أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 333156 / تحميل: 11873
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وأبواب البِر، وحرام على الجنّة أنْ يدخلها شحيح )(١).

وعن جعفر بن محمّد عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : السخيُّ قريبٌ مِن اللّه، قريبٌ مِن الناس، قريبٌ مِن الجنّة، والبخيل بعيدٌ مِن اللّه، بعيدٌ مِن الناس، قريبٌ من النار )(٢)

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( عجِبتُ للبخيل يستعجل الفَقر الذي منه هرَب، ويفوته الغِنى الذي إيّاه طلَب، فيعيش في الدنيا عَيش الفقراء ويُحاسَب في الآخرة حِساب الأغنياء )(٣).

وسنعرض أخباراً أُخرى في مطاوي هذا البحث.

مساوئ البُخل:

البخل سجيّةٌ خسيسة، وخُلُقٌ لئيم باعثٌ على المساوئ الجمّة، والأخطار الجسيمة في دنيا الإنسان وأُخراه.

أمّا خطره الأُخروي: فقد أعربت عنه أقوال أهل البيتعليهم‌السلام ولخّصه أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلمته السالِفة حيث قال: ( والشحيح إذ شحَّ منع الزكاة، والصدقة، وصِلة الرحم، وقِرى الضيف، والنفقة في سبيل اللّه، وأبواب البِر، وحرام على الجنّة أنْ يدخلها شحيح ).

_____________________

(١) الوافي ج ٦ ص ٦٩ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ عن كتاب الإمامة و التبصرة.

(٣) نهج البلاغة.

٨١

وأمّا خطره الدنيوي فإنه داعية المقت والازدراء، لدى القريب والبعيد وربما تمنى موتَ البخيل أقربُهم اليه، وأحبهم له، لحرمانه من نواله وطمعاً في تراثه.

والبخيل بعد هذا أشدّ الناس عناءً وشقاءً، يكدَح في جمع المال والثراء، ولا يستمتع به، وسُرعان ما يخلّفه للوارث، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويُحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.

صور البُخل:

والبُخل - وإنْ كان ذميماً مقيتاً - بَيد أنّه يتفاوت ذمّه، وتتفاقم مساوئه، باختلاف صوَرِه وأبعاده:

فأقبح صوره وأشدُّها إثما ً، هو البُخل بالفرائض الماليّة، التي أوجبها اللّه تعالى على المسلمين، تنظيماً لحياتهم الاقتصاديّة، وإنعاشاً لمعوزيهم.

وهكذا تختلف معائب البُخل، باختلاف الأشخاص والحالات:

فبُخل الأغنياء أقبح من بُخل الفقراء، والشحّ على العيال أو الأقرباء أو الأصدقاء أو الأضياف أبشَع وأذمّ منه على غيرهم، والتقتير والتضييق في ضرورات الحياة من طعامٍ وملابس، أسوأ منه في مجالات الترَف والبذخ أعاذنا اللّه مِن جميع صوره ومِثالِيه.

علاج البُخل:

وحيث كان البخل من النزعات الخسيسة، والخلال الماحقة، فجديرٌ

٨٢

بالعاقل علاجه ومكافحته، وإليك بعض النصائح العلاجيّة له:

١ - أنْ يستعرض ما أسلفناه مِن محاسن الكرَم، ومساوئ البُخل، فذلك يُخفّف من سَورة البُخل. وإنْ لم يُجدِ ذلك، كان على الشحيح أنْ يُخادع نفسه بتشويقها إلى السخاء، رغبةً في الثناء والسمعة، فإذا ما أنَس بالبذل، وارتاح إليه، هذّب نفسه بالإخلاص، وحبّب إليها البذل في سبيل اللّه عزّ وجل.

٢ - للبُخل أسبابٌ ودوافع، وعلاجه منوطٌ بعلاجها، وبدرء الأسباب تزول المسَّببات.

وأقوى دوافع الشحّ خوف الفقر، وهذا الخوف مِن نزَعات الشيطان، وإيحائه المثّبِّط عن السخاء، وقد عالَج القرآن الكريم ذلك بأُسلوبه البديع الحكيم، فقرّر: أنّ الإمساك لا يُجدي البخيل نفعاً، وإنّما ينعكس عليه إفلاساً وحرماناً، فقال تعالى:( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ..) (محمّد: ٣٨ ).

وقرّر كذلك أنّ ما يسديه المرء من عوارف السخاء، لا تضيع هدراً، بل تعود مخلوقة على المُسدي، من الرزّاق الكريم، قال عزّ وجل:(...وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ: ٣٩ ).

وهكذا يُضاعِف القرآن تشويقه إلى السخاء، مؤكّداً أنّ المُنفِق في سبيل اللّه هو كالمُقرِض للّه عزّ وجل، وأنّه تعالى بلطفه الواسع يُّرَدُ عليه القرض أضعافاً مضاعفة:( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ

٨٣

حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة: ٢٦١ ).

أمّا الذين استرقّهم البُخل، ولم يُجدهم الإغراء والتشويق إلى السخاء، يوجّه القرآن إليهم تهديداً رهيباً، يملأ النفس ويهزّ المشاعر:

( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) ( التوبة: ٣٤ - ٣٥ )

ومن دواعي البُخل: اهتمام الآباء بمستقبل أبنائهم مِن بعدهم، فيضنّون بالمال توفيراً لأولادهم، وليكون ذخيرةً لهم، تقيهم العوَز والفاقة.

وهذه غريزة عاطفيّة راسخة في الإنسان، لا تضرّه ولا تجحف به، ما دامت سويّة معتدلة، بعيدةً عن الإفراط والمغالاة.

بيد أنّه لا يليق بالعاقل، أنْ يسرف فيها، وينجرف بتيارها، مضحّياً بمصالحه الدنيويّة والدينيّة في سبيل أبنائه.

وقد حذّر القرآن الكريم الآباء مِن سطوة تلك العاطفة، وسيطرتها عليهم كيلا يفتتنوا بحبّ أبنائهم، ويقترفوا في سبيلهم ما يُخالف الدين والضمير:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( الأنفال: ٢٩ )

وأعظم بما قاله أمير المؤمنينعليه‌السلام في كتابٍ له: ( أمّا بعد، فإنّ الذي في يدَيك من الدنيا، قد كان له أهلٌ قبلَك، وهو صائر إلى

٨٤

أهلٍ بعدك، وإنّما أنت جامع لأحدِ رجُلَين: رجلٌ عمَل فيما جمعته بطاعة اللّه، فسعِد بما شقيت به، أو رجُل عمَل فيه بمعصية اللّه، فشقِيَ بما جمعت له، وليس أحد هذين أهلاً أنْ تؤثره على نفسك، وتحمل له على ظهرك، فأرجو لِمن مضى رحمة اللّه، ولِمن بقيَ رزق اللّه )(١) .

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام في قول اللّه تعالى:( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ) ( البقرة:١٦٧ ). قال: ( هو الرجل يدَع ماله لا ينفقه في طاعة اللّه بُخلاً، ثُمّ يموت فيدعه لِمَن يعمل فيه بطاعة اللّه، أو في معصية اللّه، فإنْ عمِل فيه بطاعة اللّه، رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً، وقد كان المال له، وإنْ كان عمِل به في معصية اللّه، قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية اللّه )(٢).

* * *

وهناك فئة تعشق المال لذاته، وتهيم بحبّه، دون أنْ تتّخذه وسيلةً إلى سعادةٍ دينيّةٍ أو دنيويّة، وإنّما تجد أُنسها ومُتعتها في اكتناز المال فحسب، ومِن ثُمّ تبخل به أشد ّالبُخل.

وهذا هوَس نفسي، يُشقي أربابه، ويوردهم المهالك، ليس المال غاية، وإنّما هو ذريعةً لمآرب المعاش أو المعاد، فإذا انتفت الذريعتان غدا المال تافهاً عديم النفع.

وكيف يكدَح المرء في جمع المال واكتنازه ؟! ثُمّ سرعان ما يَغنمه

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الوافي ج ٦ ص ٦٩ عن الكافي والفقيه.

٨٥

الوارث، ويتمتّع به، فيكون له المهنى وللمورث الوزر والعناء.

وقد استنكر القرآن الكريم هذا الهَوس، وأنذر أربابه إنذاراً رهيباً:( كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ) ( الفجر: ١٧ - ٢٦ ).

وقال تعالى:( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) ( الهمزة ).

وأبلغُ ما أثر في هذا المجال، كلمة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهي في القمّة من الحكمة وسموّ المعنى، قالعليه‌السلام : ( إنّما الدنيا فناءٌ وعناء، وغِيَر وعِبَرِ، فمِن فنائها: أنّك ترى الدهر مُوتِراً قوسَه، مفوّقاً نبله، لا تخطئ سهامه ولا تُشفى جراحه. يرمي الصحيحَ بالسقم، والحيَّ بالموت.

ومِن عنائها: أنَّ المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثُمّ يخرج إلى اللّه لا مالاً حمَل، ولا بناءً نقَل.

ومن غِيَرها: أنّك ترى المغبوط مرحوماً، والمرحوم مغبوطاً، ليس بينهم إلاّ نعيم زال، وبؤس نزَل

٨٦

ومن عِبَرِها: أنّ المرء يُشرف على أملِه، فيتخطفه أجلُه، فلا أملٌ مدروك، ولا مؤُمَّل مَتروك )(١).

_____________________

(١) سفينة البحار ج١ ص ٤٦٧.

٨٧

العفّة

وهي: الامتناع والترفع عمّا لا يحل أو لا يجمل، من شهوات البطن والجنس، والتحرّر من استرقاقها المُذِل.

وهي من أنبل السجايا، وأرفَع الخصائص. الدالة على سموّ الإيمان، وشرف النفس، وعزّ الكرامة، وقد أشادت بفضلها الآثار:

قال الباقرعليه‌السلام : ( ما من عبادة أفضل عند اللّه من عفة بطن وفرج )(١).

وقال رجل للباقرعليه‌السلام : ( إنّي ضعيفُ العمل، قليل الصلاة قليلُ الصيام، ولكنّي أرجو أنْ لا آكلَ إلاّ حلالاً، ولا أنكَح إلاّ حلالاً. فقال له: ( وأيّ جهاد أفضل من عفّة بطن وفرج )(٢) .

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ( أكثر ما تلِج به أُمّتي النار، الأجوَفان البطْن والفرج )(٣) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٨٤ عن محاسن البرقي وقريب منه في الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٨٣ عن الكافي.

٨٨

حقيقة العفّة:

ليس المراد بالعفّة، حرمان النفس مِن أشواقها، ورغائبها المشروعة، في المطعَم والجنس. وإنّما الغرَض منها، هو القَصد والاعتدال في تعاطيها وممارستها، إذ كلّ إفراط أو تفريط مضرٌّ بالإنسان، وداعٍ الى شقائه وبُؤسه:

فالإفراط في شهَوَات البطن والجنس، يفضيان به إلى المخاطر الجسيمة، والأضرار الماحقة، التي سنذكرها في بحث ( الشره ).

والتفريط فيها كذلك، باعث على الحرمان مِن متع الحياة، ولذائذها المشروعة، وموجبٌ لهزال الجسد، وضعف طاقاته ومعنويّاته.

الاعتدال المطلوب:

من الصعب تحديد الاعتدال في غريزَتَيّ الطعام والجنس، لاختلاف حاجات الأفراد وطاقاتهم، فالاعتدال في شخصٍ قد يُعتبَر إفراطاً أو تفريطاً في آخر.

والاعتدال النِّسبِي في المأكل هو: أنْ ينال كلّ فردٍ ما يُقيم أودّه ويسدّ حاجته من الطعام، متوقّياً الجشَع المقيت، والامتلاء المرهق.

وخير مقياس لذلك هو ما حدّده أمير المؤمنين، وهو يُحدّث ابنه

٨٩

الحسنعليه‌السلام : ( يا بني إلاّ أُعلّمك أربع كلمات تستغني بها عن الطبّ ؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: لا تجلس على الطعام إلاّ وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلاّ وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نِمت فأعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطبّ ).

وقال: ( إنّ في القرآن لآية تجمع الطبّ كلّه:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) )( الأعراف: ٣١ )(١).

والاعتدال التقريبي في الجنس هو تلبيةَ نداء الغريزة، كلّما اقتضتها الرغبة الصادقة، والحاجة المحفّزة عليه.

محاسن العفّة:

لا ريب أنّ العفة، هي مِن أنبل السجايا، وأرفع الفضائل، المُعربة عن سموّ الإيمان، وشرف النفس، والباعثة على سعادة المجتمع والفرد.

وهي الخلّة المشرَّفة التي تُزيّن الإنسان، وتسمو به عن مٌُزريات الشره والجشَع، وتصونه عن التملّق للّئام، استدراراً لعطفهم ونوالهم، وتحفّزه على كسب وسائل العيش ورغائب الحياة، بطرقها المشروعة، وأساليبها العفيفة.

_____________________

(١) سفينة البحار م ٢ ص ٧٩ عن دعوات الراوندي.

٩٠

الشره

وهو: الإفراط في شهوات المأكل والجنس، ضدّ ( العفة ).

وهو: من النزعات الخسيسة، الدالة على ضعف النفس، وجشع الطبع، واستعباد الغرائز، وقد نددت به الشريعة الإسلاميّة وحذّرت منه أشدّ التحذير.

قال الصادقعليه‌السلام : ( كلّ داءٍ مَن التخمة، ما خلا الحُمّى فإنّها ترِد وروداً )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ البطن إذا شبع طغى )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ اللّه يبغض كثرة الأكل )(٣).

وقال أبو الحسنعليه‌السلام : ( لو أنّ الناس قصدوا في المطعم، لاستقامت أبدانهم )(٤).

وعن الصادق عن أبيه قال: ( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : مَن

_____________________

(١) الوافي ج ١ ١ ص ٦٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ١ ١ ص ٦٧ عن الفقيه.

(٣) الوافي ج ١ ١ ص ٦٧ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٤ ص ٨٧٦ عن المحاسن للبرقي (ره).

٩١

أراد البقاء ولا بقاء، فليخفّف الرداء، وليباكر الغذاء، وليُقل مجامعةَ النساء )(١).

ومَن أراد البقاء أي طول العمر، فليخفّف الرداء أي يُخفّف ظهره مِن ثقل الدين.

وأكل أمير المؤمنينعليه‌السلام من تمرٍ دَقَل، ثُمّ شرب عليه الماء، وضرب يده على بطنه وقال: ( من أدخل بطنه النار فأبعده اللّه ). ثُمّ تمثّل:

وإنّك مهما تُعطِ بطنَك سؤله

وفرجَك نالا منتهى الذمِّ أجمعا(٢)

مساوئ الشره:

الشرَهُ مفتاح الشهَوات، ومصدر المهالك. وحسب الشرَه ذمّاً، أنْ تسترقّه الشهوَات العارمة، وتعرّضه لصنوف المساوئ، المعنويّة والمادّية.

ولعلّ أقوى العوامل في تخلّف الأُمَم، استبداد الشرَه بهم، وافتتانهم بزخارف الحياة، ومفاتِن الترف والبذخ، ممّا يفضي بهم إلى الضعف والانحلال.

ولشره الأكل آثار سيئة ومساوئ عديدة:

فقد أثبت الطب: ( أنّ الكثير مِن الأمراض والكثير من الخطوط والتجعّدات التي تُشوّه القسَمات الحلوة في النساء والرجال، والكثير من

_____________________

(١) البحار م ١٤ ص ٥٤٥ عن طب الأئمّة.

(٢) سفينة البحار م ١ ص ٢٧.

٩٢

الشحم المتراكم، والعيون الغائرة، والقُوى المُنهكَة، والنفوس المريضة كلهّا تُعزى الى التخمة المتواصلة، والطعام الدسم المترف ).

وأثبت كذلك أنّ الشرَه يُرهِق المعِدة ويُسبّب ألوان المآسي الصحيّة كتصلّب الشرايين، والذبحة الصدريّة، وارتفاع ضغط الدم، والبول السكري.

وهكذا يفعل الشرَه الجنسي في إضعاف الصحّة العامّة، وتلاشي الطاقة العصبيّة، واضمحلال الحيويّة والنشاط، ممّا يُعرّض المسرفين للمخاطر.

علاج الشرَه:

أمّا شرَه الأكل فعلاجه:

١ - أنَ يتذكّر الشَّرِه ما أسلَفناه مِن محاسن العفّة، وفضائلها.

٢ - أنْ يتدبّر مساوئ الشرَه، وغوائله الماحقة.

٣ - أنْ يروّض نفسه على الاعتدال في الطعام، ومجانبة الشرَه جاهداً في ذلك، حتّى يزيل الجشَع. فإنّ دستور الصحّة الوقائي والعلاجي هو الاعتدال في الأكل وعدَم الإسراف فيه، كما لخّصَته الآية الكريمة:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) . ( الأعراف: ٣١ ).

وقد أوضحنا واقع الاعتدال في بحث ( العفّة ).

وأمّا الشره الجنسي فعلاجه:

١ - أنْ يتذكر المَرء أخطار الإسراف الجنسي، ومفاسده المادّيّة والمعنويّة.

٩٣

٢ - أنْ يكافح مثيرات الغريزة، كالنظر إلى الجمال النسوي، واختلاط الجنسين، وسروح الفكر في التخيّل، وأحلام اليقظة، ونحوها من المثيرات.

٣ - أنْ يمارس ضبط الغريزة وكفّها عن الإفراط الجنسي، وتحرّي الاعتدال فيها، وقد مرَّ بيانه في بحث العفّة.

٩٤

الأمانة والخيانة

الأمانة هي: أداء ما ائتمن عليه الإنسان من الحقوق، وهي ضدّ ( الخيانة ).

وهي مِن أنبل الخِصال، وأشرَف الفضائل، وأعزّ المآثر، بها يُحرِز المرء الثقة والإعجاب، ويَنال النجاح والفوز.

وكفاها شرفاً أنّ اللّه تعالى مدَح المتحلّين بها، فقال:( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) ( المؤمنون: ٨. المعارج:٣٢ )

وضدّها الخيانة، وهي: غَمْط الحقوق واغتصابها، وهي مِن أرذل الصفات، وأبشع المذام، وأدعاها إلى سقوط الكرامة، والفشَل والإخفاق.

لذلك جاءت الآيات والأخبار حاثّة على التحلّي بالأمانة، والتحذير من الخيانة، وإليك طرَفاً منها:

( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ...) ( النساء: ٥٨ )

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( الأنفال:٢٧ )

قال الصادقعليه‌السلام : ( لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم

٩٥

فإنّ الرجُل ربّما لهِج بالصلاة والصوم حتّى لو ترَكه استوحش، ولكن اختبروهم عند صِدق الحديث وأدَاء الأمانة )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ليس منّا من أخلف الأمانة ).

وقال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أداء الأمانة يجلب الرزق، والخيانة تجلب الفقر)(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام :

( اتّقوا اللّه، وعليكم بأداء الأمانة إلى مَن ائتمنكم، فلو أنّ قاتل عليّ بن أبي طالب ائتمنَني على أمانةٍ لأدّيتها إليه )(٣).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا تزال أُمّتي بخير، ما لم يتخاونوا، وأدّوا الأمانة، وآتوا الزكاة، فإذا لم يفعلوا ذلك، ابتلوا بالقحط والسنين )(٤).

محاسن الأمانة ومساوئ الخيانة:

تلعب الأمانة دوراً خطيراً، في حياة الأُمم والأفراد، فهي نظام

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٢ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ١٠ ص ١١٢ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٠ ص ١١٢عن الكافي والتهذيب.

(٤) عن ثواب الأعمال للصدوق ( ره ).

٩٦

أعمالهم، وقوام شؤونهم، وعنوان نُبلهم واستقامتهم، وسبيل رُقيّهم المادّي والأدبي.

وبديهيّ أنّ مَن تحلّى بالأمانة، كان مَثار التقدير والإعجاب، وحازَ ثقة الناس واعتزازهم وائتمانهم، وشاركهم في أموالهم ومغانمهم.

ويصدق ذلك على الأُمم عامّة، فإنّ حياتها لا تسمو ولا تزدهر، إلاّ في محيطٍ تسوده الثقة والأمانة.

وبها ملك الغرب أزمّة الاقتصاد، ومقاليد الصناعة والتجارة، وجنى الأرباح الوفيرة، ولكنّ المسلمين، وا أسفاه ! تجاهلوها، وهي عنوان مبادئهم، ورمز كرامتهم، فباؤوا بالخيبة والإخفاق.

مِن أجل ذلك كانت الخيانة من أهم أسباب سقوط الفرد وإخفاقه في مجالات الحياة، كما هي العامل الخطير في إضعاف ثقة الناس بعضهم ببعض، وشيوع التناكر والتخاوف بينهم، ممّا تسبّب تسيّب المجتمع، وفَصْم روابطه، وإفساد مصالحه، وبعثرة طاقاته.

صوَر الخيانة:

وللخيانة صور تختلف بشاعتها وجرائمها باختلاف آثارها، فأسوأها نُكراً هي الخيانة العلميّة التي يقترفها الخائنون المتلاعبون بحقائق العِلم المقدّسة، ويشوبونها بالدسّ والتحريف.

ومِن صورها إفشاء أسرار المسلمين، التي يحرصون على كتمانها،

٩٧

فإشاعتها والحالة هذه جريمةٌ نكراء، تعرّضهم للأخطار والمآسي.

ومن صورها البشِعة: خيانة الودائع والأمانات، التي أؤتُمِن عليها المرء، فمصادرتها جريمةٌ مضاعفة مِن الخيانة والسرقة والاغتصاب.

وللخيانة بعد هذا صورٌ عديدة كريهة، تثير الفزع والتقزّز، وتضرّ بالناس فرداً ومجتمعاً، مادّياً وأدبياً، كالخداع والغشّ والتطفيف بالوزن أو الكيل، ونحوها من مفاهيم التدليس والتلبيس.

٩٨

التآخي

التآخي الروحي:

كان العصر الجاهلي مسرحاً للمآسي والأرزاء، في مختلف مجالاته ونواحيه الفكريّة والمادّيّة.

وكان من أبشع مآسيه، ذلك التسيب الخُلقي، والفوضى المدمّرة، ممّا صيّرهم يُمارسون طباع الضواري، وشريعة الغاب والتناكر والتناحر، والفتك والسلب، والتشدق بالثأر والانتقام.

فلما أشرق فجر الإسلام، وأطل بأنواره على البشريّة، استطاع بمبادئه الخالدة، ودستوره الفذ أنْ يُطبّ تلك المآسي، ويحسِم تلك الأوزار، فأنشأ مِن ذلك القطيع الجاهلي:( خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (١) عقيدةً وشريعة، وعِلماً وأخلاقاً. فأحلّ الإيمان محلّ الكُفر، والنظام محلّ الفوضى، والعِلم محلّ الجهل، والسلام محلّ الحرب، والرحمة محلّ الانتقام.

فتلاشت تلك المفاهيم الجاهليّة، وخلَفتها المبادئ الإسلامية الجديدة، وراح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يبني ويُنشئ أُمّةً مثاليّةً تَبُذُّ الأُمَمَ نظاماً، وأخلاقاً وكمالاً.

وكلّما سار المسلمون أشواطاً تحت راية القرآن، وقيادة الرسول الأعظم

_____________________

(١) آل عمران: ١١٠.

٩٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، توغّلوا في معارج الكمال، وحلقوا في آفاق المكارم، حتّى حقّقوا مبدأ المؤاخاة بأُسلوب لم تحقّقه الشرائع والمبادئ، وأصبحت أواصر العقيدة أقوى من أواصر النسَب، ووشائج الإيمان تسمو على وشائج القوميّة والقبَليّة، وغدا المسلمون أُمّةً واحدة، مرصوصةَ الصف، شامخة الصرح، خفّاقة اللواء، لا تُفرّقهم النعرات والفوارق:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (١).

وطفق القرآن الكريم يَغرِس في نفوس المسلمين مفاهيم التآخي الروحي، مركّزاً على ذلك بآياته العديدة وأساليبه الحكيمة الفذّة.

فمرّةً شرّع التآخي ليكون قانوناً للمسلمين:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (٢).

وأُخرى يؤكّد عليه محذّراً من عوامل الفرقة، ومذكّراً نعمة التآلف والتآخي الإسلامي، بعد طول التناكر والتناحر الجاهليَّين:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) (٣).

وهكذا جهد الإسلام في تعزيز التآخي الروحي وحِماه مِن نوازِع الفرقة والانقسام، بما شرّعه من دستور الروابط الاجتماعيّة في نظامه الخالد.

_____________________

(١) الحجرات: ١٣.

(٢) الحجرات: ١٠.

(٣) آل عمران: ١٠٣.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(٢) ، كما نصّ عليه في كتابه ، ولا خالق سواه

ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب والمعاصي ، ويلوم العباد بالكسب الذميم ، وهو يخلق الأشياء ، والله يخلق الإعراض ، ولكنّ العبد مباشر للإعراض فهو معرض ، والمعرض من يباشر الفعل لا من يخلق ، وكذا المنع(٣) .

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٢.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢ ، سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٢.

(٣) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦٩ ـ ٩١ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ـ ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٦ ـ ٩٣ ، المسائل الخمسون : ٥٩ ـ ٦١ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٥ ـ ١٣٩.

٣٤١

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) وارد في مقامين من الكتاب المجيد

الأوّل : قوله تعالى في سورة الأنعام : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ )(١) .

وهو ظاهر في غير أفعال العباد ؛ لأنّه سبحانه قد جعل الأمر بعبادته واستحقاقه لها فرعا عن وحدانيّته وخلقه للكائنات.

ومن الواضح أنّ تفريع الأمر بالعبادة على خلق الكائنات إنّما يتمّ إذا كانت العبادة فعلا للعبد ، إذ لا معنى لقولنا : لا إله إلّا هو خالق عبادتكم وغيرها فاعبدوه.

الثاني : قوله تعالى في سورة الرعد : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ )(٢) .

وقد استدلّ المجبّرة بهذه الآية على مذهبهم من حيث اشتمالها على العموم ، وعلى إنكار من يخلق كخلقه(٣) .

وأجيب بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار ، فلو أريد بها العموم

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ١٦.

(٣) تمهيد الأوائل : ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٨ ـ ٨٩ ، تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٣٨.

٣٤٢

لأفعال العباد لانقلبت الحجّة بها للكفّار ؛ لأنّه إذا كان هو الخالق لشركهم لمّا صلح الإنكار عليهم به ، وكان لهم أن يقولوا : إذا كنت قد فعلت ذلك بنا فلم تنكر علينا بفعل فعلته فينا ونحن لا أثر لنا فيه أصلا؟!

مضافا إلى أنّ المراد الإنكار عليهم في جعل آلهة لا يمكن الاشتباه بإلهيّتهم ، إذ لم يجعلوا لله تعالى شركاء لهم خلق يشبه خلقه حتّى يحصل به الالتباس في الإلهية.

وهذا إنّما يراد به المخلوقات المناسبة للإلهية كالسماوات والأرض والأجسام والأعراض ، فيكون عموم قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إنّما هو بالنسبة إلى تلك المخلوقات ، لا مثل الشرك والإلحاد والظلم والفساد ونحوها ، ممّا يصدر من البشر ويتنزّه عنه خالق العجائب وعظام الأمور وبديع السماوات والأرضين.

ولو أعرضنا عن ذلك كلّه فالعموم مخصّص بالأدلّة العقلية والنقلية ، الكتابية وغيرها ، الدالّة على إنّ العباد هم الفاعلون لأفعالهم ، كما ستعرف إن شاء الله.

وأمّا قوله : « ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب ».

ففيه : إنّ الكسب إن كان من فعلهم فقد خرج عن مذهبه ، وإن كان من فعل الله تعالى فالإشكال بحاله ؛ إذ كيف يعاقبهم على فعله؟!

وأمّا قوله : « والمعرض من يباشر الإعراض لا من يخلق ».

ففيه : إنّ المصنّف لم يدّع صدق المعرض على الله تعالى بناء على مذهبهم حتّى يجيبه بذلك ، بل يقول في تقرير مذهبهم : إنّه سبحانه يخلق الإعراض في الناس ، وينكر على المعرض أي المحلّ الذي يخلق فيه الإعراض ، كما هو مراد الخصم بمباشر الإعراض.

٣٤٣

وبالضرورة أنّ الإنكار على المحلّ الذي لا أثر له بوجه أصلا جزاف لا يرتضيه العقل ، وإنّما حقّ الإنكار أن يقع على الفاعل المؤثّر.

ومثله الكلام في قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا )(١) ؛ إذ كيف ينكر عليهم وهو الذي منعهم؟!

* * *

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ٩٤.

٣٤٤

قال المصنّف ـ عطّر الله ثراه ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله تعالى لم يفعل شيئا عبثا ، بل إنّما يفعل لغرض ومصلحة ، وإنّما يمرض لمصالح العباد ، ويعوّض الثواب ، بحيث ينتفي العبث والظلم(٢) .

وقالت الأشاعرة : لا يجوز أن يفعل الله تعالى شيئا لغرض من الأغراض ، ولا لمصلحة ، ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض(٣) .

بل يجوز أن يخلق خلقا في النار مخلّدين فيها من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٨ وما بعدها ، تقريب المعارف : ١١٤ وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : ١١٠ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٨.

(٣) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢٨ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

(٤) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٥ ـ ١١٧ ، تمهيد الأوائل : ٣٨٢ ـ ٣٨٦ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤.

٣٤٥

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض.

وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض(٢) ـ كما سيجيء بعد هذا ـ ، ووافقهم في ذلك جماهير الحكماء والإلهيّين.

وهو يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، إن أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع والحاكم ، ولا تأثير للعصيان في أفعاله ، بل هو المؤثّر المطلق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٤.

(٢) المسائل الخمسون : ٦٢ المسألة ٣٧ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، طوالع الأنوار : ٢٠٣ المسألة ٥ ، المواقف : ٣٣١ المقصد ٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٣٤٦

وأقول :

ليس في كلامه إلّا ما يتضمّن تصديق المصنّف بما حكاه عنهم والالتزام بنسبتهم إلى العدل الرحمن ما لا يرضى بنسبته إليه ذو وجدان ، فإنّهم إذا أجازوا عليه سبحانه إيلام عبيده بلا غرض ولا مصلحة ، وتخليد عباده بالنار بلا غرض ولا غاية ، فقد أجازوا أن يكون من العابثين وأظلم الظالمين.

وليت شعري ما الذي حسّن لهم تلك المقالات الجائرة الفاجرة في حقّ خالقهم تبعا لإنسان خطأه أكثر من صوابه؟!

وما زعمه من موافقة الفلاسفة محلّ نظر ؛ إذ لا يبعد أنّ الفلاسفة إنّما ينفون الغرض الذي به الاستكمال دون كلّيّ الغرض(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر مثلا : تهافت التهافت : ٤٩١ ، شرح التجريد : ٤٤٣.

٣٤٧

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

وقالت الإمامية : لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذّابين ، ولا يصدّق المبطلين ، ولا يرسل السفهاء والفسّاق والعصاة(٢) .

وقالت الأشاعرة : يحسن كلّ ذلك(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) النكت الاعتقادية : ٣٧ ، تنزيه الأنبياء ـ للشريف المرتضى ـ : ١٧ ـ ١٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٣) مقالات الإسلاميّين : ٢٢٦ ، المواقف : ٣٤١ و ٣٥٨ ـ ٣٦٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٣٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ و ٢٦٥ و ٢٨١.

٣٤٨

وقال الفضل(١) :

لا حسن ولا قبح بالعقل عند الأشاعرة ، بل جرى عادة الله تعالى بعدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ، لا لقبحه في العقل ، وهو يرسل الرسل ، وهم الصادقون.

ولو شاء الله أن يبعث من يريد من خلقه ، فهو الحاكم في خلقه ، ولا يجب عليه شيء ، ولا شيء منه قبيح ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٦.

٣٤٩

وأقول :

لا يخفى أنّ تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب ـ عقلا ـ مناف لما يذكرونه عند الكلام في عصمة الأنبياء ، من دلالة المعجزة عقلا على عصمتهم عن الكذب ، في دعوى الرسالة وما يبلّغونه عن الله تعالى.

ولكن إذا كان الكلام تبعا للهوى ومبنيّا على شفا جرف هار ، يجوز الاختلاف فيه بمثل ذلك.

وأمّا دعوى جريان العادة بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فمحتاجة إلى دعوى علم الغيب ممّن لم يقبح عقله إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإنّه لم يعرف كلّ كاذب ، ولم يطّلع على أحوالهم ، فلعلّ بعض من يعتقد نبوّته لظهور المعجزة على يده كان كاذبا ، ولا يمكن العلم بعدم المعجزة لكلّ كاذب من إخبار نبيّنا ٦ ـ إذ لعلّه لم يكن نبيّا ـ وإن تواتر ظهور المعجزات على يده ، على إنّه لم يثبت عنه ذلك الإخبار.

ولو ثبت مع نبوّته فخبره لا يفيد العلم ، لتجويز الأشاعرة الكذب في مثل ذلك على الأنبياء سهوا ، بل عمدا(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وأمّا تجويزهم أن يرسل الله السفهاء والفسّاق ، فأفظع من ذلك ، وسيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٢٨٤ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٣٢٠.

٣٥٠

قال المصنّف ـ أعلى الله منزلته ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله سبحانه لم يكلّف أحدا فوق طاقته(٢) .

وقالت الأشاعرة : لم يكلّف الله أحدا إلّا فوق طاقته ، وما لا يتمكّن من تركه وفعله ، ولامهم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله.

وجوّزوا أن يكلّف الله مقطوع اليد الكتابة ، ومن لا مال له الزكاة ، ومن لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء ، وأن يكلّف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام ، وأن يجعل القديم محدثا والمحدث قديما.

وجوّزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة ، ويأمرهم بالكتابة الحسنة ، ولا يخلق لهم الأيدي والآلات ، وأن يكتبوا في الهواء بغير دواة ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرأه كلّ أحد(٣) .

وقالت الإمامية : ربّنا أعدل وأحكم من ذلك(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٠ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ـ ١٠٠ و ١١٢ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ و ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٦ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠.

(٤) النكت الاعتقادية : ٣٢ ، أوائل المقالات : ٥٦ ـ ٥٧ رقم ٢٤ و ٢٦.

٣٥١

وقال الفضل(١) :

تكليف ما لا يطاق جائز عند الأشاعرة ؛ لأنّه لا يجب على الله شيء ، ولا يقبح منه فعل ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا(٢) .

والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبرهم بعدم إيمان أبي لهب وكلّفه الإيمان ، فهذا تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ إيمانه محال وفوق طاقته ؛ لأنّه إن آمن لزم الكذب في خبر الله تعالى ، وهو محال اتّفاقا.

وهذا شيء يلزم المعتزلة القول بتكليف ما لا يطاق.

ثمّ ما لا يطاق على مراتب : أوسطها ما لا يتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومة كخلق الأجسام أم لا ، بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، والأمثلة التي ذكرها الرجل الطامّاتي فهذا شيء يجوّزه الأشاعرة ، وإن لم يقع بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(٣) .

وقد عرّفناك معنى هذا التجويز في ما سبق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٧.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٣ و ٢٩٥ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٢

وأقول :

لا أدري كيف يقع الكلام مع هؤلاء القوم؟! فإنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء جعلوا نزاعهم في الضروريات!

ليت شعري إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله العبد عن الفعل ، ويخلقه فيه اضطرارا ، ويعاقبه عليه ، فقل لي أيّ أمر يدركه العقل؟!

قيل : اجتمع النظّام والنجّار للمناظرة ، فقال له النجّار : لم يدفع أن يكلّف الله عباده ما لا يطيقون؟!

فسكت النظّام ، فقيل له : لم سكتّ؟!

قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف ما لا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح فبم ألزمه؟!(١) .

وجلّ مسائل هذا الكتاب من هذا الباب كما رأيت وترى إن شاء الله تعالى.

وكفاك إنكارهم أن يجب على الله شيء ، فإنّه إذا لم يجب عليه شيء بعدله وحكمته ورحمته ، فأيّ إله يكون؟! وكيف يكون حال الدنيا والآخرة؟!

ومثله تجويز أن يفعل ما يشاء ممّا لا غرض فيه ولا غاية ولا حكمة ولا عدل ، كتكليف ما لا يطاق ؛ تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) انظر مضمونه في : شرح الأصول الخمسة : ٤٠٠.

٣٥٣

وأمّا قوله : « والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبر بعدم إيمان أبي لهب »

فمدفوع بأنّه تعالى إنّما أخبر بأنّه سيصلى نارا ، وهو لا يستلزم الكفر ؛ لجواز تعذيب المسلم الفاسق

والأولى أن يقول : إنّ الله سبحانه أخبر نبيّه ٦ ، بقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )(١) ونحوه في القرآن كثير ، ومع ذلك كلّف الناس جميعا بالإيمان ، وأخبر بصدور المعاصي من الناس وكلّفهم بالطاعة.

والجواب : إنّ الإخبار بعدم الإيمان مثلا لا يستوجب امتناعه ، بل غاية ما يقتضيه صدور ما أخبر به على ما هو عليه في نفسه من الإمكان ، والممكن مطاق في نفسه ، يصحّ التكليف به أو بخلافه ، وإن علم بعدم وقوعه من المكلّف لاختياره العدم.

فيكون صدق الخبر تابعا لوقوع المخبر به على ما هو عليه في نفسه لا العكس ، نظير تبعية العلم للمعلوم ، فإنّ علمه تعالى بالممكنات لا يجعل خلاف ما علمه ممتنعا ، بل هو تابع للمعلوم ؛ لأنّه عبارة عن انكشاف المعلوم على ما هو عليه.

ولو كان المعلوم تابعا للعلم لما صحّ التكليف أصلا ؛ لصيرورة كلّ مكلّف به ، إمّا واجبا حيث يعلم بوقوعه ، أو ممتنعا حيث يعلم بعدم وقوعه ، ولا يقوله عارف.

وأمّا ما ذكره من أنّ ما لا يطاق على مراتب ، أوسطها إلى قوله :

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ : ١٠٣.

٣٥٤

« هذا شيء نجوّزه » فهو مشعر بأنّهم لا يجوّزون التكليف بالرتبة العليا ، وهي ما يمتنع لنفس مفهومه ، كالجمع بين الضدّين وإعدام الواجب.

والظاهر أنّه من باب تقليل الشناعة ، وإلّا فالمناط عندهم في جواز التكليف بالرتبة الوسطى والسفلى ، هو أنّه تعالى لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، وهو يقتضي صحّة التكليف بالرتبة العليا ـ كما ستعرفه وتعرف تمام الكلام فيه في المطلب الثامن ـ ، وكلام القوم في المقام مضطرب ؛ ولذا جعل الخصم أمثلة المصنّف من الوسطى ، والحال أنّ بعضها من العليا ، كجعل القديم محدثا.

ثمّ إنّ الخصم ذكر عدم وقوع التكليف بما لا يطاق بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(١) ، وهو مناف لقوله سابقا بتكليف أبي لهب بالإيمان وأنّه فوق طاقته.

ومن المضحك وصفه للمصنّف رحمه الله تعالى بالطامّاتي ، والحال أنّ الطامّات هي أقوالهم ، وقد اعترف بها ، وليس للمصنّف إلّا النقل عنهم!

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٥

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

وقالت الإمامية : ما أضلّ الله أحدا من عباده عن الدين ، ولم يرسل رسولا إلّا بالحكمة والموعظة الحسنة(٢) .

وقالت الأشاعرة : قد أضلّ الله كثيرا من عباده عن الدين ، ولبّس عليهم ، وأغواهم ، وأنّه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلّا بسبّه ومدح إبليس.

فيكون من سبّ الله تعالى ومدح الشيطان ، واعتقد التثليث والإلحاد وأنواع الشرك مستحقّا للثواب والتعظيم.

ويكون من مدح الله تعالى طول عمره ، وعبده بمقتضى أوامره ، وذمّ إبليس دائما ، في العقاب المخلّد واللعن المؤبّد.

وجوّزوا أن يكون في من سلف من الأنبياء ممّن لم يبلغنا خبره من لم تكن شريعته إلّا هذا(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن ميثم ـ ٥ / ٢٧٨ ـ ٢٨٠ ، وانظر مؤدّى ذلك في : الذخيرة في علم الكلام : ٣٢٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ١٦٩ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٧٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ و ٢١١ و ٢١٢.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٦٨ ـ ١٧٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٩ ، المواقف : ٣٢٠ ـ ٣٣٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢.

٣٥٦

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله خالق كلّ شيء ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ، بل يقولون : هو الهادي وهو المضلّ ، كما نصّ عليه في كتابه المجيد : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(٢) ، وهو تعالى يرسل الرسل ويأمرهم بإرشاد الخلائق.

وما ذكره الرجل الطامّاتي من جواز إرسال الرسل بغير هذه الهداية ، فقد علمت معنى هذا التجويز ، وأنّ المراد من هذا التجويز نفي وجوب شيء عليه.

وهذه الطامّات المميلة لقلوب العوامّ لا تنفع ذلك الرجل ، وكلّ ما بثّه من الطامّات افتراء ، بل هم أهل السنّة والجماعة والهداية.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٩١.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

٣٥٧

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله : « لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء » من كلام أبي إسحاق الأسفراييني الشافعي(١) عندما دخل القاضي عبد الجبّار المعتزلي(٢) دار الصاحب بن عبّاد(٣) فرأى أبا إسحاق جالسا ، فقال : سبحان من تنزّه عن الفحشاء! ـ تعريضا بأبي إسحاق بأنّه من الأشاعرة الّذين ينسبون الفحشاء إلى الله تعالى ـ فقال أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء(٤) .

__________________

(١) تقدّمت ترجمته في صفحة ٥٩ من هذا الجزء.

(٢) هو : أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار بن أحمد الهمداني المعتزلي ، أحد كبار متكلّمي المعتزلة ، ولد سنة ٣٥٩ ه‍ ، كان ينتحل مذهب الشافعية في الفروع ، وهو من كبار فقهائهم ، ولّي القضاء بالريّ ، وله تصانيف كثيرة منها : المغني في علم الكلام ، شرح الأصول الخمسة ، طبقات المعتزلة ، وغيرها ، توفّى بالريّ سنة ٤١٥ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ١١ / ١١٣ ـ ١١٥ رقم ٥٨٠٦ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ رقم ١٥٠ ، لسان الميزان ٣ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧ رقم ١٥٣٩ ، شذرات الذهب ٣ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، هديّة العارفين ٥ / ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(٣) هو : أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عبّاد بن العبّاس الطالقاني ، كان نادرة الدهر في فضائله ومكارمه وكرمه ، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي ـ صاحب كتاب « المجمل في اللغة » ـ وكذا عن ابن العميد ، وغيرهما.

كان مولده سنة ٣٢٠ ه‍ بإصطخر ، وقيل بالطالقان ، وتوفّي ليلة الرابع والعشرين من صفر سنة ٣٨٥ ه‍ بالريّ ، ثمّ نقل إلى أصبهان ودفن هناك.

انظر : معجم الأدباء ٢ / ٢١٣ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٢٨ رقم ٩٦ ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٥١١ رقم ٣٧٧ ، شذرات الذهب ٣ / ١١٣.

(٤) شرح المقاصد ٤ / ٢٧٥ ، شرح العقائد النسفية : ١٤٠ ـ ١٤١ ، تحفة المريد على جوهرة التوحيد : ٤٢.

٣٥٨

وحاصله : إنّ كلّ ما يجري في ملكه من أنواع الفواحش ، والفجور ، والكفر ، والإلحاد ، والكذب ، والظلم ، والغواية ، ونحوها ، إنّما هو بإساءته ومن فعله!

فيا ليت شعري كيف يصلح مع هذا الزعم أن يسبّحه وينزّهه؟!

وأمّا قوله : « ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ».

فهو تعريض بأهل العدل حيث ينسبون تلك الأفعال الشنيعة والأحوال الفظيعة إلى العباد ، وينزّهون الله سبحانه عنها.

ومن المعلوم أنّ ذلك لا يستدعي القول بالشركة ، فإنّهم إنّما يرون أنّه تعالى أقدرهم على أفعالهم بلا حاجة منه إليهم ، ففعلوها بتمكينه لهم ، فلا استقلال لهم حتّى يكونوا آلهة ، فكيف يشبهون المجوس؟! وإنّما الذي يشبههم من يقول بزيادة صفاته على ذاته ، وقدمها مثله ، وحاجته إليها في الخلق ، بحيث لولاها لما خلق شيئا فهي شريكته في الإلهية ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(١) .

ففيه : إنّ استدلاله موقوف على أن يراد بالإضلال : خلق الضلال ، وبالهداية : خلق الهدى ؛ وهو ممنوع ؛ لجواز أن يراد بالإضلال : الخذلان والإضاعة ، وبالهداية : التوفيق ، كما قال ٧ : «تطاع بتوفيقك وتجحد بخذلانك »(٢) .

__________________

(١) سورة النحل ٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

(٢) إقبال الأعمال ١ / ٢٩٩ ب‍ ٢٠ دعاء الليلة ١٦ ، وفيه « تعبد » بدل « تطاع ».

٣٥٩

فإنّ الإنسان إذا اجتهد بفعل الخير كان محلّا للتوفيق ، وإذا أصرّ على الشرّ كان أهلا للخذلان ، وآل أمره إلى النفاق والكفر ، كما قال تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً )(١) وقال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ )(٢) ، ولا قرينة على إنّ المراد بالإضلال والهداية في الآية ما ادّعاه ، بل القرينة على خلافه عقلا ونقلا

أمّا العقل : فلأنّ ذلك يستلزم إبطال الثواب والعقاب ، ونفي العدل ، وفائدة الرسل والكتب ، والأوامر والنواهي ـ كما ستعرف إن شاء الله تعالى ـ ، ولأنّه لا يحسن لمن ينهى عن شيء أن يفعله ، ولذا قال شعيب : (ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ )(٣)

وقال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم(٤)

وأمّا النقل : فقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى )(٥) ، ومن عليه الهدى كيف يتركه ويخلق الضلال؟!

وقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى )(٦) .

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٧٧.

(٢) سورة الروم ٣٠ : ١٠.

(٣) سورة هود ١١ : ٨٨.

(٤) البيت من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي ، مطلعها :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

انظر : ديوان أبي الأسود الدؤلي : ١٢٩ ـ ١٣٢ ، خزانة الأدب ٨ / ٥٦٨.

(٥) سورة الليل ٩٢ : ١٢.

(٦) سورة فصّلت ٤١ : ١٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517