره المتكبّر الذي يتعالى عليهم بصلفه وأنانيّته.

إنّ الغطرسة داء يُشقي الإنسان، ويجعله منبوذاً يعاني مرارة العزلة والوحشة، ويشقي كذلك المرتبطين به بصنوف الروابط والعلاقات.

بواعث التكبّر:

الأخلاق البشريّة كريمة كانت أو ذميمة، هي انعكاسات النفس على صاحبها، وفيض نبعها، فهي تُشرق وتُظلم، ويحلو فيضها ويمرّ تبعاً

٥٨

لطيبة النفس أو لؤمها، استقامتها أو انحرافها. وما مِن خُلُق ذميم إلاّ وله سببٌ من أسباب لؤم النفس أو انحرافها.

فمن أسباب التكبّر: مغالاة الإنسان في تقييم نفسه، وتثمين مزاياها وفضائلها، والإفراط في الإعجاب والزهو بها، فلا يتكبّر المتكبّر إلاّ إذا آنَس من نفسه عِلماً وافراً، أو منصباً رفيعاً، أو ثراءً ضخماً، أو جاهاً عريضاً، ونحو ذلك من مثيرات الأنانيّة والتكبّر.

وقد ينشأ التكبّر من بواعث العِداء أو الحسَد أو المباهاة، ممّا يدفع المتّصفين بهذه الخلال على تحدّي الأماثل والنُبلاء، وبَخس كراماتهم، والتطاول عليهم، بصنوف الازدراءات الفعليّة أو القوليّة، كما يتجلّى ذلك في تصلّفات المتنافسين والمتحاسدين في المحافل والندوات.

درجات التكبّر:

وهكذا تتفاوت درجات التكبّر وأبعاده بتفاوت أعراضه شدّةً وضعفاً.

فالدرجة الأُولى: وهي التي كَمِن التكبّر في صاحبها، فعالجه بالتواضع، ولم تظهر عليه أعراضه ومساوئه.

والدرجة الثانية: وهي التي نما التكبّر فيها، وتجلّت أعراضه بالاستعلاء على الناس، والتقدّم عليهم في المحافل، والتبختر في المشي.

والدرجة الثالثة: وهي التي طغى التكبر فيها، وتفاقمت مضاعفاته، فجُنَّ صاحبها بجنون العظمة، والإفراط في حبّ الجاه والظهور، فطفق

٥٩

يلهج في محاسنه وفضائله، واستنقاص غيره واستصغاره. وهذه أسوأ درجات التكبّر، وأشدّها صَلفَاً وعتوّاً.

أنواع التكبّر:

وينقسم التكبر باعتبار مصاديقه الى ثلاثة أنواع:

(١) - التكبّر على اللّه عزَّ وجل:

وذلك بالامتناع عن الإيمان به، والاستكبار عن طاعته وعبادته. وهو أفحش أنواع الكفر، وأبشع أنواع التكبّر، كما كان عليه فرعون ونمرود وأضرابهما مِن طغاة الكفر وجبابرة الإلحاد.

(٢) - التكبّر على الأنبياء.

وذلك بالترفّع عن تصديقهم والإذعان لهم، وهو دون الأوّل وقريب منه.

(٣) - التكبّر على الناس:

وذلك بازدرائهم والتعالي عليهم بالأقوال والأفعال، ومن هذا النوع التكبّر على العلماء المخلصين، والترفّع عن مسائلتهم والانتفاع بعلومهم وإرشادهم، ممّا يفضي بالمستكبرين إلى الخُسران والجهل بحقائق الدين، وأحكام الشريعة الغرّاء.

علاج التكبّر:

وحيث كان التكبّر هَوَساً أخلاقيّاً خطيراً ماحقاً، فجدير بكلّ عاقل

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

يده مع يد الذّابح، ويسمّي الله تعالى، ويقول « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » إلى قوله « وأنا من المسلمين » ثمَّ يقول: « اللهم منك ولك. بسم الله، والله أكبر. اللهمّ تقبّل منّي » ثمَّ يمرّ السّكين. ولا ينخعه حتّى يموت. ومن أخطأ في الذّبيحة، فذكر غير صاحبها، كانت مجزئة عنه بالنّيّة. وينبغي أن يبدأ أيضا بالذّبح قبل الحلق، وفي العقيقة بالحلق قبل الذّبح. فإن قدّم الحلق على الذّبح ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن السّنّة أن يأكل الإنسان من هديه لمتعته، ومن الأضحيّة ويطعم القانع والمعترّ: يأكل ثلثه، ويطعم القانع والمعترّ ثلثه، ويهدي لأصدقائه الثّلث الباقي. وقد بيّنّا أنه لا يجوز أن يأكل من الهدي المضمون إلّا إذا كان مضطرّا. فإن أكل منه من غير ضرورة، كان عليه قيمته. ولا بأس بأكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام وادّخارها. ولا يجوز أن يخرج من منى من لحم ما يضحّيه. ولا بأس بإخراج السّنام منه. ولا بأس أيضا بإخراج لحم قد ضحّاه غيره. ويستحبّ أن لا يأخذ شيئا من جلود الهدي والأضاحي، بل يتصدّق بها كلّها. ولا يجوز أيضا أن يعطيها الجزّار. وإذا أراد أن يخرج شيئا منها لحاجته إلى ذلك، تصدّق بثمنه.

ولا يجوز أن يحلق الرّجل رأسه، ولا أن يزور البيت، إلا بعد الذّبح، أو أن يبلغ الهدي محلّه. وهو أن يحصل في رحله

٢٦١

فإذا حصل في رحله بمنى، وأراد أن يحلق، جاز له ذلك. ومتى فعل ذلك ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومن وجبت عليه بدنة في نذر أو كفّارة، ولم يجدها، كان عليه سبع شياه. فإن لم يجد، صام ثمانية عشر يوما إمّا بمكّة أو إذا رجع إلى أهله.

والصّبيّ إذا حجّ به متمتّعا، وجب على وليّه أن يذبح عنه.

ومن لم يتمكّن من شراء هدي، إلّا يبيع بعض ثيابه التي يتجمّل بها، لم يلزمه ذلك، وكان الصوم مجزئا عنه.

ويجزي الهدي عن الأضحيّة. وإن جمع بينهما، كان أفضل. ومن لم يجد الأضحيّة، جاز له أن يتصدّق بثمنها. فإن اختلفت أثمانها، نظر إلى الثّمن الأوّل والثّاني والثّالث، وجمعها ثمَّ يتصدّق بثلثها، وليس عليه شي‌ء.

ومن نذر لله تعالى أن ينحر بدنة، فإن سمّى الموضع الذي ينحرها فيه، وجب عليه الوفاء به، وإن لم يسمّ الموضع، لم يجز له أن ينحرها إلّا بفناء الكعبة. ويكره للإنسان أن يضحّي بكبش قد تولّى تربيته، ويستحبّ أن يكون ذلك ممّا يشتريه.

باب الحلق والتقصير

يستحبّ أن يحلق الإنسان رأسه بعد الذّبح. وإن كان صرورة، لا يجزئه غير الحلق. وإن كان ممّن حجّ حجّة الإسلام، جاز له التّقصير، والحلق أفضل. اللهمّ إلّا أن يكون قد لبّد

٢٦٢

شعره. فإن كان كذلك، لم يجزئه غير الحلق في جميع الأحوال.

ومن ترك الحلق عامدا أو التّقصير إلى أن يزور البيت، كان عليه دم شاة. وإن فعله ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء، وكان عليه إعادة الطّواف. ومن رحل من منى قبل الحلق، فليرجع إليها، ولا يحلق رأسه إلّا بها مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من الرّجوع إليها، فليحلق رأسه في مكانه، ويردّ شعره إلى منى، ويدفنه هناك فإن لم يتمكّن من ردّ الشعر، لم يكن عليه شي‌ء.

والمرأة ليس عليها حلق، ويكفيها من التّقصير مقدار أنملة.

وإذا أراد أن يحلق، فليبدأ بناصيته من القرن الأيمن ويحلق إلى العظمين ويقول إذا حلق: « اللهمّ أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيامة ». ومن لم يكن على رأسه شعر، فليمرّ الموسى عليه. وقد أجزأه. وإذا حلق رأسه، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء والطّيب، إن كان متمتّعا. فإن كان حاجّا غير متمتّع، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف الزّيارة، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف النّساء، حلّت له أيضا النّساء.

ويستحبّ ألا يلبس الثّياب إلّا بعد الفراغ من طواف الزّيارة، وليس ذلك بمحظور. وكذلك يستحبّ ألّا يمسّ الطّيب إلّا بعد الفراغ من طواف النّساء، وإن لم يكن ذلك محظورا على ما قدّمناه.

٢٦٣

باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ من مناسكه بمنى، فليتوجّه إلى مكّة، وليزر البيت يوم النّحر، ولا يؤخره إلّا لعذر. فإن أخّره لعذر، زار من الغد ولا يؤخر أكثر من ذلك. هذا إذا كان متمتّعا. فإن كان مفردا أو قارنا، جاز له أن يؤخر الى أيّ وقت شاء، غير أنّه لا تحلّ له النّساء. وتعجيل الطّواف للقارن والمفرد أفضل من تأخيره.

ويستحبّ لمن أراد زيارة البيت أن يغتسل قبل دخول المسجد والطّواف بالبيت، ويقلّم أظفاره، ويأخذ من شاربه، ثمَّ ثمَّ يزور. ولا بأس أن يغتسل الإنسان بمنى، ثمَّ يجي‌ء إلى مكّة، فيطوف بذلك الغسل بالبيت. ولا بأس أن يغتسل بالنّهار ويطوف بالليل ما لم ينقض ذلك الغسل بحدث أو نوم. فإن نقضه بحدث أو نوم، فليعد الغسل استحبابا، حتّى يطوف وهو على غسل. ويستحبّ للمرأة أيضا أن تغتسل قبل الطّواف.

وإذا أراد أن يدخل المسجد، فليقف على بابه، ويقول: « اللهمّ أعنّي على نسكك » إلى آخر الدّعاء الذي ذكرناه في الكتاب المقدّم ذكره. ثمَّ يدخل المسجد، ويأتي الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله. فإن لم يستطع، استلمه بيده وقبّل يده. فإن لم يتمكّن من ذلك أيضا، استقبله، وكبّر، وقال ما قال حين طاف بالبيت يوم قدم مكّة. ثمَّ يطوف بالبيت أسبوعا كما قدّمنا وصفه

٢٦٤

ويصلّي عند المقام ركعتين. ثمَّ ليرجع الى الحجر الأسود فيقبّله، إن استطاع، ويستقبله ويكبّر. ثمَّ ليخرج إلى الصّفا، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكّة. ثمَّ يأتي المروة، ويطوف بينهما سبعة أشواط، يبدأ بالصّفا ويختم بالمروة.

فإذا فعل ذلك، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء. ثمَّ ليرجع الى البيت، فيطوف به طواف النّساء أسبوعا، يصلّي عند المقام ركعتين، وقد حلّ له النّساء.

وأعلم أنّ طواف النّساء فريضة في الحجّ وفي العمرة المبتولة. وليس بواجب في العمرة التي يتمتّع بها الى الحج. فإن مات من وجب عليه طواف النّساء. كان على وليّه القضاء عنه. وإن تركه وهو حيّ، كان عليه قضاؤه. فإن لم يتمكّن من الرّجوع الى مكّة، جاز له أن يأمر من يتوب عنه. فإذا طاف النّائب عنه، حلّت له النّساء. وطواف النّساء فريضة على النّساء والرّجال والشّيوخ والخصيان، لا يجوز لهم تركه على حال.

فإذا فرغ الإنسان من الطّواف فليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التّشريق إلّا بها. فإن بات في غيرها، كان عليه دم شاة. فإن بات بمكّة ليالي التّشريق، ويكون مشتغلا بالطّواف والعبادة، لم يكن عليه شي‌ء. وإن لم يكن مشتغلا بهما، كان عليه ما ذكرناه، وان خرج من منى بعد نصف اللّيل، جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنّه لا يدخل مكّة إلّا بعد طلوع الفجر. وإن تمكّن ألّا يخرج

٢٦٥

منها إلّا بعد طلوع الفجر، كان أفضل. ومن بات الثّلاث ليال بغير منى متعمّدا، كان عليه ثلاثة من الغنم. والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيّام التّشريق من منى. فإن أراد أن يأتي مكّة للطّواف بالبيت تطوّعا، جاز له ذلك، غير أنّ الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى لرمي الجمار، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيّام: الثّاني من النّحر والثّالث والرّابع، كلّ يوم بإحدى وعشرين حصاة. ويكون ذلك عند الزّوال، فإنّه الأفضل. فإن رماها ما بين طلوع الشمس الى غروبها، لم يكن به بأس.

فإذا أراد أن يرمي، فليبدأ بالجمرة الأولى، فليرمها عن يسارها من بطن المسيل بسبع حصيات يرميهنّ خذفا. ويكبّر مع كلّ حصاة، ويدعوا بالدّعاء الذي قدّمناه. ثمَّ يقوم عن يسار الطّريق ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلّي على النّبيّ وآله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمَّ ليتقدم قليلا ويدعوا ويسأله أن يتقبّل منه. ثمَّ يتقدّم أيضا ويرمي الجمرة الثّانية، ويصنع عندها كما صنع عند الأولى، ويقف ويدعوا، ثمَّ يمضي إلى الثّالثة فيرميها كما رمى الأوليين، ولا يقف عندها.

وإذا غابت الشّمس، ولم يكن قد رمى بعد، فلا يجوز له أن يرمي إلّا في الغد. فإذا كان من الغد، رمى ليومه مرّة، ومرّة قضاء لما فاته، ويفصل بينهما بساعة. وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة، والذي ليومه عند الزّوال. فإن فاته رمي يومين،

٢٦٦

رماها كلّها يوم النّفر، وليس عليه شي‌ء. وقد بينا أنّه لا يجوز الرّمي باللّيل. وقد رخّص للعليل والخائف والرّعاة والعبيد الرّمي باللّيل. ومن نسي رمي الجمار الى أن أتى مكّة، عاد إلى منى، ورماها، وليس عليه شي‌ء. وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه حكم الرّجل سواء.

فإن لم يذكر الى أن يخرج من مكّة، لم يكن عليه شي‌ء. إلّا أنّه إن حجّ في العام المقبل، أعاد ما كان قد فاته من رمي الجمار. وإن لم يحجّ أمر وليّه أن يرمي عنه. فإن لم يكن له وليّ، استعان برجل من المسلمين في قضاء ذلك عنه.

والترتيب واجب في الرّمي. يجب أن يبدأ بالجمرة العظمى ثمَّ الوسطى ثمَّ جمرة العقبة. فمن خالف شيئا منها، أو رماها منكوسة، كان عليه الإعادة. ومن بدأ بجمرة العقبة ثمَّ الوسطى ثمَّ الأولى، أعاد على الوسطى ثمَّ جمرة العقبة وقد أجزأه. فإن نسي فرمى الجمرة الأولى بثلاث حصيات، ورمى الجمرتين الأخريين على التّمام، كان عليه ان يعيد عليها كلّها. وإن كان قد رمى من الجمرة الأولى بأربع حصيات ثمَّ رمى الجمرتين على التّمام، كان عليه أن يعيد على الأولى بثلاث حصيات. وكذلك إن كان قد رمى على الوسطى أقل من أربعة، أعاد عليها وعلى ما بعدها. وإن رماها بأربعة، تمّمها، وليس عليه شي‌ء من الإعادة على الثّالثة. ومن رمى جمرة بست حصيات، وضاعت عنه واحدة،

٢٦٧

أعاد عليها بحصاة، وإن كان من الغد. ولا يجوز له أن يأخذ من حصى الجمار فيرمي بها. ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة، ولم يعلم من أي الجمار هي، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة. فإن رمى بحصاة، فوقعت في محمله، أعاد مكانها حصاة أخرى. فإن أصابت إنسانا أو دابّة، ثمَّ وقعت على الجمرة، فقد أجزأه.

ولا بأس أن يرمي الإنسان راكبا. وإن رمى ماشيا، كان أفضل ولا بأس أن يرمى عن العليل والمبطون والمغمى عليه والصّبيّ.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة. يبدأ بالتّكبير يوم النّحر من بعد الظّهر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّالث من أيّام التّشريق، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات، يبدأ عقيب الظّهر من يوم النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّاني من أيّام التّشريق، ويقول في التّكبير: « الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، والله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

لا بأس أن ينفر الإنسان من منى اليوم الثّاني من أيّام التّشريق وهو اليوم الثّالث من يوم النّحر. فإن أقام إلى النّفر الأخير، وهو اليوم الثّالث من أيّام التّشريق والرّابع من يوم النّحر، كان أفضل. فإن كان ممّن أصاب النّساء في إحرامه أو صيدا، لم يجز له أن

٢٦٨

ينفر في النّفر الأوّل. ويجب عليه المقام الى النّفر الأخير. وإذا أراد أن ينفر في النّفر الأوّل، فلا ينفر إلّا بعد الزّوال، إلّا أن تدعوه ضرورة إليه من خوف وغيره، فإنّه لا بأس أن ينفر قبل الزّوال، وله أن ينفر بعد الزّوال ما بينه وبين غروب الشّمس. فإذا غابت الشّمس، لم يجز له النّفر، وليبت بمنى الى الغد. وإذا نفر في النّفر الأخير، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشّمس أيّ وقت شاء. فإن لم ينفر وأراد المقام بمنى، جاز له ذلك، إلّا الإمام خاصّة، فإنّ عليه أن يصلّي الظّهر بمكّة.

ومن نفر من منى، وكان قد قضى مناسكه كلّها، جاز له أن لا يدخل مكّة. وإن كان قد بقي عليه شي‌ء من المناسك، فلا بدّ له من الرّجوع إليها. والأفضل على كلّ حال الرّجوع إليها لتوديع البيت وطواف الوداع.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان بمسجد منى، وهو مسجد الخيف. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسجده عند المنارة التي في وسط المسجد، وفوقها إلى القبلة نحوا من ثلاثين ذراعا، وعن يمينها وعن يسارها مثل ذلك. فإن استطعت أن يكون مصلّاك فيه، فافعل. ويستحبّ أن يصلّي الإنسان ستّ ركعات في مسجد منى. فإذا بلغ مسجد الحصباء، وهو مسجد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليدخله وليسترح فيه قليلا وليستلق على قفاه.

٢٦٩

فإذا جاء إلى مكّة فليدخل الكعبة، إن تمكّن من ذلك سنّة واستحبابا. والصّرورة لا يترك دخولها على حال مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من ذلك، لم يكن عليه شي‌ء.

فإذا أراد دخول الكعبة فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكّدة. فإذا دخلها، فلا يمتخط فيها، ولا يبصق. ولا يجوز دخولها بحذاء. ويقول إذا دخلها: « اللهمّ إنّك قلت: ومن دخله كان آمنا، فآمنّى من عذابك عذاب النار ».

ثمَّ يصلّي بين الأسطوانتين على الرّخامة الحمراء ركعتين، يقرأ في الأولى منهما « حم السّجدة » وفي الثّانية عدد آياتها، ثمَّ ليصلّ في زوايا البيت كلّها، ثمَّ يقول: « اللهمّ من تهيّأ وتعبّأ » إلى آخر الدّعاء. فإذا صلّى عند الرّخامة على ما قدّمناه، وفي زوايا البيت، قام فاستقبل الحائط بين الرّكن اليمانيّ والغربيّ، ويرفع يديه، ويلتصق به، ويدعوا. ثمَّ يتحوّل الى الرّكن اليمانيّ، فيفعل به مثل ذلك. ثمَّ يأتي الرّكن الغربيّ، ويفعل به أيضا مثل ذلك، ثمَّ ليخرج. ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة مع الاختيار. فإن اضطرّ الى ذلك، لم يكن عليه بأس بالصّلاة فيها. فأمّا النّوافل فالصّلاة فيها مندوب اليه.

فإذا خرج من البيت ونزل عن الدرجة، صلّى عن يمينه ركعتين. فإذا أراد الخروج من مكّة، جاء الى البيت، فطاف به أسبوعا طواف الوداع سنّة مؤكّدة. فإن استطاع أن يستلم الحجر

٢٧٠

والرّكن اليمانيّ في كل شوط، وفعل. وإن لم يتمكّن، افتتح به، وختم به، وقد أجزأه. فإن لم يتمكن من ذلك أيضا، لم يكن عليه شي‌ء. ثمَّ يأتي المستجار، فيصنع عنده كما صنع يوم قدم مكّة. ويتخيّر لنفسه من الدّعاء ما أراد. ثمَّ يستلم الحجر الأسود، ثمَّ يودّع البيت ويقول: « اللهمّ لا تجعله آخر العهد من بيتك » ثمَّ ليأت زمزم فيشرب منه، ثمَّ ليخرج، ويقول: « آئبون تائبون، عابدون، لربّنا حامدون، الى ربّنا راغبون، الى ربّنا راجعون ». فإذا خرج من باب المسجد، فليكن خروجه من باب الحنّاطين. فيخرّ ساجدا، ويقوم مستقبل الكعبة، فيقول: « اللهمّ إني أنقلب على لا إله إلا الله ».

ومن لم يتمكّن من طواف الوداع، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج، لم يكن عليه شي‌ء. فإذا أراد الخروج من مكّة، فليشتر بدرهم تمرا، وليتصدّق به، ليكون كفّارة لما دخل عليه في الإحرام، إن شاء الله.

باب فرائض الحج

فرائض الحجّ: الإحرام من الميقات، والتّلبيات الأربع، والطّواف بالبيت، إن كان متمتّعا، ثلاثة أطواف: طواف للعمرة، وطواف للزيارة، وطواف للنّساء، وإن كان قارنا أو مفردا، طوافان: طواف للحجّ، وطواف للنّساء، ويلزمه مع

٢٧١

كلّ طواف ركعتان عند المقام، وهما أيضا فرضان، والسّعي بين الصّفا والمروة، والوقوف بالموقفين: عرفات والمشعر الحرام وإن كان متمتّعا، كان الهدي أيضا واجبا عليه أو ما يقوم مقامه.

فمن ترك الإحرام متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا حتّى يجوز الميقات، كان عليه أن يرجع إليه، ويحرم منه، إذا تمكّن منه. فإن لم يتمكّن لضيق الوقت أو الخوف أو ما جرى مجراهما من أسباب الضّرورات، أحرم من موضعه وقد أجزأه. فإن كان قد دخل مكّة، وأمكنه الخروج الى خارج الحرم، فليخرج وليحرم منه. فإن لم يستطع ذلك، أحرم من موضعه.

ومن ترك التّلبية متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركها ناسيا، ثمَّ ذكر، فليجدّد التّلبية، وليس عليه شي‌ء.

ومن ترك طواف الزّيارة متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا، أعاد الطّواف أيّ وقت ذكره.

ومن ترك طواف النّساء متعمّدا، لم يبطل حجّة، إلّا أنّه لا تحلّ له النّساء، حتى يطوف عنه حسب ما قدّمناه. وركعتا الطّواف متى تركهما ناسيا، كان عليه قضاءهما حسب ما قدّمناه.

ومن ترك السّعي متعمّدا، فلا حجّ له. فإن تركه ناسيا،

٢٧٢

عليه قضاؤه حسب ما قدّمناه.

ومن ترك الوقوف بعرفات متعمّدا، أو بالمشعر الحرام، فلا حجّ له. فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا، كان عليه أن يعود، فيقف بها ما بينه وبين طلوع الفجر من يوم النّحر. فإن لم يذكر إلّا بعد طلوع الفجر، وكان قد وقف بالمشعر، فقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

وإذا ورد الحاجّ ليلا، وعلم: أنّه مضى الى عرفات، وقف بها وإن كان قليلا، ثمَّ عاد الى المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، وجب عليه المضيّ إليها والوقوف بها، ثمَّ يجي‌ء إلى المشعر الحرام. فإن غلب على ظنّه أنّه إن مضى الى عرفات، لم يلحق المشعر قبل طلوع الشّمس، اقتصر على الوقوف بالمشعر، وقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

ومن أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، فقد أدرك الحجّ. وإن أدركه بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ.

ومن وقف بعرفات، ثمَّ قصد المشعر، فعاقه في الطّريق عائق، فلم يلحق الى قرب الزّوال، فقد تمَّ حجّه، ويقف قليلا بالمشعر ويمضي إلى منى. ومن لم يكن قد وقف بعرفات، وأدرك المشعر بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

ومن فاته الحجّ، فليقم على إحرامه الى انقضاء أيّام

٢٧٣

التّشريق، ثمَّ يجي‌ء، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصّفا والمروة، ويجعل حجّته عمرة. وإن كان قد ساق معه هديا، فلينحره بمكّة وكان عليه الحجّ من قابل إن كانت حجته حجّة الإسلام. وإن كانت حجّة التّطوّع، كان بالخيار: إن شاء حجّ، وإن شاء لم يحجّ. ومن حضر المناسك كلّها ورتّبها في مواضعها. إلّا أنّه كان سكرانا، فلا حجّ له، وكان عليه الحجّ من قابل.

باب مناسك النساء في الحج والعمرة

قد بيّنّا فيما تقدّم من أن الحجّ واجب على النّساء كوجوبه على الرّجال. فمتى كانت المرأة لها زوج، فلا تخرج إلّا معه. فإن منعها زوجها من الخروج في حجّة الإسلام، جاز لها خلافه. ولتخرج، وتحجّ حجّة الإسلام. وإن أرادت أن تحجّ تطوّعا، فمنعها زوجها، فليس لها مخالفته.

وينبغي أن لا تخرج إلّا مع ذي محرم لها من أب أو أخ أو عمّ أو خال. فإن لم يكن لها أحد ممّن ذكرناه. جاز لها أن تخرج مع من تثق بدينه من المؤمنين.

وإذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق، جاز لها أن تخرج في حجّة الإسلام، سواء كان للزّوج عليها رجعة أو لم تكن. وليس لها أن تخرج إذا كانت حجّتها تطوّعا، إلّا أن تكون العدّة

٢٧٤

لزوجها عليها فيها رجعة. فأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها، فلا بأس بها أن تخرج فيها الى الحجّ فرضا كان أو نفلا.

وإذا خرجت المرأة، وبلغت ميقات أهلها، فعليها أن تحرم منه، ولا تؤخره. فإن كانت حائضا، توضّأت وضوء الصّلاة واحتشت واستثفرت وأحرمت، إلّا أنها لا تصلّي ركعتي الإحرام فإن تركت الإحرام ظنّا منها أنّه لا يجوز لها ذلك، وجازت الميقات، كان عليها أن ترجع الى الميقات، فتحرم منه، إذا أمكنها ذلك. فإن لم يمكنها، أحرمت من موضعها. إذا لم تكن قد دخلت مكّة. فإن كانت قد دخلت مكّة، فلتخرج الى خارج الحرم، وتحرم من هناك. فإن لم يمكنها ذلك، أحرمت من موضعها، وليس عليها شي‌ء.

فإذا دخلت المرأة مكّة، وكانت متمتّعة، طافت بالبيت، وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت. وقد أحلّت من كلّ ما أحرمت منه مثل الرّجل سواء.

فإن حاضت قبل الطّواف، انتظرت ما بينها وبين الوقت الذي تخرج الى عرفات. فإن طهرت، طافت وسعت. وإن لم تطهر، فقد مضت متعتها، وتكون حجّة مفردة، تقضي المناسك كلّها ثمَّ تعتمر بعد ذلك عمرة مبتولة. فإن طافت بالبيت ثلاثة أشواط ثمَّ حاضت، كان حكمها حكم من لم يطف. وإذا طافت أربعة أشواط، ثمَّ حاضت، قطعت الطّواف،

٢٧٥

وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وقد تمّت متعتها.

فإذا فرغت من المناسك، وطهرت تمّمت الطّواف. وإن كانت قد طافت الطّواف كلّه، ولم تكن قد صلّت الرّكعتين عند المقام، فلتخرج من المسجد، ولتسع، وتعمل ما قدّمناه من الإحرام بالحجّ وقضاء المناسك، ثمَّ تقضي الرّكعتين إذا طهرت. وإذا طافت بالبيت بين الصّفا والمروة وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وخافت أن يلحقها الحيض فيما بعد، فلا تتمكّن من طواف الزّيارة وطواف النّساء، فجائز لها أن تقدّم الطّوافين معا، والسّعي بين الصّفا والمروة، ثمَّ تخرج فتقضي المناسك كلّها، ثمَّ ترجع الى منزلها.

فإن كانت قد طافت طواف الزّيارة، وبقي عليها طواف النّساء، فلا تخرج من مكّة إلّا بعد أن تقضيه. وإن كانت قد طافت منه أربعة أشواط وأرادت الخروج، جاز لها أن تخرج وإن لم تتمّ الطّواف.

والمستحاضة لا بأس بها أن تطوف بالبيت، وتصلّي عند المقام، وتشهد المناسك كلّها، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة. والفرق بينها وبين الحائض، أنّ الحائض لا يحلّ لها دخول المسجد، فلا تتمكّن من الطّواف، ولا يجوز لها أيضا الصّلاة، والطّواف لا بدّ فيه من الصّلاة، وليس هذا حكم المستحاضة.

٢٧٦

وإذا أرادت الحائض وداع البيت، فلا تدخل المسجد، ولتودّع من أدنى باب من أبواب المسجد، وتنصرف، إن شاء الله.

وإذا كانت المرأة عليلة لا تقدر على الطّواف، طيف بها، وتستلم الأركان والحجر. فإن كان عليها زحمة، فتكفيها الإشارة. ولا تزاحم الرّجال. وإن كان بها علّة تمنع من حملها والطّواف بها، طاف عنها وليّها، وليس عليها شي‌ء. وكذلك إذا كانت عليلة لا تعقل عند الإحرام، أحرم عنها وليّها، وجنّبها ما يجتنب المحرم، وقد تمَّ إحرامها. وليس على النّساء حلق ولا دخول البيت. فإن أرادت دخول البيت، فلتدخله إذا لم يكن هناك زحام. ولا يجوز للمستحاضة دخول البيت على حال.

باب من حج عن غيره

من وجب عليه الحجّ، لا يجوز له أن يحجّ عن غيره إلّا بعد أن يقضي حجّته التي وجبت عليه. فإذا قضاها، جاز له بعد ذلك أن يحجّ عن غيره. ومن ليس له مال يجب عليه الحجّ، جاز له أن يحجّ عن غيره. فإن تمكّن بعد ذلك من المال، كان عليه أن يحجّ عن نفسه، وقد أجزأت الحجّة التي حجّها عمّن حجّ عنه.

وينبغي لمن يحجّ عن غيره أن يذكره في المواضع كلّها،

٢٧٧

فيقول عند الإحرام: اللهمّ ما أصابني من تعب أو نصب أو لغوب فأجر فلان بن فلان، وأجرني في نيابتي عنه. وكذلك يذكره عند التّلبية والطّواف والسّعي وعند الموقفين وعند الذّبح وعند قضاء جميع المناسك، فإن لم يذكره في هذه المواضع، وكانت نيته الحجّ عنه، كان جائزا.

ومن أمر غيره أن يحجّ عنه متمتّعا، فليس له أن يحجّ عنه مفردا ولا قارنا. فإن حجّ عنه كذلك، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. وإن أمره أن يحجّ عنه مفردا أو قارنا، جاز له أن يحجّ عنه متمتّعا، لأنه يعدل الى ما هو الأفضل. ومن أمر غيره أن يحجّ عنه على طريق بعينها، جاز له أن يعدل عن ذلك الطّريق الى طريق آخر. وإذا أمره أن يحجّ عنه بنفسه، فليس له أن يأمر غيره بالنّيابة عنه. فإن جعل الأمر في ذلك اليه، جاز له أن يستنيب غيره فيه. وإذا أخذ حجة عن غيره، لا يجوز له أن يأخذ حجة أخرى، حتى يقضي التي أخذها.

وإذا حجّ عن غيره، فصدّ عن بعض الطّريق، كان عليه ممّا أخذه بمقدار ما بقي من الطّريق. اللهم إلّا أن يضمن الحجّ فيما يستأنف، ويتولّاه بنفسه.

فإن مات النّائب في الحجّ، وكان موته بعد الإحرام ودخول الحرم، فقد سقطت عنه عهدة الحجّ، وأجزأ عمّن حجّ عنه وإن مات قبل الإحرام ودخول الحرم، كان على ورثته، إن

٢٧٨

خلّف في أيديهم شيئا، مقدار ما بقي عليه من نفقة الطّريق. وإذا أخذ حجة، فأنفق ما أخذه في الطّريق من غير إسراف، واحتاج الى زيادة، كان على صاحب الحجّة أن يتمّمه استحبابا. فإن فضل من النّفقة شي‌ء، كان له، وليس لصاحب الحجّة الرّجوع عليه بالفضل. ولا يجوز للإنسان أن يطوف عن غيره وهو بمكّة، إلّا أن يكون الذي يطوف عنه مبطونا لا يقدر على الطّواف بنفسه، ولا يمكن حمله والطّواف به. وإن كان غائبا، جاز أن يطوف عنه.

وإذا حجّ الإنسان عن غيره من أخ له أو أب أو ذي قرابة أو مؤمن، فإن ثواب ذلك يصل الى من حجّ عنه من غير أن ينقض من ثوابه شي‌ء. وإذا حجّ الإنسان عمّن يجب عليه الحجّ بعد موته تطوّعا منه بذلك، فإنّه يسقط عن الميّت بذلك فرض الحجّ.

ومن كان عنده وديعة، فمات صاحبها، وله ورثة، ولم يكن قد حجّ حجّة الإسلام، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يحجّ عنه، ويردّ الباقي على ورثته، إذا غلب على ظنّه أنّ ورثته لا يقضون عنه حجّة الإسلام. فإن غلب على ظنّه أنّهم يتولّون القضاء عنه، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا إلّا بأمرهم.

ولا بأس أن تحجّ المرأة عن الرّجل إذا كانت قد حجّت

٢٧٩

حجّة الإسلام، وكانت عارفة. وإذا لم تكن حجّت حجّة الإسلام، وكانت صرورة، لم يجز لها أن تحجّ عن غيرها على حال.

ولا يجوز لأحد أن يحجّ عن غيره إذا كان مخالفا له في الاعتقاد، اللهمّ إلّا أن يكون أباه، فإنّه يجوز له أن يحجّ عنه.

باب العمرة المفردة

العمرة فريضة مثل الحجّ، لا يجوز تركها. ومن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، سقط عنه فرضها. وإن لم يتمتّع، كان عليه أن يعتمر بعد انقضاء الحجّ، إن أراد، بعد انقضاء أيّام التّشريق، وإن شاء أخّرها إلى استقبال المحرّم. ومن دخل مكّة بالعمرة المفردة في غير أشهر الحجّ، لم يجز له أن يتمتّع بها الى الحجّ. فإن أراد التّمتّع كان عليه تجديد عمرة في أشهر الحجّ. وإن دخل مكّة بالعمرة المفردة في أشهر الحجّ، جاز له أن يقضيها، ويخرج الى بلده أو أيّ موضع شاء. والأفضل له أن يقيم حتى يحجّ، ويجعلها متعة. وإذا دخلها بنيّة التّمتّع، لم يجز له أن يجعلها مفردة، وأن يخرج من مكّة، لأنّه صار مرتبطا بالحجّ. وأفضل العمرة ما كانت في رجب، وهي تلي الحجّ في الفضل.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517