أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت0%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد مهدي الصدر
تصنيف: الصفحات: 517
المشاهدات: 318276
تحميل: 11072

توضيحات:

أخلاق أهل البيت
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 318276 / تحميل: 11072
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أنْ يأخذ حذره منه، وأنْ يجتهد - إذا ما داخلته أعراضه - في علاج نفسه، وتطهيرها مِن مثالبه، وإليك مُجملاً من النصائح العلاجيّة:

(١) - أنْ يعرف المتكبّر واقعه وما يتّصف به مِن ألوان الضعف والعجز: فأوّله نطفةٌ قذرة، وآخره جيفةٌ منتنة، وهو بينهما عاجز واهن، يرهقه الجوع والظمأ، ويعروه السقم والمرض، وينتابه الفقر والضُّر، ويدركه الموتُ والبِلى، لا يقوى على جلب المنافع وردّ المكاره، فحقيق بمن اتّصف بهذا الوهن، أنْ ينبذ الأنانيّة والتكبّر، مستهدياً بالآية الكريمة:( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( القصص: ٨٣ ).

فأفضل الناس أحسنهم أخلاقاً، وأكثرهم نفعاً، وأشدّهم تقوى وصلاحاً.

(٢) - أنْ يتذكّر مآثر التواضع ومحاسنه، ومساوئ التكبّر وآثامه، وما ترادف في مدح الأوّل وذمّ الثاني من دلائل العقل والنقل، قال بزر جمهر: ( وجدنا التواضع مع الجهل والبخل، أحمد عند العقلاء من الكِبَر مع الأدب والسخاء، فأنبِل بحسنة غطّت على سيئتين، وأقبح بسيّئةٍ غطّت على حسنتين )(١).

(٣) - أنْ يروّض نفسه على التواضع، والتخلّق بأخلاق المتواضعين، لتخفيف حدّة التكبّر في نفسه، وإليك أمثلةٌ في ذلك:

أ - جديرٌ بالعاقل عند احتدام الجدل والنقاش في المساجلات العلميّة أنْ يذعن لمناظره بالحقّ إذا ما ظهر عليه بحجّته، متفادياً نوازع المكابرة والعناد.

_____________________

(١) محاضرات الأُدباء للراغب.

٦١

ب - أنْ يتفادى منافسة الأقران في السبْق إلى دخول المحافل، والتصدّر في المجالس.

ج - أنْ يخالط الفقراء والبؤساء، ويبدأهم بالسلام، ويؤاكلهم على المائدة، ويجيب دعوتهم، متأسيّاً بأهل البيت ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ).

٦٢

القناعة

وهي: الاكتفاء من المال بقدر الحاجة والكفاف، وعدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك.

وهي: صفةٌ كريمة، تُعرِب عن عزّة النفس، وشرف الوجدان، وكرم الأخلاق.

وإليك بعض ما أُثِر عن فضائلها من النصوص:

قال الباقرعليه‌السلام : ( مَن قنع بما رزَقه اللّه فهو مِن أغنى الناس )(١) .

إنّما صار القانع من أغنى الناس ؛ لأنّ حقيقة الغنى هي: عدم الحاجة إلى الناس، والقانع راض ومكتف بما رزقه اللّه، لا يحتاج ولا يسأل سِوى اللّه.

قيل: لمّا مات جالينوس وُجد في جيبه رقعةً فيها مكتوب:( ما أكلته مقتصِداً فلجسمك، وما تصدّقت به فلِروحك، وما خلّفته فلِغيرك، والمُحسِن حيّ وإنْ نُقلَ إلى دار البلى، والمُسيء ميّت وإنْ بقي في دار الدنيا، والقناعة تستر الخِلة، والتدبير يُكثّر القليل، وليس لابن آدم أنفع من

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٧٩ عن الكافي.

٦٣

التوكّل على اللّه سبحانه )(١).

وشكى رجلٌ الى أبي عبد اللّهعليه‌السلام أنّه يطلب فيصيب، ولا يقنع، وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه، وقال: علّمني شيئاً أنتفع به. فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام ( إنْ كان ما يكفيك يغنيك، فأدنى ما فيها يغنيك، وإنْ كان ما يكفيك لا يُغنيك، فكلّ ما فيها لا يغنيك )(٢)

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إيّاك أنْ يطمح بصرك إلى مَن هو فوقك فكفى بما قال الله تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ) وقال:( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) ، فإنْ دخلك من ذلك شيءٌ، فاذكر عيش رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّما كان قوته الشعير، وحلوه التمر، ووقوده السعف إذا وجده )(٣) .

محاسن القناعة:

للقناعة أهميّة كُبرى، وأثرُ بالغ في حياة الإنسان، وتحقيق رخائه النفسي والجسمي، فهي تُحرره من عبوديّة المادّة، واسترقاق الحِرْص والطمَع، وعنائهما المرهِق، وهوانهما المُذلّ، وتنفخ فيه روح العزّة،

_____________________

(١) كشكول البهائي، طبع إيران ص ٣٧١.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٧٩ عن الكافي.

(٣) الوافي الجزء ٣ ص ٧٨ عن الكافي.

٦٤

والكرامة، والإباء، والعفّة، والترفّع عن الدنايا، واستدرار عطف اللئام.

والقانع بالكفاف أسعد حياةً، وأرخى بالاً، وأكثر دعةً واستقراراً، مِن الحريص المتفاني في سبيل أطماعه وحرصه، والذي لا ينفك عن القلق والمتاعب والهموم.

والقناعة بعد هذا تمدّ صاحبها بيقظةٍ روحيّة، وبصيرةٍ نافذة، وتحفّزه على التأهّب للآخرة، بالأعمال الصالحة، وتوفير بواعث السعادة فيها.

ومن طريف ما أُثر في القناعة:

أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي كان يُقاسي الضُّر بين أخصاص البصرة، وأصحابه يقتسمون الرغائب بعلمه في النواحي.

ذكروا أنّ سليمان بن عليّ العبّاسي، وجّه إليه مِن الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزاً يابساً، وقال: كُل فما عندي غيره، وما دُمت أجده فلا حاجة لي إلى سليمان. فقال الرسول: فما أُبلغه ؟ فقال:

أبلغ سليمان أنّي عنه في سعة

وفي غنىً غيرَ أنّي لستُ ذا مال

والفقر في النفس لا في المال فاعرفه

ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

فالرزْقُ عن قدر لا العجز ينقصه

ولا يزيدك فيه حول محتال(١)

وفي كشكول البهائي: ( أنّه أرسل عثمان بن عفّان مع عبدٍ له كيساً مِن الدراهم إلى أبي ذرٍّ وقال له: إنْ قبِل هذا فأنت حُرّ، فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذرّ، وألحّ عليه في قبوله، فلم يقبل، فقال له: اقبله

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٤٢٦ بتصرّف.

٦٥

فإنّ فيه عتقي. فقال: نعم ولكن فيه رِقّي )(١).

( وكان ديوجانس الكلبي من أساطين حُكماء اليونان، وكان متقشّفاً. زاهداً، لا يقتني شيئاً، ولا يأوي إلى منزل، دعاه الاسكندر إلى مجلسه، فقال للرسول قل له: إنّ الذي منعك من المسير إلينا، هو الذي منعنا من المسير إليك، منعك استغناؤك عنّا بسلطانك، ومنعني استغنائي عنك بقناعتي )(٢).

وكتب المنصور العبّاسي إلى أبي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام : لِمَ لا تغشانا كما يغشانا الناس ؟ فأجابه: ( ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك مِن الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك بها، ولا في نقمة فنعزّيك بها ). فكتب المنصور: تصحبنا لتنصحنا.

فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : ( من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك )(٣) .

وما أحلى قول أبي فراس الحمداني في القناعة:

إنّ الغنيّ هو الغنيُّ بنفسه

ولو أنّه عارِ المناكب حافِ

ما كلّ ما فوق البسيطة كافياً

فإذا قنعت فكلّ شيءٍ كافِ

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٤٨٣.

(٢) سفينة البحار ج ٢ ص ٤٥١.

(٣) كشكول البهائي.

٦٦

الحِرص

الحرص: هو الإفراط في حُبّ المال، والاستكثار منه، دون أنْ يكتفي بقدرٍ محدود. وهو من الصفات الذميمة، والخصال السيّئة، الباعثة على ألوان المساوئ والآثام، وحسب الحريص ذمّاً أنّه كلّما ازداد حرصاً ازدادا غباءً وغماً.

وإليك بعض ما ورد في ذمه:

قال الباقرعليه‌السلام : ( مثَل الحريص على الدنيا، مثَل دودة القز كلّما ازدادت مِن القزّ على نفسها لفاً، كان أبعد لها من الخروج، حتّى تموت غمّاً )(١).

لذلك قال الشاعر:

يفني البخيل بجمع المال مدّته

وللحوادث والأيّام ما يدع

كدودة القزّ ما تبنيه يهدمها

وغيرها بالذي تبنيه ينتفع

وقال الصادق ( عليه السالم ): ( إنّ فيما نزل به الوحي من السماء: لو أنّ لابن آدم واديَين، يسيلان ذهباً وفضّة، لابتغى لهما ثالثاً، يابن آدم إنّما بطنك بحرٌ من البحور، ووادٍ من الأودية، لا يملأه شيء إلاّ التراب )(٢).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٥٢ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥٤ عن من لا يحضره الفقيه للصدوق ( ره ).

٦٧

وقالعليه‌السلام : ( ما ذئبان ضاريان، في غنمٍ قد فارقها رعاؤها أحدهما في أوّلها والآخر في آخرها، بأفسد فيها من حبّ المال ( الدنيا خ ل )، والشرف في دين المسلم )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في ضمن وصيّته لولده الحسنعليه‌السلام : ( واعلم يقيناً أنّك لنْ تبلغ أملك، ولنْ تعدو أجلك، وأنّك في سبيل مَن كان قبلك، فخفّض في الطلب، وأجمل في المكتسَب، فإنّه رُبّ طلبٍ، قد جرّ إلى حرب، فليس كلّ طالبٍ بمرزوق، ولا كلّ مجملٍ بمحروم )(٢).

وقال الحسن بن عليّعليهما‌السلام : ( هلاك الناس في ثلاث: الكبر، والحرص، والحسد، فالكبر هلاك الدين وبه لُعِن إبليس، والحرص عدوّ النفس، وبه أُخرج آدم من الجنّة، والحسد رائد السوء ومنه قتَل قابيل هابيل )(٣) .

مساوئ الحرص:

وبديهي أنّه متى استبدّ الحرص بالإنسان، استرقه، وسبّب له العناء

_____________________

(١) مرآة العقول في شرح الكافي للمجلسي (ره) ج ٢ عن الكافي. ص ٣٠٣.

(٢) نهج البلاغة.

(٣) كشف الغمّة.

٦٨

والشقاء، فلا يهمّ الحريص، ولا يشبع جشعه إلاّ استكثار الأموال واكتنازها، دون أنْ ينتهي إلى حدٍّ محدود، فكلّما أدرك مأرباً طمح إلى آخر، وهكذا يلج به الحرص، وتستعبده الأطماع، حتّى يوافيه الموت فيغدو ضحيّة الغنا والخسران.

والحريص أشدّ الناس جهداً في المال، وأقلّهم انتفاعاً واستمتاعاً به، يشقى بكسبه وادخاره، وسرعان ما يفارقه بالموت، فيهنأ به الوارث، من حيث شقِيَ هو به، وحُرِم من لذّته.

والحرص بعد هذا وذاك، كثيراً ما يزجّ بصاحبه في مزالق الشبهات والمحرّمات والتورّط في آثامها، ومشاكلها الأخرويّة، كما يعيق صاحبه عن أعمال الخير، وكسب المثوبات كصلة الأرحام وإعانة البؤساء والمعوزين، وفي ذلك ضرر بالغ، وحرمان جسيم.

علاج الحرص:

وبعد أنْ عرفنا مساوئ الحرص يحسن بنا أنْ نعرض مجملاً مِن وسائل علاجه ونصائحه وهي:

١ - أنْ يتذكر الحريص مساوئ الحرص، وغوائله الدينيّة والدنيويّة وأنْ الدنيا في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب.

٢ - أنْ يتأمّل ما أسلفناه من فضائل القناعة، ومحاسنها، مستجلياً سيرة العظماء الأفذاذ، من الأنبياء والأوصياء والأولياء، في زهدهم في

٦٩

الحياة، وقناعتهم باليسير منها.

٣ - ترك النظر والتطلّع إلى مَن يفوقه ثراءً، وتمتّعاً بزخارف الحياة والنظر إلى من دونه فيهما فذلك من دواعي القناعة وكبح جماح الحرص.

٤ - الاقتصاد المعاشي، فإنّه مِن أهمّ العوامل، في تخفيف حدّة الحرص، إذ الإسراف في الإنفاق يستلزم وفرة المال، والإفراط في كسبه والحرص عليه.

قال الصادقعليه‌السلام : ( ضمنت لمن أقتصد أنْ لا يفتقر )(١).

_____________________

(١) البحار مج ١٥ ج ٢ ص ١٩٩ عن الخصال للصدوق (ره).

٧٠

الكـرَم

الكرَم ضدّ البُخل، وهو: بذلُ المال أو الطعام، أو أيّ نفعٍ مشروعٍ عن طيب نفس.

وهو من أشرف السجايا، وأعزّ المواهب، وأخلَد المآثر. وناهيك في فضله أنّ كلّ نفيسٍ جليلٍ يوصَف بالكرَم، ويُعزى إليه، قال تعالى:

( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) ( الواقعة: ٧٧ ). ( وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) ( الدخان: ١٧ ).( وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) (الدخان: ٢٦ ).

لذلك أشاد أهل البيتعليهم‌السلام بالكرم والكرماء، ونوّهوا عنهما أبلغ تنويه:

قال الباقرعليه‌السلام : ( شاب سخيّ مرهق في الذنوب، أحبّ إلى اللّه من شيخ عابد بخيل )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( أتى رجلٌ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول اللّه، أيّ الناس أفضلهم إيماناً ؟ فقال: أبسطهم كفّاً )(٢).

وعن جعفر بن محمّد عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٦ ص ٦٨ عن الكافي والفقيه.

(٢) الوافي ج ٦ ص ٦٧ عن الكافي.

٧١

صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( السخيّ قريبٌ من اللّه، قريبٌ من الناس، قريبٌ من الجنّة. والبخيل بعيدٌ من اللّه، بعيدٌ من الناس، قريبٌ من النار )(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( أنفِق وأيقن بالخلَف مِن اللّه، فإنّه لم يبخل عبدٌ ولا أَمَةٌ بنفقةٍ فيما يُرضي اللّه، إلاّ أنفق أضعافها فيما يُسخِط اللّه )(٢).

محاسن الكرَم:

لا يسعد المجتمع، ولا يتذوّق حلاوة الطمأنينة والسلام، ومفاهيم الدِّعَة والرخاء، إلاّ باستشعار أفراده روح التعاطف والتراحم، وتجاوبهم في المشاعر والأحاسيس، في سرّاء الحياة وضرائها، وبذلك يغدو المجتع كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً.

وللتعاطف صور زاهرة، تشع بالجمال والروعة والبهاء، ولا ريب أنّ أسماها شأناً، وأكثرها جمالاً وجلالاً، وأخلدها ذِكراً هي: عطف الموسرين، وجودهم على البؤساء والمعوزين، بما يخفّف عنهم آلام الفاقة ولوعة الحرمان.

وبتحقيق هذا المبدأ الإنساني النبيل ( مبدأ التعاطف والتراحم ) يستشعر المعوزون إزاء ذوي العطف عليهم، والمحسنين إليهم، مشاعر

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ عن كتاب الإمامة و التبصرة.

(٢) الوافي ج ٦ ص ٦٨ عن الكافي.

٧٢

الصفاء والوئام والودّ، ممّا يسعد المجتمع، ويشيع فيه التجاوب، والتلاحم والرخاء.

وبإغفاله يشقى المجتمع، وتسوده نوازع الحسَد، والحِقد، والبغضاء، والكيد. فينفجر عن ثورة عارمة ماحقة، تزهق النفوس، وتمحق الأموال، وتُهدّد الكرامات.

من أجل ذلك دعت الشريعة الإسلاميّة إلى السخاء والبذل والعطف على البؤساء والمحرومين، واستنكرت على المجتمع أنْ يراهم يتضوّرون سُغَباً وحرماناً، دون أنْ يتحسّس بمشاعرهم، وينبري لنجدتهم وإغاثتهم. واعتبرت الموسرين القادرين والمتقاعسين عن إسعافهم أبعد الناس عن الإسلام، وقد قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما آمن بي مَن بات شبعاناً وجاره جائع، وما من أهلِ قريةٍ يبيت فيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة )(٢).

وإنّما حرّض الإسلام أتباعه على الأريحيّة والسخاء، ليكونوا مثلاً عالياً في تعاطفهم ومواساتهم، ولينعموا بحياة كريمة، وتعايش سلمي، ولأنّ الكرم حمام أمن المجتمع، وضمان صفائه وازدهاره.

مجالات الكرَم:

تتفاوت فضيلة الكرَم، بتفاوت مواطنه ومجالاته. فأسمى فضائل

_____________________

(١) و (٢) عن الكافي.

٧٣

الكرم، وأشرف بواعثه ومجالاته، ما كان استجابةً لأمر اللّه تعالى، وتنفيذاً لشرعهِ المُطاع، وفرائضه المقدّسة، كالزكاة، والخُمس، ونحوهما.

وهذا هو مقياس الكرم والسخاء في عرف الشريعة الإسلاميّة، كما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مِن أدّى ما افترض اللّه عليه، فهو أسخى الناس )(١) .

وأفضل مصاديق البِر والسخاء بعد ذلك، وأجدرها - عيال الرجل وأهل بيته، فإنّهم فضلاً عن وجوب الإنفاق عليهم، وضرورته شرعاً وعرفاً، أولى بالمعروف والإحسان، وأحقّ بالرعاية واللطف.

وقد يشذّ بعض الأفراد عن هذا المبدأ الطبيعي الأصيل، فيغدقون نوالهم وسخاءهم على الأباعد والغرباء، طلباً للسمعة والمباهاة، ويتّصفون بالشحّ والتقتير على أهلهم و عوائلهم، ممّا يجعلهم في ضنك واحتياج مريرين، وهُم ألصق الناس بهم وأحناهم عليهم، وذلك من لؤم النفس، وغباء الوعي.

لذلك أوصى أهل البيتعليه‌السلام بالعطف على العيال، والترفيه عنهم بمقتضيات العيش ولوازم الحياة:

قال الإمام الرضاعليه‌السلام : ( ينبغي للرجل أنْ يوسِع على عياله، لئلاّ يتمنّوا موته )(٢).

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ( إنّ عيال الرجل أسراؤه، فمَن أنعم اللّه عليه نعمةً فليوسع على أسرائه، فإنْ لم يفعل

_____________________

(١) الوافي ج ٦ ص ٦٧ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ٦ ص ٦١ عن الكافي والفقيه.

٧٤

أوشك أنْ تزول تلك النعمة )(١).

والأرحام بعد هذا وذاك، أحقّ الناس بالبِر، و أحراهم بالصلة والنوال، لأواصرهم الرحميّة، وتساندهم في الشدائد والأزَمات.

ومن الخطأ الفاضح، حرمانهم من تلك العواطف، وإسباغها على الأباعد والغرباء، ويعتبر ذلك إزدراءً صارخاً، يستثير سخطهم ونفارهم، ويَحرم جافيهم من عطفهم ومساندتهم.

وهكذا يجدر بالكريم، تقديم الأقرب الأفضل، من مستحقّي الصلة والنوال: كالأصدقاء والجيران، وذوي الفضل والصلاح، فإنّهم أولى بالعطف من غيرهم.

بواعِث الكرَم:

وتختلف بواعث الكرم، باختلاف الكرماء، ودواعي أريحيّتهم، فأسمى البواعث غاية، وأحمدها عاقبة، ما كان في سبيل اللّه، وابتغاء رضوانه، وكسب مثوبته.

وقد يكون الباعث رغبة في الثناء، وكسب المحامد والأمجاد، وهنا يغدو الكريم تاجراً مساوماً بأريحيّته وسخائه.

وقد يكون الباعث رغبةً في نفع مأمول، أو رهبةً مِن ضرر مخوف، يحفّزان على التكرّم والإحسان.

_____________________

(١) الوافي ج ٦ ص ٦١ عن الكافي والفقيه.

٧٥

ويلعب الحبّ دوراً كبيراً في بعث المُحِبّ وتشجيعه على الأريحيّة والسخاء، استمالةً لمحبوبه، واستداراً واستدراراً لعطفه.

والجدير بالذكر أنّ الكرم لا يجمل وقعه، ولا تحلو ثِماره، إلاّ إذا تنزّه عن المنّ، وصفي مِن شوائب التسويف والمطل، وخلا من مظاهر التضخيم والتنويه، كما قال الصادقعليه‌السلام : ( رأيت المعروف لا يصلح إلاّ بثلاث خصال: تصغيره، وستره، وتعجيله. فإنّك إذا صغّرته عظّمته عند مَن تصنعه إليه. وإذا ستَرته تمّمته، وإذا عجّلته هنّيته، وإنْ كان غير ذلك محقته ونكدته )(١).

_____________________

(١) البحار م ١٦ من كتاب العشرة ص ١١٦ عن علل الشرائع للصدوق (ره).

٧٦

الإيثـار

وهو: أسمى درجات الكرَم، وأرفع مفاهيمه، ولا يتحلّى بهذه الصفة المثالية النادرة، إلاّ الذين جلَوا بالأريحيّة، وبلغوا قمّة السخاء، فجادوا بالعطاء، وهُم بأمَسّ الحاجة إليه، وآثروا بالنوال، وهُم في ضنك من الحياة. وقد أشادَ القرآن بفضلهم قائلاً:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) ( الحشر: ٩ )

وسئُل الصادقعليه‌السلام : أيُّ الصدقة أفضل، قال: ( جُهد المُقِلّ، أما سمعت اللّه تعالى يقول:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) )(١).

ولقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله المثل الأعلى في عظمة الإيثار، وسموّ الأريحيّة.

قال جار بن عبد اللّه: ما سُئل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً فقال لا.

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّه أقبَل إلى الجِعرانة، فقسم فيها الأموال، وجعَل الناس يسألونه فيُعطيهم، حتّى ألجؤوه إلى

_____________________

(١) الوافي ج ٦ ص ٥٨ عن الفقيه.

٧٧

شجرة فأخذت بُرده، وخدَشت ظهره، حتّى جلَوه عنها، وهُم يسألونه. فقال: ( أيّها الناس ردّوا عليّ بُردي، واللّه لو كان عندي عدد شَجَرِ تهامة نِعماً لقسمته بينكم، ثُمّ ما ألفيتموني جَباناً ولا بَخيلاً...)(١).

وقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤثِر على نفسه البؤساء والمعوزين، فيجود عليهم بماله وقوّته، ويظلّ طاوياً، وربّما شدّ حجَر المجاعة على بطنه مواساةً لهم.

قال الباقرعليه‌السلام : ( ما شبَع النبيّ مِن خبز بُر ثلاثة أيّامٍ متوالية، مُنذ بعثَه اللّه إلى أنْ قبَضَه )(٢).

وهكذا كان أهل بيتهعليهم‌السلام في كرمهم وإيثارهم:

قال الصادقعليه‌السلام : ( كان عليّ أشبه الناس برسول اللّه، كان يأكل الخبز والزيت، ويطعم الناس الخبز واللحم )(٣).

وفي عليّ وأهل بيته الطاهرين، نزلت الآية الكريمة:

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ) ( الدهر: ٨ - ٩ )

فقد أجمع أولياء أهل البيت على نزولها في عليّ وفاطمة والحسن والحسين... وقد أخرجه جماعة من أعلام غيرهم، وإليك ما ذكره الزمخشري في تفسير

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦٠٧ عن علل الشرائع. والجعرانة موضع بين مكّة والطائف.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ١٩٤ عن الكافي.

(٣) البحار م ٩ ص ٥٣٨ عن الكافي.

٧٨

السورة من الكشّاف.

قال: ( وعن ابن عبّاس أنّ الحسن والحسين مرِضا، فعادهما رسول اللّه في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذَرت على ولَدَيك، فنذر عليّ وفاطمة وفضّة جاريةً لهما، إنّ برئا ممّا بهما أنْ يصوموا ثلاثةَ أيّام فَشُفيا، وما معهم شيء، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوِع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً، واختبزت خمسةَ أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة، فآثروه، وباتوا ولم يذوقوا إلاّ الماء، وأصبحوا صياماً، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.

فلمّا أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللّه، فلمّا أبصرهم وهُم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ( ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها، قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها، فساءه ذلك )، فنزل جبرائيل وقال: ( خُذها يا محمّد، هنّاك اللّه في أهل بيتك، فأقرأه السورة )(١).

وقد زخرت أسفار السير بإيثارهم، وأريحيّتهم، بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل.

_____________________

(١) عن الكلمة الغرّاء - للمرحوم آية اللّه السيّد عبد الحسين شرف الدين ص ٢٩ نُقِل بتصرّفٍ وتلخيص.

٧٩

البُخـل

وهو: الإمساك عمّا يحسن السخاء فيه، وهو ضدّ الكرَم.

والبخل من السجايا الذميمة، والخلال الخسيسة، الموجبة لهوان صاحبها ومقته وازدرائه، وقد عابها الإسلام، وحذّر المسلمين منها تحذيراً رهيباً.

قال تعالى:( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ) . ( محمّد: ٣٨ )

وقال تعالى:( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً ) ( النساء: ٣٧ )

وقال تعالى:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. ) .

( آل عمران: ١٨٠ )

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام : ( أنّ أمير المؤمنين سمِع رجُلاً يقول: إنّ الشحيح أعذرُ من الظالم. فقال: ( كذِبت إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر، ويردّ الظلامة عن أهلها، والشحيح إذا شحَّ منع الزكاة، والصدقة، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والنفقة في سبيل اللّه تعالى،

٨٠